فاطمي
04-04-2007, 10:28 AM
الراية القطرية - جمال البنـّا
علماء يستغلون مناصبهم للثراء ويسفهون المجددين والمصلحين
كانت مجلة السياسة الأسبوعية التي رأس تحريرها الدكتور محمد حسين هيكل في العشرينات من القرن الماضي هي أهم مجلة سياسية اسبوعية، ولا نغالي إذا قلنا أنها كانت المدرسة الصحفية التي تعلم فيها أو نشأ فيها العديد من أصحاب الأقلام، وقد كتب فيها أشهر الكتاب وقتئذ (أحمد لطفي السيد، وطه حسين، وعبد العزيز البشري، والمازني .. الخ).
وكان في المجلة باب تحت عنوان "مرايا" خصص في كل عدد للحديث عن احدي الشخصيات البارزة مرتفقة بصورة من ريشة رائد الكاريكاتير سانتوس، وضمت هذه الشخصيات سعد زغلول، وعدلي يكن، وإبراهيم الهلباوي، والدكتور علي إبراهيم .. الخ، وكانت الصورة تعبر عن شخصية صاحبها ووظيفته أو تصوره في وضع معين .. الخ، بحيث تقدم "نفسية" الرجل قبل شكله وزاد في التركيز كتابة سطر أو سطرين تحت كل صورة عن أشهر ما عرف به، وكان يحرر هذا الباب الشيخ عبد العزيز البشري الذي استطاع أن ينفذ إلي أعماق شخصية المترجم له فيكشفها بأسلوب ناقد مع توشية فنية فيها من الفكاهة واللمز والهمز .. الخ وإبراز خلائقهم من كرم، أو طموح وتحايل ونقط القوة والضعف.
ووصلت شهرة هذا الباب حدًا جعل الكاتب المخضرم الدكتور محمد رجب البيومي يقول "ولا أترك جريدة السياسة دون أن أشير إلي اللون الأدبي الجديد الذي ابتكره الأستاذ عبد العزيز البشري في صفحة الأدب بالجريدة نفسها حين كتب في المرآة ليصور أعلام الأدب والسياسة والفكر في مصر تصويرًا فلميًا رائعًا، أخذ علي القارئين ألبابهم وجعل كل وزير يترقب حذرًا أن يصوره البشري بما يسقط مكانته لدي القراء، وقد قال إسماعيل صدقي لبعض أصدقائه إنه لم ينم الليل حين أخبره أحد محرري السياسة أن مقال الغد في "المرآة" خاص به، وقرأ المقال قبل أن تكتحل عيناه بالنوم صباحًا واطمأن خاطره فأرسل كتابًا رقيقًا للبشري نشرته السياسة في العدد التالي، وأعاد البشري نشره بمجموعة في "المرآة" (الصحافة بين الأمس واليوم)، بقلم د. محمد رجب البيومي الهلال مارس 2004 ص 48.
وقد جمعت هذه المقالات في كتاب باسم "في المرآة" طبعته لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1947، وتحت هذا العنوان الرئيس جاء مختار المرايا التي نشرت في السياسة الأسبوعية، وتلا هذا البيت الذي كان الشاعر حافظ إبراهيم قد أطلقه عليها :
تريك المرايا الخلق فيهن ماثلاً
وهذي تريك الخُلق والنفس والطبع
وقد اخترنا من بين الشخصيات التي صورها في مرآته شخصية شيخ أزهري هو الشيخ أبو الفضل الجيزاوي الذي شغل منصب مشيخة الأزهر ورسم له سانتوس الصورة التي تتلاءم مع شخصيته وأبرز ما اشتهر به.
إننا نعلم أن من بين الفقهاء والشيوخ شخصيات كريمة عرف عنها الفضل والتقوي والورع، ولكن. وهذه ملاحظة خاصة. ان العلماء الذين يشغلون مناصب قلما تكون عنايتهم بالعلم أو الدين، وأن معظم عنايتهم توجه لاستغلال مناصبهم فيما يحقق لهم النفع المادي أو الترقية .. الخ، كما أنهم رغم مناصبهم العلمية أقل الناس تمكنًا من الكتابة، وأضيقهم، وهم يردون علي من يعمل لتجديد وإصلاح الإسلام بالتسفيه والنيل من شخصه، ويتساءلون أني له أن يتحدث عن الإصلاح الإسلامي، ونحن أهل الذكر، كأن الذكر قد ولد في مؤسساتهم أو أنهم ورثوه "كابرًا عن كابر"، والمصيبة أنهم لا يقرأون، وإذا قرؤوا لا يفهمون، فقد شغلتهم "الفضائيات" والمحاضرات والندوات واللجان .. الخ.
