مجاهدون
03-23-2007, 02:39 PM
«الشرق الأوسط» في دوار السكويلة بالدار البيضاء: لماذا لا يأتي الصحافيون والمسؤولون لتفقد أحوالنا إلا بعد وقوع انفجار؟ انتشلونا من هذا المستنقع
الدار البيضاء: نبيل دريوش
ظن الكثير من المغاربة أن الأحداث الأليمة لليلة 16 مايو (أيار) 2003 السوداء بالدار البيضاء، كانت مجرد قوسين داميين فتحهما شبان رضعوا من ثدي التطرف الديني، وخلفا الكثير من الألم والدموع والدهشة، وسيول من الاتهامات التي جرفت في طريقها سكان «دوار السكويلة» الهامشي بالدار البيضاء، الذي خرج منه الانتحاريون، قبل أن يغلق القوسان إلى الأبد، لكن الانتحاري عبد الفتاح الرايضي، حاول مرة أخرى فتح القوسين ليلة 11 مارس (آذار) الماضي، وعندما وجد نفسه محاصرا داخل نادي الانترنت بحي سيدي مومن، فجر جسده، تاركا خلفه إخوة صغارا وزوجة وابنا لم يتجاوز عمره شهرين، فعادت غربان الخوف لتحلق بجناحيها الأسودين فوق أكواخ دوار السكويلة (تعني المدرسة باللغة الإسبانية) الذي أصيب قاطنوه مرة أخرى بمغص شديد في الفهم.
تشبه أكواخ دوار السكويلة الأحياء السكنية في قندهار أو كابول، فلا شيء يعلو على زوابع الغبار، وروائح مجاري الواد الحار، التي تجري بين الأكواخ، والتي يتحلق حولها أطفال بثياب رثة ومتسخة يلعبون في فترة الاستراحة الفاصلة بين رحيل دورية شرطة ومجيء أخرى للتحقيق مع المتورطين في تفجير 11 مارس (آذار) بالدار البيضاء، أما النساء فإنهن منشغلات بالثرثرة عن مواضيع الإرهاب أو مواساة بعضهن أثناء تعليق الغسيل على حبال واطئة مرفوعة بأعمدة من خشب حتى تكون عرضة لأشعة الشمس.
وبقرب عربات تجرها الحمير والبغال يظهر منظر شبان يائسين يدخنون سجائر رديئة، ويستمعون إلى أغاني «الراي» المفضلة عند غالبيتهم وبجانبهم يمر شاب آخر بقميص أفغاني مسرع الخطى حتى لا يفوته موعد الصلاة في مسجد لا تتجاوز صومعته مترا ونصف المتر أو مترين، فأغاني الشاب حسني والشاب بلال تختلط مع تلاوة سور القرآن الكريم، مثلما يتعايش عشاق حبوب الهلوسة والحالمون بالشهادة، وكأنهم جنود في معسكرين متناقضين يقضون أيامهم داخل رقعة جغرافية واحدة نخرها البؤس والفقر وطواها النسيان. إنه الفضاء الذي خرج منه الانتحاري عبد الفتاح الرايضي ليلة 11 مارس الحالي إلى مقهى الانترنت، منتظرا تلقي التعليمات لتحديد الموقع الذي سيفجر فيه نفسه، حتى يسبح في أنهار الجنة الرقراقة عوض أنهار الواد الحار التي قضى حياته يقفز فوقها.
