زهير
04-29-2007, 08:44 AM
بقلم : د. حامد العطية
العراق بلد محتل من قبل القوات الأمريكية وحلفائها، باتفاق معظم العراقيين والعالم، ولكن يخفى على الجميع بأنه كان محتلاً، حتى قبل مجيء الأمريكان، ومنذ أمد غير قصير، وهؤلاء المحتلون الخفيون هم بقايا العثمانيين، فمن المؤكد بأن الاحتلال العثماني كان استيطانياً، ويتضح ذلك من التغيير في التراكيب السكانية الذي أحدثه العثمانيون في البلاد الواقعة تحت سيطرتهم، وتتفاوت درجة هذه التغيير بين دولة وأخرى، وكقاعدة عامة فكلما كانت الدولة الواقعة تحت الاستعمار العثماني محاذية أو قريبة من حدود موطن العثمانيين في الأناضول كلما كان التغيير السكاني المحدث من قبلهم فيها كبيراً نسبياً، والدليل على ذلك وجود تنوع في الأصول العرقية لنسبة غير قليلة من سكان العراق ودول سوريا الكبرى، وبنسبة أقل في الحجاز ومصر، ويتمثل في هذا التنوع العرقي الشعوب التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار العثماني البغيض.
استولى العثمانيون على أرض العراق عنوة، وأخضعوها لسيطرتهم الشمولية، مستغلين إدعائهم الباطل بالأحقية في خلافة المسلمين لإضفاء مسحة من الشرعية الزائفة على حكمهم الطاغوتي التسلطي، واعتبروا أنفسهم أولياء على أمور العراقيين من مسلمين وغيرهم، يتصرفون بشؤونهم وبمصالحهم كما يشاؤون، وفي الوقت الذي عاملوا سكان العراق- وبالأخص الشيعة- وغيره من شعوب الدول الخاضعة لهم كمواطنين من الدرجة الثانية مقارنة بالأتراك من حيث الحقوق فرضوا عليهم الضرائب الباهظة والخدمة العسكرية والسخرة وغيرها من الواجبات التعسفية، وكانت أهدافهم في إدارة العراق وغيره استغلال ثرواته البشرية والطبيعية ونهب خيراته التي كانت تجمع ليرسل كلها أو معظمها إلى خزائن العثمانيين في الإستانة، ونتيجة إهمال الولاة العثمانيين لأحوال العراق وشعبه تدهورت أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية، وعاش العراقيون في ظلام الجهل والتخلف طيلة القرون الأربعة التي حكم بها العثمانيون بلدهم.
انتهى الاحتلال العثماني للعراق رسمياً باستسلام قواته للبريطانيين وانسحابهم من العراق ثم مبادرتهم لإلغاء الخلافة العثمانية غير المشروعة، لكن استعمارهم الاستيطاني للعراق لم ينتهي حينذاك، بل هو متواصل حتى وقتنا الحاضر، والأدلة على وجود بقايا هذا الاستعمار الاستيطاني وتأثيراته السلبية المقيتة على العراق مستقاة من الكتاب الموسوم، البغداديون أخبارهم ومجالسهم من تأليف إبراهيم الدروبي، المطبوع في بغداد عام 1958م.
يتبين من الكتاب بأن بقايا العثمانيين في العراق من أصول عرقية متنوعة، أتوا إلى العراق واستوطنوا فيه باعتباره امتداداً للدولة العثمانية الواحدة، ويصف هذا التنوع كما يلي :"ترى العراق حفل بأجناس بشرية متنوعة ففيه التركي والأفغاني والكردي والقفقاسي والداغستاني والاستانبولي والارناؤطي والحجازي والشامي والمصري والمغربي والجركسي" (ص211)، ومن الواضح بأن هؤلاء جميعاً طارئون على الأرض العراقية وتركيبتها السكانية، وكلهم ينتمون للطائفة السنية، ولولا الاستعمار العثماني لما تواجدوا بالعراق، وتجدر الإشارة إلى استعمال المؤلف لكلمة "حفل" للدلالة على أن عدد هؤلاء الغرباء في العراق لم يكن بالقليل، كما يلاحظ بأنه لم يورد الإيرانيين ضمنهم، أما لأنهم قلة قليلة لا يجدر ذكرها أو أنه أهمل ذكرهم لأسباب طائفية، وأرجح السبين كما سيتبين لاحقاً.
