سمير
05-27-2007, 03:47 PM
عبد الله كرمون من باريس
ثائر صالح من مواليد بغداد سنة 1959 وقد درس الهندسة الكيمياوية وحصل فيها على بكلوريوس سنة 1984 في فسبريم بالمجر وعلى شهادة الماجستير في الهندسة البتروكيمياوية خلال 1986. غير أنه أدمن نزوعا أدبيا وصحافيا ظل يلاحقه رغم تكوينه العلمي. ذلك أنه منذ تدربه الصحفي في جريدة طريق الشعب ببغداد أواخر السبعينيات فقد استمر في ميله ذاك وتوّج جهوده ثمة بشهادة صحافية من مدرسة الصحافيين العالمية ببودابست.
لقد نشر العديد من الدراسات والمقالات في مجلات وجرائد عربية إضافة إلى دراسات بالمجرية في علم الأديان المقارن والاستشراق صدرت في مجلات مجرية متخصصة في تأريخ الأديان. كما أنه نشر بعض ترجمات لروايات مجرية ووضع كتابه "لمحات عن الأدب المجري". غير أنه مستمر في نشر متابعاته عن الأدب، الفن والثقافة المجرية في العديد من المجلات والجرائد العربية. فمن خلال هذا الحوار يعرفنا عن بعض انشغالاته تلك وعن تمكنه الجميل من كل ما هو مجري.
*كيف ارتبطت في البدء بالمجر؛ أرضا وثقافة؟
ثائر صالح: جئت إلى المجر في العام 1979، ودرست فيها الهندسة البتروكيماوية، وأعمل هنا منذ ذلك الحين في تخصصي هذا، وقد نجحنا في تطوير تقنية لصنع مواد تحسن من مواصفات الأسفلت وتصنع من مخلفات البلاستك، لربما هي مفيدة في بلداننا التي "ابتلت" بحرارة الصيف، فلا يذوب الأسفلت وينوء تحت ضغط عجلات السيارات. خلال هذه الفترة الطويلة تعرفت على البلد وثقافته، وتاريخه ومجتمعه، وعشت التاريخ المجري الحديث وانهيار الحكم الإشتراكي في 1989. والمدخل إلى كل شيء هو إجادة اللغة، فبدون معرفة دقيقة للغة البلد لا يمكن معرفة ثقافة شعبه.
في بداياتي الصحفية المتواضعة في بلدي، العراق، كنت مهتماً بالموسيقى والفنون، ومن يهتم بالموسيقى لا بد وأن يطلع على إنجازات المجريين في هذا الشأن، فلديهم واحد من أفضل نظم التربية الموسيقية في العالم – والفضل يعود إلى زولتان كوداي (1982-1967) الذي ابتكر هذه الطريقة التي انتشرت في العالم، ووصلت حتى اليابان. وهناك بيلا بارتوك (1881-1945) الذي كان نبراساً لكل من اهتم بتوثيق الفولكلور الموسيقي. وقد جمع بارتوك المادة الموسيقية الشعبية ليس من قرى المجر وحدها، بل من رومانيا والبلقان وبلغاريا ووصل حتى تركيا وبلاد الشام. ولا يزال في أرشيف بارتوك الكثير من التسجيلات العربية في انتظار الباحثين "الأثنوموسيقولوجيين" العرب. وكنت قد كتبت في صحيفة عراقية يومية عن الرقي المجري في مجال الموسيقى، في 1978 على ما أذكر.
*معروف انشغالك بنقل الأدب المجري إلى العربية، لو تتفضل وتقدم بعض توضيحات عن أهم انجازاتك في هذا المضمار. وماذا عن المترجمين الآخرين عن المجرية؟
- إهتمامي بالأدب المجري جاء متأخراً، فأنا لم أدرسه في المدرسة ولم يكن تخصصي الأدب كما أشرت. بيد أن وعيي بندرة الترجمات الأدبية المجرية إلى اللغة العربية حفزني إلى الخوض في هذا الحقل الصعب، بالخصوص الشعر، الذي لم يتفق في شأن كيفية ترجمته من لغة إلى أُخرى باحثان، ومع ذلك ينشر الشعر المترجم في كل يوم.
بدأت بنشر بعض الترجمات في صحيفة الحياة اللندنية في أواخر التسعينيات، وفجأة وجدت نفسي وأنا أعد لنشر مجموعة أصفها اعتباطاً انطولوجيا للأدب المجري، لكنها بالفعل أول شريحة لثلاثة قرون من الأدب المجري باللغة العربية. فيها قصائد لعشرة شعراء، وقصص قصيرة لثلاثة روائيين وقصة شعبية واحدة، مع مقدمة طويلة أعددتها عن تاريخ الأدب المجري. وقد صدرت المجموعة عن دار المدى في العام 2002 بعنوان "لمحات من الأدب المجري".
ثم قمت بترجمة كتاب رائع صدر في 1904، وكاتبه ميهاي فضل الله الحداد عقيد الجيش الإمبراطوري الملكي (وكانت المجر وقتئذ مملكة تابعة لإمبراطورية النمسا-المجر). عنوان الكتاب هو "رحلتي إلى بلاد الرافدين وعراق العرب"، وهو توثيق أدبي لرحلة العقيد اللبناني الأصل إلى بلاد الشام والعراق لشراء خيول عربية أصيلة لحساب الجيش، وقد صدر الكتاب في بيروت بفضل جهود السيد بدر الحاج والسيدة أمل زين صاحبة دار كتب للنشر أواخر سنة 2004.