وعندما كتب البشري عن الشيخ الجيزاوي وركز علي حرصه علي تجميع الثروة لم يقصد تجريحًا، ولكنه لمس ظاهرة لدي بعض الرجال الذين يشكلون مناصب عامة، وقد كتب عن إسماعيل سري باشا فمدحه كمهندس فاق المهندسين ولكنه عندما ولي منصب وزارة الأشغال أصبح همه كله تعيين أقاربه ومعارفه لدرجة أن وسيطًا طلب منه أن يرقي أحد أقرباء وزير آخر، فيرد "ولماذا أرقي قريبه وهو لا يرقي قريبي" ؟ فقيل له إن قريبك لم يأت عليه الدور، أما قريبه فقد جاء عليه الدور، فرد لينتظر إذن حتي يأتي ميعاد ترقية قريبي حتي أرقي قريبه، وأمام هذا العناد رقي الوزير الآخر قريبه ترقية استثنائية ورقي إسماعيل سري قريب الوزير ترقية كان يستحقها من مدة والأشخاص الذين يشغلون مناصب عامة يجب أن لا يضيقوا بما يوجه إليهم من نقد مادام هذا النقد متعلقًا بالأداء الوظيفي علي أن نقد البشري للجيزاوي يمثل ظاهرة لا تزال تعيش لدي معظم الشيوخ الذين يشغلون مناصب رفيعة، ومن هنا جاءت حكمة نشر هذه الصفحة المنسية وصورتها الآن ومدلولها لأنها تمثل واقعًا حيًا الآن.
* * *
بدأ البشري حديثه بالإشارة إلي وجود شيخ تقي يدعي الشيخ الإسماعيلي يسكن جامع المؤيد ويشتغل بالتدريس فيه وكان له تابع يعينه علي أمره ويقرأ بين يديه ويصب له ماء وضوئه ويحمل عنه نعله يدعي الشيخ حسن وكان الشيخ الإسماعيلي يتقاضي ثلاثين قرشًا شهريًا وبضعة أرغفة كل يوم يتبلغ بها هو وتابعه، وعرف الرجل بالتقوي والورع فأراد أحد التجار دعوته للإفطار في رمضان ليفتخر بذلك، ولكن الشيخ رفض ولما كرر الدعوة وكرر الشيخ رفضه لجأ التاجر إلي الشيخ حسن ووعده أنه إذا أقنع الشيخ بقبول الدعوة فسيعطيه "صفحتين" من السمن وغرارتين من القمح وكمية كبيرة من السكر والشمع والبن، فحاول الشيخ حسن أن يقنع شيخه بقبول الدعوة، ولمس شيخه أن وراء إلحاحه شيئًا، وصارحه تابعه بما وعده به التاجر، وقال أنه رجل فقير وله زوجة وأطفال، فرأف الشيخ بحاله وقبل الدعوة، وأسرع الشيخ حسن وبشر التاجر بقبول الشيخ لدعوته فطار التاجر فرحًا وأمر الطباخين بطهي أفخر الأطعمة من لحوم وحلوي وأقام الزينات ودعا جيرانه ليروا الشيخ وهو علي مائدته، وفي اليوم المحدد، وعندما كادت الشمس تغيب نبه الشيخ حسن شيخه، فقام متثاقلاً وسار الهوينا، ولم يكد يشرف علي الحارة حتي هبت روائح الشواء وظهرت معالم الزينة، فامتقع وجهه وارتعد وتوقف خطوة، وصاح في تابعه "كم قيمة ما وعدك به التاجر" ؟ فقال حوالي أثني عشر جنيهًا، فقال له "قسطها علي كل شهر ثلاثين قرشًا"، وارتد علي عقبيه عائدًا.
