قمبيز
06-01-2007, 11:29 AM
الوطن السعودية
الرياض ـ الوطن
أبو محمد المقدسي وأبو بصير الطرطوسي، اسمان يقفان وراء فتاوى التكفير والتفجير، والرسائل التي فخخت عقول بعض الشباب، ودفعتهم إلى "القاعدة" والجماعات الضالة، وبشهادة الذين أدلوا باعترافات عبر الإنترنت أو الإعلام, فإن التأثير الأكبر عليهم كان عن طريق التنظيرات الشرعية للمقدسي والطرطوسي ومعظم الوثائق المكتوبة أو التي تزخر بها مواقع الجماعات التكفيرية والتفجيرية من نتاج المقدسي والطرطوسي، والتأصيل لمنهجية العمليات الانتحارية والتحفيز عليها، ودفع الشباب في تجاهها، من نتاج الاثنين: المقدسي والطرطوسي، بل كان الزرقاوي قائد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب والذي قتل في عملية عسكرية، كان تلميذا مخلصاً لأبي محمد المقدسي، الذي تخرج الكثيرون من أمثال الزرقاوي على يديه وكانوا خلف العمليات الانتحارية في السعودية وغيرها من البلاد العربية، بل وصلت فتاوى وآراء المقدسي إلى الجيل الجديد في أوروبا الذي ضلع في تفجيرات لندن ومدريد وغيرها من العمليات التي تم الكشف عنها قبل تنفيذها، ولا يخفي المقدسي ذلك، وأن تلاميذه في الخليج والأردن وأفغانستان، وفي الكثير من الأماكن يأخذون عنه، الذي يعد المنظر لما يطلق عليه بـ"التيار السلفي الجهادي" التكفيري، ويتلاقى معه في ذلك أبو بصير الطرطوسي الذي يلف الغموض شخصيته، وهو من أبرز منظري الفكر التكفيري سواءً للأفراد والمجتمعات الإسلامية.
ولكن ماذا عندما يعلن منظرا ومفكرا العمليات الانتحارية تراجعهما عن هذه العمليات، ويصفانها بـ"عدم المشروعية" وأنها "تخالف عقيدة التوحيد" وهي من قبيل "قتل المرء لنفسه بنفسه" وأنها مخالفة "لعشرات النصوص الشرعية المحكمة في دلالاتها وثبوتها" وهي التي "تحرم على المرء أن يقتل نفسه بنفسه أياً كان السبب والبواعث"، ويكتب أبو محمد المقدسي رسالة إلى أبو مصعب الزرقاوي ـ عندما كان على قيد الحياة ويقود العمليات الانتحارية في الطرق ـ ويراجعه في شرعية هذه العمليات؟.
إنه التحول في أفكار ورؤى أكبر منظري العمليات الانتحارية. ولكن هل وصلت رسالة المقدسي والطرطوسي إلى الذين يأخذون بفتاوى الرجلين، ويستندون إلى الأصول الشرعية للعمليات الانتحارية التي قال بها المقدسي والطرطوسي؟ أم إن القائمين على العمليات الانتحارية ـ في ظل العزلة المفروضة عليهم ـ لم تصل إليهم مراجعات الطرطوسي والمقدسي بالرغم من استحالة ذلك، لأن كلام الطرطوسي والمقدسي موجود على شبكة الإنترنت في المواقع الخاصة بالاثنين، والحديث الطويل الذي أدلى به المقدسي مثبت ومنشور وموضوع على عشرات المواضع والمنتديات والذي ينفي فيه تماماً أنه كفر المجتمعات الإسلامية ويتراجع عن فتواه بجواز العمليات الانتحارية، وكذلك الطرطوسي فله بيان واضح حول التفجيرات التي حدثت في مدينة لندن، ودراسة شرعية على موقعه على شبكة الإنترنت بعنوان "محاذير العمليات الاستشهادية أو الانتحارية".
وقبل الولوج في مراجعات الطرطوسي والمقدسي وتحريمها العمليات الانتحارية، وتراجعهما عن فتاويهما وآرائهما في هذه العمليات، عليناً أن ننظر في سيرة الرجلين، وانتمائهما الجغرافي إلى فلسطين، وتمردهما على علماء الأمة، ومحاولتهما أن يكونا المنظرين لتيار العنف والإرهاب والتكفير والمراجعات التي حدثت لآراء الرجلين..