وكان حصول إمره كرتيس على جائزة نوبل للآداب في 2002 هزة كبيرة على الكثير من المستويات. فهو أول كاتب مجري يحصل على الجائزة، وإن استحقها كتاب مجريون آخرون كذلك. ثم أن فوزه أثار عاصفة من النقاشات والإتهامات بسبب كونه كاتباً "مغموراً" في المجر أيضاً، ولا يشتهر إلاّ في ألمانيا بالدرجة الأولى. أما عندنا، فقد احتلت نظرية المؤامرة العناوين فوراً، فوا عرباه، انتزع كرتيس اليهودي الجائزة من فم أدونيس العربي. لم يقرأ أحد من الذين كتبوا عن الأمر في الصحف العربية سطراً واحداً من أعمال كرتيس. في هذه الأجواء ترجمت عملين لكرتيس لا علاقة لهما بموضوع الكاتب الأثير أي الهولوكاوست، صدر أحدهما "المحضر" في مجلة "المدى" عدد 2 سنة 2003 (وللأسف أعاد أحد المحررين صياغة كتابته بلغة عربية متينة فتمزقت تماماً لغة كرتيس التي جهدت في الحفاظ عليها، وهي أهم ما يميزه). بعد ذلك كلفني صاحب دار المدى الأستاذ فخري كريم بترجمة رواية كرتيس الرئيسية، التي عنوانها "لا مصير" وصدرت الرواية في 2005 ضمن سلسلة مكتبة نوبل، كما صدرت كذلك قصتي كرتيس "الراية الإنجليزية" و"محضر" عن دار المدى في نفس العام.
بدأت في الآونة الأخيرة بنشر بعض المتابعات عن جديد الأدب المجري في صحيفة النهار البيروتية، وبضمنها بعض الترجمات الأدبية. ربما ستكون هذه الكتابات نواة للمحات جديدة من الأدب المجري.
أما إذا أردنا أن نجري جرداً لما تُرجم من الأدب المجري إلى العربية، فليس هناك أسهل من ذلك، إذ يمكننا عد الإصدارات على أصابع اليد. فقد صدرت مجموعة مختارات من أشعار يوجف أتيلا ومجموعة اخرى لشاندور بتوفي في السبعينيات بترجمة الشاعر فوزي العنتيل (وقد أعيد طبعها مؤخراً)، لكن هذه الأشعار لم تترجم من اللغة المجرية مباشرة. وكذلك لم يترجم المرحوم سعد الله ونوس مسرحية إشتفان أركين الشهيرة "العائلة توت" من المجرية (وهناك ترجمة ثانية للعمل، أعتقد أنها للمرحوم عيسى الناعوري)، مثلما هو الأمر مع ترجمة الناعوري لدراما "تراجيديا الإنسان" التي كتبها إمره ماداتش. كما صدرت مؤخراً "مختارات من الشعر المجري المعاصر" لشعراء السبعينيات من ترجمة المصري محمد علاء عبد الهادي (المجلس الوطني للثقافة في الكويت، 2005)، هي الأخرى عبر لغة وسيطة.
وربما كنت أنا أول من بدأ بترجمة الأعمال الأدبية المجرية من لغتها الأصلية، وسرعان ما بدأ الشاعر السوري نافع معلا بنشر ترجماته من اللغة المجرية مباشرة، فصدرت له رواية "الأقارب" لجيغموند موريتس (دار المدى)، ومسرحية "لعبة القطة" لإشتفان أركين (المدى)، تبعها عدد من منشورات دار الحوار في اللاذقية، هي: رواية إمره شاركَدي: الجبانة، وقصتا شاركدي: المجنونة والمختلف - العاصفة، رائعة أندره فَيَش: مساء الخير أيها الصيف.. مساء الخير أيها الحب، وكذلك عمل أدره فيش: مقبرة الصدأ. وبالتأكيد كان الجهد الذي بذلته في التعريف بأدب وثقافة المجر في كتاباتي الكثيرة في الصحف والمجلات العربية وراء التكريم الكبير الذي حصلت عليه بتقليدي وسام إستحقاق الجمهورية المجرية من فئة صليب الضباط سنة 2004.
*ماذا يمكنك أن تقوله لنا عن الأدب المجري المعاصر وعن أهم حساسياته؟ وماذا يكتبه الكتاب الشباب منهم؟
- الأدب انعكاس للمجتمع، هو مرآته في اللحظة المعينة. فالمواضيع التي يتطرق إليها الكتاب والشعراء هي ما يشغل المجتمع عموماً. بالطبع تجد دوماً كتاب وشعراء (وفنانين بالمعنى الأوسع للكلمة) ممن لا يرتبط إبداعهم بزمن معين أو ظاهرة معينة، بسبب الشحنة الإنسانية الكثيفة التي يحملها مما يحولهم إلى مبدعين خالدين. فاليوم أيضاً نقرأ شيكسبير أو بودلير أو المتنبي، ونستمع إلى موسيقى باخ وسيد درويش، ونتمتع بفن دورر والواسطي وبيكاسو. الأدب المجري المعاصر متنوع، لكنه بعيد عن هموم المواطن العربي المسكين، وهي هموم كثيرة أكبر من طاقته. هنا يهتم الكاتب المجري مثلاً بحقوق الأقليات، وعندهم الأقليات ليست دينية أو قومية فحسب، بل إثنية واجتماعية كذلك: مثلاً تهتم كريستا بودِش الكاتبة المجرية الشابة بهذه المواضيع، وتبحث حال الأقلية، أية أقلية كانت، في المجتمع. ماذا يعني أن تكون غجرياً في مجتمع مليء بالأحكام الجاهزة ضد الغجر، وماذا لو كان هذا الغجري امرأة، وفوق ذلك إمرأة مثلية! أو كيف يتعامل المجتمع مع الأطفال، وهل يستمع إلى رأيهم أحد؟
