زوربا
03-23-2007, 07:47 AM
تؤمن بأن عودة المهدي المنتظر مرتبطة بانتشار الفوضى والفساد
إعداد ¯ محمد عباس ناجي
التحذيرات المتكررة التي جاءت على لسان بعض الشخصيات الإيرانية المعتدلة أمثال الرئيسين السابقين محمد خاتمي وهاشمي رفسنجاني, بشأن الخطر المحتمل لتركيبة السلطة الجديدة على مستقبل نظام الجمهورية الإسلامية, ربما تكون مؤشرا مهما على طبيعة التحول الناشئ داخل النظام الإيراني بعد فوز الجناح الأصولي من التيار المحافظ بانتخابات الدورة التاسعة لرئاسة الجمهورية التي أجريت في يونيو 2005, واستكمال سيطرته على مفاتيح صنع القرار في إيران, بدءا من مجالس الشورى المحلية (البلديات),مروراً بمجلس الشورى الإسلامي (البرلمان), وانتهاءً برئاسة الجمهورية.
هذا التحول لم يؤد فقط إلى اختلال التوازن بين العنصرين الأساسيين المكونين للنظام الإيراني: الجمهورية والإسلامية لصالح الأخير, بما يعني تغليب الأيديولوجيا على المصلحة, وطغيان التوجه الراديكالي المتشدد على عملية صنع القرار, والارتداد مرة أخرى إلى مرحلة الثورة التي عاشتها إيران طوال عقد الثمانينات, على حساب مرحلة الدولة التي بدأت بتولي هاشمي رفسنجاني رئاسة الجمهورية (1997-1989), ثم وصول الإصلاحيين بقيادة خاتمي إلى الرئاسة (2005-1997)). لكن ثمة جانبا آخر من الحقيقة, ربما يكون الأكثر أهمية,
هو أن هذا التحول أدى إلى تنشيط المبادئ والشعارات الأيديولوجية التي تبنتها جمعية "الحجتية" ومدرسة "حقاني" الدينية التابعة لها, والتي رغم أنها ألغيت رسميا في عام 1984 بعد ضغوط مؤسس الثورة الإسلامية الإمام الخميني, إلا أن مبادئها ما زالت حية ومتداولة, خصوصا وأن قسما من طاقم حكم الرئيس محمود أحمدي نجاد يؤمن بها, بل إن ثمة تأكيدات على أن الرئيس أحمدي نجاد نفسه يعتبر أحد "مريدي" آية الله محمد تقي مصباح يزدي المرجع الديني في الحوزة العلمية في مدينة قم الذي يحمل راية "الحجتية" في الوقت الراهن.
هذه الحقائق في مجملها تفرض تساؤلات عدة عن ماهية الجمعية وتوجهاتها الفكرية ورؤيتها للواقع السياسي في إيران, والأهم من ذلك كيف أثرت على سياسة حكومة الرئيس أحمدي نجاد وتعاطيها مع قضايا الداخل والخارج.
تأسست جمعية الحجتية في عام 1955 على يد الشيخ محمود الحلبي, واسمه الحقيقي محمود ذاكر زاده تولايي, وهو من شيوخ الشيعة الإثني عشرية, وكان يتخذ من مدينة مشهد في خراسان مقرا له. ويأتي اسم الحجتية نسبة إلى الحجة بن الحسن, وهو أحد الأسماء الرمزية للإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري.
ويتمحور فكر هذه الجمعية حول شخصية المهدي المنتظر, إذ نفت أي ظهور للمهدي في الماضي, ودعت إلى انتظاره في المستقبل, وربطت قيامه بانتشار الفوضى والفساد في الأرض. وتبعا لذلك فقد رفضت الحجتية تأسيس أي دولة قبل ظهور المهدي, فهذه الدولة في رؤيتها دولة طاغوتية غير شرعية, وهو ما كان سببا في اصطدام الجمعية بجهتين أساسيتين: الأولى- هي الحركة البابية, ومن بعدها البهائية, التي أعلنت أن على بن محمد الشيرازي المعروف ب¯"الباب" هو المهدي المنتظر, فكان أن توجهت جهود الحجتية لمحاربة البهائية التي انتشرت في إيران انتشارا واسعا, وخصوصا بين طلاب الحوزة الدينية.
