المهدى
06-27-2007, 03:19 AM
جهاد فاضل- الراية القطرية
لحق بلبنان منذ عام 1975 إلي اليوم دمار مادي ومعنوي كبير. فعقب كل جولة من جولات حروبه التي كانت تتناسل كالفطر كان اللبنانيون يسارعون الي اعادة اعمار ما تهدم ويستأنفون حياتهم لعل اعادة الاعمار هذه تكون الأخيرة.
ولكن اذا أمكن بعد كل جولة اصلاح الدمار المادي، فإن الدمار المعنوي كان عصياً علي الإصلاح. وفي طليعة هذا الدمار المعنوي الذي أصاب لبنان وتعذر جبره، هو هجرة ما يزيد علي ربع سكانه الي الخارج.
فاذا كان عدد سكان لبنان عام 1975، وهي سنة الحرب المستمرة بشكل أو بآخر حتي اليوم، حوالي خمسة ملايين نسمة، فلا شك ان ما لا يقل عن مليون ونصف مليون نسمة قد غادروا لبنان الي الخارج وكان المسيحيون طليعة المغادرين. علي ان أبناء الطوائف الأخري لم يقصروا في الهجرة أيضاً فكل لبناني فتش عن الأمن والأمان ولقمة العيش في بلده ولم يجدها، حزم أمتعته وهاجر.
علي ان هجرة المثقفين والعلماء والمهندسين والأطباء وسائر أصحاب المهن والصناعات، أي ما يُصطلح علي تسميته بهجرة الأدمغة، كانت أكثر الهجرات إيلاماً علي لبنان وأهله ونهضته. فهذه الهجرة تلحق بالوطن ضرراً عضوياً لا يمكن تعويضه لأنها تحرمه من كفاءات لا تتوفر عادة بسهولة. ويمكن للباحث أن يقدم احصاءات دقيقة عما خسره لبنان الي اليوم، وعما يخسره الآن كل يوم نتيجة انسداد أفق الحلول الداخلية، والتشاؤم الذي يُطبق علي صدور الجميع، وبخاصة علي صدور النخب والكادرات الفنية والصناعية. فهؤلاء يجدون من الفرص في الخارج، ما لا يجدونه في لبنان.
وفي تلك الفرص وعود بالغني السريع وبالمستقبل المشرق. وفي مثل هذا الواقع الاقتصادي والاجتماعي المتردي فإن الكثيرين ينسون ما يسمعونه كل يوم من صباح وفيروز ووديع الصافي عن الوطن وأهميته وضرورة البقاء فيه، ويتكلون علي الله، ويرحلون. ألم يشجعهم الشاعر القديم علي هذا الرحيل عندما قال:
وإنْ نَبَت بك أوطانٌ خُلقتَ بها
فارحلْ، فكل بلاد الأرض أوطانُ!
علي أن اللبنانيين يتعاملون مع الهجرة، وهي مأساتهم المزمنة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تعاملاً رومانسياً أحياناً فانطلاقاً من أسطورة فينيقية تقول بأن قدموس، امير صيدون، لحق بأخته أوروب (وعلي اسمها فيما بعد سُميت أوروبا) لكي يعيدها الي لبنان بعد ان اختطفها زوش كبير آلهة اليونان لفرط جمالها، يري غلاة اللبنانيين ان الحضارة في العالم القديم بدأت منذ ذلك الوقت، وأنهم روادها.
فخلال حملة قدموس في البحر الأبيض المتوسط لاستعادة شقيقته، كان يبني المدن وينشر الأبجدية والحضارة. علي أن عظمة هذه الشقيقة لم تقل عن عظمته. فعندما تعطي أميرة فيلبنان اسمها لقارة من القارات، فهذا يعني انها اعطتها ايضا لقاح الرقي والتمدن. لدي اللبنانيين إذن ما يشبه الصيدلية الجاهزة علي الدوام لخدمة الإنسانية، وفي جيناتهم جذوة لا تنطفيء لجعل العالم أكثر تقدماً!