الصورة الأدبية اليوم متنوعة، هناك الكتاب والشعراء النجوم (وهذا واقع، في كل مكان، حتى عندنا) الذين تمتلئ صفحات الجرائد وأوقات بث الفضائيات بأخبارهم، وهناك الذين لم يحالفهم الحظ في الشهرة (أو قل الذين لم يتمكنوا من تسويق أنفسهم وبضاعتهم بشكل ذكي). لكن الأدب الحقيقي يبقى واضحاً، سواء امتدحه زملاؤنا الصحفيون أم أهملوه لضآلة "القيمة الخبرية". إمره كرتيس هو مثال ساطع على هذا الأمر، فقبل فوزه بنوبل الآداب لم يعره أحد أي اهتمام، وهو الآخر لم يطمح إلى النجومية برغم عمق ما أنجز. وفجأة عرفه الجميع بين ليلة وضحاها، ثم ما لبثوا أن تناسوه بعدما فشلوا في فهم ما يقول: لكن ماذا يقول كرتيس؟ يقول: لا تستطيع أمة أن تنظر إلى الأمام دون أن تتصالح مع ماضيها. هذه بالضبط مشكلة المجريين الذين لم يتمكنوا من هضم ماضيهم القريب – خسارتهم لثلثي أراضي المملكة المجرية إثر صلح تريانون (1920) بعد أن كانوا يحكمون سلوفاكيا وترانسلفانيا وكرواتيا والبوسنة نيابة عن تاج آل هابسبورغ في إمبراطورية النمسا-المجر، أي أنهم كانوا يضطهدون الشعوب المجاورة نيابة عن القيصر فرانتس يوزف الذي كان يضطهدهم هم! ثم دورهم في الحرب العالمية الثانية ووقوفهم إلى جانب هتلر. لم يتمكنوا من طي صفحة كل هذه الهزات. وأعتقد أن للعرب ما يتعلموه من أعمال كرتيس، وهو دراسة الماضي وطي صفحته بتجرد وموضوعية وحيادية وبراغماتية دون إطلاق أحكام أخلاقية، حتى يصبحوا قادرين على النظر إلى المستقبل. لأننا لا نزال أسرى الماضي، فعرّضنا المستقبل إلى الضياع.
لا بد هنا من التطرق إلى الإنجازات الهامة لعدد من الأدباء المجريين المعاصرين، مثل بيتر أسترهازي، وبيتر نادَش (الذي احترف التصوير الأدبي والفوتوغرافي كذلك)، وجورج شبيرو وجورج كونراد ولايوش ﭙـارتي ناج وآخرون غيرهم. من الصعب الجواب على هذا السؤال بسطور قليلة، لذلك أدعو القارئ الذي يطمح إلى المزيد لزيارة موقعي المتواضع على الإنترنت حيث يجد كتاباتي عن الأدب المجري وغيره من المواضيع http://thaier.jeeran.com
*ماذا عن الفكر المجري بعد جورج لوكاتش، وهل طوّر أتباع هذا الأخير، الكثيرون، أدوات المعلم؟ ومَن هم إذن الفلاسفة البارزون في المجر اليوم؟
- توفي لوكاتش في 1971 بعد عمر طويل قضاه في النشاط الفكري إذ كان من أبرز الفلاسفة الماركسيين في القرن العشرين. لابد هنا من تثبيت حقيقة: كان لوكاتش مضطراً لمسايرة الخط الشيوعي الرسمي (السوفيتي) رغم أنه كان يميل إلى معارضة النهج التوتاليتاري. وقد اصطدم مع الخط الرسمي مراراً، خاصة عندما دعم رئيس الوزراء الشيوعي إمره ناج الذي قاد المجر أبان ثورة 1956 التحررية ضد السوفيت (أعدمته سلطة كادار الموالية للسوفيت في 1958). ولم يصبح لوكاتش عضواً في الحزب الحاكم (حزب العمال الإشتراكي المجري) إلا في 1967. من بين أبرز تلاميذه آغنش هَلَّر (1929-) وجورج ماركوش وغيرهم ممن انتموا إلى ما يسمى باسم مدرسة بودابست. ولا تزال هَلَّر تنشط في الأوساط العلمية، إلى جانب تلاميذ مدرسة بودابست وأبرزهم يانوش كِش (1946-).
*ما هي مشاريعك حاليا حول تناولك للفكر المجري؟
- بدأت قبل فترة وجيزة ترجمة رواية للشاعر والكاتب المعروف ميهاي بابيتش (1883-1941) وأطمح إلى أنجاز الترجمة وإصدارها في العام المقبل بمناسبة الذكرى 125 لولادته. كما أواصل مراسلة الصحف العربية وإمدادها بما يستجد في حقل الثقافة في المجر.
*ما هو أجمل كتاب مجري تنصح القارئ بالإطلاع عليه؟
- هذا سؤال خبيث، فأجمل الكتب هي تلك التي لم تترجم إلى العربية بعد!
