زوربا
03-26-2007, 05:38 PM
خليل العناني - الحياة
على رغم الهزات والتقلبات التي مرت بها الدولة العربية طيلة تاريخها المعاصر، إلا أنها تتعرض، منذ غزو العراق وحتى الآن، لأعتى موجة من موجات الاضطراب خلال العقدين الماضيين، ما قد ينجم عنه انكسار في بعض أجزائها، وربما انهيار بنيانها برمته.
ولا مبالغة في القول بأن غزو العراق واحتلاله جاءا وبالاً على هذه الدولة، ليس فقط لحال الانكشاف والتعري التي أصابتها، عطفاً على اختلال بنيتها السياسية واعتلال رابطتها العضوية فحسب، وإنما أيضا لكون هذه الدولة باتت على شفا العودة إلى مرحلة ما قبل «الدولة الفوقية»، كمركز للفعل السياسي، على نحو ما حدث طيلة العقود الخمسة الماضية.
لقد قامت الدولة «القطرية» في العالم العربي على أساس تقطيع وتفتيت الفضاء الجيوسياسي والثقافي التاريخي للجماعة الكبرى الذي يستوعب تمايزاتها، كما أسست هذه الدولة ثقافة وطنية هشة وسلطة مستمدة من الولاء العصبوي الطائفي أو الجهوي، سرعان ما انكشفت مع الغزو الأميركي للعراق، أو ما يسميه برهان غليون «الخروج الكارثي للعالم العربي من الحقبة الوطنية»، ذلك الذي يرتبط بحتمية التجزئة العربية كشرط ضروري لبقاء الأنظمة الحاكمة على حالها.
قد لا يكون جديداً القول بأن الدولة العربية لم تنشأ كثمرة للوعي الاجتماعي – السياسي، ولم تخلق كمولود طبيعي ينعم بمقومات الاستمرارية والبقاء، بقدر ما كانت تعبيراً عن إرادة فردية، محلية أو أجنبية، رغبت في إيجاد كائن «مشوه» يمكن التحكم في حركته والسيطرة على رغباته. بيد أن أسوأ ما خلفته هذه الحال، انعدام التوازن لدى هذا الكائن كلما مر بها عارض، بما قد يهدد بقاءه من الجذور. وتصبح عمليات الترميم التي قد تجري له من خلال نثر أفكار وقيم الديموقراطية والليبرالية والحرية كما لو كانت عبثاً يزيد من مرضه وتشوهه وليس العكس.
وقد أثبت النموذج العراقي في حالته الراهنة، أن الديموقراطية وحدها ليست حلاً للعالم العربي، وأن شأفة التفكك الوطني يصعب استئصالها تحت عباءة الديموقراطية فقط. فالأمر يتجاوز التطبيقات السياسية للفكرة الديموقراطية، كي يصل إلي مفاصل الثقافة والتراث والفكر العربي بمستوييه الشعبي والنخبوي.
لقد أضر هذا النموذج بالفكرة الديموقراطية من جانبين، الأول أنه جعلها مرادفة للتفكك والانحلال المجتمعي، وبالتالي الدفع باتجاه عدم التفكير فيها كبديل سياسي. والثاني، تجذير السمة السلطوية للنظم العربية، وإعطاؤها مبررا في البقاء حتى لا يتكرر النموذج العراقي المأسوي في البلدان العربية الأخرى. وبات العالم العربي محاصراً بفرضية سلبية تتحكم في طرائق التفكير والممارسة تقوم على ثنائية إما التفكك أو الاستبداد، وكأنهما شرطان متلازمان.
فالاحتلال الأميركي للعراق وبقدر ما أنتج مجتمعاً «عراقيا» مفككاً على مختلف مستوياته السياسية والعرقية والدينية، فإنه أيضا فكك العديد من الروابط القومية والدينية على مستوي الشارع العربي، وخلق ارتدادات سياسية تندفع باتجاه الانتماءات الأولية ما بين طائفة وقبيلة وديانة. وهي حال لم تسلم منها دولة عربية، باستثناءات قليلة، فمن أقصى المشرق العربي من العراق وفلسطين ولبنان وسورية، إلي أقصى المغرب العربي، فضلاً عن القلب والجنوب، فإن ثمة شعوراً بالقُطرية والفئوية يسيطر على مخيّلة عدد كبير من الأحزاب والجماعات السياسية، يدعمها في ذلك حال الضعف والتيه التي تبدو عليه الدولة العربية.
