المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أب مصري وابنتاه... غادروا... فقراً



2005ليلى
08-04-2007, 06:53 AM
http://www.alraialaam.com/04-08-2007/ie5/par7.jpg


القاهرة - من محمد الغبيري


أصاب الإمام علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - كبد الحقيقة، قبل 14 قرنا، حين قال: «لو كان الفقر رجلا لقتلته»... فكان - رضي الله عنه - يدرك أن الفقر يقهر الأشداء الأقوياء، ويجعلهم ضعفاء وكان يعلم يقينا أن الفقر مرادف للموت.

ولو تمكن الفارس العظيم من ادراك الفقر وقتله، لأراح العالم منه، ولعاش الناس سعداء، لا يؤرقهم مؤرق، ولا يزعجهم مزعج.

لأنه من الفقر ما يولد الإحباط، ومنه يخرج الاكتئاب أو الحزن، وحينها تصبح الدنيا سوداء مظلمة، كأنها الجحيم!
هذا الثالوث الكئيب «الفقر، الإحباط، الاكتئاب»، شحذ أسلحته، وأعد عدته، ونظم جيشه، وولى وجهه شطر أسرة مصرية، أطاح باستقرارها، وزلزل كيانها، وقلب حياتها رأسا على عقب، فلم تتحمل بطشه، واستسلمت لظلمه، واتخذت قرارا جماعيا بالانتحار.... «الراي» الذي نشرت خبر الاسرة الاسبوع الماضي اقتربت من الحادث وتعرفت على تفاصيله.
الأسرة المصرية، تقطن في إحدى ضواحي القاهرة، وتحديدا في حي النزهة (شرق القاهرة) كانت حياتها حتى قريب، هادئة، مستقرة، قبل أن يغزوها الفقر اللعين، فدوام الحال - دائما - من المحال.

القاهرة استيقظت - قبل أيام - على مأساة مؤلمة ومزعجة، ربما يعجز كاتب، مهما كان التشاؤم يجري في عروقه مجرى الدم، أن يتخيل تفاصيلها أو ينسجها في عمل فني إلى «الدراما السوداء».

ولنبدأ من المشهد الأخير، ففيه تتجلى المأساة، وتتشابك الخطوط، وتتشح القلوب بالسواد، وتنهمر الدموع من العيون، وتتدافع التساؤلات دون أن تجد مجيبا.

في المشهد الأخير من المأساة انتحرت أسرة مكونة من أب يقترب من الستين، وابنتيه الحاصلتين على شهادتين جامعيتين، ولم ينالا حظهما من الحصول على فرصة عمل، يقتاتان منها.

اتخذ الثلاثة قرارا جماعيا بالانتحار، هروبا من واقع مؤلم ومزعج، فقد ضاقت الأرض عليهم بما رحبت واتسعت، وضاقت عليهم أنفسهم، واستسلموا تماما، وخارت قواهم، وأدركوا أن الموت أفضل كثيرا - بالنسبة لهم - من الحياة.
ربما تكون بوادر المأساة بدأت قبل شهر أو أكثر، حين كشر الموت عن أنيابه، وخطف نجل الأب المنتحر وشقيق الأختين المنتحرتين، لقي الابن حتفه في حادث سير بشارع صلاح سالم في العاصمة المصرية.

كان الابن بارا بوالده، حتى إنه لبى رغبته حين أمره بترك عمله في وظيفته في أحد البنوك، ليرعى أرضه الزراعية في محافظة البحيرة (شمال غرب مصر) بعدما رفض مستأجروها الانتظام في تسديد الإيجار السنوي.

كان الأب المنتحر يعتمد على تلك الأرض في الانفاق على أسرته وأولاده من زوجته الأولى، وزوجته الثانية، وحين ضاق ذرعا ببلطجية المستأجرين قرر الأب أن يقوم بزراعتها بنفسه، وبمعاونة ابنه، الذي خضع لرغبته واستقال من عمله، حتى يكون إلى جواره، ولكن طائر الموت البغيض اختطفه في نفس اليوم، الذي استقال فيه من عمله.
منذ ذلك اليوم فرض الحزن أجنحته على البيت الذي كان هادئا، أدرك الأب أنه فقد ساعده الأيمن وفلذة كبده، وتملك البؤس من قلبي شقيقتيه.

مضت الأيام ثقيلة على الأب وابنتيه اللتين فشلتا خلال سنوات عدة من ادراك فرصة عمل تعينهما على الحياة.
يوم السبت الماضي استيقظ الأب على صراخ ابنته فاطمة الحاصلة على درجة الليسانس في الآداب، وذات الـ (25 ربيعاً) فاكتشف أنها وشقيقتها الكبرى أماني الحاصلة على ليسانس الحقوق والتي بلغت عامها الـ 36 تناولتا عقار «لانجوسين» المخصص لمرضى القلب، حتى يتخلصا من حياتهما إلى الأبد.

لم يضيَّع الأب المسكين وقتا، لم يهتم بإسعاف ابنتيه إلى المستشفى، بل تضامن معهما وابتلع 20 قرصا من العقار نفسه، واستقل قطار الموت بصحبتهما... ماتوا جميعا فرارا من الفقر المدقع، الذي حاصرهم من كل صوب، بل صوب أسلحته نحوهم، فلو لم يموتوا لأماتهم... إنها جولة محسومة، يفوز الفقر فيها دائما وأبدا، انتحرت الأسرة انتحارا جماعيا، أوجع القلوب، وأوجع العيون.

التحريات الجنائية للشرطة المصرية كشفت أن الأب المنتحر وابنتيه وزوجته الثانية وأطفاله منها كانوا يعيشون في الأيام الأخيرة تحت خط الفقر، كانوا يفترشون الأرض، لأنهم باعوا الأثاث، يتلقون مساعدات يومية من جيرانهم بعدما تخلى الأهل والأقارب عنهم، وامتنعوا عن تقديم يد العون لهم.

وذكرت أن الأب المنتحر كان يمتلك 35 فدانا في محافظة البحيرة (165 كيلو مترا شمال غرب العاصمة المصرية) يقتات من ايجارها، ولكن المستأجرين امتنعوا عن تسديد الايجارات السنوية، ما دفعه إلى مقاضاتهم، وأنصفه القضاء، وأعاد إليه حقه المسلوب، ولكنهم انتزعوه مرة أخرى.

قرر الأب حينئذ الاعتماد على نفسه في زراعة أرضه، طلب من ابنه الموظف بأحد البنوك الاستقالة من عمله، ولبى الابن طلبه، ولكن الموت اختطفه في نفس اليوم الذي استقال فيه... إنها لعبة الأقدار.

وبينت التحريات أن الأب المنتحر تزوج من زوجته الثانية لترعاه وأولاده، بعدما ماتت زوجته الأولى، فأنجب منها ثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم بين 4 و14 سنة.

وبموت الابن، غزا الحزن قلوب الأب وابنتيه، وتمكن المستأجرون من انتزاع الأرض بـ «وضع اليد» واستشعر رب الأسرة الوحدة والانهيار والضياع، خاصة بعد تخلي الأهل والأقارب عنه، وأصبح بلا مصدر رزق ينفق به على نفسه وابنتيه العاطلتين وزوجته الثانية وأطفالها الثلاثة.
إلى ذلك، تواصل النيابة العامة المصرية التحقيق في حادث الانتحار الجماعي، حيث أمرت بدفن جثامين المنتحرين بعد تشريحها.