*ما هي،في المجر، أصداء ضجة المجري الأصل بفرنسا؟ كيف يرى المجريون انتسابه إليهم؟ أم هل ما تزال في نفوسهم بقايا حنق ضد اليهود والغجر؟
-لا يهتم المجريون كثيراً لفوز شاركوزي (وهو اللفظ المجري لأسم الرئيس الفرنسي الجديد)، إذ تقبلوا نكرانه لجذوره. فهو أفصح مراراً عن انتمائه الفرنسي، وكونه ابن مهاجر إلى فرنسا يفرض عليه (في صفوف اليمين على الأقل) التنكر لأصوله، والمزايدة القومية الفرنسية لمعادلة جذوره المهاجرة. وهذه ليست قضية عصية على الفهم، إذ يسعى المنصهرون في مجتمع جديد إلى المزايدة القومية لكسب رضى القوى القومية فيه. ولدينا أمثلة مجرية على ذلك، منها أفصح شاعر مجري وهو شاندور بتوفي، الثوري الرومانطيقي الذي قتل في 1849 أبان الدفاع عن الثورة المجرية التحررية ضد حكم هابسبورغ. هذا الشاعر الذي ولد بأسم ألكسندر بتروفيتش وأصوله سلوفاكية، أضحى رمزا قومياً مجرياً إلى هذا اليوم، وقد عاش 26 سنة فحسب، وخلف وراءه شعراً فصيحاً جمعوا ألفاظه في معجم اسموه معجم بتوفي، وديواناً شعرياً ثميناً (رغم تفاوت شعره وتناقضه من الناحية الأدبية). ولم يصل بتوفي إلى هذه المرتبة دون المزايدة القومية المجرية والتنصل عن جذوره. عن ساركوزي تقول كِنغا غونتس وزيرة الخارجية المجرية في مقابلة أجرتها معها الزميلة ناجية الحصري (الحياة 19/5/2007): أن المجر لا تعول كثيراً على وصول نيكولا ساركوزي إلى سدة الرئاسة الفرنسية حتى لو كان من اصول مجرية لجهة والده، فهو في رأيها "فرنسي جداً ولا يحمل من المجر سوى اسم العائلة".
*نقرأ في الصفحة 213 من الترجمة الفرنسية لكتاب ستيفان فيزينتسي المكتوب بالانجليزية "مديح النساء الناضجات" ما يلي: "الديكتاتورية درس لا ينتهي، درس يعلمكم بأن أحاسيسكم، أفكاركم، رغباتكم، ليس لها أدنى ثقل، وبأنه ليس لكم وجودا مستقلا وبأن عليكم أن تعيشوا كما قرره أخرون مكانكم. أما ديكتاتورية أجنبية فتعلمكم هي أن تيأسوا بشكل مزدوج: لا تساوون شيئا وليس وطنكم يساويه أيضا. غير أن أجراس هونيادي ليست تخاطبنا بنفس اللهجة، فهي توضح لنا حمولة الفعل التاريخي الهائلة: أن نربح أو أن نخسر فمن الممكن أن نفعل شيئا كي نجنب الذين سيأتون من بعدنا من أن ييأسوا لقرون عديدة". ما تعليقك أستاذ ثائر؟ وماذا عن "أجراس هونيادي"، إن كتبتُ جيدا هذا الاسم؟
- هونيادي هو قائد مجري في الحرب ضد الإحتلال العثماني (وقد احتل العثمانيون أجزاء واسعة من المجر لقرن ونصف القرن). وتعبير أجراس هونيادي يعود إلى انتصار يانوش هونيادي في معركة ناندورفَيِرفار ضد العثمانيين صيف سنة 1456، وبأمر من البابا كاليكستوس الثالث تقرع الأجراس في منتصف نهار كل يوم تذكيراً بأول نصر يحرزه الأوروبيون. والأمر يعود إلى مرحلة في التاريخ المجري (والأوروبي) عندما كان الصراع على السيطرة قائماً بين أوروبا الكاثوليكية والدولة العثمانية. أحب هنا أن أثير رأياً سيعلق عليه إخواننا الذين لم يتحرروا من ثقل التركة التاريخية، وهو أن التوغل العثماني في أوروبا لم يكن "فتحاً" للإعلاء من شأن الإسلام ونشره، بل حرباً توسعية للنهب غلفت بغلاف ديني. بالمقابل لم يكن رد فعل أوروبا الكاثوليكية دفاعاً عن المسيحية بقدر ما كان دفاعاً عن مصالح بعض الحكام والملوك. فقد تحررت المجر من العثمانيين في 1686 لتسقط في متاهة الإحتلال النمساوي الهابسبورغي لغاية 1918، وقد عانت الأراضي المجرية المتحررة من العثمانيين من حرب طائفية دموية شنها الكاثوليك ضد البروتستانت الذين انتعشت كنيستهم في كل أراضي المجر العثمانية وقتها تقريباً بسبب اهتمام العثمانيين بأمور الدنيا وليس الدين.
وعودة إلى فِيْزَنْتْسَي، فهو كاتب كندي من أصول مجرية لا يعرفه المجريون لأنه كتب أعماله بالإنكليزية، وقد اشتهر عمله المذكور بعد تحويله إلى فلم في 1978 إبان الثورة الجنسية التي اكتسحت أوروبا الغربية، وقد ارتبط الفلم بفضيحة لا علاقة لها بمحتوى الفلم، بقدر ارتباطها ببيع المنظمين تذاكر فاق عددها عدد كراسي الصالة التي عرض فيها الفلم أثناء مهرجان تورونتو العالمي آنئذ. والإقتباس يذكرني بكلام إمره كرتيس عن الدكتاتورية في قصته البديعة "الراية الإنجليزية"، وبرائعة جولا إييَش "جملة واحدة عن الإستبداد".
*أي مقطع جميل تحبه أكثر في الأدب المجري؟
- وهذا سؤال خبيث آخر! لكن دعني أقتبس لك من قصيدة أندره آدي (1877-1918) الخادم العجوز المنشورة في "لمحات من الأدب المجري":
يدقون على قلبي
على باب جميلة جليلة
ويأتي الضيوف
في صفوف.
وخادمٌ عجوز، مُستَهْلك
بظهرٍ شائخٍ ينحني بهِمّة
سيده ارتحل
منذ زمن بعيد بعيد.
