زوربا
03-26-2007, 05:35 PM
إيمانويل ريشار، «ليبيراسيون» الفرنسية
في الرابع عشر من شباط الماضي، مرّ مؤسس سلسلة مقاهي «ستاربكس»، هاورد شولتز (53 سنة)، بأزمة وجودية حملته على تقويم تجربته في إدارة الأعمال، وعلى ملاحظة اضمحلال هوية مقاهيه بعد توسعها وانتشارها الكبير في العالم. فأصدر مذكرة داخلية دعا فيها عدداً من كبار المديرين الى تعديل سياسة سلسلة المقاهي، والعودة الى إرث «ستاربكس» وتقاليدها، والى بعث «تجربة ستاربكس الأصيلة». وأذهلت هذه المذكرة الصريحة وسائل الإعلام، وأثرت سلباً في بورصة «وول ستريت». فخسر سهم سلسلة المقاهي العملاقة، 8 في المئة من قيمته خلال عشرة أيام. وكانت عائدات هذه السلسلة بلغت ثمانية بلايين دولار في العام المنصرم. وترمي «ستاربكس» الى إنشاء 40 ألف مقهى، وعشرين ألفاً منها خارج الولايات المتحدة، في السنوات الخمس المقبلة.
والحق ان «ستاربكس» لا تبيع القهوة وحدها. فهي تسبغ على زبائنها مرتبة اجتماعية يرغبون في بلوغها، بحسب المؤرخ برييان سيمون. فـ «ستاربكس» كانت ثورة صغيرة في الاماكن التي لم تعرف مقاهي الزاوية من قبل. ففيما مضى درج رواد المقاهي في الولايات المتحدة على شرب ما يشبه «زوماً» (عصارة النبات أو الماء الذي يغسل به الثوب أو ينقع فيه الزبيب)، أو «عصير» البن المخفّف في كؤوس كبيرة. ومع انتشار «ستاربكس»، تغيرت ذائقة الاميركيين. فاكتشفوا طعم القهوة الثقيلة، واستساغوه، ونعموا بالراحة في «المكان الثالث»، أو مقهى «ستاربكس»، على ما يدعوه شولتز، أي في منزلة بين منزلتي البيت والمكتب.
ويرتاد هذا المكان 40 مليون مستهلك في العالم، ويشترون تذوّق نكهات القهوة في مكان دافئ وحميم، وهم يقرأون الصحف، أو يتسامرون مع أصحابهم، أو يستخدمون الكومبيوتر المحمول ويستفيدون من خدمة الانترنت. ومقاهي «ستاربكس» فسيحة ومريحة، وتلطّف جلساتها موسيقى الجاز الخفيفة. وفي الصيف، يسطو المراهقون على هذه المقاهي للتنعم بمكيفات الهواء البارد. وهي أماكن ممتعة لم يعهدها الأميركيون من قبل، ويشعرون فيها بالراحة. فشراء مشروب «ستاربكس» يكاد يكون نوعاً من العلاج.
وينادي الموظفون رواد المقهى كل باسمه. ويعرفون شرابه المفضّل وشلّة أصحابه. ويستطيع مرتاد «ستاربكس» البقاء ساعات طويلة متأمّلاً أو منكبّاً على الكتابة. وكان مؤسس «ستاربكس» مفتوناً بعملية صنع «الاسبريسّو» وطقوسها. فجعل سلسلة مقاهيه مسارح صغيرة تفوح فيها روائح «نكهات البن»، وتسودها الأجواء «الرومانسية» والضوء الخافت. ففي 1981، اكتشف شولتز، وهو ابن منطقة بروكلين الشعبية، سلسلة محال صغيرة في سياتل، تبيع حبوب البن، واسمها «ستاربكس» (تيمناً بإحدى شخصيات رواية «موبي ديك» للروائي هيرمان ملفيل). وكان مؤسسو هذه المتاجر ثلاثة مثقّفين شغوفين بالبن. وراقت هذه المتاجر لشولتز، وعمل فيها مديراً للتسويق. وسعى شولتز الى نقل تجربة المقهى الايطالي «الرومانسي» و «الأهلي» الى الولايات المتحدة. ولكن أصحاب متاجر «ستاربكس» عارضوا مشاريع التوسّع. فانصرف شولتز إلى إنشاء سلسلة خاصة به، وأطلق عليها اسم «إل جيورنالي». ثم اشترى ومجموعة من المستثمرين، بينهم بيل غايتس الأب، والد صاحب «مايكروسوفت»، سلسلة «ستاربكس» في 1987.
