سلسبيل
04-12-2007, 07:50 AM
عبد الرحمن الحاج - الحياة - 07/04/07//
ظاهرة الخصومات الفكرية ظاهرة متكررة ومألوفة في جماعات العلماء والمثقفين، غير أن طبيعة هذه الخصومات والقيم الأخلاقية التي تتحكم بها تختلف من عصر إلى آخر، وقد شهدنا خصومات عديدة عند مثقفي العرب في العصر الحديث بدءاً من الخصومة الشهيرة بين الأديبين مصطفى صادق الرافعي وعباس محمود العقاد التي شغلت المثقفين في النصف الأول من القرن العشرين، أما تاريخنا فقد شهد خصومات كثيرة، غير أنه ربما لم يشهد خصومة وصلت الحد الذي وصلت إليه في عصر جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت911ﻫ)، في الربع الأخير من القرن التاسع الهجري ومطلع القرن العاشر؛ إذ وقع السيوطي في خصومة مع عدد من علماء عصره قسمت جماعة العلماء والمثقفين آنذاك إلى صفين: «مع» أو «ضد»، حتى السلاطين والخلفاء والأمراء أدخلوا في هذا الاصطفاف وصُيِّرُوا أطرافاً في المعركة، التي أرَّخ لها السيوطي في عدد من رسائله، فضلاً عن سيرته الذاتية: «التحدث بنعمة الله».
وإذ كانت السيرة الذاتية هي بمنزلة قراءة للذات، لكنها قراءة الذات مقدمة للآخر، فهي تحمل رسالة بقدر ما تبدو أنها تكشف ببراءة تاريخ تشكُّل الذات وتحولاتها، وبذلك فإن كل كتابة للسيرة الذاتية تحمل غايتها، ثم هي تفترض أساساً أن هذه القراءة ذات أهميّة ما للآخر، لكنها في الواقع ذات أهمية أكبر للذات نفسها صاحبة السيرة، بهذا يمكن أن نفهم لماذا لم يسر السيوطي على تقاليد السير الذاتية، فيصف نمو ذاته وتشكلها؛ إذ يصف الذات بوصفها ذاتاً مكتملة، تمضي بقارئها إلى نوع من المباهاة وإثارة العجب والتقدير، والإقرار بشخصية استثنائية فريدة، فسيرة الذات التي كتبها السيوطي - وهو ابن إحدى وأربعين عاماً! - جاءت لتؤدي دوراً حجاجيَّاً، لا سرداً قصصياً يتخفى وراء رسالته، كتبها بعد استقالته من التدريس والفتيا، وبعد عام من اندلاع خصومتة الكبرى مع مثقفي عصره وعلمائهم بدعواه ببلوغ الاجتهاد المطلق «بين راء بجهام، ورام بسهام، وطاعن بكلام، وظاعن بملام» على حد تعبيره.
لقد كانت دعوى الاجتهاد المطلق في عصر وسم بـ«عصر الانحطاط» نوعاً من ارتكاب المحرمات، وجرأة على منظومة أغلقت الأبواب دون روح الإبداع والتجديد، فدعوى الاجتهاد تعني منح الشرعية لإعادة البناء من جديد، غير أن السيوطي الذي قرر بنفسه أنه بلغ الاجتهاد «بشروطه» في الفقه والعربية والحديث، كان مدركاً لخطورة دعوى نُظِّر طويلاً لاستحالتها وانتهائها كظاهرة، إذ لم تكون المذاهب الأربعة إلا حالة استثناء في التاريخ العلمي والديني، لكنه إذ وجد نفسه أمام تراكم هائل من الإنجاز في حقول المعرفة المختلفة (حوالي 187 كتاباً بعضها أجزاء عديدة، و180 كراساً في سن الواحدة والأربعين فقط!) كان يشعر بالتدريج أنه فريد وغير عادي: «ولما بلغت درجة الترجيح لم أخرج في الإفتاء عن ترجيح النووي، وإن كان الراجح عندي خلافه، ولما بلغت رتبة الاجتهاد المطلق لم أخرج في الإفتاء عن مذهب الإمام الشافعي».