"كان سيداً جيداً وأقام هنا
غادر حزيناً، اضطر الذهاب
ليس في بيته سواي
وحتى أنا ما عدت أنتظره"
ثائر صالح من مواليد بغداد سنة 1959 وقد درس الهندسة الكيمياوية وحصل فيها على بكلوريوس سنة 1984 في فسبريم بالمجر وعلى شهادة الماجستير في الهندسة البتروكيمياوية خلال 1986. غير أنه أدمن نزوعا أدبيا وصحافيا ظل يلاحقه رغم تكوينه العلمي. ذلك أنه منذ تدربه الصحفي في جريدة طريق الشعب ببغداد أواخر السبعينيات فقد استمر في ميله ذاك وتوّج جهوده ثمة بشهادة صحافية من مدرسة الصحافيين العالمية ببودابست.
لقد نشر العديد من الدراسات والمقالات في مجلات وجرائد عربية إضافة إلى دراسات بالمجرية في علم الأديان المقارن والاستشراق صدرت في مجلات مجرية متخصصة في تأريخ الأديان. كما أنه نشر بعض ترجمات لروايات مجرية ووضع كتابه "لمحات عن الأدب المجري". غير أنه مستمر في نشر متابعاته عن الأدب، الفن والثقافة المجرية في العديد من المجلات والجرائد العربية. فمن خلال هذا الحوار يعرفنا عن بعض انشغالاته تلك وعن تمكنه الجميل من كل ما هو مجري.
*كيف ارتبطت في البدء بالمجر؛ أرضا وثقافة؟
ثائر صالح: جئت إلى المجر في العام 1979، ودرست فيها الهندسة البتروكيماوية، وأعمل هنا منذ ذلك الحين في تخصصي هذا، وقد نجحنا في تطوير تقنية لصنع مواد تحسن من مواصفات الأسفلت وتصنع من مخلفات البلاستك، لربما هي مفيدة في بلداننا التي "ابتلت" بحرارة الصيف، فلا يذوب الأسفلت وينوء تحت ضغط عجلات السيارات. خلال هذه الفترة الطويلة تعرفت على البلد وثقافته، وتاريخه ومجتمعه، وعشت التاريخ المجري الحديث وانهيار الحكم الإشتراكي في 1989. والمدخل إلى كل شيء هو إجادة اللغة، فبدون معرفة دقيقة للغة البلد لا يمكن معرفة ثقافة شعبه.
في بداياتي الصحفية المتواضعة في بلدي، العراق، كنت مهتماً بالموسيقى والفنون، ومن يهتم بالموسيقى لا بد وأن يطلع على إنجازات المجريين في هذا الشأن، فلديهم واحد من أفضل نظم التربية الموسيقية في العالم – والفضل يعود إلى زولتان كوداي (1982-1967) الذي ابتكر هذه الطريقة التي انتشرت في العالم، ووصلت حتى اليابان. وهناك بيلا بارتوك (1881-1945) الذي كان نبراساً لكل من اهتم بتوثيق الفولكلور الموسيقي. وقد جمع بارتوك المادة الموسيقية الشعبية ليس من قرى المجر وحدها، بل من رومانيا والبلقان وبلغاريا ووصل حتى تركيا وبلاد الشام. ولا يزال في أرشيف بارتوك الكثير من التسجيلات العربية في انتظار الباحثين "الأثنوموسيقولوجيين" العرب. وكنت قد كتبت في صحيفة عراقية يومية عن الرقي المجري في مجال الموسيقى، في 1978 على ما أذكر.
*معروف انشغالك بنقل الأدب المجري إلى العربية، لو تتفضل وتقدم بعض توضيحات عن أهم انجازاتك في هذا المضمار. وماذا عن المترجمين الآخرين عن المجرية؟
- إهتمامي بالأدب المجري جاء متأخراً، فأنا لم أدرسه في المدرسة ولم يكن تخصصي الأدب كما أشرت. بيد أن وعيي بندرة الترجمات الأدبية المجرية إلى اللغة العربية حفزني إلى الخوض في هذا الحقل الصعب، بالخصوص الشعر، الذي لم يتفق في شأن كيفية ترجمته من لغة إلى أُخرى باحثان، ومع ذلك ينشر الشعر المترجم في كل يوم.
بدأت بنشر بعض الترجمات في صحيفة الحياة اللندنية في أواخر التسعينيات، وفجأة وجدت نفسي وأنا أعد لنشر مجموعة أصفها اعتباطاً انطولوجيا للأدب المجري، لكنها بالفعل أول شريحة لثلاثة قرون من الأدب المجري باللغة العربية. فيها قصائد لعشرة شعراء، وقصص قصيرة لثلاثة روائيين وقصة شعبية واحدة، مع مقدمة طويلة أعددتها عن تاريخ الأدب المجري. وقد صدرت المجموعة عن دار المدى في العام 2002 بعنوان "لمحات من الأدب المجري".
ثم قمت بترجمة كتاب رائع صدر في 1904، وكاتبه ميهاي فضل الله الحداد عقيد الجيش الإمبراطوري الملكي (وكانت المجر وقتئذ مملكة تابعة لإمبراطورية النمسا-المجر). عنوان الكتاب هو "رحلتي إلى بلاد الرافدين وعراق العرب"، وهو توثيق أدبي لرحلة العقيد اللبناني الأصل إلى بلاد الشام والعراق لشراء خيول عربية أصيلة لحساب الجيش، وقد صدر الكتاب في بيروت بفضل جهود السيد بدر الحاج والسيدة أمل زين صاحبة دار كتب للنشر أواخر سنة 2004.
