المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الوردي عالم شغل العامة والدارسين



علي علي
07-15-2007, 03:24 PM
د. باسم عبود الياسري

الحلقة الأولى


في مثل هذه الأيام وفي 13 تموز عام 1995 رحل العلامة الدكتور علي الوردي المولود في بغداد عام 1913, تاركاً خلفه إرثاً مثيراً للجدل في حياته وبعد مماته. والوردي عالم اجتماع عراقي درس المجتمع العراقي بصدق وتوقف عند الشخصية العراقية وبين سبب تميزها, وله أراء ونظريات كانت موضع اهتمام العراقيين كافة قبولاً ورفضاً.

نزل الوردي بالباحث من برجه العاجي الى أرض الواقع, واقترب بلغته وطروحاته من العامة فكسب ودهم, وهو مفكر خالط الباعة ودرس أحوالهم, كتب أفكاره دون تردد ولا مجاملة, فكسب عداء أهل السياسة ورجال الدين, لكنه ربح عامة الناس لأنه احترمهم وعبر عما في نفوسهم خير تعبير, حتى صارت أقواله يتداولها البقال والحداد مثلما يدرسها ويتفحصها الباحثون. نظر فأصاب, وحلل فشخص, شغل وسائل الإعلام دون أن يكون هذا همه, وعاداه بعض زملائه دون قصد منه, فقد اختار منهجاً غير منهجهم المتعالي.

كان الوردي على الدوام أكثر الكتاب مبيعاً حتى أذكر أن أخي كان يحجز نسخته من المكتبة قبل صدور الكتاب, وكان الجمهور يلح عليه في زيادة نسخ طبعته لكنه كان يرفض ويتوقف عند عدد معين, ولايزال بعد 12 عاماً على رحيله هو الكاتب الأكثر مبيعاً, حتى أن دور النشر طمعت به فأعادت بعضها طباعة كتبه بعدة طبعات دون استئذان من ورثته.
كتب الدكتور الوردي عدداً من الكتب يكاد لايخلو بيت عراقي منها (وعاظ السلاطين, مهزلة العقل البشري, ) وقبل سنوات في أول وصولي الى قطر تعرفت الى مثقف قطري سألني عن الوردي فعجبت لأنه يعرفه, فقال بل أنا اعتبر نفسي تلميذاً له وأراني معظم كتبه وقد اقتناها عنده.

يتساءل بعض من درسوا الوردي هل أجاب على كل التساؤلات في كتبه, أرى أن المثقف ليس ملزماً بإيجاد الحلول فهو ليس سياسياً لكنه يثير القضية ويحرض على التفكير فيها. لقد شخص الوردي عوامل الخلل الذي اصاب المجتمع والثقافة و شخصية الفرد العراقي وتمزيق هويته وانكسار ذاته وعجزه عن استعادة وعيه وحريته وكرامته, وأثار من الموضوعات ما لم يثرها غيره, ولاشك أنه ـ رحمه الله ـ حين كتب ما كتب قد وضع أمامه ما سيتعرض له من نقد وتجريح وهجوم من كل الأطراف, لكنه حقق ما عجز عنه غيره من أن يكون مفكراً مؤثراً في قطاعات واسعة من الجمهور.

لم يكن الوردي طالباً تقليدياً لكنه كان مولعا منذ صباه بقراءة الكتب والمجلات وقد اضطر الى ترك المدرسة ليعمل في دكان والده, ثم للعمل صبياً عند عطار الحي, لكنه طرد من العمل لانه كان ينشغل بقراءة الكتب والمجلات ويترك الزبائن. ثم عاد الى المدرسة واكمل دراسته واصبح معلما. وفي عام 1932 تخلى عن زيه التقليدي ليلبس الملابس الافرنجية. وفي عام 1943 ارسلته الحكومة العراقية الى بيروت للدراسة في الجامعة الامريكية, ثم حصل فيما بعد على شهادة الماجستير والدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة تكساس الاميركية.

وبعد عودته الى العراق عمل في قسم الاجتماع في جامعة بغداد حتى تقاعده عام 197.. كتب الوردي بأسلوب جديد لم يألفه القارئ العراقي فكان أسلوبه نقدياً يحمل في طياته فكراً تنويرياً لا يخلو من أسلوب ساخر فتناول في كتابه "وعاظ السلاطين" الذي جعل علماء الدين يهجوه من على المنابر فقد تحدث عن طائفة منهم أولئك الذين يعتمدون على منطق الوعظ والارشاد الافلاطوني منطلقا من ان الطبيعة البشرية لا يمكن اصلاحها بالوعظ وحده, وان الوعاظ انفسهم لا يتبعون النصائح التي ينادون بها وهم يعيشون على موائد المترفين, لكنه اكد بانه لا ينتقد الدين نفسه وإنما وعاظه الذين يحاولون تغيير الطبيعة البشرية بالنصائح.

حاول الراحل الوردي أن يؤسس لمدرسة اجتماعية فكتب سلسلة من الكتب تحت عنوان لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث وصل الى ثمانية أجزاء قبل رحيله. لقد شخص الوردي أمراض المجتمع العراقي ونبه الى أن الفرد العراقي ظاهره متحضر لكن القيم القبلية والعشائرية هي الأكثر عمقاً وقد يأتي يوم تتفجر من جديد, لأن التراكمات التي خضع لها الفرد في ظل سلطات مستبدة ضاعفت هذه الضغوط وهو إنما يكظمها الى حين.