لا يخفي الكاتب طائفيته المقيتة، مما يوفر دليلاً جديداً على أن العداء الطائفي للشيعة في العراق قديم، وما الادعاء بتآخي الطائفتين في العهود السابقة لنظام البعث البائد إلا محض هراء، فهو لا يترك مناسبة إلا وانتقص من الفرس وأفعالهم في العراق في الوقت لذي لا يتعب من كيل المديح للعثمانيين الأتراك وبالأخص سفاحهم السلطان مراد الرابع، والدليل القوي الآخر على طائفية المؤلف ترتيبه للعائلات البغدادية فقد بدأ بالسنة ثم أتى على ذكر الشيعة وانتهى بالنصارى واليهود.
يترك الكتاب انطباعاً خاطئاً لدى قراءه من غير العارفين بحقائق التركيبة الديمغرافية للعراق بأن السنة هم الأكثرية العظمى من سكان بغداد وبأن الشيعة طائفة صغيرة عديدها مقارب لتعداد النصارى واليهود، فقد توزعت العائلات المذكورة في كتابه وفقاً للدين والمذهب كما يلي:
السنة (79%)، الشيعة (12%)، النصارى واليهود (9%)، ولرب قائل بأن المؤلف لم يجد من العوائل الشيعية الميسورة والمعروفة أكثر من هذا العدد، وحتى لو كان ذلك صحيحاً فإنه يدل على مدى الاضطهاد والتمييز الطائفي الذي مارسه العثمانيون وأعوانهم المحليون، وما نتج عنه من حرمان أكثرية العراقيين من الشيعة من حقوقهم الأساسية وتهميشهم والتضييق عليهم في طلب الرزق.
اهتم الكاتب ببيان الأصول العرقية والإثنية لمعظم العوائل المدرجة في كتابه، وفيما يلي توزيع السنة حسب أصولهم العرقية: الأعراب والمستعربون وغالبيتهم من نجد والشام 22%،الأتراك 21%، عرب عراقيون 15%، غير محددي الأصل 32%، أكراد وتركمان 8%، هنود 1%، فرس 1%، أما الشيعة فقد كانت غالبيتهم العظمى من العرب العراقيين (93%).
يتضح من بيانات التوزيع العرقي بأن نسبة قليلة جداً من العوائل البغدادية السنية منحدرة من أصول عرقية عربية وكردية وتركمانية مستوطنة في العراق، وإذا أخذنا في الاعتبار احتمال أن يكون معظم العوائل غير محددة الأصل وبعض النازحين من الشام من أصول تركية أوعثمانية غير عربية يمكن الاستنتاج بأن غالبية العوائل السنية المدرجة في الكتاب هم من الأتراك وغير العراقيين.