والقارئ لكتب السيوطي سيصتدم بعدد من الدعاوى عن سبقه وابتكاره لعدد من العلوم لم يسبق إليها، ليدون هذا الزهو بالذات في سيرته؛ إذ يحدثنا أن من المصنفات «ما أدعي فيه التفرُّد، ومعناه أنه لم يؤلف له نظير في الدنيا في ما علمت، وليس ذلك لعجز المتقدمين عنه، معاذ الله، ولكن لم يتفق أنهم تصدُّوا لمثله، وأما أهل العصر فإنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله؛ لما يحتاج إليه من سعة النظر وكثرة الاطلاع وملازمة الجد والتعب»، وملازمة الجد والتعب هذه لا يفتأ السيوطي يذكرنا بها مطلع كتبه، أما سعة النظر وكثرة الاطلاع فهي بالضبط مكان ملاحظة الذات ومحط عُجبها.
«التحدث بـنـعمة الله» ليس عـنواناً عـابـراً، إنـه تحدُّث بكمال الـذات باستحـواذ «آلات الاجتـهاد»، «تـحـدثاً بـنعمة الله لا فخراً» (كما في كتاب: حسن المحاضرة)، و«وتحدثاً بنعمة الله وشكراً»، «لا ريـاءً ولا سمعة و لا فخراً» (على حد تعبير السيـوطي نفـسه)؛ إنه حـق للذات المفتـونـة بنفسها تطالب به؛ إذ يـقـول «ليس على وجه الأرض من مشرقها إلى مغربها أعلم بالحديث مني، إلا أن يكون الخضر، أو القطب، أو ولياً له تعالى»! فهذه نعمة الله، و«التحدث بـنعمة الله مطلوب شرعـاً»، «كيـف وقـد أقامنـا الله بـفـضله جل جـلاله في منـصب الاجـتهاد لنـبين للناس في هذا العصر ما أدانا إليه الاجتهاد تجديداً للدين»!.
هل كان السيوطي إذاً يقول ذلك بدافع الالتزام بالمطلوب شرعاً فحسب؟ هذا ما تريد أن تبلغه الذات في سيرتها المكتوبة، التي تبرهن عبر فصولها على أنها بلغت ما بلغت من رتبة الاجتهاد بشهادة الناس والواقع، لكن أليس غريباً أن تذكر السيرة مخالفة السيوطي لوالده في مسألتين فقط تكون إحداهما عدم جواز كتم العلم؟ ويجعل السيوطي هذه المخالفة دليلاً على الموضوعية بـ»اتباع الحق وترك المحاباة في الدّين»! وأليس غريباً أن يكون كل ما حصل للسيوطي من أحداث يؤلف فيه الكتب والرسائل تجعله دائماً مصيباً حدود الشرع ولو في مشكلات شخصية؟! عندما يختلف مثلاً مع السلطان قايتباي بسبب لبسه الطيلسان أمامه، يكتب «طي اللسان عن ذم الطيلسان»! ويكتب عن مقاطعته له «ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين» وهو في الوقت نفسه صديق الخليفة! الذي استخدمه لإزاحة ابن بنت الأغر قاضي القضاة والجلوس مكانه!.
أياً يكن فالذات (السيوطي) في نعمة الله (الاجتهاد المطلق) جاهدت عبر أكثر من ثمانية مؤلفات بدءاً من «الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض» و«التنبئة بمن هو على رأس المائة»، مروراً بـ«تقرير الاستناد في تيسير الاجتهاد» وصولاً إلى السيرة الذاتية للذات المنعم عليها بالاجتهاد في»التحدث بنعمة الله».
إن زعم الاجتهاد وضع السيوطي في معركة إثبات الدعوى مع علماء عصره، وفي الوقت نفسه خلق خرقاً في سكون عقل الانحطاط، بيد أن طبائع عصر الانحطاط أثخنت في الذات فكتبت سيرتها!: «وقد أوذيت على ذلك أذى كثيراً من الجاهلين والقاصرين، وتلك سنة العلماء السالفين، فلم يزالوا مبتلين بأسقاط الخلق وأرذلهم، وبمن هو من طائفتهم ممن لم يرتقِ إلى محلِّهم»، وعدّلت دعوى الاجتهاد المطلق إلى مصطلح جديد هو «المجتهد المطلق المنتسب»! وهو «الذي توفرت فيه شروط الاجتهاد والتي اتصف بها المجتهد المستقل، ثم لم يبتكر لنفسه قواعد، بل سلك طريقه إماماً من أئمة المذهب قي الاجتهاد»، كأنه بهذا الوصف «المنتسب» لم يرد أن يتراجع عن المطلق في معركة بالغة الأذى، فتخفَّ وراء الانتساب، وربما ابتكر الانتساب ليتمسك بالإطلاق! لكنه في كلا الحالتين نوع من التراجع عن أهم قضية في عصور الانحطاط.