وكان حصول إمره كرتيس على جائزة نوبل للآداب في 2002 هزة كبيرة على الكثير من المستويات. فهو أول كاتب مجري يحصل على الجائزة، وإن استحقها كتاب مجريون آخرون كذلك. ثم أن فوزه أثار عاصفة من النقاشات والإتهامات بسبب كونه كاتباً "مغموراً" في المجر أيضاً، ولا يشتهر إلاّ في ألمانيا بالدرجة الأولى. أما عندنا، فقد احتلت نظرية المؤامرة العناوين فوراً، فوا عرباه، انتزع كرتيس اليهودي الجائزة من فم أدونيس العربي. لم يقرأ أحد من الذين كتبوا عن الأمر في الصحف العربية سطراً واحداً من أعمال كرتيس. في هذه الأجواء ترجمت عملين لكرتيس لا علاقة لهما بموضوع الكاتب الأثير أي الهولوكاوست، صدر أحدهما "المحضر" في مجلة "المدى" عدد 2 سنة 2003 (وللأسف أعاد أحد المحررين صياغة كتابته بلغة عربية متينة فتمزقت تماماً لغة كرتيس التي جهدت في الحفاظ عليها، وهي أهم ما يميزه). بعد ذلك كلفني صاحب دار المدى الأستاذ فخري كريم بترجمة رواية كرتيس الرئيسية، التي عنوانها "لا مصير" وصدرت الرواية في 2005 ضمن سلسلة مكتبة نوبل، كما صدرت كذلك قصتي كرتيس "الراية الإنجليزية" و"محضر" عن دار المدى في نفس العام.
بدأت في الآونة الأخيرة بنشر بعض المتابعات عن جديد الأدب المجري في صحيفة النهار البيروتية، وبضمنها بعض الترجمات الأدبية. ربما ستكون هذه الكتابات نواة للمحات جديدة من الأدب المجري.
أما إذا أردنا أن نجري جرداً لما تُرجم من الأدب المجري إلى العربية، فليس هناك أسهل من ذلك، إذ يمكننا عد الإصدارات على أصابع اليد. فقد صدرت مجموعة مختارات من أشعار يوجف أتيلا ومجموعة اخرى لشاندور بتوفي في السبعينيات بترجمة الشاعر فوزي العنتيل (وقد أعيد طبعها مؤخراً)، لكن هذه الأشعار لم تترجم من اللغة المجرية مباشرة. وكذلك لم يترجم المرحوم سعد الله ونوس مسرحية إشتفان أركين الشهيرة "العائلة توت" من المجرية (وهناك ترجمة ثانية للعمل، أعتقد أنها للمرحوم عيسى الناعوري)، مثلما هو الأمر مع ترجمة الناعوري لدراما "تراجيديا الإنسان" التي كتبها إمره ماداتش. كما صدرت مؤخراً "مختارات من الشعر المجري المعاصر" لشعراء السبعينيات من ترجمة المصري محمد علاء عبد الهادي (المجلس الوطني للثقافة في الكويت، 2005)، هي الأخرى عبر لغة وسيطة.
وربما كنت أنا أول من بدأ بترجمة الأعمال الأدبية المجرية من لغتها الأصلية، وسرعان ما بدأ الشاعر السوري نافع معلا بنشر ترجماته من اللغة المجرية مباشرة، فصدرت له رواية "الأقارب" لجيغموند موريتس (دار المدى)، ومسرحية "لعبة القطة" لإشتفان أركين (المدى)، تبعها عدد من منشورات دار الحوار في اللاذقية، هي: رواية إمره شاركَدي: الجبانة، وقصتا شاركدي: المجنونة والمختلف - العاصفة، رائعة أندره فَيَش: مساء الخير أيها الصيف.. مساء الخير أيها الحب، وكذلك عمل أدره فيش: مقبرة الصدأ. وبالتأكيد كان الجهد الذي بذلته في التعريف بأدب وثقافة المجر في كتاباتي الكثيرة في الصحف والمجلات العربية وراء التكريم الكبير الذي حصلت عليه بتقليدي وسام إستحقاق الجمهورية المجرية من فئة صليب الضباط سنة 2004.
*ماذا يمكنك أن تقوله لنا عن الأدب المجري المعاصر وعن أهم حساسياته؟ وماذا يكتبه الكتاب الشباب منهم؟
- الأدب انعكاس للمجتمع، هو مرآته في اللحظة المعينة. فالمواضيع التي يتطرق إليها الكتاب والشعراء هي ما يشغل المجتمع عموماً. بالطبع تجد دوماً كتاب وشعراء (وفنانين بالمعنى الأوسع للكلمة) ممن لا يرتبط إبداعهم بزمن معين أو ظاهرة معينة، بسبب الشحنة الإنسانية الكثيفة التي يحملها مما يحولهم إلى مبدعين خالدين. فاليوم أيضاً نقرأ شيكسبير أو بودلير أو المتنبي، ونستمع إلى موسيقى باخ وسيد درويش، ونتمتع بفن دورر والواسطي وبيكاسو. الأدب المجري المعاصر متنوع، لكنه بعيد عن هموم المواطن العربي المسكين، وهي هموم كثيرة أكبر من طاقته. هنا يهتم الكاتب المجري مثلاً بحقوق الأقليات، وعندهم الأقليات ليست دينية أو قومية فحسب، بل إثنية واجتماعية كذلك: مثلاً تهتم كريستا بودِش الكاتبة المجرية الشابة بهذه المواضيع، وتبحث حال الأقلية، أية أقلية كانت، في المجتمع. ماذا يعني أن تكون غجرياً في مجتمع مليء بالأحكام الجاهزة ضد الغجر، وماذا لو كان هذا الغجري امرأة، وفوق ذلك إمرأة مثلية! أو كيف يتعامل المجتمع مع الأطفال، وهل يستمع إلى رأيهم أحد؟