وفي أعقاب 20 سنة على إنشاء مقاهي «ستاربكس» الناجحة، اعتبر مؤسسها هاورد شولتز في مذكّرته الادارية الذائعة الصيت، أن مقاهي هذه السلسلة باتت أمكنة «معقّمة» لا طابع لها. فكأن «ستاربكس» فقدت روحها وهويتها. ففي الأعوام الماضية، اندثرت الطقوس الاحتفالية والحميمة بـ «ستاربكس». وأصبحت الخدمة سريعة في هذه المقاهي، وعمليات التحضير ممكننة، وغاب الجانب الفني اليدوي في إعداد القهوة، وضعفت جودة المشروبات. وبات المستهلكون بحسب دراسة حديثة، يفضلون قهوة ماكدونالدز.
والحق أن الابتذال يتهدد إرث «ستاربكس» وأصالتها ورونق هويتها. فقاعات الفنادق والمراكز التجارية والمطارات والمكتبات وأماكن العبادة حاكت طابع «ستاربكس» وجماليته محاكاة عشوائية. وجراء شيوع مقاهي «ستاربكس» ربما، يشرب نصف الراشدين الأميركيين القهوة يومياً. ومع تراجع خدمات «ستاربكس»، تكاثرت المقاهي الصغيرة، وهي تبلغ ستين في المئة من المقاهي بالولايات المتحدة، كالفطر، وقصرت نشاطها على بيع القهوة. وأما مقاهي «ستاربكس» فانصرفت إلى بيع التسجيلات الموسيقية والسندويتشات وماكينات القهوة والأفلام والمجلات والعصير والمشروبات الغازية. وتندد بعض الجمعيات بـ «ستاربكس»، وتتهمها باحتكار المقاهي وسحق المنافسين، وبإهمال توفير الخدمات الاجتماعية لموظفيها البالغ عددهم 15 ألف موظف.
ويعتبر معادو العولمة «ستاربكس» أو «حورية سياتل» وحشاً أسود ينهش المجتمعات، ويملي عليها مفهوماً خاصاً عن المقهى.
وعلى خلاف ما يشتهي رئيس «ستاربكس»، يرفض المسؤولون عن تطوير «ستاربكس» العودة إلى صنع «الاسبريسو» يدوياً. فـ «المستهلكون يريدون قهوتهم في أقل من ثلاث دقائق»، خــصوصــاً أن من واجــب الشركة الأميركية «إعطاء زبائنها ما يريدون، متى وأينـما أرادوه».
إيمانويل ريشار، «ليبيراسيون» الفرنسية، 14/03/2007
في الرابع عشر من شباط الماضي، مرّ مؤسس سلسلة مقاهي «ستاربكس»، هاورد شولتز (53 سنة)، بأزمة وجودية حملته على تقويم تجربته في إدارة الأعمال، وعلى ملاحظة اضمحلال هوية مقاهيه بعد توسعها وانتشارها الكبير في العالم. فأصدر مذكرة داخلية دعا فيها عدداً من كبار المديرين الى تعديل سياسة سلسلة المقاهي، والعودة الى إرث «ستاربكس» وتقاليدها، والى بعث «تجربة ستاربكس الأصيلة». وأذهلت هذه المذكرة الصريحة وسائل الإعلام، وأثرت سلباً في بورصة «وول ستريت». فخسر سهم سلسلة المقاهي العملاقة، 8 في المئة من قيمته خلال عشرة أيام. وكانت عائدات هذه السلسلة بلغت ثمانية بلايين دولار في العام المنصرم. وترمي «ستاربكس» الى إنشاء 40 ألف مقهى، وعشرين ألفاً منها خارج الولايات المتحدة، في السنوات الخمس المقبلة.
والحق ان «ستاربكس» لا تبيع القهوة وحدها. فهي تسبغ على زبائنها مرتبة اجتماعية يرغبون في بلوغها، بحسب المؤرخ برييان سيمون. فـ «ستاربكس» كانت ثورة صغيرة في الاماكن التي لم تعرف مقاهي الزاوية من قبل. ففيما مضى درج رواد المقاهي في الولايات المتحدة على شرب ما يشبه «زوماً» (عصارة النبات أو الماء الذي يغسل به الثوب أو ينقع فيه الزبيب)، أو «عصير» البن المخفّف في كؤوس كبيرة. ومع انتشار «ستاربكس»، تغيرت ذائقة الاميركيين. فاكتشفوا طعم القهوة الثقيلة، واستساغوه، ونعموا بالراحة في «المكان الثالث»، أو مقهى «ستاربكس»، على ما يدعوه شولتز، أي في منزلة بين منزلتي البيت والمكتب.
