2005ليلى
06-21-2007, 12:02 AM
رشيد الخيون - الشرق الاوسط اللندنية
«هنا تُسكب العبرات»! إنها حرب خبيثة، ليس مقصدها الأثر، ولا الحجر بل المبتغى إبادة البشر، واستمرار الحال حتى أخذ الدولة بحضرها وبدوها. نعم حصل في التاريخ من هدم مراقد لكنها كانت مواسم حروب، مثلما حصل في تبادل المواقع بين العثمانيين والصفويين على العراق. وما قام به الإخوان ضد العتبات المقدسة توقف في القرن الثامن عشر بعد الاتفاق مع المرجع الشيعي جعفر الكبير (ت 1813)، وهو جد عائلة آل كاشف الغطاء المعروفة فقهاً وعلماً (العبقاب العنبرية في الطبقات الجعفرية).
وتوقفت هجمات الإخوان تماماً، في القرن العشرين، بعد هجومهم الأخير السنة 1922، بعد معركة «السبلة» الشهيرة (1929)، ثم اللقاء التاريخي بين القيادتين السعودية والعراقية، على ظهر البارجة (لوبن) 1930. وكان الهجوم الأخير اختباراً للتآلف الشيعي السُنَّي العراقي، وذلك عندما اجتمع كبار علماء السُنَّة بتكية الخالدية ببغداد، وأعلنوا دفاعهم عن العتبات المقدسة بكربلاء والنجف، ومعلوم أن مراقد: الإمام أبي حنيفة، والشيخ عبد القادر الكيلاني، والشيخ معروف الكرخي لم تكن بمأمن.
وكم جُربت الدعوات، الرافضة للأضرحة والمقامات، قديماً وحديثاً، لكنها لم تلاق النجاح، وذلك ربما يعود إلى النفسية العراقية المطبوعة عبر التاريخ على التأثر بالروحانيات المتجسدة بقبة أو منارة، وهنَّ وريثات زقورات المعابد القديمة، مع تبدل الهويات باستمرار. فحتى الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ)، وهو معروف بموقفه من هذه العمارة، شُيد له مرقد، وظل قائماً حتى جرفه فيضان من فيضانات دجلة العارمة. وأشار ابن بطوطة، وهو يتحدث عن جانب بغداد الشرقي، بالقول وقبر ابن حنبل: «ولا قبّة عليه، ويُذكر أنها بُنيت على قبره مراراً فتهدمت بقدرة الله تعالى» (الرحلة). ولا نعلم أسباب عدم إعادة عمرانه! هل يتعلق بانحسار الحنابلة عن بغداد بعد الغزو المغولي، واهتمام العثمانيين بما يتعلق بالمذهب الحنفي، والتصوف؟
وقد يسأل سائل لماذا الصابئة المندائيون، وهم من ديانات العراق القديمة لم يتأثروا بهذه النفسية، ولم يعتنوا بمراقد لشيوخهم؟ وقد أشرنا في مقالة سابقة إلى أن من تقاليد ديانتهم عدم الاكتراث بالجسد، بعد الوفاة، أكثر من خمسة وأربعين يوماً، فهو يعود إلى الأرض، والروح ترتقي إلى بارئها. ويُضاف إلى ذلك عاملان هامان آخران ألا وهما خشية هذه الجماعة، الضعيفة الجانب، من اعتداءات تتعرض لها بين فترة وأخرى، فبنوا ديانتهم على السرية، وأن البيئات المائية حيث ألفت العيش حولها، لا يُعمر فيها مرقد ولا مقام، مثل أهوار جنوب العراق.