ليست قراءة الذات المكتوبة وسرد سيرتها هنا إلا نوعاً من تنضيد الزمن والأحداث والأفعال والأوصاف وترتيبها لتشكل دفاعاً قوياً، لكن هذا الدفاع لم يوقف استنكار الخصوم وتابعيهم الكُثر، وبقيت قضية دعوى الاجتهاد نضالاً تتمسك الذات به باعتباره حقاًً وواجباً، ويتنكر له الآخرون بطبائع انحطاطهم وانتصار خصومتهم، حتى أوشك السيوطي أن يمضي حياته في محنة أفقدته صوابه، ليقول سنة 898 للهجرة: «جولوا في الناس جولة؛ فإنه ثمّ من ينفخ أشداقه ويدَّعي مناظرتي، وينكر علي دعواي في الاجتهاد والتفرد بالعلم على رأس هذه المائة، ويزعم أنه يعارضني، ويستجيش من لو اجتمع هو وهم في صعيد واحد، ونفخت عليهم نفخةً صاروا هباءً منثوراً»!!
السيرة الذاتية للسيوطي لم تكن إلا جزءاً مهماً من تاريخ المعرفة العلمية الإسلامية تاريخ حدث فعلاً، وسجلِّ طرف من أطراف محنة ممتدة، محنة دعوى الاجتهاد، ولو قدر السيوطي على الاجتهاد لكان قد استأنف بدعواه في الاجتهاد ولازمها «الاجتهاد في كل عصر فرض» تاريخاً جديداً لمن بعده في مسار الفكر الإسلامي، ولكان تاريخ هذا الفكر الآن تاريخ آخر مختلف، ولكن سيرة الذات راوحت عند حدود «التحدث بنعمة الله».
كاتب سوري
ظاهرة الخصومات الفكرية ظاهرة متكررة ومألوفة في جماعات العلماء والمثقفين، غير أن طبيعة هذه الخصومات والقيم الأخلاقية التي تتحكم بها تختلف من عصر إلى آخر، وقد شهدنا خصومات عديدة عند مثقفي العرب في العصر الحديث بدءاً من الخصومة الشهيرة بين الأديبين مصطفى صادق الرافعي وعباس محمود العقاد التي شغلت المثقفين في النصف الأول من القرن العشرين، أما تاريخنا فقد شهد خصومات كثيرة، غير أنه ربما لم يشهد خصومة وصلت الحد الذي وصلت إليه في عصر جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت911ﻫ)، في الربع الأخير من القرن التاسع الهجري ومطلع القرن العاشر؛ إذ وقع السيوطي في خصومة مع عدد من علماء عصره قسمت جماعة العلماء والمثقفين آنذاك إلى صفين: «مع» أو «ضد»، حتى السلاطين والخلفاء والأمراء أدخلوا في هذا الاصطفاف وصُيِّرُوا أطرافاً في المعركة، التي أرَّخ لها السيوطي في عدد من رسائله، فضلاً عن سيرته الذاتية: «التحدث بنعمة الله».
وإذ كانت السيرة الذاتية هي بمنزلة قراءة للذات، لكنها قراءة الذات مقدمة للآخر، فهي تحمل رسالة بقدر ما تبدو أنها تكشف ببراءة تاريخ تشكُّل الذات وتحولاتها، وبذلك فإن كل كتابة للسيرة الذاتية تحمل غايتها، ثم هي تفترض أساساً أن هذه القراءة ذات أهميّة ما للآخر، لكنها في الواقع ذات أهمية أكبر للذات نفسها صاحبة السيرة، بهذا يمكن أن نفهم لماذا لم يسر السيوطي على تقاليد السير الذاتية، فيصف نمو ذاته وتشكلها؛ إذ يصف الذات بوصفها ذاتاً مكتملة، تمضي بقارئها إلى نوع من المباهاة وإثارة العجب والتقدير، والإقرار بشخصية استثنائية فريدة، فسيرة الذات التي كتبها السيوطي - وهو ابن إحدى وأربعين عاماً! - جاءت لتؤدي دوراً حجاجيَّاً، لا سرداً قصصياً يتخفى وراء رسالته، كتبها بعد استقالته من التدريس والفتيا، وبعد عام من اندلاع خصومتة الكبرى مع مثقفي عصره وعلمائهم بدعواه ببلوغ الاجتهاد المطلق «بين راء بجهام، ورام بسهام، وطاعن بكلام، وظاعن بملام» على حد تعبيره.