كان المهدي، الذي لم يتجاوز عمره ست سنوات، يلعب في بركة ماء صغيرة بقرب مجرى الواد الحار، حين نطق بعبارات قليلة منها أن أخاه عبد الفتاح فجر نفسه قبل أيام، قادنا إلى زقاق صغير، حيث يوجد كوخ أشبه بكهف اسمنتي تنبعث منه أصوات تلاوة القرآن الكريم. يقف المهدي عند باب خشبي مهترئ مغطى بستارة متسخة، ويتمتم بصوت متهدج «أمي غير موجودة، لقد ذهبت إلى السوق من أجل بيع الملابس»، يطأطأ أخوه عثمان رأسه الأصلع، محاولا طرد الأطفال الذين يتقاطرون على باب المنزل بمجرد رؤيتهم لأحد الغرباء بقربه، وبعد لحظات قليلة تأتي رشيدة مندر والدة الانتحاري عبد الفتاح الرايضي، تدلف بسرعة إلى داخل المنزل، تطفئ آلة التسجيل نابسة «لا يصح أن نتكلم والقرآن الكريم يتلى»، ثم تضيف بصوت واهن «انتظر حتى أعدل من ثوبي»، تحرص على ألا يظهر غير جزء من عينيها، وتقول «كان عبد الفتاح يقطن وحده، منذ تزوج قبل سنة، يزورني بين الفينة والأخرى بعد خروجه من السجن»، تصمت قليلا لطرد المهدي من أمامها قائلة «ابتعد يجب ألا تظهر صورتك في الصحافة، إن الصغار لا يعرفون شيئا»، تعود لسرد قصة ابنها عبد الفتاح «لقد ألقي عليه القبض بعد هجمات الدار البيضاء، ولم ألحظ عليه أي تغيير بعد خروجه من السجن بعد صدور عفو ملكي في حقه عام 2005، بل ظلت تصرفاته عادية، كان يشكو من آلام في المعدة فقط وكثيرا ما يتقيأ». تعدل المرأة ثوبها مرة أخرى في حرص شديد وتدفع الطفلين بيدها مرة أخرى، ثم تسترسل قائلة «لم أر عبد الفتاح تلك الليلة، لم يأت لوداعي، كما أنني لم أعلم بالتفجيرات إلا عبر وسائل الإعلام، ولم أذهب إلى نادي الانترنت لرؤية أشلائه».
كانت والدة الانتحاري الرايضي تتكلم بلهجة بدوية واضحة، وحذر، بعدما تعرضت لاستنطاق رجال الأمن عدة مرات، مؤكدة بصرامة «ارتدائي الخمار قناعة شخصية، لم يكن لعبد الفتاح دخل فيها، وقد ارتديت الخمار بعد دخوله السجن، كما أنني أصلي منذ مدة طويلة»، تتنهد بعمق «اخوته الصغار يبكون منذ الصباح على وفاة أخيهم، رغم أنه غادر البيت، حيث كان يسكن معنا، منذ سبعة أشهر، أنا لم أكن أظن يوما أن ابني سيفجر نفسه في مقهى الانترنت». يصمت المهدي ويمط شفته السفلى، متأثرا عندما يسأل عن أخيه عبد الفتاح، وبقربه كان يتحلق عدة أطفال بثياب رثة، يتجمعون بطريقة تلقائية بمجرد أن يسمعوا بمجيء صحافي إلى دوار السكويلة، يقدمون خدمات ارشادية مجانا شرط تبليغ صوتهم إلى العالم الواقع فيما وراء أكواخ الصفيح وقنوات الوادي الحار، إنه ذاك العالم الأنيق، الذي لم يكتب لهم رؤية النور داخل حدوده.
يبدو ياسين آيت عبو، الذي لم يتجاوز ربيعه الثاني عشر، أكثر الأطفال جرأة، ويقول بتحفز «صرنا نخاف أكثر بعد تقاطر الصحافيين والشرطة على الحي الذي نقطنه، يأتي إلينا رجال الأمن لإلقاء القبض على أبناء الجيران، الجميع صار ينعتنا في المدرسة بالإرهابيين»، ويتلقف صديقه المهدي الكلمة «يصفوننا بالمتسخين وينعتون أمهاتنا بالخادمات»، وقبل أن يكمل الأطفال اعترفاتهم العفوية، أشار أحدهم بأصبعه إلى رجل ذي بشرة سمراء يرتدي سترة سوداء متسخة، يتدلى من تحتها قميص أزرق، ويجر حذاء معفرا بالغبار، وصاح الطفل فجأة «إنه نعينيعة».