المقدسي ونابلس
المقدسي هو أبو محمد عاصم بن محمد بن طاهر البرقاوي، الشهير بـ"أبو محمد المقدسي" ولد في عام 1378 هـ وغادر نابلس مع عائلته بعد ولادته بثلاث أو أربع سنوات ـ تقريباً ـ إلى الكويت، حيث مكث فيها وأكمل دراسته الثانوية، ثم التحق بجامعة الموصل شمال العراق، حيث بدأت أول اتصالاته ببعض الجماعات الإسلامية التي كانت تعمل في الخفاء، ثم عاد إلى الكويت، ومنها سافر إلى المملكة العربية السعودية، واتصل ببعض الرموز السلفية، الذين أخذ العلم منهم، ولكن كما يقول " لم يشفوا غليله مما يبحث عنه الشباب من بصيرة في الواقع وتنزيل الأحكام الشرعية الصحيحة عليه فأخذ هو طريقه ـ كما يقول ـ فعكف على مطالعة كتب الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة النجدية، ثم سافر إلى باكستان وأفغانستان مرات عديدة، والتحم ببعض الجماعات الراديكالية، ووجد في تيار العنف طريقه، وكتب الكثير من الرسائل، وعاد إلى الأردن حيث ألقي القبض عليه عدة مرات، وله أكثر من 18 كتاباً وبحثاً ومنها كتاب لتكفير الدولة، بل جميع أفكاره تدور حول التكفير, والتحريض على العمليات الانتحارية، وفتاواه في تكفير علماء المملكة والحكومات الكافرة هي الأكثر تسويقاً لدى تنظيم القاعدة.
الطرطوسي والقطبيون
أما الطرطوسي فهو عبد المنعم مصطفى عبد القادر خضر محمد أحمد أبو حليمة، الملقب بـ"أبو بصير الطرطوسي" وهو من مواليد سوريا طرطوس، في 3/10/1959م، ومتزوج من فلسطينية وأنجب منها ثلاث بنات وولداً واحداً، ثم غادر سوريا منذ عام 1980 قبيل المواجهات الساخنة التي حدثت في مدينة حماة.
ويعد الطرطوسي من أكثر المتأثرين بالاتجاه القطبي، خاصة كتب سيد قطب, وهو من المؤصلين لتيار غلاة التكفير، فهو يكفر الأفراد والمجتمعات، وفي تحول مفاجئ أعلن الطرطوسي رفضه للعمليات الانتحارية وأكد أنها "مخالفة لمنهج وعقيدة التوحيد".
وقال الطرطوسي إن هذه العمليات هي أقرب عندي للانتحار منها للاستشهادية، وهي حرام ولا تجوز لمحاذير عديدة، واستشهد بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم "من آذى مؤمناً فلا جهاد له"، فهذا فيمن يؤذي مؤمناً فكيف بمن يقتل مؤمناً، ويتعمد قتله، وكذلك قول الرسول الكريم "من قتل رجلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً"، وأكد الطرطوسي أن العمليات الانتحارية تعني بالضرورة قتل المرء لنفسه بنفسه، وهذا مخالف لعشرات النصوص الشرعية المحكمة في دلالتها وثبوتها، والتي تحرم على المرء أن يقتل نفسه بنفسه أياً كان السبب الباعث على فعل ذلك.
وفي دراسة لـ"أبو بصير الطرطوسي" بعنوان (محاذير العمليات الاستشهادية أو الانتحارية) قال فيها: لقد تكلمت مراراً عن حكم العمليات الاستشهادية أو الانتحارية وفي مواضع عدة من المسائل المتفرقة.. وإلى الساعة لا تزال تتكرر علي نفس الأسئلة من الإخوان.. وعذرهم أنهم لا يستطيعون أن يقفوا على قولي في المسألة المتناثر بين أكثر من ألف سؤال وجواب.. لذا رأيت أن أعيد ما قلته في تلك الفتاوى المتناثرة المتفرقة في مقال واحد.. وبشيء من التفصيل، ليسهل مراجعته والوقوف عليه لمن يشاء.
فقد قلت، وأقول: هذه العمليات هي أقرب عندي للانتحار منها للاستشهادية.. وهي حرام لا تجوز.. للمحاذير التالية:
أولاً: أهمها أنها تعني بالضرورة قتل المرء لنفسه بنفسه.. وهذا مخالف لعشرات النصوص الشرعية المحكمة في دلالتها وثبوتها، التي تُحرم على المرء أن يقتل نفسه بنفسه أياً كان السبب الباعث على فعل ذلك، والتي منها قوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً. وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) النساء:29-30. وقوله تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) البقرة:195.
ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "مَن قتل نفسه بحديدة فحديدتُه في يده يتوجَّأُ بها في بطنه في نار جهنَّمَ خالداًَ مخلداً فيها أبداً، ومن شرب سَمَّاً فقتل نفسه فهو يتحسَّاه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردَّى من جبلٍ فقتلَ نفسه فهو يتردى في نار جهنَّم خالداً فيها أبداً" مسلم.