بعد أن ذكر الكاتب هذا المثال في الزهد في متاع الدنيا من شيخ في المجاهيل تحدث عن نوع آخر وهم الشيوخ الذين كانوا يهرعون لإحياء ليلة القدر في دار الوكالة البريطانية "قصر الدوبارة" استجابة لدعوة اللورد كرومر وضرب المثل لهم بشيخ هو الشيخ أبو الفضل الجيزاوي وكان شابًا ريفيًا فقيرًا هاجر من وراق الحضر (إمبابة) إلي القاهرة ودخل الأزهر وانكب علي الدراسة وتقرب إلي الشيخ العباسي المهدي الذي عهد إليه ببعض الأعمال، كان يُجد فيها دون أن يهمل الاكتساب منها ثم عين مدرسًا في الأزهر، فعرف بشدة الاجتهاد والمطاولة في الدرس.
ويقول الشيخ البشري : "وهو رجل معروف بحب القرآن، فلم يتبطر وهو عالم كبير علي أن يتولي مقرأة السلطان الحنفي لقاء ريال كل شهر وعشرين رغيفًا كل أسبوع".
ثم ولي مشيخة معهد الإسكندرية وظل فيها حتي أفضت به إلي مشيخة الإسلام سنة 1926 أو 1927 وبلغ من حب الرجل القرآن أنه لم يتنح عن مقرأة السلطان الحنفي وهو في هذا المنصب الجليل وأفسح الله الرزق، فبعد أن كان مرتب شيخ الإسلام ستين جنيهًا في الشهر أصبح ألفي جنيه في العام، وبعد أن كان ثلاثين رغيفًا في الشهر اصبح ثلاثمائة إلي مكافآت لا عداد لها لحضور مجلس إدارة مدرسة القضاء الشرعي، وأخري لمدرسة دار العلوم وثالثة لمجلس الأوقاف الواسعة التابعة للأزهر والتي لا يعلم حسابها إلا الله!.
ومع أن الشيخ عَمَّر إلي التسعين ورق عظمه ووهنت قوته حتي أصبح اشبه بمومياء لو استدرجته يومًا ما إلي دار الآثار لحسبته أحد موميواتها، ولكنه لا يزال فتي الرغبة في المنصب ولا يتخلف عن القيام بكل ما يجر له مالاً.
والشيخ علي ما أفاء الله عليه من الثراء العريض والقمة الواسعة مازال يتخذ داراً متواضعة في زقاق ضيق خلف ميضأة الحنفي.
ومع هذا فلو استشرقت لك ليلة القدر فكشفت لك عن خزانة الشيخ لما وقفت عينك علي قفار من الخبز، بل لوقعت علي الآلاف من "البنكنوت" إلي أمثالها من أسهم الدين الموحد وشركة السكر والكونسوليد الإنجليزي وقناة بنما ويانصيب باريس إلي وثائق الرهون .. الخ، وإن شئت إجمالاً قلت إن خزائن شيخ إسلامنا والحمد لله لا تقل عن خزائن ثلاثة بنوك مجتمعة.
وما لنا لا نغتبط بهذا ولا نباهي، وقد كانت كل العمليات المالية في أيدي الإفرنج واليهود، وها هي ذي تستخلصها من براثن أولئك الأقوام أيدي سادتنا العلماء الأعلام.
وللشيخ ميزته التي لا تنكر، فهو شديد الحرص علي إطاعة كل ما يؤمر به ممن يتلقي الأمر منهم، إذ الرجل واسع العلم بأحكام الفقه وما تتغير عليه في كل حادث آراء الفقهاء فلا يعجزه أن يبرئ ذمته في أي حادث بجواب مهما اختلفت العلل وتنوعت الأسباب.
وبعد، فهذه سيرة أحد الشيوخ الذين وصلوا إلي أعلي منصب إسلامي، ولا نقول أن شيوخنا اليوم مثله، فمعظمهم ليس له الطموح المالي الذي كان للشيخ، ولكن ما حصله الشيخ بالملايين يحصله شيوخنا بعشرات الألوف، وفيهم ما فيه من حرص علي الدنيا وتمسك بالمنصب "إلي النهاية".