أحصى المؤرخ محمد حرز الدين (ت 1945) في «مراقد المعارف» 262 مرقداً ومقاماً، من الشيعة والسُنَّة، الغالبية العظمى منها شُيدت بأرض العراق، ومنهم الأنبياء والأئمة والأولياء. ناهيك مما سجله يوسف رزق الله غنيمة (ت 1950) من مراقد ومقامات يهود العراق في كتابه «نزهة المشتاق..». وما عدَّ الأب بطرس حداد من أثر مسيحي ديني ببغداد في «كنائس بغداد وأديرتها». وما أَخبر عنه الأب جان موريس الدومنيكي (ت 1995) من آثار أديرة وكنائس في «آثار المسيحية في الموصل)، وكل تلك الآثار تحتضن أضرحة جثالقة وبطاركة وقساوسة. وما جاء من تفاصيل في كتاب «النجف.. ماضيها وحاضرها» لجعفر آل محبوبة (ت 1957)، وكتاب «موسوعة العتبات المقدسة» لجعفر الخليلي (ت 1985). ناهيك من التصنيف في المراقد نفسها من كتاب «تاريخ المشهد الكاظمي» للشيخ محمد حسين آل ياسين (ت 2006)، إلى «تاريخ جامع الشيخ عبد القادر الكيلاني» للشيخ هاشم الأعظمي. وغيرها كثير.
إن المقصد من الإشارة إلى هذه التركة الثقافية الغزيرة، في ما يخص المراقد والمقامات، هو لفت الانتباه إلى حيويتها في المجتمع العراقي، فهي تحكي سير المدن والمحلات والقصبات، وكم من مدينة تأسست حول مرقد أو مقام. وتؤكد أن الخلاف الطائفي، الذي يتصاعد حالياً عبرها، لم يكن عقبة أمام تبادلها بين الشيعة والسُنَّة، كذلك مع الأديان الأخرى. فمرقدا الكفل والعزير اليوم تحت سدانة مسلمة، وهما من مقدسات وعُمران اليهود. وإذا كان مرقد الإمام موسى بن جعفر شيعي بالكامل، ومنذ الزمن العباسي، فمراقد أولاد له وأحفاد سُنيَّة بالكامل. وعلى أية طائفة يُحسب مرقد السيد أحمد الرفاعي (ت 578هـ)، وصاحبه شافعي المذهب وصوفي الطريقة، ويرقد في منطقة شيعية، وعُرفت المدينة (الرفاعي) باسمه، وهي من توابع لواء الناصرية بالجنوب؟
حرب المراقد والمساجد لها جانبان متلابسان: سياسي وعقائدي. فجماعة القاعدة لا تؤمن بمراقد مهما كانت منزلة أصحابها، ومن أولويات برنامجها السياسي هو تصعيد الفتنة الطائفية حتى الذروة. أما الميليشيات الشيعية، فالداخل في ثقافتها أن مرقدين مثل مرقد طلحة بن عبيد الله (قُتل 36هـ)، والزبير بن العوام (قُتل 36هـ)، والكائنين بمدينة الزبير جنوب البصرة، لا حُرمة لهما. وحسب جهتي الصراع أن معظمي قبة العسكريين روافض، ومعظمي قبتي طلحة والزبير نواصب، وعلى منوال ذلك يأتي استهداف المساجد والحسينيات.
هنا يصعب التكهنَّ بما يؤل إليه الحال لو استمر تساقط القبب والمنائر، في ظل عجز الحكومة، بجيشها وشرطتها والجيوش الساندة. هناك تحزب ديني طائفي داخل السلطة نفسها، ما بات العراقيون يعشمون بتصريحات المسؤولين عبر الإعلام، من أنها حكومة العراقيين كافة، أو يطمئنون إلى عدالة القسمة في الأذان بين المذهبين. لا أدري إذا ما توصل، الباحثون عن الحل، إلى أن الأحزاب الدينية لا يمكن تجردها من طائفيتها، لأنها أداتها ووسيلتها. هم سيقولون: لا، لكن الأحداث والوقائع تقول: نعم! هؤلاء يجدون بالقاعدة والجيش الإسلامي رصيد قوة، وأولئك يرون بالميليشيات ظهيراً عند الشدة! فهل من سلطة تعلن الحرب على الطرفين!