ثانياً: العمل بمقتضى الأدلة المتشابهة في هذه المسألة.. يعني نسخ وتعطيل العمل بالأدلة المحكمة القطعية التي تُفيد تحريم قتل المرء لنفسه بنفسه.. وهذا لا يجوز اللجوء إليه، لأوجه عدة منها: أن المحكم في دلالته وثبوته لا يُرد ولا يُنسخ بالمتشابه. ومنها:
أن المتشابه يُفسَّر ويُفهم على ضوء المحكم، وليس العكس.. وأن المحكم حكَمٌ على المتشابه وليس العكس. ومنها: أن قواعد الشريعة تُلزم العمل بمجموع النصوص.. وعدم اللجوء إلى القول بالنسخ، أو التعطيل، أو تقييد المطلق إلا في حالة استحالة التوفيق بين مجموع النصوص.. وفي مسألتنا منعدمة هذه الاستحالة؛ إذ لا يوجد تعارض بين نصوصها.. ويُمكن التوفيق فيما بينها.. والعمل بمجموعها.. ومن دون تعطيل أي نص من نصوص المسألة؛ فمن وجه يُعمل بالأدلة والنصوص التي تُرغب بالشجاعة.. والاقتحام.. والانغماس في صفوف العدو.. من غير تهور.. وإن أدى ذلك لأن يُقتل المرء على يد عدوه.. ما دام في انغماسه مصلحة راجحة للجهاد والإسلام والمسلمين.. ومن وجه آخر يُعمل بالأدلة والنصوص التي تمنع من أن يقتل المرء نفسه بنفسه.. فالتوفيق ممكن وسهل.. لا حاجة البتة للجوء إلى التقييد أو النسخ أو التعطيل!.
خلاصة القول: أن قولي في المسألة مؤداه العمل بمجموع النصوص ذات العلاقة بالمسألة.. بينما العمل بقول المخالف مؤداه ولا بد إلى تعطيل العمل بالنصوص الشرعية المحكمة التي تفيد حرمة المرء أن يقتل نفسه بنفسه.. وهذه مجازفة لا تؤمَن عواقبها.
ثالثاً: ومن محاذير هذا العمل أنه في الغالب ـ كما هو مشاهد ـ مؤداه إلى قتل الأنفس البريئة المعصومة شرعاً بغير وجه حق.. سواء كانت هذه الأنفس المعصومة من المسلمين أم من غيرهم.. وهذا محذور لا ينبغي الاستهانة به.. بل ينبغي الاحتراز له كثيراً كثيراً؛ فالمرء لا يزال دينه بخير ما لم يُصب دماً حراماً، قال تعالى:( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (النساء:93. وقال تعالى:( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ( الإسراء:33. وقوله تعالى:( وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ( الفتح:25.
وفي الحديث فقد صح عن النبي ( أنه قال:" اجتنبوا السبعَ الموبقات "، منها:"قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق...".
هذه أدلة محكمة قطعية في دلالتها وفي ثبوتها.. لا يُمكن ردها أو تعطيلها.. أو الاستهانة بها بأدلة متشابهة حمالة أوجه.. أو لذرائع واهية ضعيفة لا تقوى على الوقوف أمام تلك النصوص المحكمة الآنفة الذكر؛ كذريعة التترس.. إذ يكثر الاستدلال بها في هذا الزمان.
التترس ـ الذي يُبيح قتل الأنفس المعصومة ـ له صفات وشروط؛ لو انتُقص شرط واحد منها، بطل العمل بفقه التترس.. وكذلك الاستدلال بأدلة التترس!
منها: أن يستحيل رد عدوان العدو إلا من جهة الترس.. إذ لو وجد سبيل لرد عدوان العدو من جهات عدة غير جهة الترس.. لا يجوز حينئذٍ قتل الترس وتعريضه للخطر.. ولا مواجهة العدو من جهة الترس.
ومنها: أن يكون ترك العدو من أجل الترس.. أشد خطراً وضرراً على البلاد والعباد.. من قتال وقتل العدو ورده من جهة الترس.. أما إن كان قتله وقتاله من جهة الترس أشد ضرراً وخطراً مما لو تُرك ـ كأن تُقتل عشرات الأنفس المعصومة البريئة من أجل كافر محارب ـ لا يجوز حينئذٍ قتاله من جهة الترس.. أو تعريض الترس للخطر؛ لأن قواعد الشريعة دلت وأجمعت على دفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر، وتقديم أقل الضررين والمفسدتين في حين كان لا بد من أحدهما.
ومنها: أن تكون المصلحة الراجحة من قتل الترس قطعية ويقينية؛ أي غير ظنية محتملة.. فالظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً.
ومنها: أن يكون قتال العدو لا يحتمل التأخير ولا التواني.. أو التربص..
ومنها: إن تحققت الشروط الآنفة الذكر.. يجوز حينئذٍ للمجاهد أن يدفع العدو من جهة الترس.. ونيته وقصده العدو وليس الترس.. فإن أصيب الترس ـ بعد ذلك ـ بنوع أذى أو ضرر.. فلا حرج إن شاء الله.. وتكون إصابته حينئذٍ تبعاً لا قصداً. والسؤال الذي يطرح نفسه ويحتاج إلى جواب منصف وجريء: هل العمليات التي تُسمى بالاستشهادية تُراعي هذه الشروط والقيود ـ الآنفة الذكر ـ حتى يصح الاستدلال عليها بفقه وأدلة الترس والتترس؟.
رابعاً: من المحاذير التي تُذكر كذلك، أن الأخ المجاهد الذي يصل إلى درجة أن يضحي بنفسه وماله، وكل ما يملك في سبيل الله.. قيمة عظمى.. وعملة نادرة في هذا الزمان.. لا يُقدر بقيمة ولا ثمن، ولا بألف من العدو.. لا يصح أن يُحكم عليه بالإعدام ـ بعملية تفجيرية ـ من أول خطوة يخطوها نحو ساحات الجهاد.. فهذا ـ والله ـ أول ما يُثلج قلوب الأعداء!