فعلا، إنه «نعينيعة»،(كلمة تعني بائع النعناع)، الذي ظهرت صورته في الصحف ذلك الصباح أو محمد الخودري، والد الانتحاري المفترض يوسف الخودري، 17عاما، الذي لم يفجر نفسه، كان خارجا لتوه من المنزل يتأبط ألمه، ويمسح دموعه متمتما «أخشى أن أصاب بالجنون، كان ابني يوسف يساعدني في بيع النعناع، وطلبت منه قبل أسبوعين أن يتعلم صنعة تنفعه في مستقبله، تشاجرنا، ثم حمل حقيبته وغادر المنزل، ولم أعرف عنه أي شيء، لأننا كنا نظنه سيعود، وعبد الفتاح الذي فجر نفسه ليس صديقا له، لأننا لم يسبق لنا مشاهدتهما معا».
داخل منزل الخودري كانت النسوة يجلسن فوق حصير بلاستيكي تتوسطه مائدة خشبية، جئن لمواساة أمه المكلومة، التي ما زالت لا تعرف الأسباب التي دفعت ابنها إلى الوجود في مقهى الانترنت تلك الليلة متمنطقا بحزام ناسف، وداخل المنزل يواصل والده الحديث «لقد خطف مني ابني، ولا أدري كيف حدث ذلك، فهو لم يكن ملتزما دينيا، أنا الذي دفعته إلى الصلاة»، تتدخل والدته «نحن نحث أبناءنا على الصلاة العادية، حتى يبتعدوا عن المخدرات، ونحن أناس طيبون نرفض الإرهاب، ونقطن في هذا الحي منذ سنوات طويلة». وفي تلك اللحظة، دخل محمد الخودري، جد يوسف، الذي أطل من خلف ستار الباب وشرع في الحديث تلقائيا «جئت من منطقة بني مسكين (وسط المغرب) منذ 29 عاما، وعاش معي أبنائي طيلة هذه المدة من دون أن تشير إلينا الأصابع، كما أننا لم نسمع بهذه الأشياء قط، فنحن عائلة معروف عنها متاجرتها في بيع النعناع منذ سنوات طويلة». يدخل الرجل المسن ذو اللحية البيضاء الكثة، ويده في جيب سترته، ثم يردف «نحن عائلة مشرفة»، أخرج وثيقة تحمل خطين بالأحمر والأخضر، مضيفا «نستدعى إلى جميع المناسبات الوطنية، لو كنا إرهابيين لما شرفتنا الدولة بدعوتي يوم افتتاح مسجد الحسن الثاني بالدارالبيضاء، ويوسف ابننا، وهو ولد طيب لا علاقة له بالإرهاب».
يصر عبد الواحد خودري، ابن عم الانتحاري يوسف، على الحديث بدوره، لأن له رسالة يريد أن يبلغها نيابة عن سكان دوار السكويلة وابن عمه الذي لم يفجر نفسه قائلا «إننا شباب مغربي يعيش في بيئة لا تتوفر فيها أدنى شروط الكرامة الإنسانية، فالمسؤولون في الشركات يرفضون توظيفنا بمجرد أن يقرأوا العنوان الموجود على بطاقة الهوية، لقد صار الجميع يخشانا حتى أصحاب سيارات الأجرة»، مضيفا «نشعر بالغيرة عندما نرى أبناء الأحياء الأخرى يرتدون ملابس غالية الثمن، ويقودون السيارات، بينما نحرم نحن من حقنا في العمل، إن بعضنا ينتحر تدريجيا عبر تعاطي المخدرات التي تنتشر في كل أرجاء هذا الحي»، مسترسلا بحنق ظاهر «لا يأتي الصحافيون والمسؤولون الأمنيون إلى حينا إلا بعد وقوع انفجار، عليهم تفقد أحوالنا بين الفينة والأخرى، وانتشالنا من هذا المستنقع الذي أصبح محط شبهات الجميع».