علي علي
07-21-2007, 12:09 AM
علي الوردي: جدل العراقيين

عالم شغل العامة والدارسين (الحلقة الثانية)


د. باسم عبود الياسري


كتب الدكتور الوردي آراءه بأسلوب لم يألفه القارئ العراقي والعربي، حتى أن بعض القراء يرونه يكرر مقولاته، أما أنا فأرى أنه يلجأ الى هذا الأسلوب لأنه يريد أن يحدث قارئه لا أن يكتب له فكان بحاجة الى هذه الإعادة والتكرار، كما أن مسؤولية وحراجة ما يكتب يفرض عليه بعض المناورة دون أن يفقد شجاعته في قول ما يريد، صحيح أن ظروف عصره كانت أفضل لكنه طوعها لصالحه وبرز وتميز دون غيره، وسأذكر لاحقاً بعض مواقفه.

العراق اليوم يمر بوقت عصيب وبالغ التعقيد دون شك ويبدو أن هذا قدر العراقيين لأنه العراق، فلو حدث ما حدث من ويلات وحروب في أي بلد في العالم لما انشغل الناس به مثلما انشغلوا بالعراق، بل أنهم يفاجأون بالعراقي الذي ما زال رغم ما تعرض له من ظروف يشعر باعتداد في نفسه قد لا تجده عند غيره، وهو ما يجعله غير مرغوب به أحياناً وإن كان يلقى الاحترام والتقدير، وهذا ما يلمسه العراقي في غربته. مثل هذا الوضع يجعلنا نتذكر الدكتور علي الوردي ونردد لقد صدق الرجل في تحليلاته، فما هي رؤاه التي يتداولها الناس، حتى أن بعضهم لم يقرأه لكنه يحيلك إليه حين يتحتدم النقاش.

أثار الوردي ثلاث نقاط هامة ومترابطة مع بعضها وظل يدرسها في كتبه من عدة أوجه وهو ما يحعل البعض يتهمه بالتكرار، وليس سراً أن نذكر تأثره بابن خلدون فقد درسه واستوعبه وأسس لنفسه نظرياته الخاصة، فتناول الوردي الصراع بين البداوة والحضارة، والتي طرحها في كتابه " دراسة في طبيعة المجتمع العراقي".
منذ أن ألقى الكتور الوردي محاضرته الشهيرة في بغداد عام 195.

حول شخصية الفرد العراقي، انتبه الجمهور الى هذا الباحث الذي عاد من أمريكا بعد أن تخصص هناك، لقد تحدث بطريقة مختلفة عمن سبقه فجذب الانتباه إليه، وحركت محاضرته تلك رتابة التفكير النمطي الذي كان سائداً من ركوده، حين قال بـ"ازدواج الشخصية العراقية"، وردها الى المجتمع، فالشخصية نتاج القيم التي يتعامل بها المجتمع ولما كان العراق تتنازعه قيم البداوة من جهة والحضارة من جهة أخرى كان لابد أن تحدث هذه الازدواجية في تركيبته الشخصية فهذا السلوك اجتماعي لانفسي ـ كما يرى الوردي رحمه الله ـ فأشار الى ان الفرد العراقي من اكثر الناس هياما بالمثل العليا ولكنه في الوقت نفسه، من اكثر الناس انحرافا عنها في واقعه الاجتماعي، ويمكن تطبيقها على الشخصية العربية الى حد ما.

يعزو الوردي هذا السلوك الذي يراه في كل المجتمع بغض النظر عن طبيعة مهنهم أو ثقافتهم الى دراسته للتاريخ العربي الاسلامي في العراق، الذي شهد المدارس الكلامية المتعددة والمذاهب والفرق، فضلاً عن الأديان والحضارات القديمة التي كانت سائدة فيه قبل الاسلام.

أثر كل هذا العمق الحضاري بالعراقي فتجده محباً للجدل حيث نشأ في بيئة متنوعة الثقافات، التي انتجت كل تلك المدارس الكلامية، فهذه المدارس طبعت التفكير بالصفة المثالية "الحلمية" لأنها جدلية وغير واقعية، ففي الوقت الذي كانت مدارس الكلام والتنظير تزدهر في العراق في العصر العباسي ويتجادل أصحابها بالادلة العقلية والنقلية بعيدين عن الواقع، كانت الفرق والطوائف المختلفة تتقاتل فيما بينها، ويمكن ملاحظة ذلك الآن حيث يتناقش السياسيون على شاشات التلفزيون ويحضرون جلسات مجلس النواب ونراهم يتضاحكون، وفي الصباح نجد الجثث ملقاة في الطرقات.هذا الأمر ليس وليد اليوم فالعراق هو مركز الصراع منذ حكم الامويين والعباسيين وكذلك العثمانيين، وشكلت بغداد كونها عاصمة للخلافة مكاناً لظهور حلقات الجدل والمناقشة، وكانت مطمعاً للآخرين كما لم تشهده مدينة أخرى.

ولكن كيف يتعامل الناس بهذه الازدواجية ولماذا لا يدركونها ؟ نقول إذا كان يفترض بالثقافة أنها تصقل وتهذب النفوس، فإنها للأسف ستأخذ منحى آخر هنا حيث تتضح الازدواجية عند المتعلمين بشكل أكبر ـ كما يرى الوردي ـ فكثيرا منهم حفظ الافكار والمبادئ الحديثة وتحمس لها ودافع عنها وانتقد كل من يخالفها، لكنه في ذات الوقت، لا يطبقها، بل يخالفها كل يوم في حياته العملية، بوعي أو دون وعي، ولم تنفع معه قيمه التي حفظها سواء من المجتمع أو من الدين، لتعارضها مع رغباته الشخصية التي لا تكبحها النصائح والمثل العليا التي يسمعها من الوعاظ الذين لا يلتزم بعضهم بها.

basimash@hotmail.com