وفي مسرحيته الشعرية قدموس التي تمثل هذه النظرة الرومانسية، يقول الشاعر سعيد عقل، الفينيقي الهوي: ونبني، أنّي نشأ لبنانا ، في اشارة منه الي ان الأصل في اللبنانية هو الانسان اللبناني، لا الجغرافيا فاللبناني، ذو الكفاءة المبثوثة في جبلته، يستطيع ان يبني لبناناً أنّي شاء، سواء في لبنان، أو خارجه. فهو عبارة عن عدوي حضارية..
وليس لزاماً، استناداً الي رؤية سعيد عقل هذه، أن يكون لبنان حيث هو الآن.. فقد يكون هنا علي الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، وقد يكون في موقع آخر. يستطيع اللبنانيون أن يبنوه حيث يشاؤون..
وباسم هذه اللبنانية الموغلة في الهوس بلبنان، وقدرته العجائبية، وكونه محور الكون، يقول وديع الصافي في أغنيته: هالكم ارزة العاجقين الكون .. صحيح ان أرز لبنان عدده قليل، إلا أن فعله كبير. فاللبنانية علي هذا الأساس جذوة لا تنطفيء، وهي فعل ماض ومضارع.
ويسمي اللبنانيون مهاجرهم التي نزحوا اليها، ومنها بلدان الخليج العربي وبلدان أمريكا الشمالية والجنوبية وافريقيا واستراليا، ببلدان الانتشار انها، بنظرهم، مجرد مناطق يمارس فيها اللبنانيون مواهبهم وكفاءاتهم. كما يمارسون التجارة وشتي المهن بالطبع.
ويذكر بعض اللبنانيين أرقاماً مذهلة لعدد النازحين أو المغتربين من بلدهم. فقد ذكر لي مرة الشاعر سعيد عقل ان عدد هؤلاء هو في حدود الخمسة وعشرين مليوناً، في حين ان شارل مالك، وزير خارجية لبنان الأسبق كان يقول قبل ربع قرن ان عدد المغتربين يوازي عدد المقيمين، أي حوالي خمسة ملايين.
وهناك من يقول ان عدد الذين غادروا لبنان، منذ بداية الهجرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لا يقل عن عشرة ملايين نسمة. وفي القرن العشرين، حصلت هجرات واسعة سببتها فترات الجفاف الاقتصادي، والأزمات والثورات والحروب.
ولا يشك أحد في أن الأزمة الحالية المستحكمة بلبنان ستقود عشرات الألوف من سكانه الي الخارج. مضي ويمضي كثيرون لا يلوون علي شيء، ولا يصدقون أنه أمكنهم الإفلات من بلد الإشعاع كما يسميه بعض اللبنانيين، إذ ليس بالزجل والغناء والرومانسية وحدها يحيا الناس!.
ثمة إذن جانب غير رومانسي في ظاهرة الاغتراب اللبناني لا يتردد كثيرون في وصفه بالجانب المأساوي. فصحيح ان اللبنانيين في الخارج، بعصاميتهم وريادتهم وانجازاتهم، قد حققوا الكثير إلا أن الهجرة، بحد ذاتها، مأساة. وتبلغ هذه المأساة ذروتها عندما تتحول الي ظاهرة . وهجرة اللبنانيين الي الخارج هي في هذا النوع بالذات.
فالأم تلد أبناءها وتربيهم، لتجدهم بعد حين لا قربها أو في الوطن الذي عاشت وعاشوا فيه، بل في أوطان الآخرين. أما السبب فيكمن، بالدرجة الأولي، لا في السعي لبناء المدن ونشر الحضارة كما يقول سعيد عقل في قدموس بل في شحّ الوظائف وفرص العمل في البلد. فالدولة اللبنانية منذ نشأت لم تتصرف وفق خطط وبرامج من شأنها معالجة هذا الجرح النازف، بل تصرفت وفق لا خطط ولا برامج وكان من نتائج سياسات الإهمال والارتجال والتقصير التي مارستها الحكومات اللبنانية علي امتداد حقب طويلة، تحول الهجرة من مشكلة الي حلم ذهبي فاللبناني يجد في الهجرة حلماً لا مجرد حل. عجز الوطن عن تأمين وظيفة، أو عمل أو عيش كريم له فتركه الي الخارج. نبا به الوطن، فرحل.