أما الجهة الثانيةفتمثلت في رجال الدين بزعامة الخميني الذين قادوا الثورة ضد نظام الشاه في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى, وكان مبعث الصدام هو الخلاف حول نظرية "ولاية الفقيه" التي طورها الخميني وتقوم أساسا على أنه لا بد أن يؤسس فقهاء الشيعة الدولة نيابة عن الإمام الغائب, ويمارسوا دوره السياسي والفقهي والاجتماعي إلى حين عودته, كما كان الخميني يعتقد بأنه لا يجوز أن يظل الشيعة في مرحلة انتظار لا تعرف مدتها, وهو ما ووجه برفض من جانب جمعية الحجتية. ولذا كان الخميني وأنصاره يعتقدون أن الحجتية تمثل حجر عثرة في مواجهة مشروعه وخططه لإقامة الجمهورية الإسلامية, خصوصا أن الجمعية كانت تحظى في هذه الفترة بدعم من جانب نظام الشاه, لأنها لا تؤيد استخدام السلاح والثورة للتعجيل بعودة المهدي المنتظر.
وعندما نجح الخميني وأنصاره في الإطاحة بنظام الشاه وإقامة الجمهورية الإسلامية عام 1979, وجدت الجمعية أنه من الأفضل تجنب الصدام مع النظام الثوري الجديد, ومن ثم أعلنت ترحيبها به وأبدت استعدادها للعمل من داخل النظام لإقامة الجمهورية الإسلامية الإيرانية, وقد دللت الحجتية على سياستها ومواقفها الجديدة بتعديل ميثاقها الذي جاء بعد التعديل كما يلى: "إن الجمعية رغبة في استمرار نظام الجمهورية الإسلامية حتى ظهور المهدي المنتظر تجد من واجبها أن تقوم بأي خدمة في المجالات السياسية والاجتماعية اتباعا لتوجيهات الزعيم, حيث يستطيع أفراد الجمعية المشاركة في أي نشاط إعلامي أو سياسي أو عسكري أو اجتماعي تحت إشراف أو موافقة مراجع الشيعة العظام".
حالة الهدوء التي سادت العلاقة بين الحجتية والنظام الجديد لم تدم طويلا, إذ طرأت على الساحة الإيرانية تطورات عدة ساهمت في عودة العلاقة بين الطرفين إلي التوتر من جديد, فإلى جانب اختيار الحجتية نهجا لا يتفق ولا يتناسب تماما مع النهج الثورى, ودعوتها إلى فصل الدين عن السياسة وتحريم النشاط السياسي في عصر الغيبة, اتخذت الجمعية موقفا محايدا في الصراع بين الثورة والحركات الليبرالية, وعلى رأسها حركة حرية إيران, ثم انتهجت سياسة المواجهة الفكرية للماركسية واليسارية, الأمر الذي فسره قادة الثورة على أنه دعاية لليبرالية الأميركية,
وجاءت الحرب العراقية ¯ الإيرانية (1980- 1988) لتحدث فرزا جديدا بين الحجتية والثورة, فعلى الرغم من مشاركة بعض عناصرها في هذه الحرب, إلا أن الجمعية انتهزت فرصة الحرب وتوسعت في نشاطها, وقامت بضم أعضاء جدد من الجنود أثناء وجودهم في جبهات القتال. كما قامت الحجتية بتكوين تنظيمات سرية في الجيش والمؤسسات التعليمية والاجتماعية والخيرية. وقد تسبب ذلك في الانتقادات الحادة التي وجهها الخميني عام 1984 لفكر ومواقف الجمعية, وتهديده بإلغاء تنظيماتها, ما دفع مؤسسها الشيخ محمود الحلبي إلى أن يصدر بيانا يعلن فيه وقف نشاط الجمعية في العام نفسه.
ومع بداية عقد التسعينيات عادت الحجتية إلى الساحة السياسية والفكرية ولكن بثوب جديد, وذلك على خلفية تطورات عدة طرأت على الساحة الداخلية الإيرانية, أهمها وفاة الإمام الخميني عام 1989, وتولي هاشمي رفسنجاني رئاسة الجمهورية في الفترة من 1989 وحتى 1997, لتبدأ مرحلة التحول من حالة الثورة إلى حالة الدولة بما تعنيه من إقامة مؤسسات قوية تخضع لرقابة شعبية.