ويقول عبد الواحد، الذي كان يرتدي بدلة رياضية تحمل شارة نادي برشلونة الإسباني، «لقد كان يوسف يتعاطى المخدرات، أبوه هو الذي دفعه إلى الصلاة من أجل الابتعاد عن المخدرات، أنا أعرف يوسف جيدا، إنه يحب موسيقى «الراي»، ويعشق أغاني الشاب حسني وبلال، ولديه عشرات الأشرطة وكان مولعا بمشاهدة مباريات كرة القدم، لكنه تغير خلال الأسبوعين الذين اختفى فيهما فقط».
وعندما كنا بصدد مغادرة منزل عائلة الخودري، رفع والد يوسف رأسه إلى السماء قائلا «الله مطلع على كل شيء، ابنك إذا تجاوز عتبة البيت لن تجده هذه الأيام، لأنه يضيع في زحمة الدار البيضاء».
«إذا لم تفتح لنا الباب، فإنك سترى ما لا يعجبك»، بهذه العبارة خاطب الانتحاري الرايضي، محمد فايز صاحب مقهى الانترنت بعد أن ظل يستعطفه مدة، قبل أن يفجر نفسه وتتناثر أشلاؤه ومعها أشياء كثيرة. وفي حي سيدي مؤمن، بدا مقهى الانترنت بعد أيام من التفجير مدمرا عن آخره، منزوع الباب ومغطى بغطاء بلاستيكي أزرق، كما أن النوافذ الخشبية للمنزل، بدت مقتلعة من مكانها بحكم قوة الانفجار. وألف أبناء الحي منظر الصحافيين منذ الانفجار، لذلك فإنهم يقتربون للسؤال عن اسم المنبر الإعلامي، ثم ينصرفون في صمت، وفي مقهى مجاور للمنزل وقف شرطيان بزي مدني يراقبان الوضع عن كثب، ويتحركان بمجرد ملاحظة حركة غريبة لمعرفة هوية الزائر قبل التأكيد بنبرة حازمة أن جميع أفراد أسرة محمد الفايز، صاحب مقهى الانترنت ذهبوا لزيارة ابنهم في المستشفى، بينما يؤكد أحد الجيران أن أفراد العائلة ذهبوا عند أهلهم حتى تهدأ العاصفة.
وفي داخل مستشفى محمد الخامس، كان يرقد ضحايا التفجير بينهم محمد فايز، صاحب مقهى الانترنت، الذي رفض الحديث إلى وسائل الإعلام مكتفيا بالصمت ووضع نظرات سوداء على وجهه. كان ينام فوق سرير طبي، هادئا داخل غرفة يحرسها شرطي شاب، وبجانبه يرقد محمد كريمي المصاب بحروق في وجهه، والذي وافق فقط على أن تلتقط له صور مع رسالة التهنئة التي بعث بها إليه العاهل المغربي الملك محمد السادس. ويبرر أحد أفراد الشرطة صمت صاحب مقهى الانترنت، بكون حديثه ليس في صالح التحقيقات الجارية، بحكم أن تسرب أية معطيات قد يضر بسير التحقيقات.