لا يجوز التهاون والتساهل بأعظم طاقات وكوادر الأمة؛ وزجهم في عمل محدود متشابه غير مأمون النتائج والآثار.. ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (التوبة:128. والنبي ( يجب أن يكون قدوتنا في ذلك.
لا بد أن يُعطى هذا الشاب الفرصة الكافية ليمارس جهاده بصورة صحيحة ومحكمة بعيدة عن ساحات الشبهات والمتشابهات.. عسى أن يكتب الله له عمراً مديداً في الجهاد.. فيغيظ الله به الكفار.. ويحقق على يديه النكاية في العدو أضعاف أضعاف ما يُمكن أن يحققه من جراء عمليته الوحيدة التي تُسمى بالاستشهادية!
لقد بلغني أن بعض ساحات الجهاد المعاصرة التي يقصدها الشباب المسلم المجاهد من جميع الأمصار.. أول ما يُخيَّر الشاب الذي يصل إلى تلك الساحات بخيارين لا ثالث لهما: إما أن يرضى أن يكون مشروعاً استشهادياً تفجيرياً.. جهاده كله بل وحياته كلها محصورة في عملية واحدة لا غير.. قد تصيب وقد تخيب.. وما أكثر العمليات التي تخيب.. وإما أن يعود من حيث أتى.. وذلك بعد أن يكون قد كابد قمة المخاطر والمعاناة لكي يصل إلى تلك الساحات.
وهذا خطأ وفق جميع الاعتبارات والمقاييس: خطأ شرعي؛ لأن إكراه الأخ وحمله على أن يقتل نفسه بعمليته التفجيرية الوحيدة.. وهو غير مقتنع بشرعيتها.. أو في نفسه نوع ريب أو شك حول مدى شرعيتها وجوازها.. أو أنها عنده أقرب للانتحار منها إلى الاستشهاد.. فحينئذٍ لو أطاعهم في تفجير نفسه.. يكون قد أطاعهم في معصية الله.. وهذا لا يجوز؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.. ولو قُتِل وهو على هذا الاعتقاد والشك والريب.. حكمه حكم المنتحر القاتل لنفسه بنفسه.. وجميع نصوص الوعيد ذات العلاقة بكبيرة الانتحار تُحمل عليه.
أتبرأ من التكفير
إذا كانت هذه التحولات في فكرة الطرطوسي ورفضه العمليات الانتحارية وتحريمها واعتبارها من قتل النفس، فإن التحول الأكبر كان في فكر "أبو محمد المقدسي" ورفضه التام فكر التكفير سواءً بالنسبة للناس أو تكفيره للمجتمعات المسلمة، يقول: نحن نبرأ من هذه التهمة الباطلة، بل على العكس تماماً فإنا ممن يحذرون في كثير من كتاباتي من الغلو والتكفير، وتكفير الناس بالعموم، وهذا ما ورد في رسالتي "الثلاثينية في التحذير من أخطاء التكفير".
وقال " المقدسي ": نحن ندعو للتوحيد الذي هو حق الله على العبيد، وشرح هذا التوحيد للناس، أما مسألة تكفير المجتمعات فلم نتبن هذه الفكرة ولا نكفر عموم الناس، لأن التكفير هو جهل بالدين.
بل قال المقدسي إنه لا يكفر حتى عموم الشيعة ويرى أن من الأخطاء التي وقع فيها الطرفان السني والشيعي في العراق الفتنة الطائفية، لأن هذه الفتنة تصب في مسار المحتل، وإضعاف الأمة الإسلامية.
ويعترف المقدسي بالأخطاء الكبيرة التي وقعت جراء العمليات غير المنضبطة بضوابط الشرع.
وقد أرسل المقدسي رسالة إلى أبو مصعب الزرقاوي يحذره فيها من المخالفات الشرعية والأخطاء التي وقع فيها، وينفي تكفير المجتمعات الإسلامية.
وقال: إن الشباب انحرف في اتجاه تيار التكفير والبعض يتخوف من مناصحته وتوجيهه وقد أخذت على عاتقي أن أكون من الذين يناصحون هؤلاء ويحذرون من فكر التكفير.
وتناول أبو محمد المقدسي في رسالته إلى الزرقاوي العمليات الانتحارية وما ينطوي عليها وقال: إنها وسيلة استثنائية وليست وسيلة تقليدية أصيلة. ورفضتها ورفضت ضرب الكنائس ومساجد الشيعة وقتل الناس لمجرد القتل وإباحة الدماء بالجملة وهذا مخالف للضوابط الشرعية.
هذه مراجعات للطرطوسي والمقدسي اللذين يعمل بالفتاوى الخاصة بهما في العمليات الانتحارية والقتل والتفجير وسفك الدماء فهل تسقط بعد ذلك هذه الفتاوى شرعية العمليات الانتحارية التي تستند إليها الفئة الضالة ؟ هل تتسبب هذه المراجعات في خلخلة الفكر الذي بنت عليه الفئة الضالة فكرها التفجيري والتكفيري؟.