علماء يستغلون مناصبهم للثراء ويسفهون المجددين والمصلحين
كانت مجلة السياسة الأسبوعية التي رأس تحريرها الدكتور محمد حسين هيكل في العشرينات من القرن الماضي هي أهم مجلة سياسية اسبوعية، ولا نغالي إذا قلنا أنها كانت المدرسة الصحفية التي تعلم فيها أو نشأ فيها العديد من أصحاب الأقلام، وقد كتب فيها أشهر الكتاب وقتئذ (أحمد لطفي السيد، وطه حسين، وعبد العزيز البشري، والمازني .. الخ).
وكان في المجلة باب تحت عنوان "مرايا" خصص في كل عدد للحديث عن احدي الشخصيات البارزة مرتفقة بصورة من ريشة رائد الكاريكاتير سانتوس، وضمت هذه الشخصيات سعد زغلول، وعدلي يكن، وإبراهيم الهلباوي، والدكتور علي إبراهيم .. الخ، وكانت الصورة تعبر عن شخصية صاحبها ووظيفته أو تصوره في وضع معين .. الخ، بحيث تقدم "نفسية" الرجل قبل شكله وزاد في التركيز كتابة سطر أو سطرين تحت كل صورة عن أشهر ما عرف به، وكان يحرر هذا الباب الشيخ عبد العزيز البشري الذي استطاع أن ينفذ إلي أعماق شخصية المترجم له فيكشفها بأسلوب ناقد مع توشية فنية فيها من الفكاهة واللمز والهمز .. الخ وإبراز خلائقهم من كرم، أو طموح وتحايل ونقط القوة والضعف.
ووصلت شهرة هذا الباب حدًا جعل الكاتب المخضرم الدكتور محمد رجب البيومي يقول "ولا أترك جريدة السياسة دون أن أشير إلي اللون الأدبي الجديد الذي ابتكره الأستاذ عبد العزيز البشري في صفحة الأدب بالجريدة نفسها حين كتب في المرآة ليصور أعلام الأدب والسياسة والفكر في مصر تصويرًا فلميًا رائعًا، أخذ علي القارئين ألبابهم وجعل كل وزير يترقب حذرًا أن يصوره البشري بما يسقط مكانته لدي القراء، وقد قال إسماعيل صدقي لبعض أصدقائه إنه لم ينم الليل حين أخبره أحد محرري السياسة أن مقال الغد في "المرآة" خاص به، وقرأ المقال قبل أن تكتحل عيناه بالنوم صباحًا واطمأن خاطره فأرسل كتابًا رقيقًا للبشري نشرته السياسة في العدد التالي، وأعاد البشري نشره بمجموعة في "المرآة" (الصحافة بين الأمس واليوم)، بقلم د. محمد رجب البيومي الهلال مارس 2004 ص 48.
وقد جمعت هذه المقالات في كتاب باسم "في المرآة" طبعته لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1947، وتحت هذا العنوان الرئيس جاء مختار المرايا التي نشرت في السياسة الأسبوعية، وتلا هذا البيت الذي كان الشاعر حافظ إبراهيم قد أطلقه عليها :
تريك المرايا الخلق فيهن ماثلاً
وهذي تريك الخُلق والنفس والطبع
وقد اخترنا من بين الشخصيات التي صورها في مرآته شخصية شيخ أزهري هو الشيخ أبو الفضل الجيزاوي الذي شغل منصب مشيخة الأزهر ورسم له سانتوس الصورة التي تتلاءم مع شخصيته وأبرز ما اشتهر به.
إننا نعلم أن من بين الفقهاء والشيوخ شخصيات كريمة عرف عنها الفضل والتقوي والورع، ولكن. وهذه ملاحظة خاصة. ان العلماء الذين يشغلون مناصب قلما تكون عنايتهم بالعلم أو الدين، وأن معظم عنايتهم توجه لاستغلال مناصبهم فيما يحقق لهم النفع المادي أو الترقية .. الخ، كما أنهم رغم مناصبهم العلمية أقل الناس تمكنًا من الكتابة، وأضيقهم، وهم يردون علي من يعمل لتجديد وإصلاح الإسلام بالتسفيه والنيل من شخصه، ويتساءلون أني له أن يتحدث عن الإصلاح الإسلامي، ونحن أهل الذكر، كأن الذكر قد ولد في مؤسساتهم أو أنهم ورثوه "كابرًا عن كابر"، والمصيبة أنهم لا يقرأون، وإذا قرؤوا لا يفهمون، فقد شغلتهم "الفضائيات" والمحاضرات والندوات واللجان .. الخ.