في هذه اللحظة بالتحديد بدا أن ثمة تغيرا كبيرا حدث في التوجهات الفكرية لجمعية الحجتية, فبدلا من رفض نظرية ولاية الفقيه التي كانت السبب الأساسي في صدام الحجتية مع الثورة, بدأت الحجتية في الترويج للنظرية والتأكيد عليها, حيث أدعت أن الولي الفقيه (المرشد الأعلى للجمهورية) معين من قبل الله والمهدي المنتظر ومسؤولية مجلس الخبراء هي اكتشاف الفقيه الذي اختاره الله ليقود الأمة, ومن ثم لا يستطيع مجلس الخبراء عزل الولي الفقيه أو مراقبة أنشطته, بل إنه من الممكن وبموافقة الولي الفقيه, أن يمارس مجلس الخبراء نوعا من الرقابة على أنشطة وأداء المؤسسات الخاضعة لإشراف الولي الفقيه. وزادت الحجتية على ذلك بقولها إن الولي الفقيه معصوم وهو فوق الدستور والسلطات.
وقد ساعد ذلك الحجتية على التمدد داخل مؤسسات صنع القرار, خصوصا الحرس الثوري وقوات التعبئة الشعبية والأجهزة التنفيذية والأمنية والاستخبارات, حتي واتتها الفرصة خلال انتخابات الدورة التاسعة لرئاسة الجمهورية,
فساهمت في وصول مرشح الجناح الأصولي من التيار المحافظ محمود أحمدي نجاد إلى منصب رئيس الجمهورية. ولذا تعتبر مبادئ جمعية الحجتية أحد أهم الروافد الفكرية للرئيس أحمدي نجاد وطاقم حكمه, والتي شكلت إطارا يحكم توجهاته ويضبط تفاعلاته إزاء قضايا الداخل والخارج.
من هنا يمكن تفسير أسباب الحديث المتكرر للرئيس أحمدي نجاد عن قرب عودة المهدي المنتظر, وعن أن إيران تمثل قاعدة ظهور المهدى, إلى جانب تصريحاته الصاخبة التي أطلقها ضد إسرائيل والتي أثارت ردود فعل عنيفة في الخارج, وسياسته المتشددة إزاء أزمة الملف النووى, والأهم من ذلك أنه يمكن تفسير أسباب حالة التحفز التي بدا عليها الجناح الأصولي المتشدد, الذي ينتمي إليه الرئيس أحمدي نجاد, للسيطرة على مجلس الخبراء,
وهو الهيئة المنوط بها تعيين وعزل المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية, والتي أجريت انتخاباته بالتزامن مع انتخابات مجالس الشوري المحلية (البلديات), والتكميلية لمجلس الشوري الإسلامي (البرلمان) في 15 ديسمبر 2006, فقد كان هدف الأصوليين هو الفوز بأغلبية مقاعد المجلس البالغة 86 مقعدا, ومن ثم امتلاك الكلمة الفصل في تحديد هوية المرشد القادم لإيران, وقد انحصرت ترشيحاتهم لهذا المنصب في آية الله محمد تقي مصباح يزدي أحد رموز جمعية الحجتية ومدرسة حقاني, لكن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن, حيث فشل الأصوليون في تحقيق الأغلبية في الدورة الجديدة للمجلس التي شهدت عودة نسبية للإصلاحيين والمحافظين المعتدلين.
محورية قضية المهدي المنتظر في فكر أحمدي نجاد بدت جلية في تخصيصه قسما من خطابه الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 15سبتمبر 2005 للحديث عن المهدي المنتظر, وتأكيده على أن هالة من النور كانت تحيطه أثناء إلقاء الخطاب في الجمعية العامة.
كما قال أئمة خطباء الجمعة في جميع أنحاء إيران في 18 نوفمبر من العام نفسه إن المهمة الرئيسية للثورة هي تمهيد الطريق لظهور الإمام المهدي الثاني عشر, لذا وفي رؤيته يجب أن تكون إيران مجتمعا قويا متطورا ونموذجا إسلاميا. الأهم من ذلك هو التقرير الذي نشرته صحيفة "انتخاب" الإصلاحية عن أن الرئيس أحمدي نجاد وطاقم حكمه الجديد وقعوا ميثاقا مع المهدي المنتظر في أول جلسة لمجلس الوزراء, وكلفوا وزير الثقافة صفار هرندي بإلقائه في بئر "جمكران" في مدينة قم, التي يزورها آلاف الشيعة أسبوعيا ويرمون بها رسائل وأموال "نُذُر" إلى المهدي المنتظر. وفي الجلسة الثانية لمجلس الوزراء اقترح وزير النقل والطرق الاستعاضة عن تخصيص جزء من موازنة الدولة لإنشاء طريق طهران - جمكران بأموال النُذُر المتجمعة في بئر "جمكران", إلا أن أحمدي نجاد رفض الاقتراح, مؤكدا أن حكومته "لم تأت من أجل قيادة الشعب بل من أجل التمهيد للمهدي المنتظر".