استهدفت العوائل السنية الوافدة للعراق ترسيخ سيطرة العثمانيين الاستعمارية على العراق واستغلال خيراته، فالذين من أصل تركي عملوا موظفين في وظائف الإدارة والقضاء والوقف وغيرها من الإدارات المحلية العثمانية، وهي جلها أو معظمها أعمال ووظائف غير منتجة أو حتى طفيلية، ويؤاخذون على ما أحدثوه في بيئة الإدارة والأعمال العراقية من استغلال المنصب والرشوة والفساد الإداري وغيرها من الممارسات المنحرفة، والدافع الرئيس وراء هجرة الأعراب إلى العراق اقتصادي بحت، فكلما أصاب النجديين القحط وضاقت بهم سبل الحياة وفدوا للعراق طلباً للرزق والمؤونة، وقد عاد البعض منهم بعد أن ملئوا بطونهم وجيوبهم، فيما اختار آخرون الاستقرار في العراق، وبالذات في المنطقة الجنوبية منه، وبالتحديد البصرة والزبير، وجمع البعض منهم الثروات، واستفادوا من حظوتهم لدى نظرائهم في المذهب في الحصول على المناصب، وهم بصورة عامة بارعون في اقتناص الفرص وجمع الثروات، ويرد إلى ذهني قول في أهل نجد للمرحوم الدكتورنسيب البرير، اللبناني السني ذي الأيادي البيضاء على الطائفة السنية في بيروت وصاحب مستشفى البربير التي اضطر لإغلاقها في عهد صعود صنيعة السعوديين رفيق الحريري إلى السلطة، فقد وصف الكتور البربير أهل نجد وهو العارف بهم بأنهم "يهود العرب"، وكان الأعراب النجديون المستوطنون في العراق أشبه باليهود في اكتنازهم للثروات وفي بخلهم وانسلاخهم عن العراقيين الأصلاء، ويروي الأستاذ عبد الكريم محمد رؤوف القطان في مذكراته نكتة حول بعض هؤلاء النجديين تدلل على مدى بخلهم، فقد كان التجار من أصل نجدي يرتادون مقهى في البصرة ، وفي أحد الأيام دار عليهم متسول فأجابه كل واحد منهم بعبارة " الله يعطيك" ودفع الحنق بالمتسول إلى الصعود على تخت ومخاطبتهم:" ولكم ملاعين الوالدين هو انتوا خليتوا عند الله فلوس حتى يعطيني" (ص208-209)، وقد تسنى لي في أواسط ثمانينات القرن الماضي قياس مدى سطحية انتماء النجديين الوطني للعراق، فأثناء قيامي بمهمة استشارية لوكالة الأحول المدنية في الرياض، عاصمة الوهابيين، اجتذب اهتمامي العشرات من الجوازات العراقية المبعثرة على طاولة في أحد المكاتب، فقادني فضولي إلى سؤال المدير عنها فأجابني بأنها تعود لعراقيين من أصل سعودي، وغالبيتهم من النجديين الزبيريين، الذين غادروا العراق بعد بدء العدوان البعثي على إيران الإسلامية، وقد تخلوا عن جنسيتهم ووثقائهم العراقية واستعادوا جنسيتهم السعودية، وهكذا هم النجديون يغرفون من خيرات العراق في السراء ويهجرونه في الضراء.
حرص النظام الملكي الهاشمي على ترسيخ استئثار السنة بالسلطة، وكان للعوائل التركية وغيرها من بقايا العثمانيين نصيب وافر من المناصب الحكومية السياسية والإدارية، والمثال على ذلك ساطع الحصري، الذين عرف بأبي القومية العربية وهو لا يتقن لغة الضاد، وهذا الرجل غير معروف الأصل الذي استقدمه الأعرابي فيصل الأول من الشام وقف سداً منيعاً أمام توظف شاعر العراق الكبير محمد مهدي الجواهري لكونه شيعياً، وكما يروي شاعرنا في مذكراته المطبوعة بدمشق، ولم يستح هذا الملك الطائفي من استقدام أحد السنة النجديين من أعوانه السايقين في الشام والعمل على انتخابه بالتزكية نائباً عن منطقة شيعية لم يزرها في حياته، ويورد عبد الكريم الأورفلي أدلة آخرى على هذه السياسة التوظيفية الطائفية في مذكراته، المشار إليها آنفاً، وهكذا بذل هؤلاء الأغراب قصارى جهدهم لمنع الشيعة من الحصول على حقوقهم المشروعة، وحتى عندما انحسر نفوذهم في العهود الجمهورية إلى حد ما فقد ظلت طائفيتهم مهيمنة، وما الممارسات الطائفية المقيتة والمخربة لنظام البعث البائد سوى امتداد لفكر وسلوك بقايا العثمانيين والسائرين في ركابهم من السنة.