وأزعم أنه لو تعرضت أية دولة عربية أخرى للاحتلال، فإن الضحية الأولى ستكون الرابطة الوطنية التي تجمع مكونات هذه الدولة، ولن يصمد أمامها تراث العيش المشترك. ذلك أن سياسات «الانتماء» التعسفي التي مارستها الدولة العربية تجاه مواطنيها، كأداة لضمان الولاء، سرعان ما ستتبدد تحت وطأة التوازنات الجديدة تحت الاحتلال.
ويزيد الأمر سوءاً ذلك التهافت الإعلامي الصارخ لتوظيف حال «السعار» الطائفي في مجتمعات، هي بطبيعتها غير ناضجة فكرياً، وتجري التعبئة فيها على أسس تتناقض كلياً مع مفهوم الدولة ذاته، بحيث يصعب لملمة الوضع الراهن بعد انتهاء موجة الاستقطاب وإعادته إلي شكله الطبيعي.
الآن يجري تقويض الدولة «العربية» كمصدر للفاعلية السياسية، تلك التي انتقلت بدورها إلى جماعات وطوائف ووحدات سياسية أخرى أقل ارتباطاً بالدولة «الأم». وما نزاعات العراق ولبنان والسودان والصومال وفلسطين سوى نموذج لهذا الارتداد، أو على الأقل عدم الاعتداد بالدولة كمقر للفعل السياسي - الاجتماعي.
ربما لم تسقط الدولة العربية من الناحية المادية، كبنية حكم ومؤسسات وسلطة، لكنها سقطت بالفعل من الناحية المعنوية والأخلاقية كفكرة ملهِمة للشعوب، وكمنبع للقيم وكمركز للولاء والقدرة على التعبئة والحشد. وتبدو ملامح هذا السقوط كما لو كانت تجسيداً للأمراض المزمنة التي عانت منها تلك الدولة منذ ولادتها قبل نصف قرن.
على رغم الهزات والتقلبات التي مرت بها الدولة العربية طيلة تاريخها المعاصر، إلا أنها تتعرض، منذ غزو العراق وحتى الآن، لأعتى موجة من موجات الاضطراب خلال العقدين الماضيين، ما قد ينجم عنه انكسار في بعض أجزائها، وربما انهيار بنيانها برمته.
ولا مبالغة في القول بأن غزو العراق واحتلاله جاءا وبالاً على هذه الدولة، ليس فقط لحال الانكشاف والتعري التي أصابتها، عطفاً على اختلال بنيتها السياسية واعتلال رابطتها العضوية فحسب، وإنما أيضا لكون هذه الدولة باتت على شفا العودة إلى مرحلة ما قبل «الدولة الفوقية»، كمركز للفعل السياسي، على نحو ما حدث طيلة العقود الخمسة الماضية.
لقد قامت الدولة «القطرية» في العالم العربي على أساس تقطيع وتفتيت الفضاء الجيوسياسي والثقافي التاريخي للجماعة الكبرى الذي يستوعب تمايزاتها، كما أسست هذه الدولة ثقافة وطنية هشة وسلطة مستمدة من الولاء العصبوي الطائفي أو الجهوي، سرعان ما انكشفت مع الغزو الأميركي للعراق، أو ما يسميه برهان غليون «الخروج الكارثي للعالم العربي من الحقبة الوطنية»، ذلك الذي يرتبط بحتمية التجزئة العربية كشرط ضروري لبقاء الأنظمة الحاكمة على حالها.
قد لا يكون جديداً القول بأن الدولة العربية لم تنشأ كثمرة للوعي الاجتماعي – السياسي، ولم تخلق كمولود طبيعي ينعم بمقومات الاستمرارية والبقاء، بقدر ما كانت تعبيراً عن إرادة فردية، محلية أو أجنبية، رغبت في إيجاد كائن «مشوه» يمكن التحكم في حركته والسيطرة على رغباته. بيد أن أسوأ ما خلفته هذه الحال، انعدام التوازن لدى هذا الكائن كلما مر بها عارض، بما قد يهدد بقاءه من الجذور. وتصبح عمليات الترميم التي قد تجري له من خلال نثر أفكار وقيم الديموقراطية والليبرالية والحرية كما لو كانت عبثاً يزيد من مرضه وتشوهه وليس العكس.