المنطلقات الفكرية للرئيس أحمدي نجاد وطاقم حكمه كان لها تأثير ملحوظ على التعاطي الإيراني مع أزمة الملف النووى, والموقف من إسرائيل. فالأمر الذي لا شك فيه أن ثمة اقتناعا قويا لدى أفراد هذا الطاقم بأن امتلاك التكنولوجيا النووية مرتبط بظهور المهدي المنتظر, ومن ثم, وفي رؤيتهم, فإن الإصرار على المضي قدما في طريق امتلاك هذه التكنولوجيا وتجاهل الضغوط الدولية المفروضة على إيران, وتحمل العقوبات الدولية التي بدأ مجلس الأمن في فرضها على إيران بموجب القرار رقم 1737, يمثل شرطا أساسيا لظهور المهدي المنتظر الذي يجب عند عودته أن يجد إيران قوية تمتلك التكنولوجيا المتقدمة, خصوصا التكنولوجيا النووية عنوان التقدم والتنمية في العالم المعاصر.
والأمر نفسه ينطبق على الموقف من إسرائيل, فمحو إسرائيل من الوجود أو على الأقل نقلها من الأراضي الفلسطينية المحتلة من الوسائل المهمة, في رؤية هذا الفريق, التي تهيئ لظهور المهدي المنتظر.
هذه الحقائق في مجملها تطرح بدورها مضامين رئيسية ثلاثة: الأول-أن الرئيس أحمدي نجاد يعتقد أن مهمته الرئيسية كرئيس للجمهورية تتمثل في تهيئة الظروف المناسبة لظهور المهدي المنتظر, والملاحظ في هذا السياق أنه لم يطرح هذه القضية خلال حملته الانتخابية, بل كان شعاره الأساسي هو تقديم الخدمة للشعب, والذي كان أحد أسباب فوزه في الانتخابات, وهو تكتيك زكي من أحمدي نجاد الذي فطن إلى خطورة تركيزه على هذه القضية في برنامجه الانتخابي, والتي كانت من الممكن أن تعصف بحظوظه في الفوز خصوصا وأنه في هذه الحالة كان سيخسر الحليف الأول له في الانتخابات وهو المرشد الأعلى للجمهورية على خامنئي.
والثانى-أن رؤية أحمدي نجاد لدور رئيس الجمهورية وللمهدي المنتظر تختلف إلى حد بعيد عن رؤية سلفيه في الرئاسة: هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمى, فالأخيران, مع الفارق, يعتقدان أن المهمة الرئيسية لرئيس الجمهورية تنفيذية في المقام الأول, أي الاهتمام بالشأن المادي وعدم إعطاء الأولوية لقضية دينية مثل قضية المهدي المنتظر التي تبدو في رؤيتهم حقيقة مجازية مرتبطة بنهاية العالم, وليس لها علاقة بالواقع الحالي أو الظروف الداخلية والخارجية التي تمر بها إيران.
لذا لم يدخر الرئيسان السابقان جهدا في التحذير من مخاطر التوجهات الفكرية للحجتية وتأثيرها على سياسة حكومة الرئيس أحمدي نجاد, حيث هاجم هاشمي رفسنجاني أنصار الحجتية ورموزها وعلى رأسهم مصباح يزدي واتهمهم باستخدام الدين وسيلة للوصول إلى السلطة رغم دعوتهم السابقة إلى فصل الدين عن السياسة, ونفى رفسنجاني أن يكون مصباح يزدي من رجال الثورة وقال إن لا يذكر أبدا أن يزدي كان مع الثورة في بدايتها أو في دائرة الإمام الخميني الذي كان رفسنجاني مقربا منه, بل كان ضد الثورة, في إشارة إلى أن يزدي كان في وقت من الأوقات يدعو إلى فصل الدين عن السياسة وإلى معارضة إقامة جمهورية إسلامية قبل عودة المهدي المنتظر.
أما خاتمي فقد أعرب, قبل إجراء انتخابات مجلس الخبراء في 15 ديسمبر 2006, عن قلقه من سيطرة الأصوليين المتشددين الذين يتخذون مبادئ الحجتية منهجا لهم على مستقبل نظام الجمهورية الإسلامية, حيث قال في هذا السياق: "إنني واثق من أن هذه العناصر لا تقبل لا بالقائد ولا بالثورة ولا بالدستور, وأشعر بالخطر الآن من تركيبة القوى بالنسبة لمستقبل الثورة الإسلامية, لأنه قد تأخذ عناصر لا تنسجم مع الثورة بزمام المبادرة في مجلس الخبراء".