يعتبر بقايا العثمانيين العراق وشعبه وخيراته مجرد غنيمة، لذا نقل عن الطاغية المقبور صدام قوله عند استيلاء حزبه على السلطة بأنهم أتوا بالقوة ولن يتخلوا عنه إلا بالقوة، وليس هنالك أصدق وأدق من وصف المرحوم الدكتور جواد هاشم، وزير خارجية الزعيم عبد الكريم قاسم، لإنقلاب البعث في 1968: "إنه غزوة مغولية جديدة"، وقد سمعته منه أثناء جلسة خاصة في مقهى ببيرت عندما كان مندوباً للأمم المتحدة، ولم يكن قد مضى على الإنقلاب سوى أياماً معدودات، وبالفعل فقد صدق حكمه عليهم لأنهم سلكوا منهج المغول في حكم العراق بسفك الدماء والتخريب والدمار.
للتمويه على جذورهم التركية والعثمانية التي لا تمت للعراق بصلة دأب هؤلاء الغرباء على التشكيك بأصول أهل العراق من الشيعة، مدعين بأنهم فرس أو صفويون أو من الهنود الزط، وخوفاً من فقدان مراكزهم ومصالحهم الاستيطانية في بلدنا يشنون حرب إبادة على الشيعة، كما فعل أسلافهم ببعض الأقوام مثل الأرمن، ومن المعروف أن الأتراك العثمانيين قتلوا الملايين من الأرمن واغتصبوا نسائهم مما دفع بملايين آخرى منهم لترك مدنهم وقراهم والفرار إلى الدول المجاورة، ومنها العراق، وها نحن نشاهد استعمال الإرهابيين من بقايا نفايات العثمانيين وأعوانهم لنفس الأساليب الهمجية ضد الشيعة اليوم، وسيأتي دور الأكراد فيما بعد، وقد آن الآوان لاجتثاث هذا الغول العثماني الطائفي بالقوة من أرضنا قبل استفحاله وصيرورته غزوة مغولية جديدة.
العراق بلد محتل من قبل القوات الأمريكية وحلفائها، باتفاق معظم العراقيين والعالم، ولكن يخفى على الجميع بأنه كان محتلاً، حتى قبل مجيء الأمريكان، ومنذ أمد غير قصير، وهؤلاء المحتلون الخفيون هم بقايا العثمانيين، فمن المؤكد بأن الاحتلال العثماني كان استيطانياً، ويتضح ذلك من التغيير في التراكيب السكانية الذي أحدثه العثمانيون في البلاد الواقعة تحت سيطرتهم، وتتفاوت درجة هذه التغيير بين دولة وأخرى، وكقاعدة عامة فكلما كانت الدولة الواقعة تحت الاستعمار العثماني محاذية أو قريبة من حدود موطن العثمانيين في الأناضول كلما كان التغيير السكاني المحدث من قبلهم فيها كبيراً نسبياً، والدليل على ذلك وجود تنوع في الأصول العرقية لنسبة غير قليلة من سكان العراق ودول سوريا الكبرى، وبنسبة أقل في الحجاز ومصر، ويتمثل في هذا التنوع العرقي الشعوب التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار العثماني البغيض.
استولى العثمانيون على أرض العراق عنوة، وأخضعوها لسيطرتهم الشمولية، مستغلين إدعائهم الباطل بالأحقية في خلافة المسلمين لإضفاء مسحة من الشرعية الزائفة على حكمهم الطاغوتي التسلطي، واعتبروا أنفسهم أولياء على أمور العراقيين من مسلمين وغيرهم، يتصرفون بشؤونهم وبمصالحهم كما يشاؤون، وفي الوقت الذي عاملوا سكان العراق- وبالأخص الشيعة- وغيره من شعوب الدول الخاضعة لهم كمواطنين من الدرجة الثانية مقارنة بالأتراك من حيث الحقوق فرضوا عليهم الضرائب الباهظة والخدمة العسكرية والسخرة وغيرها من الواجبات التعسفية، وكانت أهدافهم في إدارة العراق وغيره استغلال ثرواته البشرية والطبيعية ونهب خيراته التي كانت تجمع ليرسل كلها أو معظمها إلى خزائن العثمانيين في الإستانة، ونتيجة إهمال الولاة العثمانيين لأحوال العراق وشعبه تدهورت أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية، وعاش العراقيون في ظلام الجهل والتخلف طيلة القرون الأربعة التي حكم بها العثمانيون بلدهم.