وقد أثبت النموذج العراقي في حالته الراهنة، أن الديموقراطية وحدها ليست حلاً للعالم العربي، وأن شأفة التفكك الوطني يصعب استئصالها تحت عباءة الديموقراطية فقط. فالأمر يتجاوز التطبيقات السياسية للفكرة الديموقراطية، كي يصل إلي مفاصل الثقافة والتراث والفكر العربي بمستوييه الشعبي والنخبوي.
لقد أضر هذا النموذج بالفكرة الديموقراطية من جانبين، الأول أنه جعلها مرادفة للتفكك والانحلال المجتمعي، وبالتالي الدفع باتجاه عدم التفكير فيها كبديل سياسي. والثاني، تجذير السمة السلطوية للنظم العربية، وإعطاؤها مبررا في البقاء حتى لا يتكرر النموذج العراقي المأسوي في البلدان العربية الأخرى. وبات العالم العربي محاصراً بفرضية سلبية تتحكم في طرائق التفكير والممارسة تقوم على ثنائية إما التفكك أو الاستبداد، وكأنهما شرطان متلازمان.
فالاحتلال الأميركي للعراق وبقدر ما أنتج مجتمعاً «عراقيا» مفككاً على مختلف مستوياته السياسية والعرقية والدينية، فإنه أيضا فكك العديد من الروابط القومية والدينية على مستوي الشارع العربي، وخلق ارتدادات سياسية تندفع باتجاه الانتماءات الأولية ما بين طائفة وقبيلة وديانة. وهي حال لم تسلم منها دولة عربية، باستثناءات قليلة، فمن أقصى المشرق العربي من العراق وفلسطين ولبنان وسورية، إلي أقصى المغرب العربي، فضلاً عن القلب والجنوب، فإن ثمة شعوراً بالقُطرية والفئوية يسيطر على مخيّلة عدد كبير من الأحزاب والجماعات السياسية، يدعمها في ذلك حال الضعف والتيه التي تبدو عليه الدولة العربية.
وأزعم أنه لو تعرضت أية دولة عربية أخرى للاحتلال، فإن الضحية الأولى ستكون الرابطة الوطنية التي تجمع مكونات هذه الدولة، ولن يصمد أمامها تراث العيش المشترك. ذلك أن سياسات «الانتماء» التعسفي التي مارستها الدولة العربية تجاه مواطنيها، كأداة لضمان الولاء، سرعان ما ستتبدد تحت وطأة التوازنات الجديدة تحت الاحتلال.
ويزيد الأمر سوءاً ذلك التهافت الإعلامي الصارخ لتوظيف حال «السعار» الطائفي في مجتمعات، هي بطبيعتها غير ناضجة فكرياً، وتجري التعبئة فيها على أسس تتناقض كلياً مع مفهوم الدولة ذاته، بحيث يصعب لملمة الوضع الراهن بعد انتهاء موجة الاستقطاب وإعادته إلي شكله الطبيعي.
الآن يجري تقويض الدولة «العربية» كمصدر للفاعلية السياسية، تلك التي انتقلت بدورها إلى جماعات وطوائف ووحدات سياسية أخرى أقل ارتباطاً بالدولة «الأم». وما نزاعات العراق ولبنان والسودان والصومال وفلسطين سوى نموذج لهذا الارتداد، أو على الأقل عدم الاعتداد بالدولة كمقر للفعل السياسي - الاجتماعي.
ربما لم تسقط الدولة العربية من الناحية المادية، كبنية حكم ومؤسسات وسلطة، لكنها سقطت بالفعل من الناحية المعنوية والأخلاقية كفكرة ملهِمة للشعوب، وكمنبع للقيم وكمركز للولاء والقدرة على التعبئة والحشد. وتبدو ملامح هذا السقوط كما لو كانت تجسيداً للأمراض المزمنة التي عانت منها تلك الدولة منذ ولادتها قبل نصف قرن.