ويرتاد هذا المكان 40 مليون مستهلك في العالم، ويشترون تذوّق نكهات القهوة في مكان دافئ وحميم، وهم يقرأون الصحف، أو يتسامرون مع أصحابهم، أو يستخدمون الكومبيوتر المحمول ويستفيدون من خدمة الانترنت. ومقاهي «ستاربكس» فسيحة ومريحة، وتلطّف جلساتها موسيقى الجاز الخفيفة. وفي الصيف، يسطو المراهقون على هذه المقاهي للتنعم بمكيفات الهواء البارد. وهي أماكن ممتعة لم يعهدها الأميركيون من قبل، ويشعرون فيها بالراحة. فشراء مشروب «ستاربكس» يكاد يكون نوعاً من العلاج.
وينادي الموظفون رواد المقهى كل باسمه. ويعرفون شرابه المفضّل وشلّة أصحابه. ويستطيع مرتاد «ستاربكس» البقاء ساعات طويلة متأمّلاً أو منكبّاً على الكتابة. وكان مؤسس «ستاربكس» مفتوناً بعملية صنع «الاسبريسّو» وطقوسها. فجعل سلسلة مقاهيه مسارح صغيرة تفوح فيها روائح «نكهات البن»، وتسودها الأجواء «الرومانسية» والضوء الخافت. ففي 1981، اكتشف شولتز، وهو ابن منطقة بروكلين الشعبية، سلسلة محال صغيرة في سياتل، تبيع حبوب البن، واسمها «ستاربكس» (تيمناً بإحدى شخصيات رواية «موبي ديك» للروائي هيرمان ملفيل). وكان مؤسسو هذه المتاجر ثلاثة مثقّفين شغوفين بالبن. وراقت هذه المتاجر لشولتز، وعمل فيها مديراً للتسويق. وسعى شولتز الى نقل تجربة المقهى الايطالي «الرومانسي» و «الأهلي» الى الولايات المتحدة. ولكن أصحاب متاجر «ستاربكس» عارضوا مشاريع التوسّع. فانصرف شولتز إلى إنشاء سلسلة خاصة به، وأطلق عليها اسم «إل جيورنالي». ثم اشترى ومجموعة من المستثمرين، بينهم بيل غايتس الأب، والد صاحب «مايكروسوفت»، سلسلة «ستاربكس» في 1987.
وفي أعقاب 20 سنة على إنشاء مقاهي «ستاربكس» الناجحة، اعتبر مؤسسها هاورد شولتز في مذكّرته الادارية الذائعة الصيت، أن مقاهي هذه السلسلة باتت أمكنة «معقّمة» لا طابع لها. فكأن «ستاربكس» فقدت روحها وهويتها. ففي الأعوام الماضية، اندثرت الطقوس الاحتفالية والحميمة بـ «ستاربكس». وأصبحت الخدمة سريعة في هذه المقاهي، وعمليات التحضير ممكننة، وغاب الجانب الفني اليدوي في إعداد القهوة، وضعفت جودة المشروبات. وبات المستهلكون بحسب دراسة حديثة، يفضلون قهوة ماكدونالدز.
والحق أن الابتذال يتهدد إرث «ستاربكس» وأصالتها ورونق هويتها. فقاعات الفنادق والمراكز التجارية والمطارات والمكتبات وأماكن العبادة حاكت طابع «ستاربكس» وجماليته محاكاة عشوائية. وجراء شيوع مقاهي «ستاربكس» ربما، يشرب نصف الراشدين الأميركيين القهوة يومياً. ومع تراجع خدمات «ستاربكس»، تكاثرت المقاهي الصغيرة، وهي تبلغ ستين في المئة من المقاهي بالولايات المتحدة، كالفطر، وقصرت نشاطها على بيع القهوة. وأما مقاهي «ستاربكس» فانصرفت إلى بيع التسجيلات الموسيقية والسندويتشات وماكينات القهوة والأفلام والمجلات والعصير والمشروبات الغازية. وتندد بعض الجمعيات بـ «ستاربكس»، وتتهمها باحتكار المقاهي وسحق المنافسين، وبإهمال توفير الخدمات الاجتماعية لموظفيها البالغ عددهم 15 ألف موظف.
ويعتبر معادو العولمة «ستاربكس» أو «حورية سياتل» وحشاً أسود ينهش المجتمعات، ويملي عليها مفهوماً خاصاً عن المقهى.
وعلى خلاف ما يشتهي رئيس «ستاربكس»، يرفض المسؤولون عن تطوير «ستاربكس» العودة إلى صنع «الاسبريسو» يدوياً. فـ «المستهلكون يريدون قهوتهم في أقل من ثلاث دقائق»، خــصوصــاً أن من واجــب الشركة الأميركية «إعطاء زبائنها ما يريدون، متى وأينـما أرادوه».
إيمانويل ريشار، «ليبيراسيون» الفرنسية، 14/03/2007