الرياض ـ الوطن
أبو محمد المقدسي وأبو بصير الطرطوسي، اسمان يقفان وراء فتاوى التكفير والتفجير، والرسائل التي فخخت عقول بعض الشباب، ودفعتهم إلى "القاعدة" والجماعات الضالة، وبشهادة الذين أدلوا باعترافات عبر الإنترنت أو الإعلام, فإن التأثير الأكبر عليهم كان عن طريق التنظيرات الشرعية للمقدسي والطرطوسي ومعظم الوثائق المكتوبة أو التي تزخر بها مواقع الجماعات التكفيرية والتفجيرية من نتاج المقدسي والطرطوسي، والتأصيل لمنهجية العمليات الانتحارية والتحفيز عليها، ودفع الشباب في تجاهها، من نتاج الاثنين: المقدسي والطرطوسي، بل كان الزرقاوي قائد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب والذي قتل في عملية عسكرية، كان تلميذا مخلصاً لأبي محمد المقدسي، الذي تخرج الكثيرون من أمثال الزرقاوي على يديه وكانوا خلف العمليات الانتحارية في السعودية وغيرها من البلاد العربية، بل وصلت فتاوى وآراء المقدسي إلى الجيل الجديد في أوروبا الذي ضلع في تفجيرات لندن ومدريد وغيرها من العمليات التي تم الكشف عنها قبل تنفيذها، ولا يخفي المقدسي ذلك، وأن تلاميذه في الخليج والأردن وأفغانستان، وفي الكثير من الأماكن يأخذون عنه، الذي يعد المنظر لما يطلق عليه بـ"التيار السلفي الجهادي" التكفيري، ويتلاقى معه في ذلك أبو بصير الطرطوسي الذي يلف الغموض شخصيته، وهو من أبرز منظري الفكر التكفيري سواءً للأفراد والمجتمعات الإسلامية.
ولكن ماذا عندما يعلن منظرا ومفكرا العمليات الانتحارية تراجعهما عن هذه العمليات، ويصفانها بـ"عدم المشروعية" وأنها "تخالف عقيدة التوحيد" وهي من قبيل "قتل المرء لنفسه بنفسه" وأنها مخالفة "لعشرات النصوص الشرعية المحكمة في دلالاتها وثبوتها" وهي التي "تحرم على المرء أن يقتل نفسه بنفسه أياً كان السبب والبواعث"، ويكتب أبو محمد المقدسي رسالة إلى أبو مصعب الزرقاوي ـ عندما كان على قيد الحياة ويقود العمليات الانتحارية في الطرق ـ ويراجعه في شرعية هذه العمليات؟.
إنه التحول في أفكار ورؤى أكبر منظري العمليات الانتحارية. ولكن هل وصلت رسالة المقدسي والطرطوسي إلى الذين يأخذون بفتاوى الرجلين، ويستندون إلى الأصول الشرعية للعمليات الانتحارية التي قال بها المقدسي والطرطوسي؟ أم إن القائمين على العمليات الانتحارية ـ في ظل العزلة المفروضة عليهم ـ لم تصل إليهم مراجعات الطرطوسي والمقدسي بالرغم من استحالة ذلك، لأن كلام الطرطوسي والمقدسي موجود على شبكة الإنترنت في المواقع الخاصة بالاثنين، والحديث الطويل الذي أدلى به المقدسي مثبت ومنشور وموضوع على عشرات المواضع والمنتديات والذي ينفي فيه تماماً أنه كفر المجتمعات الإسلامية ويتراجع عن فتواه بجواز العمليات الانتحارية، وكذلك الطرطوسي فله بيان واضح حول التفجيرات التي حدثت في مدينة لندن، ودراسة شرعية على موقعه على شبكة الإنترنت بعنوان "محاذير العمليات الاستشهادية أو الانتحارية".
وقبل الولوج في مراجعات الطرطوسي والمقدسي وتحريمها العمليات الانتحارية، وتراجعهما عن فتاويهما وآرائهما في هذه العمليات، عليناً أن ننظر في سيرة الرجلين، وانتمائهما الجغرافي إلى فلسطين، وتمردهما على علماء الأمة، ومحاولتهما أن يكونا المنظرين لتيار العنف والإرهاب والتكفير والمراجعات التي حدثت لآراء الرجلين..