لقد كانت دعوى الاجتهاد المطلق في عصر وسم بـ«عصر الانحطاط» نوعاً من ارتكاب المحرمات، وجرأة على منظومة أغلقت الأبواب دون روح الإبداع والتجديد، فدعوى الاجتهاد تعني منح الشرعية لإعادة البناء من جديد، غير أن السيوطي الذي قرر بنفسه أنه بلغ الاجتهاد «بشروطه» في الفقه والعربية والحديث، كان مدركاً لخطورة دعوى نُظِّر طويلاً لاستحالتها وانتهائها كظاهرة، إذ لم تكون المذاهب الأربعة إلا حالة استثناء في التاريخ العلمي والديني، لكنه إذ وجد نفسه أمام تراكم هائل من الإنجاز في حقول المعرفة المختلفة (حوالي 187 كتاباً بعضها أجزاء عديدة، و180 كراساً في سن الواحدة والأربعين فقط!) كان يشعر بالتدريج أنه فريد وغير عادي: «ولما بلغت درجة الترجيح لم أخرج في الإفتاء عن ترجيح النووي، وإن كان الراجح عندي خلافه، ولما بلغت رتبة الاجتهاد المطلق لم أخرج في الإفتاء عن مذهب الإمام الشافعي».
والقارئ لكتب السيوطي سيصتدم بعدد من الدعاوى عن سبقه وابتكاره لعدد من العلوم لم يسبق إليها، ليدون هذا الزهو بالذات في سيرته؛ إذ يحدثنا أن من المصنفات «ما أدعي فيه التفرُّد، ومعناه أنه لم يؤلف له نظير في الدنيا في ما علمت، وليس ذلك لعجز المتقدمين عنه، معاذ الله، ولكن لم يتفق أنهم تصدُّوا لمثله، وأما أهل العصر فإنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله؛ لما يحتاج إليه من سعة النظر وكثرة الاطلاع وملازمة الجد والتعب»، وملازمة الجد والتعب هذه لا يفتأ السيوطي يذكرنا بها مطلع كتبه، أما سعة النظر وكثرة الاطلاع فهي بالضبط مكان ملاحظة الذات ومحط عُجبها.
«التحدث بـنـعمة الله» ليس عـنواناً عـابـراً، إنـه تحدُّث بكمال الـذات باستحـواذ «آلات الاجتـهاد»، «تـحـدثاً بـنعمة الله لا فخراً» (كما في كتاب: حسن المحاضرة)، و«وتحدثاً بنعمة الله وشكراً»، «لا ريـاءً ولا سمعة و لا فخراً» (على حد تعبير السيـوطي نفـسه)؛ إنه حـق للذات المفتـونـة بنفسها تطالب به؛ إذ يـقـول «ليس على وجه الأرض من مشرقها إلى مغربها أعلم بالحديث مني، إلا أن يكون الخضر، أو القطب، أو ولياً له تعالى»! فهذه نعمة الله، و«التحدث بـنعمة الله مطلوب شرعـاً»، «كيـف وقـد أقامنـا الله بـفـضله جل جـلاله في منـصب الاجـتهاد لنـبين للناس في هذا العصر ما أدانا إليه الاجتهاد تجديداً للدين»!.