لم يكن أحد يتوقع أن الرايضي الصموت سيكون وراء حدث 11 مارس، الذي مكن تنظيم القاعدة من تخليد الذكرى الثالثة لتفجيرات مدريد، وجعل المغاربة يتحركون في كل الاتجاهات، والمثير أن الانتحاري الرايضي لم يفكر ولو لثانية واحدة في أنه ترك ابنا صغيرا لا يتعدى عمره شهرين. ربما سيطرح السؤال على نفسه: لماذا فجر والدي جسده تلك الليلة، وتركني وحيدا في هذا العالم؟
http://www.aawsat.com/details.asp?section=45&article=411749&issue=10342
الدار البيضاء: نبيل دريوش
ظن الكثير من المغاربة أن الأحداث الأليمة لليلة 16 مايو (أيار) 2003 السوداء بالدار البيضاء، كانت مجرد قوسين داميين فتحهما شبان رضعوا من ثدي التطرف الديني، وخلفا الكثير من الألم والدموع والدهشة، وسيول من الاتهامات التي جرفت في طريقها سكان «دوار السكويلة» الهامشي بالدار البيضاء، الذي خرج منه الانتحاريون، قبل أن يغلق القوسان إلى الأبد، لكن الانتحاري عبد الفتاح الرايضي، حاول مرة أخرى فتح القوسين ليلة 11 مارس (آذار) الماضي، وعندما وجد نفسه محاصرا داخل نادي الانترنت بحي سيدي مومن، فجر جسده، تاركا خلفه إخوة صغارا وزوجة وابنا لم يتجاوز عمره شهرين، فعادت غربان الخوف لتحلق بجناحيها الأسودين فوق أكواخ دوار السكويلة (تعني المدرسة باللغة الإسبانية) الذي أصيب قاطنوه مرة أخرى بمغص شديد في الفهم.
تشبه أكواخ دوار السكويلة الأحياء السكنية في قندهار أو كابول، فلا شيء يعلو على زوابع الغبار، وروائح مجاري الواد الحار، التي تجري بين الأكواخ، والتي يتحلق حولها أطفال بثياب رثة ومتسخة يلعبون في فترة الاستراحة الفاصلة بين رحيل دورية شرطة ومجيء أخرى للتحقيق مع المتورطين في تفجير 11 مارس (آذار) بالدار البيضاء، أما النساء فإنهن منشغلات بالثرثرة عن مواضيع الإرهاب أو مواساة بعضهن أثناء تعليق الغسيل على حبال واطئة مرفوعة بأعمدة من خشب حتى تكون عرضة لأشعة الشمس.
وبقرب عربات تجرها الحمير والبغال يظهر منظر شبان يائسين يدخنون سجائر رديئة، ويستمعون إلى أغاني «الراي» المفضلة عند غالبيتهم وبجانبهم يمر شاب آخر بقميص أفغاني مسرع الخطى حتى لا يفوته موعد الصلاة في مسجد لا تتجاوز صومعته مترا ونصف المتر أو مترين، فأغاني الشاب حسني والشاب بلال تختلط مع تلاوة سور القرآن الكريم، مثلما يتعايش عشاق حبوب الهلوسة والحالمون بالشهادة، وكأنهم جنود في معسكرين متناقضين يقضون أيامهم داخل رقعة جغرافية واحدة نخرها البؤس والفقر وطواها النسيان. إنه الفضاء الذي خرج منه الانتحاري عبد الفتاح الرايضي ليلة 11 مارس الحالي إلى مقهى الانترنت، منتظرا تلقي التعليمات لتحديد الموقع الذي سيفجر فيه نفسه، حتى يسبح في أنهار الجنة الرقراقة عوض أنهار الواد الحار التي قضى حياته يقفز فوقها.