المقدسي ونابلس
المقدسي هو أبو محمد عاصم بن محمد بن طاهر البرقاوي، الشهير بـ"أبو محمد المقدسي" ولد في عام 1378 هـ وغادر نابلس مع عائلته بعد ولادته بثلاث أو أربع سنوات ـ تقريباً ـ إلى الكويت، حيث مكث فيها وأكمل دراسته الثانوية، ثم التحق بجامعة الموصل شمال العراق، حيث بدأت أول اتصالاته ببعض الجماعات الإسلامية التي كانت تعمل في الخفاء، ثم عاد إلى الكويت، ومنها سافر إلى المملكة العربية السعودية، واتصل ببعض الرموز السلفية، الذين أخذ العلم منهم، ولكن كما يقول " لم يشفوا غليله مما يبحث عنه الشباب من بصيرة في الواقع وتنزيل الأحكام الشرعية الصحيحة عليه فأخذ هو طريقه ـ كما يقول ـ فعكف على مطالعة كتب الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة النجدية، ثم سافر إلى باكستان وأفغانستان مرات عديدة، والتحم ببعض الجماعات الراديكالية، ووجد في تيار العنف طريقه، وكتب الكثير من الرسائل، وعاد إلى الأردن حيث ألقي القبض عليه عدة مرات، وله أكثر من 18 كتاباً وبحثاً ومنها كتاب لتكفير الدولة، بل جميع أفكاره تدور حول التكفير, والتحريض على العمليات الانتحارية، وفتاواه في تكفير علماء المملكة والحكومات الكافرة هي الأكثر تسويقاً لدى تنظيم القاعدة.
الطرطوسي والقطبيون
أما الطرطوسي فهو عبد المنعم مصطفى عبد القادر خضر محمد أحمد أبو حليمة، الملقب بـ"أبو بصير الطرطوسي" وهو من مواليد سوريا طرطوس، في 3/10/1959م، ومتزوج من فلسطينية وأنجب منها ثلاث بنات وولداً واحداً، ثم غادر سوريا منذ عام 1980 قبيل المواجهات الساخنة التي حدثت في مدينة حماة.
ويعد الطرطوسي من أكثر المتأثرين بالاتجاه القطبي، خاصة كتب سيد قطب, وهو من المؤصلين لتيار غلاة التكفير، فهو يكفر الأفراد والمجتمعات، وفي تحول مفاجئ أعلن الطرطوسي رفضه للعمليات الانتحارية وأكد أنها "مخالفة لمنهج وعقيدة التوحيد".
وقال الطرطوسي إن هذه العمليات هي أقرب عندي للانتحار منها للاستشهادية، وهي حرام ولا تجوز لمحاذير عديدة، واستشهد بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم "من آذى مؤمناً فلا جهاد له"، فهذا فيمن يؤذي مؤمناً فكيف بمن يقتل مؤمناً، ويتعمد قتله، وكذلك قول الرسول الكريم "من قتل رجلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً"، وأكد الطرطوسي أن العمليات الانتحارية تعني بالضرورة قتل المرء لنفسه بنفسه، وهذا مخالف لعشرات النصوص الشرعية المحكمة في دلالتها وثبوتها، والتي تحرم على المرء أن يقتل نفسه بنفسه أياً كان السبب الباعث على فعل ذلك.
وفي دراسة لـ"أبو بصير الطرطوسي" بعنوان (محاذير العمليات الاستشهادية أو الانتحارية) قال فيها: لقد تكلمت مراراً عن حكم العمليات الاستشهادية أو الانتحارية وفي مواضع عدة من المسائل المتفرقة.. وإلى الساعة لا تزال تتكرر علي نفس الأسئلة من الإخوان.. وعذرهم أنهم لا يستطيعون أن يقفوا على قولي في المسألة المتناثر بين أكثر من ألف سؤال وجواب.. لذا رأيت أن أعيد ما قلته في تلك الفتاوى المتناثرة المتفرقة في مقال واحد.. وبشيء من التفصيل، ليسهل مراجعته والوقوف عليه لمن يشاء.
فقد قلت، وأقول: هذه العمليات هي أقرب عندي للانتحار منها للاستشهادية.. وهي حرام لا تجوز.. للمحاذير التالية:
أولاً: أهمها أنها تعني بالضرورة قتل المرء لنفسه بنفسه.. وهذا مخالف لعشرات النصوص الشرعية المحكمة في دلالتها وثبوتها، التي تُحرم على المرء أن يقتل نفسه بنفسه أياً كان السبب الباعث على فعل ذلك، والتي منها قوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً. وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) النساء:29-30. وقوله تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) البقرة:195.
ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "مَن قتل نفسه بحديدة فحديدتُه في يده يتوجَّأُ بها في بطنه في نار جهنَّمَ خالداًَ مخلداً فيها أبداً، ومن شرب سَمَّاً فقتل نفسه فهو يتحسَّاه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردَّى من جبلٍ فقتلَ نفسه فهو يتردى في نار جهنَّم خالداً فيها أبداً" مسلم.