وعندما كتب البشري عن الشيخ الجيزاوي وركز علي حرصه علي تجميع الثروة لم يقصد تجريحًا، ولكنه لمس ظاهرة لدي بعض الرجال الذين يشكلون مناصب عامة، وقد كتب عن إسماعيل سري باشا فمدحه كمهندس فاق المهندسين ولكنه عندما ولي منصب وزارة الأشغال أصبح همه كله تعيين أقاربه ومعارفه لدرجة أن وسيطًا طلب منه أن يرقي أحد أقرباء وزير آخر، فيرد "ولماذا أرقي قريبه وهو لا يرقي قريبي" ؟ فقيل له إن قريبك لم يأت عليه الدور، أما قريبه فقد جاء عليه الدور، فرد لينتظر إذن حتي يأتي ميعاد ترقية قريبي حتي أرقي قريبه، وأمام هذا العناد رقي الوزير الآخر قريبه ترقية استثنائية ورقي إسماعيل سري قريب الوزير ترقية كان يستحقها من مدة والأشخاص الذين يشغلون مناصب عامة يجب أن لا يضيقوا بما يوجه إليهم من نقد مادام هذا النقد متعلقًا بالأداء الوظيفي علي أن نقد البشري للجيزاوي يمثل ظاهرة لا تزال تعيش لدي معظم الشيوخ الذين يشغلون مناصب رفيعة، ومن هنا جاءت حكمة نشر هذه الصفحة المنسية وصورتها الآن ومدلولها لأنها تمثل واقعًا حيًا الآن.
* * *
بدأ البشري حديثه بالإشارة إلي وجود شيخ تقي يدعي الشيخ الإسماعيلي يسكن جامع المؤيد ويشتغل بالتدريس فيه وكان له تابع يعينه علي أمره ويقرأ بين يديه ويصب له ماء وضوئه ويحمل عنه نعله يدعي الشيخ حسن وكان الشيخ الإسماعيلي يتقاضي ثلاثين قرشًا شهريًا وبضعة أرغفة كل يوم يتبلغ بها هو وتابعه، وعرف الرجل بالتقوي والورع فأراد أحد التجار دعوته للإفطار في رمضان ليفتخر بذلك، ولكن الشيخ رفض ولما كرر الدعوة وكرر الشيخ رفضه لجأ التاجر إلي الشيخ حسن ووعده أنه إذا أقنع الشيخ بقبول الدعوة فسيعطيه "صفحتين" من السمن وغرارتين من القمح وكمية كبيرة من السكر والشمع والبن، فحاول الشيخ حسن أن يقنع شيخه بقبول الدعوة، ولمس شيخه أن وراء إلحاحه شيئًا، وصارحه تابعه بما وعده به التاجر، وقال أنه رجل فقير وله زوجة وأطفال، فرأف الشيخ بحاله وقبل الدعوة، وأسرع الشيخ حسن وبشر التاجر بقبول الشيخ لدعوته فطار التاجر فرحًا وأمر الطباخين بطهي أفخر الأطعمة من لحوم وحلوي وأقام الزينات ودعا جيرانه ليروا الشيخ وهو علي مائدته، وفي اليوم المحدد، وعندما كادت الشمس تغيب نبه الشيخ حسن شيخه، فقام متثاقلاً وسار الهوينا، ولم يكد يشرف علي الحارة حتي هبت روائح الشواء وظهرت معالم الزينة، فامتقع وجهه وارتعد وتوقف خطوة، وصاح في تابعه "كم قيمة ما وعدك به التاجر" ؟ فقال حوالي أثني عشر جنيهًا، فقال له "قسطها علي كل شهر ثلاثين قرشًا"، وارتد علي عقبيه عائدًا.