الصورة الأدبية اليوم متنوعة، هناك الكتاب والشعراء النجوم (وهذا واقع، في كل مكان، حتى عندنا) الذين تمتلئ صفحات الجرائد وأوقات بث الفضائيات بأخبارهم، وهناك الذين لم يحالفهم الحظ في الشهرة (أو قل الذين لم يتمكنوا من تسويق أنفسهم وبضاعتهم بشكل ذكي). لكن الأدب الحقيقي يبقى واضحاً، سواء امتدحه زملاؤنا الصحفيون أم أهملوه لضآلة "القيمة الخبرية". إمره كرتيس هو مثال ساطع على هذا الأمر، فقبل فوزه بنوبل الآداب لم يعره أحد أي اهتمام، وهو الآخر لم يطمح إلى النجومية برغم عمق ما أنجز. وفجأة عرفه الجميع بين ليلة وضحاها، ثم ما لبثوا أن تناسوه بعدما فشلوا في فهم ما يقول: لكن ماذا يقول كرتيس؟ يقول: لا تستطيع أمة أن تنظر إلى الأمام دون أن تتصالح مع ماضيها. هذه بالضبط مشكلة المجريين الذين لم يتمكنوا من هضم ماضيهم القريب – خسارتهم لثلثي أراضي المملكة المجرية إثر صلح تريانون (1920) بعد أن كانوا يحكمون سلوفاكيا وترانسلفانيا وكرواتيا والبوسنة نيابة عن تاج آل هابسبورغ في إمبراطورية النمسا-المجر، أي أنهم كانوا يضطهدون الشعوب المجاورة نيابة عن القيصر فرانتس يوزف الذي كان يضطهدهم هم! ثم دورهم في الحرب العالمية الثانية ووقوفهم إلى جانب هتلر. لم يتمكنوا من طي صفحة كل هذه الهزات. وأعتقد أن للعرب ما يتعلموه من أعمال كرتيس، وهو دراسة الماضي وطي صفحته بتجرد وموضوعية وحيادية وبراغماتية دون إطلاق أحكام أخلاقية، حتى يصبحوا قادرين على النظر إلى المستقبل. لأننا لا نزال أسرى الماضي، فعرّضنا المستقبل إلى الضياع.
لا بد هنا من التطرق إلى الإنجازات الهامة لعدد من الأدباء المجريين المعاصرين، مثل بيتر أسترهازي، وبيتر نادَش (الذي احترف التصوير الأدبي والفوتوغرافي كذلك)، وجورج شبيرو وجورج كونراد ولايوش ﭙـارتي ناج وآخرون غيرهم. من الصعب الجواب على هذا السؤال بسطور قليلة، لذلك أدعو القارئ الذي يطمح إلى المزيد لزيارة موقعي المتواضع على الإنترنت حيث يجد كتاباتي عن الأدب المجري وغيره من المواضيع http://thaier.jeeran.com
*ماذا عن الفكر المجري بعد جورج لوكاتش، وهل طوّر أتباع هذا الأخير، الكثيرون، أدوات المعلم؟ ومَن هم إذن الفلاسفة البارزون في المجر اليوم؟
- توفي لوكاتش في 1971 بعد عمر طويل قضاه في النشاط الفكري إذ كان من أبرز الفلاسفة الماركسيين في القرن العشرين. لابد هنا من تثبيت حقيقة: كان لوكاتش مضطراً لمسايرة الخط الشيوعي الرسمي (السوفيتي) رغم أنه كان يميل إلى معارضة النهج التوتاليتاري. وقد اصطدم مع الخط الرسمي مراراً، خاصة عندما دعم رئيس الوزراء الشيوعي إمره ناج الذي قاد المجر أبان ثورة 1956 التحررية ضد السوفيت (أعدمته سلطة كادار الموالية للسوفيت في 1958). ولم يصبح لوكاتش عضواً في الحزب الحاكم (حزب العمال الإشتراكي المجري) إلا في 1967. من بين أبرز تلاميذه آغنش هَلَّر (1929-) وجورج ماركوش وغيرهم ممن انتموا إلى ما يسمى باسم مدرسة بودابست. ولا تزال هَلَّر تنشط في الأوساط العلمية، إلى جانب تلاميذ مدرسة بودابست وأبرزهم يانوش كِش (1946-).
*ما هي مشاريعك حاليا حول تناولك للفكر المجري؟
- بدأت قبل فترة وجيزة ترجمة رواية للشاعر والكاتب المعروف ميهاي بابيتش (1883-1941) وأطمح إلى أنجاز الترجمة وإصدارها في العام المقبل بمناسبة الذكرى 125 لولادته. كما أواصل مراسلة الصحف العربية وإمدادها بما يستجد في حقل الثقافة في المجر.
*ما هو أجمل كتاب مجري تنصح القارئ بالإطلاع عليه؟
- هذا سؤال خبيث، فأجمل الكتب هي تلك التي لم تترجم إلى العربية بعد!