ثانياً: العمل بمقتضى الأدلة المتشابهة في هذه المسألة.. يعني نسخ وتعطيل العمل بالأدلة المحكمة القطعية التي تُفيد تحريم قتل المرء لنفسه بنفسه.. وهذا لا يجوز اللجوء إليه، لأوجه عدة منها: أن المحكم في دلالته وثبوته لا يُرد ولا يُنسخ بالمتشابه. ومنها:
أن المتشابه يُفسَّر ويُفهم على ضوء المحكم، وليس العكس.. وأن المحكم حكَمٌ على المتشابه وليس العكس. ومنها: أن قواعد الشريعة تُلزم العمل بمجموع النصوص.. وعدم اللجوء إلى القول بالنسخ، أو التعطيل، أو تقييد المطلق إلا في حالة استحالة التوفيق بين مجموع النصوص.. وفي مسألتنا منعدمة هذه الاستحالة؛ إذ لا يوجد تعارض بين نصوصها.. ويُمكن التوفيق فيما بينها.. والعمل بمجموعها.. ومن دون تعطيل أي نص من نصوص المسألة؛ فمن وجه يُعمل بالأدلة والنصوص التي تُرغب بالشجاعة.. والاقتحام.. والانغماس في صفوف العدو.. من غير تهور.. وإن أدى ذلك لأن يُقتل المرء على يد عدوه.. ما دام في انغماسه مصلحة راجحة للجهاد والإسلام والمسلمين.. ومن وجه آخر يُعمل بالأدلة والنصوص التي تمنع من أن يقتل المرء نفسه بنفسه.. فالتوفيق ممكن وسهل.. لا حاجة البتة للجوء إلى التقييد أو النسخ أو التعطيل!.
خلاصة القول: أن قولي في المسألة مؤداه العمل بمجموع النصوص ذات العلاقة بالمسألة.. بينما العمل بقول المخالف مؤداه ولا بد إلى تعطيل العمل بالنصوص الشرعية المحكمة التي تفيد حرمة المرء أن يقتل نفسه بنفسه.. وهذه مجازفة لا تؤمَن عواقبها.
ثالثاً: ومن محاذير هذا العمل أنه في الغالب ـ كما هو مشاهد ـ مؤداه إلى قتل الأنفس البريئة المعصومة شرعاً بغير وجه حق.. سواء كانت هذه الأنفس المعصومة من المسلمين أم من غيرهم.. وهذا محذور لا ينبغي الاستهانة به.. بل ينبغي الاحتراز له كثيراً كثيراً؛ فالمرء لا يزال دينه بخير ما لم يُصب دماً حراماً، قال تعالى:( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (النساء:93. وقال تعالى:( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ( الإسراء:33. وقوله تعالى:( وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ( الفتح:25.
وفي الحديث فقد صح عن النبي ( أنه قال:" اجتنبوا السبعَ الموبقات "، منها:"قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق...".
هذه أدلة محكمة قطعية في دلالتها وفي ثبوتها.. لا يُمكن ردها أو تعطيلها.. أو الاستهانة بها بأدلة متشابهة حمالة أوجه.. أو لذرائع واهية ضعيفة لا تقوى على الوقوف أمام تلك النصوص المحكمة الآنفة الذكر؛ كذريعة التترس.. إذ يكثر الاستدلال بها في هذا الزمان.
التترس ـ الذي يُبيح قتل الأنفس المعصومة ـ له صفات وشروط؛ لو انتُقص شرط واحد منها، بطل العمل بفقه التترس.. وكذلك الاستدلال بأدلة التترس!
منها: أن يستحيل رد عدوان العدو إلا من جهة الترس.. إذ لو وجد سبيل لرد عدوان العدو من جهات عدة غير جهة الترس.. لا يجوز حينئذٍ قتل الترس وتعريضه للخطر.. ولا مواجهة العدو من جهة الترس.
ومنها: أن يكون ترك العدو من أجل الترس.. أشد خطراً وضرراً على البلاد والعباد.. من قتال وقتل العدو ورده من جهة الترس.. أما إن كان قتله وقتاله من جهة الترس أشد ضرراً وخطراً مما لو تُرك ـ كأن تُقتل عشرات الأنفس المعصومة البريئة من أجل كافر محارب ـ لا يجوز حينئذٍ قتاله من جهة الترس.. أو تعريض الترس للخطر؛ لأن قواعد الشريعة دلت وأجمعت على دفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر، وتقديم أقل الضررين والمفسدتين في حين كان لا بد من أحدهما.
ومنها: أن تكون المصلحة الراجحة من قتل الترس قطعية ويقينية؛ أي غير ظنية محتملة.. فالظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً.
ومنها: أن يكون قتال العدو لا يحتمل التأخير ولا التواني.. أو التربص..
ومنها: إن تحققت الشروط الآنفة الذكر.. يجوز حينئذٍ للمجاهد أن يدفع العدو من جهة الترس.. ونيته وقصده العدو وليس الترس.. فإن أصيب الترس ـ بعد ذلك ـ بنوع أذى أو ضرر.. فلا حرج إن شاء الله.. وتكون إصابته حينئذٍ تبعاً لا قصداً. والسؤال الذي يطرح نفسه ويحتاج إلى جواب منصف وجريء: هل العمليات التي تُسمى بالاستشهادية تُراعي هذه الشروط والقيود ـ الآنفة الذكر ـ حتى يصح الاستدلال عليها بفقه وأدلة الترس والتترس؟.
رابعاً: من المحاذير التي تُذكر كذلك، أن الأخ المجاهد الذي يصل إلى درجة أن يضحي بنفسه وماله، وكل ما يملك في سبيل الله.. قيمة عظمى.. وعملة نادرة في هذا الزمان.. لا يُقدر بقيمة ولا ثمن، ولا بألف من العدو.. لا يصح أن يُحكم عليه بالإعدام ـ بعملية تفجيرية ـ من أول خطوة يخطوها نحو ساحات الجهاد.. فهذا ـ والله ـ أول ما يُثلج قلوب الأعداء!