هل كان السيوطي إذاً يقول ذلك بدافع الالتزام بالمطلوب شرعاً فحسب؟ هذا ما تريد أن تبلغه الذات في سيرتها المكتوبة، التي تبرهن عبر فصولها على أنها بلغت ما بلغت من رتبة الاجتهاد بشهادة الناس والواقع، لكن أليس غريباً أن تذكر السيرة مخالفة السيوطي لوالده في مسألتين فقط تكون إحداهما عدم جواز كتم العلم؟ ويجعل السيوطي هذه المخالفة دليلاً على الموضوعية بـ»اتباع الحق وترك المحاباة في الدّين»! وأليس غريباً أن يكون كل ما حصل للسيوطي من أحداث يؤلف فيه الكتب والرسائل تجعله دائماً مصيباً حدود الشرع ولو في مشكلات شخصية؟! عندما يختلف مثلاً مع السلطان قايتباي بسبب لبسه الطيلسان أمامه، يكتب «طي اللسان عن ذم الطيلسان»! ويكتب عن مقاطعته له «ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين» وهو في الوقت نفسه صديق الخليفة! الذي استخدمه لإزاحة ابن بنت الأغر قاضي القضاة والجلوس مكانه!.
أياً يكن فالذات (السيوطي) في نعمة الله (الاجتهاد المطلق) جاهدت عبر أكثر من ثمانية مؤلفات بدءاً من «الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض» و«التنبئة بمن هو على رأس المائة»، مروراً بـ«تقرير الاستناد في تيسير الاجتهاد» وصولاً إلى السيرة الذاتية للذات المنعم عليها بالاجتهاد في»التحدث بنعمة الله».
إن زعم الاجتهاد وضع السيوطي في معركة إثبات الدعوى مع علماء عصره، وفي الوقت نفسه خلق خرقاً في سكون عقل الانحطاط، بيد أن طبائع عصر الانحطاط أثخنت في الذات فكتبت سيرتها!: «وقد أوذيت على ذلك أذى كثيراً من الجاهلين والقاصرين، وتلك سنة العلماء السالفين، فلم يزالوا مبتلين بأسقاط الخلق وأرذلهم، وبمن هو من طائفتهم ممن لم يرتقِ إلى محلِّهم»، وعدّلت دعوى الاجتهاد المطلق إلى مصطلح جديد هو «المجتهد المطلق المنتسب»! وهو «الذي توفرت فيه شروط الاجتهاد والتي اتصف بها المجتهد المستقل، ثم لم يبتكر لنفسه قواعد، بل سلك طريقه إماماً من أئمة المذهب قي الاجتهاد»، كأنه بهذا الوصف «المنتسب» لم يرد أن يتراجع عن المطلق في معركة بالغة الأذى، فتخفَّ وراء الانتساب، وربما ابتكر الانتساب ليتمسك بالإطلاق! لكنه في كلا الحالتين نوع من التراجع عن أهم قضية في عصور الانحطاط.
ليست قراءة الذات المكتوبة وسرد سيرتها هنا إلا نوعاً من تنضيد الزمن والأحداث والأفعال والأوصاف وترتيبها لتشكل دفاعاً قوياً، لكن هذا الدفاع لم يوقف استنكار الخصوم وتابعيهم الكُثر، وبقيت قضية دعوى الاجتهاد نضالاً تتمسك الذات به باعتباره حقاًً وواجباً، ويتنكر له الآخرون بطبائع انحطاطهم وانتصار خصومتهم، حتى أوشك السيوطي أن يمضي حياته في محنة أفقدته صوابه، ليقول سنة 898 للهجرة: «جولوا في الناس جولة؛ فإنه ثمّ من ينفخ أشداقه ويدَّعي مناظرتي، وينكر علي دعواي في الاجتهاد والتفرد بالعلم على رأس هذه المائة، ويزعم أنه يعارضني، ويستجيش من لو اجتمع هو وهم في صعيد واحد، ونفخت عليهم نفخةً صاروا هباءً منثوراً»!!
السيرة الذاتية للسيوطي لم تكن إلا جزءاً مهماً من تاريخ المعرفة العلمية الإسلامية تاريخ حدث فعلاً، وسجلِّ طرف من أطراف محنة ممتدة، محنة دعوى الاجتهاد، ولو قدر السيوطي على الاجتهاد لكان قد استأنف بدعواه في الاجتهاد ولازمها «الاجتهاد في كل عصر فرض» تاريخاً جديداً لمن بعده في مسار الفكر الإسلامي، ولكان تاريخ هذا الفكر الآن تاريخ آخر مختلف، ولكن سيرة الذات راوحت عند حدود «التحدث بنعمة الله».
كاتب سوري