انتهى الاحتلال العثماني للعراق رسمياً باستسلام قواته للبريطانيين وانسحابهم من العراق ثم مبادرتهم لإلغاء الخلافة العثمانية غير المشروعة، لكن استعمارهم الاستيطاني للعراق لم ينتهي حينذاك، بل هو متواصل حتى وقتنا الحاضر، والأدلة على وجود بقايا هذا الاستعمار الاستيطاني وتأثيراته السلبية المقيتة على العراق مستقاة من الكتاب الموسوم، البغداديون أخبارهم ومجالسهم من تأليف إبراهيم الدروبي، المطبوع في بغداد عام 1958م.
يتبين من الكتاب بأن بقايا العثمانيين في العراق من أصول عرقية متنوعة، أتوا إلى العراق واستوطنوا فيه باعتباره امتداداً للدولة العثمانية الواحدة، ويصف هذا التنوع كما يلي :"ترى العراق حفل بأجناس بشرية متنوعة ففيه التركي والأفغاني والكردي والقفقاسي والداغستاني والاستانبولي والارناؤطي والحجازي والشامي والمصري والمغربي والجركسي" (ص211)، ومن الواضح بأن هؤلاء جميعاً طارئون على الأرض العراقية وتركيبتها السكانية، وكلهم ينتمون للطائفة السنية، ولولا الاستعمار العثماني لما تواجدوا بالعراق، وتجدر الإشارة إلى استعمال المؤلف لكلمة "حفل" للدلالة على أن عدد هؤلاء الغرباء في العراق لم يكن بالقليل، كما يلاحظ بأنه لم يورد الإيرانيين ضمنهم، أما لأنهم قلة قليلة لا يجدر ذكرها أو أنه أهمل ذكرهم لأسباب طائفية، وأرجح السبين كما سيتبين لاحقاً.
لا يخفي الكاتب طائفيته المقيتة، مما يوفر دليلاً جديداً على أن العداء الطائفي للشيعة في العراق قديم، وما الادعاء بتآخي الطائفتين في العهود السابقة لنظام البعث البائد إلا محض هراء، فهو لا يترك مناسبة إلا وانتقص من الفرس وأفعالهم في العراق في الوقت لذي لا يتعب من كيل المديح للعثمانيين الأتراك وبالأخص سفاحهم السلطان مراد الرابع، والدليل القوي الآخر على طائفية المؤلف ترتيبه للعائلات البغدادية فقد بدأ بالسنة ثم أتى على ذكر الشيعة وانتهى بالنصارى واليهود.
يترك الكتاب انطباعاً خاطئاً لدى قراءه من غير العارفين بحقائق التركيبة الديمغرافية للعراق بأن السنة هم الأكثرية العظمى من سكان بغداد وبأن الشيعة طائفة صغيرة عديدها مقارب لتعداد النصارى واليهود، فقد توزعت العائلات المذكورة في كتابه وفقاً للدين والمذهب كما يلي:
السنة (79%)، الشيعة (12%)، النصارى واليهود (9%)، ولرب قائل بأن المؤلف لم يجد من العوائل الشيعية الميسورة والمعروفة أكثر من هذا العدد، وحتى لو كان ذلك صحيحاً فإنه يدل على مدى الاضطهاد والتمييز الطائفي الذي مارسه العثمانيون وأعوانهم المحليون، وما نتج عنه من حرمان أكثرية العراقيين من الشيعة من حقوقهم الأساسية وتهميشهم والتضييق عليهم في طلب الرزق.