لا يجوز التهاون والتساهل بأعظم طاقات وكوادر الأمة؛ وزجهم في عمل محدود متشابه غير مأمون النتائج والآثار.. ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (التوبة:128. والنبي ( يجب أن يكون قدوتنا في ذلك.
لا بد أن يُعطى هذا الشاب الفرصة الكافية ليمارس جهاده بصورة صحيحة ومحكمة بعيدة عن ساحات الشبهات والمتشابهات.. عسى أن يكتب الله له عمراً مديداً في الجهاد.. فيغيظ الله به الكفار.. ويحقق على يديه النكاية في العدو أضعاف أضعاف ما يُمكن أن يحققه من جراء عمليته الوحيدة التي تُسمى بالاستشهادية!
لقد بلغني أن بعض ساحات الجهاد المعاصرة التي يقصدها الشباب المسلم المجاهد من جميع الأمصار.. أول ما يُخيَّر الشاب الذي يصل إلى تلك الساحات بخيارين لا ثالث لهما: إما أن يرضى أن يكون مشروعاً استشهادياً تفجيرياً.. جهاده كله بل وحياته كلها محصورة في عملية واحدة لا غير.. قد تصيب وقد تخيب.. وما أكثر العمليات التي تخيب.. وإما أن يعود من حيث أتى.. وذلك بعد أن يكون قد كابد قمة المخاطر والمعاناة لكي يصل إلى تلك الساحات.
وهذا خطأ وفق جميع الاعتبارات والمقاييس: خطأ شرعي؛ لأن إكراه الأخ وحمله على أن يقتل نفسه بعمليته التفجيرية الوحيدة.. وهو غير مقتنع بشرعيتها.. أو في نفسه نوع ريب أو شك حول مدى شرعيتها وجوازها.. أو أنها عنده أقرب للانتحار منها إلى الاستشهاد.. فحينئذٍ لو أطاعهم في تفجير نفسه.. يكون قد أطاعهم في معصية الله.. وهذا لا يجوز؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.. ولو قُتِل وهو على هذا الاعتقاد والشك والريب.. حكمه حكم المنتحر القاتل لنفسه بنفسه.. وجميع نصوص الوعيد ذات العلاقة بكبيرة الانتحار تُحمل عليه.
أتبرأ من التكفير
إذا كانت هذه التحولات في فكرة الطرطوسي ورفضه العمليات الانتحارية وتحريمها واعتبارها من قتل النفس، فإن التحول الأكبر كان في فكر "أبو محمد المقدسي" ورفضه التام فكر التكفير سواءً بالنسبة للناس أو تكفيره للمجتمعات المسلمة، يقول: نحن نبرأ من هذه التهمة الباطلة، بل على العكس تماماً فإنا ممن يحذرون في كثير من كتاباتي من الغلو والتكفير، وتكفير الناس بالعموم، وهذا ما ورد في رسالتي "الثلاثينية في التحذير من أخطاء التكفير".
وقال " المقدسي ": نحن ندعو للتوحيد الذي هو حق الله على العبيد، وشرح هذا التوحيد للناس، أما مسألة تكفير المجتمعات فلم نتبن هذه الفكرة ولا نكفر عموم الناس، لأن التكفير هو جهل بالدين.
بل قال المقدسي إنه لا يكفر حتى عموم الشيعة ويرى أن من الأخطاء التي وقع فيها الطرفان السني والشيعي في العراق الفتنة الطائفية، لأن هذه الفتنة تصب في مسار المحتل، وإضعاف الأمة الإسلامية.
ويعترف المقدسي بالأخطاء الكبيرة التي وقعت جراء العمليات غير المنضبطة بضوابط الشرع.
وقد أرسل المقدسي رسالة إلى أبو مصعب الزرقاوي يحذره فيها من المخالفات الشرعية والأخطاء التي وقع فيها، وينفي تكفير المجتمعات الإسلامية.
وقال: إن الشباب انحرف في اتجاه تيار التكفير والبعض يتخوف من مناصحته وتوجيهه وقد أخذت على عاتقي أن أكون من الذين يناصحون هؤلاء ويحذرون من فكر التكفير.
وتناول أبو محمد المقدسي في رسالته إلى الزرقاوي العمليات الانتحارية وما ينطوي عليها وقال: إنها وسيلة استثنائية وليست وسيلة تقليدية أصيلة. ورفضتها ورفضت ضرب الكنائس ومساجد الشيعة وقتل الناس لمجرد القتل وإباحة الدماء بالجملة وهذا مخالف للضوابط الشرعية.
هذه مراجعات للطرطوسي والمقدسي اللذين يعمل بالفتاوى الخاصة بهما في العمليات الانتحارية والقتل والتفجير وسفك الدماء فهل تسقط بعد ذلك هذه الفتاوى شرعية العمليات الانتحارية التي تستند إليها الفئة الضالة ؟ هل تتسبب هذه المراجعات في خلخلة الفكر الذي بنت عليه الفئة الضالة فكرها التفجيري والتكفيري؟.