كان المهدي، الذي لم يتجاوز عمره ست سنوات، يلعب في بركة ماء صغيرة بقرب مجرى الواد الحار، حين نطق بعبارات قليلة منها أن أخاه عبد الفتاح فجر نفسه قبل أيام، قادنا إلى زقاق صغير، حيث يوجد كوخ أشبه بكهف اسمنتي تنبعث منه أصوات تلاوة القرآن الكريم. يقف المهدي عند باب خشبي مهترئ مغطى بستارة متسخة، ويتمتم بصوت متهدج «أمي غير موجودة، لقد ذهبت إلى السوق من أجل بيع الملابس»، يطأطأ أخوه عثمان رأسه الأصلع، محاولا طرد الأطفال الذين يتقاطرون على باب المنزل بمجرد رؤيتهم لأحد الغرباء بقربه، وبعد لحظات قليلة تأتي رشيدة مندر والدة الانتحاري عبد الفتاح الرايضي، تدلف بسرعة إلى داخل المنزل، تطفئ آلة التسجيل نابسة «لا يصح أن نتكلم والقرآن الكريم يتلى»، ثم تضيف بصوت واهن «انتظر حتى أعدل من ثوبي»، تحرص على ألا يظهر غير جزء من عينيها، وتقول «كان عبد الفتاح يقطن وحده، منذ تزوج قبل سنة، يزورني بين الفينة والأخرى بعد خروجه من السجن»، تصمت قليلا لطرد المهدي من أمامها قائلة «ابتعد يجب ألا تظهر صورتك في الصحافة، إن الصغار لا يعرفون شيئا»، تعود لسرد قصة ابنها عبد الفتاح «لقد ألقي عليه القبض بعد هجمات الدار البيضاء، ولم ألحظ عليه أي تغيير بعد خروجه من السجن بعد صدور عفو ملكي في حقه عام 2005، بل ظلت تصرفاته عادية، كان يشكو من آلام في المعدة فقط وكثيرا ما يتقيأ». تعدل المرأة ثوبها مرة أخرى في حرص شديد وتدفع الطفلين بيدها مرة أخرى، ثم تسترسل قائلة «لم أر عبد الفتاح تلك الليلة، لم يأت لوداعي، كما أنني لم أعلم بالتفجيرات إلا عبر وسائل الإعلام، ولم أذهب إلى نادي الانترنت لرؤية أشلائه».
كانت والدة الانتحاري الرايضي تتكلم بلهجة بدوية واضحة، وحذر، بعدما تعرضت لاستنطاق رجال الأمن عدة مرات، مؤكدة بصرامة «ارتدائي الخمار قناعة شخصية، لم يكن لعبد الفتاح دخل فيها، وقد ارتديت الخمار بعد دخوله السجن، كما أنني أصلي منذ مدة طويلة»، تتنهد بعمق «اخوته الصغار يبكون منذ الصباح على وفاة أخيهم، رغم أنه غادر البيت، حيث كان يسكن معنا، منذ سبعة أشهر، أنا لم أكن أظن يوما أن ابني سيفجر نفسه في مقهى الانترنت». يصمت المهدي ويمط شفته السفلى، متأثرا عندما يسأل عن أخيه عبد الفتاح، وبقربه كان يتحلق عدة أطفال بثياب رثة، يتجمعون بطريقة تلقائية بمجرد أن يسمعوا بمجيء صحافي إلى دوار السكويلة، يقدمون خدمات ارشادية مجانا شرط تبليغ صوتهم إلى العالم الواقع فيما وراء أكواخ الصفيح وقنوات الوادي الحار، إنه ذاك العالم الأنيق، الذي لم يكتب لهم رؤية النور داخل حدوده.
يبدو ياسين آيت عبو، الذي لم يتجاوز ربيعه الثاني عشر، أكثر الأطفال جرأة، ويقول بتحفز «صرنا نخاف أكثر بعد تقاطر الصحافيين والشرطة على الحي الذي نقطنه، يأتي إلينا رجال الأمن لإلقاء القبض على أبناء الجيران، الجميع صار ينعتنا في المدرسة بالإرهابيين»، ويتلقف صديقه المهدي الكلمة «يصفوننا بالمتسخين وينعتون أمهاتنا بالخادمات»، وقبل أن يكمل الأطفال اعترفاتهم العفوية، أشار أحدهم بأصبعه إلى رجل ذي بشرة سمراء يرتدي سترة سوداء متسخة، يتدلى من تحتها قميص أزرق، ويجر حذاء معفرا بالغبار، وصاح الطفل فجأة «إنه نعينيعة».