وهكذا وجد الي جانب من يروي حكاية الهجرة اللبنانية الي الخارج رواية رومانسية، رواة آخرون يروون هذه الحكاية بدموع مرة وحديث موجع ويمكننا ان نتصور استناداً إلي هذه الرواية الأخيرة، مدي الآلام التي اجتاحت قلوب الراحلين وقلوب المقيمين في آن.
فكم من أمّ لبنانية قضت حياتها تنظر إلي البحر الذي انتزع منها فلذة أو فلذات أكبادها علي أمل أن يعودوا فقضت بعد ذلك دون أن تحتضنهم قبل أن ترحل عن هذه الفانية. والدموع ليست في ضفة دون أخري.
فالضفاف كلها دموع، والانين في الداخل لا يضارعه إلا الانين في الخارج.. والذين انشأوا لهم أعمالاً في مغترباتهم، من المستحيل أن يتركوها ليعودا إلي البلد الذي لا يؤمن لهم القوت ولا الطمأنينة وأقصي ما يستطيع هؤلاء المغتربون فعله هو أن يخطفوا أرجلهم إلي لبنان لرؤية ذويهم بين الوقت والآخر، ولأيام لا أكثر، يعودون بعدها إلي أعمالهم وإلي دموعهم في آن.
لذلك تؤلف هجرة اللبنانيين الدائمة إلي الخارج مشكلة أكثر مما تؤلف أغنية أو نظرة رومانسية تتحدث عن رسالة أو دور اشعاعي. فهي جرح كما هي أزمة كيانية ينبغي ان تعالجها النُخب اللبنانية، من مسؤولين وغير مسؤولين، من أجل وضع حدّ في النهاية.
ولا يتيسر ذلك بالطبع إلا بالبحث عن أسبابها والقضاء علي هذه الأسباب. وكل ذلك يستوجب اللجوء إلي سياسات اقتصادية بعيدة المدي، وإلا كان لبنان نوعاً من خزان بشري دائم الفيض علي الخارج، من نوع ما كانته الجزيرة العربية في الماضي.
مع فرق ان خزان الجزيرة العربية في الماضي كان يفيض علي جيرانها سواء في المشرق العربي (بلاد الشام والعراق) أو في المغرب العربي (الهجرة إلي مصر والشمال الأفريقي والأندلس: هجرات بني سليم وبني هلال وسواها).
في حين ان هجرة اللبنانيين إلي الخارج هي في الأعم الأغلب إلي بلدان بعيدة جداً عن لبنان، ويصعب اعتبارها بلدان هجرة مؤقتة، لأن المهاجرين اللبنانيين سرعان ما يذوبوا فيها حتي منذ الجيل الأول.
علي أن لبنان ليس وحده مع الأسف في مثل هذه الهجرة. فهجرة السوريين والعراقيين والفلسطينيين ليست بأقل وأفدح من هجرة اللبنانيين والأسباب تقريبا واحدة والنتائج كارثية ويندرج أكثرها في باب نزيف الأدمغة الذي يحرم البلاد العربية طاقات وكفاءات كثيرة تستفيد منها البلدان التي هاجر إليها هؤلاء.