اهتم الكاتب ببيان الأصول العرقية والإثنية لمعظم العوائل المدرجة في كتابه، وفيما يلي توزيع السنة حسب أصولهم العرقية: الأعراب والمستعربون وغالبيتهم من نجد والشام 22%،الأتراك 21%، عرب عراقيون 15%، غير محددي الأصل 32%، أكراد وتركمان 8%، هنود 1%، فرس 1%، أما الشيعة فقد كانت غالبيتهم العظمى من العرب العراقيين (93%).
يتضح من بيانات التوزيع العرقي بأن نسبة قليلة جداً من العوائل البغدادية السنية منحدرة من أصول عرقية عربية وكردية وتركمانية مستوطنة في العراق، وإذا أخذنا في الاعتبار احتمال أن يكون معظم العوائل غير محددة الأصل وبعض النازحين من الشام من أصول تركية أوعثمانية غير عربية يمكن الاستنتاج بأن غالبية العوائل السنية المدرجة في الكتاب هم من الأتراك وغير العراقيين.
استهدفت العوائل السنية الوافدة للعراق ترسيخ سيطرة العثمانيين الاستعمارية على العراق واستغلال خيراته، فالذين من أصل تركي عملوا موظفين في وظائف الإدارة والقضاء والوقف وغيرها من الإدارات المحلية العثمانية، وهي جلها أو معظمها أعمال ووظائف غير منتجة أو حتى طفيلية، ويؤاخذون على ما أحدثوه في بيئة الإدارة والأعمال العراقية من استغلال المنصب والرشوة والفساد الإداري وغيرها من الممارسات المنحرفة، والدافع الرئيس وراء هجرة الأعراب إلى العراق اقتصادي بحت، فكلما أصاب النجديين القحط وضاقت بهم سبل الحياة وفدوا للعراق طلباً للرزق والمؤونة، وقد عاد البعض منهم بعد أن ملئوا بطونهم وجيوبهم، فيما اختار آخرون الاستقرار في العراق، وبالذات في المنطقة الجنوبية منه، وبالتحديد البصرة والزبير، وجمع البعض منهم الثروات، واستفادوا من حظوتهم لدى نظرائهم في المذهب في الحصول على المناصب، وهم بصورة عامة بارعون في اقتناص الفرص وجمع الثروات، ويرد إلى ذهني قول في أهل نجد للمرحوم الدكتورنسيب البرير، اللبناني السني ذي الأيادي البيضاء على الطائفة السنية في بيروت وصاحب مستشفى البربير التي اضطر لإغلاقها في عهد صعود صنيعة السعوديين رفيق الحريري إلى السلطة، فقد وصف الكتور البربير أهل نجد وهو العارف بهم بأنهم "يهود العرب"، وكان الأعراب النجديون المستوطنون في العراق أشبه باليهود في اكتنازهم للثروات وفي بخلهم وانسلاخهم عن العراقيين الأصلاء، ويروي الأستاذ عبد الكريم محمد رؤوف القطان في مذكراته نكتة حول بعض هؤلاء النجديين تدلل على مدى بخلهم، فقد كان التجار من أصل نجدي يرتادون مقهى في البصرة ، وفي أحد الأيام دار عليهم متسول فأجابه كل واحد منهم بعبارة " الله يعطيك" ودفع الحنق بالمتسول إلى الصعود على تخت ومخاطبتهم:" ولكم ملاعين الوالدين هو انتوا خليتوا عند الله فلوس حتى يعطيني" (ص208-209)، وقد تسنى لي في أواسط ثمانينات القرن الماضي قياس مدى سطحية انتماء النجديين الوطني للعراق، فأثناء قيامي بمهمة استشارية لوكالة الأحول المدنية في الرياض، عاصمة الوهابيين، اجتذب اهتمامي العشرات من الجوازات العراقية المبعثرة على طاولة في أحد المكاتب، فقادني فضولي إلى سؤال المدير عنها فأجابني بأنها تعود لعراقيين من أصل سعودي، وغالبيتهم من النجديين الزبيريين، الذين غادروا العراق بعد بدء العدوان البعثي على إيران الإسلامية، وقد تخلوا عن جنسيتهم ووثقائهم العراقية واستعادوا جنسيتهم السعودية، وهكذا هم النجديون يغرفون من خيرات العراق في السراء ويهجرونه في الضراء.