فعلا، إنه «نعينيعة»،(كلمة تعني بائع النعناع)، الذي ظهرت صورته في الصحف ذلك الصباح أو محمد الخودري، والد الانتحاري المفترض يوسف الخودري، 17عاما، الذي لم يفجر نفسه، كان خارجا لتوه من المنزل يتأبط ألمه، ويمسح دموعه متمتما «أخشى أن أصاب بالجنون، كان ابني يوسف يساعدني في بيع النعناع، وطلبت منه قبل أسبوعين أن يتعلم صنعة تنفعه في مستقبله، تشاجرنا، ثم حمل حقيبته وغادر المنزل، ولم أعرف عنه أي شيء، لأننا كنا نظنه سيعود، وعبد الفتاح الذي فجر نفسه ليس صديقا له، لأننا لم يسبق لنا مشاهدتهما معا».
داخل منزل الخودري كانت النسوة يجلسن فوق حصير بلاستيكي تتوسطه مائدة خشبية، جئن لمواساة أمه المكلومة، التي ما زالت لا تعرف الأسباب التي دفعت ابنها إلى الوجود في مقهى الانترنت تلك الليلة متمنطقا بحزام ناسف، وداخل المنزل يواصل والده الحديث «لقد خطف مني ابني، ولا أدري كيف حدث ذلك، فهو لم يكن ملتزما دينيا، أنا الذي دفعته إلى الصلاة»، تتدخل والدته «نحن نحث أبناءنا على الصلاة العادية، حتى يبتعدوا عن المخدرات، ونحن أناس طيبون نرفض الإرهاب، ونقطن في هذا الحي منذ سنوات طويلة». وفي تلك اللحظة، دخل محمد الخودري، جد يوسف، الذي أطل من خلف ستار الباب وشرع في الحديث تلقائيا «جئت من منطقة بني مسكين (وسط المغرب) منذ 29 عاما، وعاش معي أبنائي طيلة هذه المدة من دون أن تشير إلينا الأصابع، كما أننا لم نسمع بهذه الأشياء قط، فنحن عائلة معروف عنها متاجرتها في بيع النعناع منذ سنوات طويلة». يدخل الرجل المسن ذو اللحية البيضاء الكثة، ويده في جيب سترته، ثم يردف «نحن عائلة مشرفة»، أخرج وثيقة تحمل خطين بالأحمر والأخضر، مضيفا «نستدعى إلى جميع المناسبات الوطنية، لو كنا إرهابيين لما شرفتنا الدولة بدعوتي يوم افتتاح مسجد الحسن الثاني بالدارالبيضاء، ويوسف ابننا، وهو ولد طيب لا علاقة له بالإرهاب».
يصر عبد الواحد خودري، ابن عم الانتحاري يوسف، على الحديث بدوره، لأن له رسالة يريد أن يبلغها نيابة عن سكان دوار السكويلة وابن عمه الذي لم يفجر نفسه قائلا «إننا شباب مغربي يعيش في بيئة لا تتوفر فيها أدنى شروط الكرامة الإنسانية، فالمسؤولون في الشركات يرفضون توظيفنا بمجرد أن يقرأوا العنوان الموجود على بطاقة الهوية، لقد صار الجميع يخشانا حتى أصحاب سيارات الأجرة»، مضيفا «نشعر بالغيرة عندما نرى أبناء الأحياء الأخرى يرتدون ملابس غالية الثمن، ويقودون السيارات، بينما نحرم نحن من حقنا في العمل، إن بعضنا ينتحر تدريجيا عبر تعاطي المخدرات التي تنتشر في كل أرجاء هذا الحي»، مسترسلا بحنق ظاهر «لا يأتي الصحافيون والمسؤولون الأمنيون إلى حينا إلا بعد وقوع انفجار، عليهم تفقد أحوالنا بين الفينة والأخرى، وانتشالنا من هذا المستنقع الذي أصبح محط شبهات الجميع».