«هنا تُسكب العبرات»! إنها حرب خبيثة، ليس مقصدها الأثر، ولا الحجر بل المبتغى إبادة البشر، واستمرار الحال حتى أخذ الدولة بحضرها وبدوها. نعم حصل في التاريخ من هدم مراقد لكنها كانت مواسم حروب، مثلما حصل في تبادل المواقع بين العثمانيين والصفويين على العراق. وما قام به الإخوان ضد العتبات المقدسة توقف في القرن الثامن عشر بعد الاتفاق مع المرجع الشيعي جعفر الكبير (ت 1813)، وهو جد عائلة آل كاشف الغطاء المعروفة فقهاً وعلماً (العبقاب العنبرية في الطبقات الجعفرية).
وتوقفت هجمات الإخوان تماماً، في القرن العشرين، بعد هجومهم الأخير السنة 1922، بعد معركة «السبلة» الشهيرة (1929)، ثم اللقاء التاريخي بين القيادتين السعودية والعراقية، على ظهر البارجة (لوبن) 1930. وكان الهجوم الأخير اختباراً للتآلف الشيعي السُنَّي العراقي، وذلك عندما اجتمع كبار علماء السُنَّة بتكية الخالدية ببغداد، وأعلنوا دفاعهم عن العتبات المقدسة بكربلاء والنجف، ومعلوم أن مراقد: الإمام أبي حنيفة، والشيخ عبد القادر الكيلاني، والشيخ معروف الكرخي لم تكن بمأمن.
وكم جُربت الدعوات، الرافضة للأضرحة والمقامات، قديماً وحديثاً، لكنها لم تلاق النجاح، وذلك ربما يعود إلى النفسية العراقية المطبوعة عبر التاريخ على التأثر بالروحانيات المتجسدة بقبة أو منارة، وهنَّ وريثات زقورات المعابد القديمة، مع تبدل الهويات باستمرار. فحتى الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ)، وهو معروف بموقفه من هذه العمارة، شُيد له مرقد، وظل قائماً حتى جرفه فيضان من فيضانات دجلة العارمة. وأشار ابن بطوطة، وهو يتحدث عن جانب بغداد الشرقي، بالقول وقبر ابن حنبل: «ولا قبّة عليه، ويُذكر أنها بُنيت على قبره مراراً فتهدمت بقدرة الله تعالى» (الرحلة). ولا نعلم أسباب عدم إعادة عمرانه! هل يتعلق بانحسار الحنابلة عن بغداد بعد الغزو المغولي، واهتمام العثمانيين بما يتعلق بالمذهب الحنفي، والتصوف؟
وقد يسأل سائل لماذا الصابئة المندائيون، وهم من ديانات العراق القديمة لم يتأثروا بهذه النفسية، ولم يعتنوا بمراقد لشيوخهم؟ وقد أشرنا في مقالة سابقة إلى أن من تقاليد ديانتهم عدم الاكتراث بالجسد، بعد الوفاة، أكثر من خمسة وأربعين يوماً، فهو يعود إلى الأرض، والروح ترتقي إلى بارئها. ويُضاف إلى ذلك عاملان هامان آخران ألا وهما خشية هذه الجماعة، الضعيفة الجانب، من اعتداءات تتعرض لها بين فترة وأخرى، فبنوا ديانتهم على السرية، وأن البيئات المائية حيث ألفت العيش حولها، لا يُعمر فيها مرقد ولا مقام، مثل أهوار جنوب العراق.