أما المضمون الثالث والأهم فهو أن جمعية الحجتية, ورغم أنها قد أوقفت نشاطها الرسمي قبل ثلاثة وعشرين عاما من الآن, إلا أن مبادئها وتوجهاتها ما زالت متداولة داخل مؤسسات صنع القرار في إيران, بشكل جعلها رقما صعبا في معظم القضايا الداخلية والخارجية, إن لم يكن في مجملها.
إعداد ¯ محمد عباس ناجي
التحذيرات المتكررة التي جاءت على لسان بعض الشخصيات الإيرانية المعتدلة أمثال الرئيسين السابقين محمد خاتمي وهاشمي رفسنجاني, بشأن الخطر المحتمل لتركيبة السلطة الجديدة على مستقبل نظام الجمهورية الإسلامية, ربما تكون مؤشرا مهما على طبيعة التحول الناشئ داخل النظام الإيراني بعد فوز الجناح الأصولي من التيار المحافظ بانتخابات الدورة التاسعة لرئاسة الجمهورية التي أجريت في يونيو 2005, واستكمال سيطرته على مفاتيح صنع القرار في إيران, بدءا من مجالس الشورى المحلية (البلديات),مروراً بمجلس الشورى الإسلامي (البرلمان), وانتهاءً برئاسة الجمهورية.
هذا التحول لم يؤد فقط إلى اختلال التوازن بين العنصرين الأساسيين المكونين للنظام الإيراني: الجمهورية والإسلامية لصالح الأخير, بما يعني تغليب الأيديولوجيا على المصلحة, وطغيان التوجه الراديكالي المتشدد على عملية صنع القرار, والارتداد مرة أخرى إلى مرحلة الثورة التي عاشتها إيران طوال عقد الثمانينات, على حساب مرحلة الدولة التي بدأت بتولي هاشمي رفسنجاني رئاسة الجمهورية (1997-1989), ثم وصول الإصلاحيين بقيادة خاتمي إلى الرئاسة (2005-1997)). لكن ثمة جانبا آخر من الحقيقة, ربما يكون الأكثر أهمية,
هو أن هذا التحول أدى إلى تنشيط المبادئ والشعارات الأيديولوجية التي تبنتها جمعية "الحجتية" ومدرسة "حقاني" الدينية التابعة لها, والتي رغم أنها ألغيت رسميا في عام 1984 بعد ضغوط مؤسس الثورة الإسلامية الإمام الخميني, إلا أن مبادئها ما زالت حية ومتداولة, خصوصا وأن قسما من طاقم حكم الرئيس محمود أحمدي نجاد يؤمن بها, بل إن ثمة تأكيدات على أن الرئيس أحمدي نجاد نفسه يعتبر أحد "مريدي" آية الله محمد تقي مصباح يزدي المرجع الديني في الحوزة العلمية في مدينة قم الذي يحمل راية "الحجتية" في الوقت الراهن.
هذه الحقائق في مجملها تفرض تساؤلات عدة عن ماهية الجمعية وتوجهاتها الفكرية ورؤيتها للواقع السياسي في إيران, والأهم من ذلك كيف أثرت على سياسة حكومة الرئيس أحمدي نجاد وتعاطيها مع قضايا الداخل والخارج.
تأسست جمعية الحجتية في عام 1955 على يد الشيخ محمود الحلبي, واسمه الحقيقي محمود ذاكر زاده تولايي, وهو من شيوخ الشيعة الإثني عشرية, وكان يتخذ من مدينة مشهد في خراسان مقرا له. ويأتي اسم الحجتية نسبة إلى الحجة بن الحسن, وهو أحد الأسماء الرمزية للإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري.
ويتمحور فكر هذه الجمعية حول شخصية المهدي المنتظر, إذ نفت أي ظهور للمهدي في الماضي, ودعت إلى انتظاره في المستقبل, وربطت قيامه بانتشار الفوضى والفساد في الأرض. وتبعا لذلك فقد رفضت الحجتية تأسيس أي دولة قبل ظهور المهدي, فهذه الدولة في رؤيتها دولة طاغوتية غير شرعية, وهو ما كان سببا في اصطدام الجمعية بجهتين أساسيتين: الأولى- هي الحركة البابية, ومن بعدها البهائية, التي أعلنت أن على بن محمد الشيرازي المعروف ب¯"الباب" هو المهدي المنتظر, فكان أن توجهت جهود الحجتية لمحاربة البهائية التي انتشرت في إيران انتشارا واسعا, وخصوصا بين طلاب الحوزة الدينية.