وعلينا ان نصدق تلك الارقام المذهلة التي تحز في النفس عن عدد الأطباء اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين في هذه المدينة الأوروبية أو الأمريكية وحدها، في حين كان ينبغي ان تنتفع بلداننا من خبرة هؤلاء الأطباء والعلماء، ولكن لا حول ولا قوة إلا باللَّه.
http://www.elaph.com/ElaphWeb/NewsPapers/2007/6/243257.htm
لحق بلبنان منذ عام 1975 إلي اليوم دمار مادي ومعنوي كبير. فعقب كل جولة من جولات حروبه التي كانت تتناسل كالفطر كان اللبنانيون يسارعون الي اعادة اعمار ما تهدم ويستأنفون حياتهم لعل اعادة الاعمار هذه تكون الأخيرة.
ولكن اذا أمكن بعد كل جولة اصلاح الدمار المادي، فإن الدمار المعنوي كان عصياً علي الإصلاح. وفي طليعة هذا الدمار المعنوي الذي أصاب لبنان وتعذر جبره، هو هجرة ما يزيد علي ربع سكانه الي الخارج.
فاذا كان عدد سكان لبنان عام 1975، وهي سنة الحرب المستمرة بشكل أو بآخر حتي اليوم، حوالي خمسة ملايين نسمة، فلا شك ان ما لا يقل عن مليون ونصف مليون نسمة قد غادروا لبنان الي الخارج وكان المسيحيون طليعة المغادرين. علي ان أبناء الطوائف الأخري لم يقصروا في الهجرة أيضاً فكل لبناني فتش عن الأمن والأمان ولقمة العيش في بلده ولم يجدها، حزم أمتعته وهاجر.
علي ان هجرة المثقفين والعلماء والمهندسين والأطباء وسائر أصحاب المهن والصناعات، أي ما يُصطلح علي تسميته بهجرة الأدمغة، كانت أكثر الهجرات إيلاماً علي لبنان وأهله ونهضته. فهذه الهجرة تلحق بالوطن ضرراً عضوياً لا يمكن تعويضه لأنها تحرمه من كفاءات لا تتوفر عادة بسهولة. ويمكن للباحث أن يقدم احصاءات دقيقة عما خسره لبنان الي اليوم، وعما يخسره الآن كل يوم نتيجة انسداد أفق الحلول الداخلية، والتشاؤم الذي يُطبق علي صدور الجميع، وبخاصة علي صدور النخب والكادرات الفنية والصناعية. فهؤلاء يجدون من الفرص في الخارج، ما لا يجدونه في لبنان.
وفي تلك الفرص وعود بالغني السريع وبالمستقبل المشرق. وفي مثل هذا الواقع الاقتصادي والاجتماعي المتردي فإن الكثيرين ينسون ما يسمعونه كل يوم من صباح وفيروز ووديع الصافي عن الوطن وأهميته وضرورة البقاء فيه، ويتكلون علي الله، ويرحلون. ألم يشجعهم الشاعر القديم علي هذا الرحيل عندما قال:
وإنْ نَبَت بك أوطانٌ خُلقتَ بها
فارحلْ، فكل بلاد الأرض أوطانُ!
علي أن اللبنانيين يتعاملون مع الهجرة، وهي مأساتهم المزمنة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تعاملاً رومانسياً أحياناً فانطلاقاً من أسطورة فينيقية تقول بأن قدموس، امير صيدون، لحق بأخته أوروب (وعلي اسمها فيما بعد سُميت أوروبا) لكي يعيدها الي لبنان بعد ان اختطفها زوش كبير آلهة اليونان لفرط جمالها، يري غلاة اللبنانيين ان الحضارة في العالم القديم بدأت منذ ذلك الوقت، وأنهم روادها.
فخلال حملة قدموس في البحر الأبيض المتوسط لاستعادة شقيقته، كان يبني المدن وينشر الأبجدية والحضارة. علي أن عظمة هذه الشقيقة لم تقل عن عظمته. فعندما تعطي أميرة فيلبنان اسمها لقارة من القارات، فهذا يعني انها اعطتها ايضا لقاح الرقي والتمدن. لدي اللبنانيين إذن ما يشبه الصيدلية الجاهزة علي الدوام لخدمة الإنسانية، وفي جيناتهم جذوة لا تنطفيء لجعل العالم أكثر تقدماً!