بعد أن ذكر الكاتب هذا المثال في الزهد في متاع الدنيا من شيخ في المجاهيل تحدث عن نوع آخر وهم الشيوخ الذين كانوا يهرعون لإحياء ليلة القدر في دار الوكالة البريطانية "قصر الدوبارة" استجابة لدعوة اللورد كرومر وضرب المثل لهم بشيخ هو الشيخ أبو الفضل الجيزاوي وكان شابًا ريفيًا فقيرًا هاجر من وراق الحضر (إمبابة) إلي القاهرة ودخل الأزهر وانكب علي الدراسة وتقرب إلي الشيخ العباسي المهدي الذي عهد إليه ببعض الأعمال، كان يُجد فيها دون أن يهمل الاكتساب منها ثم عين مدرسًا في الأزهر، فعرف بشدة الاجتهاد والمطاولة في الدرس.
ويقول الشيخ البشري : "وهو رجل معروف بحب القرآن، فلم يتبطر وهو عالم كبير علي أن يتولي مقرأة السلطان الحنفي لقاء ريال كل شهر وعشرين رغيفًا كل أسبوع".
ثم ولي مشيخة معهد الإسكندرية وظل فيها حتي أفضت به إلي مشيخة الإسلام سنة 1926 أو 1927 وبلغ من حب الرجل القرآن أنه لم يتنح عن مقرأة السلطان الحنفي وهو في هذا المنصب الجليل وأفسح الله الرزق، فبعد أن كان مرتب شيخ الإسلام ستين جنيهًا في الشهر أصبح ألفي جنيه في العام، وبعد أن كان ثلاثين رغيفًا في الشهر اصبح ثلاثمائة إلي مكافآت لا عداد لها لحضور مجلس إدارة مدرسة القضاء الشرعي، وأخري لمدرسة دار العلوم وثالثة لمجلس الأوقاف الواسعة التابعة للأزهر والتي لا يعلم حسابها إلا الله!.
ومع أن الشيخ عَمَّر إلي التسعين ورق عظمه ووهنت قوته حتي أصبح اشبه بمومياء لو استدرجته يومًا ما إلي دار الآثار لحسبته أحد موميواتها، ولكنه لا يزال فتي الرغبة في المنصب ولا يتخلف عن القيام بكل ما يجر له مالاً.
والشيخ علي ما أفاء الله عليه من الثراء العريض والقمة الواسعة مازال يتخذ داراً متواضعة في زقاق ضيق خلف ميضأة الحنفي.
ومع هذا فلو استشرقت لك ليلة القدر فكشفت لك عن خزانة الشيخ لما وقفت عينك علي قفار من الخبز، بل لوقعت علي الآلاف من "البنكنوت" إلي أمثالها من أسهم الدين الموحد وشركة السكر والكونسوليد الإنجليزي وقناة بنما ويانصيب باريس إلي وثائق الرهون .. الخ، وإن شئت إجمالاً قلت إن خزائن شيخ إسلامنا والحمد لله لا تقل عن خزائن ثلاثة بنوك مجتمعة.
وما لنا لا نغتبط بهذا ولا نباهي، وقد كانت كل العمليات المالية في أيدي الإفرنج واليهود، وها هي ذي تستخلصها من براثن أولئك الأقوام أيدي سادتنا العلماء الأعلام.
وللشيخ ميزته التي لا تنكر، فهو شديد الحرص علي إطاعة كل ما يؤمر به ممن يتلقي الأمر منهم، إذ الرجل واسع العلم بأحكام الفقه وما تتغير عليه في كل حادث آراء الفقهاء فلا يعجزه أن يبرئ ذمته في أي حادث بجواب مهما اختلفت العلل وتنوعت الأسباب.
وبعد، فهذه سيرة أحد الشيوخ الذين وصلوا إلي أعلي منصب إسلامي، ولا نقول أن شيوخنا اليوم مثله، فمعظمهم ليس له الطموح المالي الذي كان للشيخ، ولكن ما حصله الشيخ بالملايين يحصله شيوخنا بعشرات الألوف، وفيهم ما فيه من حرص علي الدنيا وتمسك بالمنصب "إلي النهاية".