أحصى المؤرخ محمد حرز الدين (ت 1945) في «مراقد المعارف» 262 مرقداً ومقاماً، من الشيعة والسُنَّة، الغالبية العظمى منها شُيدت بأرض العراق، ومنهم الأنبياء والأئمة والأولياء. ناهيك مما سجله يوسف رزق الله غنيمة (ت 1950) من مراقد ومقامات يهود العراق في كتابه «نزهة المشتاق..». وما عدَّ الأب بطرس حداد من أثر مسيحي ديني ببغداد في «كنائس بغداد وأديرتها». وما أَخبر عنه الأب جان موريس الدومنيكي (ت 1995) من آثار أديرة وكنائس في «آثار المسيحية في الموصل)، وكل تلك الآثار تحتضن أضرحة جثالقة وبطاركة وقساوسة. وما جاء من تفاصيل في كتاب «النجف.. ماضيها وحاضرها» لجعفر آل محبوبة (ت 1957)، وكتاب «موسوعة العتبات المقدسة» لجعفر الخليلي (ت 1985). ناهيك من التصنيف في المراقد نفسها من كتاب «تاريخ المشهد الكاظمي» للشيخ محمد حسين آل ياسين (ت 2006)، إلى «تاريخ جامع الشيخ عبد القادر الكيلاني» للشيخ هاشم الأعظمي. وغيرها كثير.
إن المقصد من الإشارة إلى هذه التركة الثقافية الغزيرة، في ما يخص المراقد والمقامات، هو لفت الانتباه إلى حيويتها في المجتمع العراقي، فهي تحكي سير المدن والمحلات والقصبات، وكم من مدينة تأسست حول مرقد أو مقام. وتؤكد أن الخلاف الطائفي، الذي يتصاعد حالياً عبرها، لم يكن عقبة أمام تبادلها بين الشيعة والسُنَّة، كذلك مع الأديان الأخرى. فمرقدا الكفل والعزير اليوم تحت سدانة مسلمة، وهما من مقدسات وعُمران اليهود. وإذا كان مرقد الإمام موسى بن جعفر شيعي بالكامل، ومنذ الزمن العباسي، فمراقد أولاد له وأحفاد سُنيَّة بالكامل. وعلى أية طائفة يُحسب مرقد السيد أحمد الرفاعي (ت 578هـ)، وصاحبه شافعي المذهب وصوفي الطريقة، ويرقد في منطقة شيعية، وعُرفت المدينة (الرفاعي) باسمه، وهي من توابع لواء الناصرية بالجنوب؟
حرب المراقد والمساجد لها جانبان متلابسان: سياسي وعقائدي. فجماعة القاعدة لا تؤمن بمراقد مهما كانت منزلة أصحابها، ومن أولويات برنامجها السياسي هو تصعيد الفتنة الطائفية حتى الذروة. أما الميليشيات الشيعية، فالداخل في ثقافتها أن مرقدين مثل مرقد طلحة بن عبيد الله (قُتل 36هـ)، والزبير بن العوام (قُتل 36هـ)، والكائنين بمدينة الزبير جنوب البصرة، لا حُرمة لهما. وحسب جهتي الصراع أن معظمي قبة العسكريين روافض، ومعظمي قبتي طلحة والزبير نواصب، وعلى منوال ذلك يأتي استهداف المساجد والحسينيات.
هنا يصعب التكهنَّ بما يؤل إليه الحال لو استمر تساقط القبب والمنائر، في ظل عجز الحكومة، بجيشها وشرطتها والجيوش الساندة. هناك تحزب ديني طائفي داخل السلطة نفسها، ما بات العراقيون يعشمون بتصريحات المسؤولين عبر الإعلام، من أنها حكومة العراقيين كافة، أو يطمئنون إلى عدالة القسمة في الأذان بين المذهبين. لا أدري إذا ما توصل، الباحثون عن الحل، إلى أن الأحزاب الدينية لا يمكن تجردها من طائفيتها، لأنها أداتها ووسيلتها. هم سيقولون: لا، لكن الأحداث والوقائع تقول: نعم! هؤلاء يجدون بالقاعدة والجيش الإسلامي رصيد قوة، وأولئك يرون بالميليشيات ظهيراً عند الشدة! فهل من سلطة تعلن الحرب على الطرفين!