وفي مسرحيته الشعرية قدموس التي تمثل هذه النظرة الرومانسية، يقول الشاعر سعيد عقل، الفينيقي الهوي: ونبني، أنّي نشأ لبنانا ، في اشارة منه الي ان الأصل في اللبنانية هو الانسان اللبناني، لا الجغرافيا فاللبناني، ذو الكفاءة المبثوثة في جبلته، يستطيع ان يبني لبناناً أنّي شاء، سواء في لبنان، أو خارجه. فهو عبارة عن عدوي حضارية..
وليس لزاماً، استناداً الي رؤية سعيد عقل هذه، أن يكون لبنان حيث هو الآن.. فقد يكون هنا علي الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، وقد يكون في موقع آخر. يستطيع اللبنانيون أن يبنوه حيث يشاؤون..
وباسم هذه اللبنانية الموغلة في الهوس بلبنان، وقدرته العجائبية، وكونه محور الكون، يقول وديع الصافي في أغنيته: هالكم ارزة العاجقين الكون .. صحيح ان أرز لبنان عدده قليل، إلا أن فعله كبير. فاللبنانية علي هذا الأساس جذوة لا تنطفيء، وهي فعل ماض ومضارع.
ويسمي اللبنانيون مهاجرهم التي نزحوا اليها، ومنها بلدان الخليج العربي وبلدان أمريكا الشمالية والجنوبية وافريقيا واستراليا، ببلدان الانتشار انها، بنظرهم، مجرد مناطق يمارس فيها اللبنانيون مواهبهم وكفاءاتهم. كما يمارسون التجارة وشتي المهن بالطبع.
ويذكر بعض اللبنانيين أرقاماً مذهلة لعدد النازحين أو المغتربين من بلدهم. فقد ذكر لي مرة الشاعر سعيد عقل ان عدد هؤلاء هو في حدود الخمسة وعشرين مليوناً، في حين ان شارل مالك، وزير خارجية لبنان الأسبق كان يقول قبل ربع قرن ان عدد المغتربين يوازي عدد المقيمين، أي حوالي خمسة ملايين.
وهناك من يقول ان عدد الذين غادروا لبنان، منذ بداية الهجرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لا يقل عن عشرة ملايين نسمة. وفي القرن العشرين، حصلت هجرات واسعة سببتها فترات الجفاف الاقتصادي، والأزمات والثورات والحروب.
ولا يشك أحد في أن الأزمة الحالية المستحكمة بلبنان ستقود عشرات الألوف من سكانه الي الخارج. مضي ويمضي كثيرون لا يلوون علي شيء، ولا يصدقون أنه أمكنهم الإفلات من بلد الإشعاع كما يسميه بعض اللبنانيين، إذ ليس بالزجل والغناء والرومانسية وحدها يحيا الناس!.
ثمة إذن جانب غير رومانسي في ظاهرة الاغتراب اللبناني لا يتردد كثيرون في وصفه بالجانب المأساوي. فصحيح ان اللبنانيين في الخارج، بعصاميتهم وريادتهم وانجازاتهم، قد حققوا الكثير إلا أن الهجرة، بحد ذاتها، مأساة. وتبلغ هذه المأساة ذروتها عندما تتحول الي ظاهرة . وهجرة اللبنانيين الي الخارج هي في هذا النوع بالذات.
فالأم تلد أبناءها وتربيهم، لتجدهم بعد حين لا قربها أو في الوطن الذي عاشت وعاشوا فيه، بل في أوطان الآخرين. أما السبب فيكمن، بالدرجة الأولي، لا في السعي لبناء المدن ونشر الحضارة كما يقول سعيد عقل في قدموس بل في شحّ الوظائف وفرص العمل في البلد. فالدولة اللبنانية منذ نشأت لم تتصرف وفق خطط وبرامج من شأنها معالجة هذا الجرح النازف، بل تصرفت وفق لا خطط ولا برامج وكان من نتائج سياسات الإهمال والارتجال والتقصير التي مارستها الحكومات اللبنانية علي امتداد حقب طويلة، تحول الهجرة من مشكلة الي حلم ذهبي فاللبناني يجد في الهجرة حلماً لا مجرد حل. عجز الوطن عن تأمين وظيفة، أو عمل أو عيش كريم له فتركه الي الخارج. نبا به الوطن، فرحل.