حرص النظام الملكي الهاشمي على ترسيخ استئثار السنة بالسلطة، وكان للعوائل التركية وغيرها من بقايا العثمانيين نصيب وافر من المناصب الحكومية السياسية والإدارية، والمثال على ذلك ساطع الحصري، الذين عرف بأبي القومية العربية وهو لا يتقن لغة الضاد، وهذا الرجل غير معروف الأصل الذي استقدمه الأعرابي فيصل الأول من الشام وقف سداً منيعاً أمام توظف شاعر العراق الكبير محمد مهدي الجواهري لكونه شيعياً، وكما يروي شاعرنا في مذكراته المطبوعة بدمشق، ولم يستح هذا الملك الطائفي من استقدام أحد السنة النجديين من أعوانه السايقين في الشام والعمل على انتخابه بالتزكية نائباً عن منطقة شيعية لم يزرها في حياته، ويورد عبد الكريم الأورفلي أدلة آخرى على هذه السياسة التوظيفية الطائفية في مذكراته، المشار إليها آنفاً، وهكذا بذل هؤلاء الأغراب قصارى جهدهم لمنع الشيعة من الحصول على حقوقهم المشروعة، وحتى عندما انحسر نفوذهم في العهود الجمهورية إلى حد ما فقد ظلت طائفيتهم مهيمنة، وما الممارسات الطائفية المقيتة والمخربة لنظام البعث البائد سوى امتداد لفكر وسلوك بقايا العثمانيين والسائرين في ركابهم من السنة.
يعتبر بقايا العثمانيين العراق وشعبه وخيراته مجرد غنيمة، لذا نقل عن الطاغية المقبور صدام قوله عند استيلاء حزبه على السلطة بأنهم أتوا بالقوة ولن يتخلوا عنه إلا بالقوة، وليس هنالك أصدق وأدق من وصف المرحوم الدكتور جواد هاشم، وزير خارجية الزعيم عبد الكريم قاسم، لإنقلاب البعث في 1968: "إنه غزوة مغولية جديدة"، وقد سمعته منه أثناء جلسة خاصة في مقهى ببيرت عندما كان مندوباً للأمم المتحدة، ولم يكن قد مضى على الإنقلاب سوى أياماً معدودات، وبالفعل فقد صدق حكمه عليهم لأنهم سلكوا منهج المغول في حكم العراق بسفك الدماء والتخريب والدمار.
للتمويه على جذورهم التركية والعثمانية التي لا تمت للعراق بصلة دأب هؤلاء الغرباء على التشكيك بأصول أهل العراق من الشيعة، مدعين بأنهم فرس أو صفويون أو من الهنود الزط، وخوفاً من فقدان مراكزهم ومصالحهم الاستيطانية في بلدنا يشنون حرب إبادة على الشيعة، كما فعل أسلافهم ببعض الأقوام مثل الأرمن، ومن المعروف أن الأتراك العثمانيين قتلوا الملايين من الأرمن واغتصبوا نسائهم مما دفع بملايين آخرى منهم لترك مدنهم وقراهم والفرار إلى الدول المجاورة، ومنها العراق، وها نحن نشاهد استعمال الإرهابيين من بقايا نفايات العثمانيين وأعوانهم لنفس الأساليب الهمجية ضد الشيعة اليوم، وسيأتي دور الأكراد فيما بعد، وقد آن الآوان لاجتثاث هذا الغول العثماني الطائفي بالقوة من أرضنا قبل استفحاله وصيرورته غزوة مغولية جديدة.