ويقول عبد الواحد، الذي كان يرتدي بدلة رياضية تحمل شارة نادي برشلونة الإسباني، «لقد كان يوسف يتعاطى المخدرات، أبوه هو الذي دفعه إلى الصلاة من أجل الابتعاد عن المخدرات، أنا أعرف يوسف جيدا، إنه يحب موسيقى «الراي»، ويعشق أغاني الشاب حسني وبلال، ولديه عشرات الأشرطة وكان مولعا بمشاهدة مباريات كرة القدم، لكنه تغير خلال الأسبوعين الذين اختفى فيهما فقط».
وعندما كنا بصدد مغادرة منزل عائلة الخودري، رفع والد يوسف رأسه إلى السماء قائلا «الله مطلع على كل شيء، ابنك إذا تجاوز عتبة البيت لن تجده هذه الأيام، لأنه يضيع في زحمة الدار البيضاء».
«إذا لم تفتح لنا الباب، فإنك سترى ما لا يعجبك»، بهذه العبارة خاطب الانتحاري الرايضي، محمد فايز صاحب مقهى الانترنت بعد أن ظل يستعطفه مدة، قبل أن يفجر نفسه وتتناثر أشلاؤه ومعها أشياء كثيرة. وفي حي سيدي مؤمن، بدا مقهى الانترنت بعد أيام من التفجير مدمرا عن آخره، منزوع الباب ومغطى بغطاء بلاستيكي أزرق، كما أن النوافذ الخشبية للمنزل، بدت مقتلعة من مكانها بحكم قوة الانفجار. وألف أبناء الحي منظر الصحافيين منذ الانفجار، لذلك فإنهم يقتربون للسؤال عن اسم المنبر الإعلامي، ثم ينصرفون في صمت، وفي مقهى مجاور للمنزل وقف شرطيان بزي مدني يراقبان الوضع عن كثب، ويتحركان بمجرد ملاحظة حركة غريبة لمعرفة هوية الزائر قبل التأكيد بنبرة حازمة أن جميع أفراد أسرة محمد الفايز، صاحب مقهى الانترنت ذهبوا لزيارة ابنهم في المستشفى، بينما يؤكد أحد الجيران أن أفراد العائلة ذهبوا عند أهلهم حتى تهدأ العاصفة.
وفي داخل مستشفى محمد الخامس، كان يرقد ضحايا التفجير بينهم محمد فايز، صاحب مقهى الانترنت، الذي رفض الحديث إلى وسائل الإعلام مكتفيا بالصمت ووضع نظرات سوداء على وجهه. كان ينام فوق سرير طبي، هادئا داخل غرفة يحرسها شرطي شاب، وبجانبه يرقد محمد كريمي المصاب بحروق في وجهه، والذي وافق فقط على أن تلتقط له صور مع رسالة التهنئة التي بعث بها إليه العاهل المغربي الملك محمد السادس. ويبرر أحد أفراد الشرطة صمت صاحب مقهى الانترنت، بكون حديثه ليس في صالح التحقيقات الجارية، بحكم أن تسرب أية معطيات قد يضر بسير التحقيقات.
لم يكن أحد يتوقع أن الرايضي الصموت سيكون وراء حدث 11 مارس، الذي مكن تنظيم القاعدة من تخليد الذكرى الثالثة لتفجيرات مدريد، وجعل المغاربة يتحركون في كل الاتجاهات، والمثير أن الانتحاري الرايضي لم يفكر ولو لثانية واحدة في أنه ترك ابنا صغيرا لا يتعدى عمره شهرين. ربما سيطرح السؤال على نفسه: لماذا فجر والدي جسده تلك الليلة، وتركني وحيدا في هذا العالم؟
http://www.aawsat.com/details.asp?section=45&article=411749&issue=10342