وهكذا وجد الي جانب من يروي حكاية الهجرة اللبنانية الي الخارج رواية رومانسية، رواة آخرون يروون هذه الحكاية بدموع مرة وحديث موجع ويمكننا ان نتصور استناداً إلي هذه الرواية الأخيرة، مدي الآلام التي اجتاحت قلوب الراحلين وقلوب المقيمين في آن.
فكم من أمّ لبنانية قضت حياتها تنظر إلي البحر الذي انتزع منها فلذة أو فلذات أكبادها علي أمل أن يعودوا فقضت بعد ذلك دون أن تحتضنهم قبل أن ترحل عن هذه الفانية. والدموع ليست في ضفة دون أخري.
فالضفاف كلها دموع، والانين في الداخل لا يضارعه إلا الانين في الخارج.. والذين انشأوا لهم أعمالاً في مغترباتهم، من المستحيل أن يتركوها ليعودا إلي البلد الذي لا يؤمن لهم القوت ولا الطمأنينة وأقصي ما يستطيع هؤلاء المغتربون فعله هو أن يخطفوا أرجلهم إلي لبنان لرؤية ذويهم بين الوقت والآخر، ولأيام لا أكثر، يعودون بعدها إلي أعمالهم وإلي دموعهم في آن.
لذلك تؤلف هجرة اللبنانيين الدائمة إلي الخارج مشكلة أكثر مما تؤلف أغنية أو نظرة رومانسية تتحدث عن رسالة أو دور اشعاعي. فهي جرح كما هي أزمة كيانية ينبغي ان تعالجها النُخب اللبنانية، من مسؤولين وغير مسؤولين، من أجل وضع حدّ في النهاية.
ولا يتيسر ذلك بالطبع إلا بالبحث عن أسبابها والقضاء علي هذه الأسباب. وكل ذلك يستوجب اللجوء إلي سياسات اقتصادية بعيدة المدي، وإلا كان لبنان نوعاً من خزان بشري دائم الفيض علي الخارج، من نوع ما كانته الجزيرة العربية في الماضي.
مع فرق ان خزان الجزيرة العربية في الماضي كان يفيض علي جيرانها سواء في المشرق العربي (بلاد الشام والعراق) أو في المغرب العربي (الهجرة إلي مصر والشمال الأفريقي والأندلس: هجرات بني سليم وبني هلال وسواها).
في حين ان هجرة اللبنانيين إلي الخارج هي في الأعم الأغلب إلي بلدان بعيدة جداً عن لبنان، ويصعب اعتبارها بلدان هجرة مؤقتة، لأن المهاجرين اللبنانيين سرعان ما يذوبوا فيها حتي منذ الجيل الأول.
علي أن لبنان ليس وحده مع الأسف في مثل هذه الهجرة. فهجرة السوريين والعراقيين والفلسطينيين ليست بأقل وأفدح من هجرة اللبنانيين والأسباب تقريبا واحدة والنتائج كارثية ويندرج أكثرها في باب نزيف الأدمغة الذي يحرم البلاد العربية طاقات وكفاءات كثيرة تستفيد منها البلدان التي هاجر إليها هؤلاء.
وعلينا ان نصدق تلك الارقام المذهلة التي تحز في النفس عن عدد الأطباء اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين في هذه المدينة الأوروبية أو الأمريكية وحدها، في حين كان ينبغي ان تنتفع بلداننا من خبرة هؤلاء الأطباء والعلماء، ولكن لا حول ولا قوة إلا باللَّه.
http://www.elaph.com/ElaphWeb/NewsPapers/2007/6/243257.htm