*ما هي،في المجر، أصداء ضجة المجري الأصل بفرنسا؟ كيف يرى المجريون انتسابه إليهم؟ أم هل ما تزال في نفوسهم بقايا حنق ضد اليهود والغجر؟
-لا يهتم المجريون كثيراً لفوز شاركوزي (وهو اللفظ المجري لأسم الرئيس الفرنسي الجديد)، إذ تقبلوا نكرانه لجذوره. فهو أفصح مراراً عن انتمائه الفرنسي، وكونه ابن مهاجر إلى فرنسا يفرض عليه (في صفوف اليمين على الأقل) التنكر لأصوله، والمزايدة القومية الفرنسية لمعادلة جذوره المهاجرة. وهذه ليست قضية عصية على الفهم، إذ يسعى المنصهرون في مجتمع جديد إلى المزايدة القومية لكسب رضى القوى القومية فيه. ولدينا أمثلة مجرية على ذلك، منها أفصح شاعر مجري وهو شاندور بتوفي، الثوري الرومانطيقي الذي قتل في 1849 أبان الدفاع عن الثورة المجرية التحررية ضد حكم هابسبورغ. هذا الشاعر الذي ولد بأسم ألكسندر بتروفيتش وأصوله سلوفاكية، أضحى رمزا قومياً مجرياً إلى هذا اليوم، وقد عاش 26 سنة فحسب، وخلف وراءه شعراً فصيحاً جمعوا ألفاظه في معجم اسموه معجم بتوفي، وديواناً شعرياً ثميناً (رغم تفاوت شعره وتناقضه من الناحية الأدبية). ولم يصل بتوفي إلى هذه المرتبة دون المزايدة القومية المجرية والتنصل عن جذوره. عن ساركوزي تقول كِنغا غونتس وزيرة الخارجية المجرية في مقابلة أجرتها معها الزميلة ناجية الحصري (الحياة 19/5/2007): أن المجر لا تعول كثيراً على وصول نيكولا ساركوزي إلى سدة الرئاسة الفرنسية حتى لو كان من اصول مجرية لجهة والده، فهو في رأيها "فرنسي جداً ولا يحمل من المجر سوى اسم العائلة".
*نقرأ في الصفحة 213 من الترجمة الفرنسية لكتاب ستيفان فيزينتسي المكتوب بالانجليزية "مديح النساء الناضجات" ما يلي: "الديكتاتورية درس لا ينتهي، درس يعلمكم بأن أحاسيسكم، أفكاركم، رغباتكم، ليس لها أدنى ثقل، وبأنه ليس لكم وجودا مستقلا وبأن عليكم أن تعيشوا كما قرره أخرون مكانكم. أما ديكتاتورية أجنبية فتعلمكم هي أن تيأسوا بشكل مزدوج: لا تساوون شيئا وليس وطنكم يساويه أيضا. غير أن أجراس هونيادي ليست تخاطبنا بنفس اللهجة، فهي توضح لنا حمولة الفعل التاريخي الهائلة: أن نربح أو أن نخسر فمن الممكن أن نفعل شيئا كي نجنب الذين سيأتون من بعدنا من أن ييأسوا لقرون عديدة". ما تعليقك أستاذ ثائر؟ وماذا عن "أجراس هونيادي"، إن كتبتُ جيدا هذا الاسم؟
- هونيادي هو قائد مجري في الحرب ضد الإحتلال العثماني (وقد احتل العثمانيون أجزاء واسعة من المجر لقرن ونصف القرن). وتعبير أجراس هونيادي يعود إلى انتصار يانوش هونيادي في معركة ناندورفَيِرفار ضد العثمانيين صيف سنة 1456، وبأمر من البابا كاليكستوس الثالث تقرع الأجراس في منتصف نهار كل يوم تذكيراً بأول نصر يحرزه الأوروبيون. والأمر يعود إلى مرحلة في التاريخ المجري (والأوروبي) عندما كان الصراع على السيطرة قائماً بين أوروبا الكاثوليكية والدولة العثمانية. أحب هنا أن أثير رأياً سيعلق عليه إخواننا الذين لم يتحرروا من ثقل التركة التاريخية، وهو أن التوغل العثماني في أوروبا لم يكن "فتحاً" للإعلاء من شأن الإسلام ونشره، بل حرباً توسعية للنهب غلفت بغلاف ديني. بالمقابل لم يكن رد فعل أوروبا الكاثوليكية دفاعاً عن المسيحية بقدر ما كان دفاعاً عن مصالح بعض الحكام والملوك. فقد تحررت المجر من العثمانيين في 1686 لتسقط في متاهة الإحتلال النمساوي الهابسبورغي لغاية 1918، وقد عانت الأراضي المجرية المتحررة من العثمانيين من حرب طائفية دموية شنها الكاثوليك ضد البروتستانت الذين انتعشت كنيستهم في كل أراضي المجر العثمانية وقتها تقريباً بسبب اهتمام العثمانيين بأمور الدنيا وليس الدين.
وعودة إلى فِيْزَنْتْسَي، فهو كاتب كندي من أصول مجرية لا يعرفه المجريون لأنه كتب أعماله بالإنكليزية، وقد اشتهر عمله المذكور بعد تحويله إلى فلم في 1978 إبان الثورة الجنسية التي اكتسحت أوروبا الغربية، وقد ارتبط الفلم بفضيحة لا علاقة لها بمحتوى الفلم، بقدر ارتباطها ببيع المنظمين تذاكر فاق عددها عدد كراسي الصالة التي عرض فيها الفلم أثناء مهرجان تورونتو العالمي آنئذ. والإقتباس يذكرني بكلام إمره كرتيس عن الدكتاتورية في قصته البديعة "الراية الإنجليزية"، وبرائعة جولا إييَش "جملة واحدة عن الإستبداد".
*أي مقطع جميل تحبه أكثر في الأدب المجري؟
- وهذا سؤال خبيث آخر! لكن دعني أقتبس لك من قصيدة أندره آدي (1877-1918) الخادم العجوز المنشورة في "لمحات من الأدب المجري":
يدقون على قلبي
على باب جميلة جليلة
ويأتي الضيوف
في صفوف.
وخادمٌ عجوز، مُستَهْلك
بظهرٍ شائخٍ ينحني بهِمّة
سيده ارتحل
منذ زمن بعيد بعيد.
"كان سيداً جيداً وأقام هنا
غادر حزيناً، اضطر الذهاب
ليس في بيته سواي
وحتى أنا ما عدت أنتظره"