أما الجهة الثانيةفتمثلت في رجال الدين بزعامة الخميني الذين قادوا الثورة ضد نظام الشاه في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى, وكان مبعث الصدام هو الخلاف حول نظرية "ولاية الفقيه" التي طورها الخميني وتقوم أساسا على أنه لا بد أن يؤسس فقهاء الشيعة الدولة نيابة عن الإمام الغائب, ويمارسوا دوره السياسي والفقهي والاجتماعي إلى حين عودته, كما كان الخميني يعتقد بأنه لا يجوز أن يظل الشيعة في مرحلة انتظار لا تعرف مدتها, وهو ما ووجه برفض من جانب جمعية الحجتية. ولذا كان الخميني وأنصاره يعتقدون أن الحجتية تمثل حجر عثرة في مواجهة مشروعه وخططه لإقامة الجمهورية الإسلامية, خصوصا أن الجمعية كانت تحظى في هذه الفترة بدعم من جانب نظام الشاه, لأنها لا تؤيد استخدام السلاح والثورة للتعجيل بعودة المهدي المنتظر.
وعندما نجح الخميني وأنصاره في الإطاحة بنظام الشاه وإقامة الجمهورية الإسلامية عام 1979, وجدت الجمعية أنه من الأفضل تجنب الصدام مع النظام الثوري الجديد, ومن ثم أعلنت ترحيبها به وأبدت استعدادها للعمل من داخل النظام لإقامة الجمهورية الإسلامية الإيرانية, وقد دللت الحجتية على سياستها ومواقفها الجديدة بتعديل ميثاقها الذي جاء بعد التعديل كما يلى: "إن الجمعية رغبة في استمرار نظام الجمهورية الإسلامية حتى ظهور المهدي المنتظر تجد من واجبها أن تقوم بأي خدمة في المجالات السياسية والاجتماعية اتباعا لتوجيهات الزعيم, حيث يستطيع أفراد الجمعية المشاركة في أي نشاط إعلامي أو سياسي أو عسكري أو اجتماعي تحت إشراف أو موافقة مراجع الشيعة العظام".
حالة الهدوء التي سادت العلاقة بين الحجتية والنظام الجديد لم تدم طويلا, إذ طرأت على الساحة الإيرانية تطورات عدة ساهمت في عودة العلاقة بين الطرفين إلي التوتر من جديد, فإلى جانب اختيار الحجتية نهجا لا يتفق ولا يتناسب تماما مع النهج الثورى, ودعوتها إلى فصل الدين عن السياسة وتحريم النشاط السياسي في عصر الغيبة, اتخذت الجمعية موقفا محايدا في الصراع بين الثورة والحركات الليبرالية, وعلى رأسها حركة حرية إيران, ثم انتهجت سياسة المواجهة الفكرية للماركسية واليسارية, الأمر الذي فسره قادة الثورة على أنه دعاية لليبرالية الأميركية,
وجاءت الحرب العراقية ¯ الإيرانية (1980- 1988) لتحدث فرزا جديدا بين الحجتية والثورة, فعلى الرغم من مشاركة بعض عناصرها في هذه الحرب, إلا أن الجمعية انتهزت فرصة الحرب وتوسعت في نشاطها, وقامت بضم أعضاء جدد من الجنود أثناء وجودهم في جبهات القتال. كما قامت الحجتية بتكوين تنظيمات سرية في الجيش والمؤسسات التعليمية والاجتماعية والخيرية. وقد تسبب ذلك في الانتقادات الحادة التي وجهها الخميني عام 1984 لفكر ومواقف الجمعية, وتهديده بإلغاء تنظيماتها, ما دفع مؤسسها الشيخ محمود الحلبي إلى أن يصدر بيانا يعلن فيه وقف نشاط الجمعية في العام نفسه.
ومع بداية عقد التسعينيات عادت الحجتية إلى الساحة السياسية والفكرية ولكن بثوب جديد, وذلك على خلفية تطورات عدة طرأت على الساحة الداخلية الإيرانية, أهمها وفاة الإمام الخميني عام 1989, وتولي هاشمي رفسنجاني رئاسة الجمهورية في الفترة من 1989 وحتى 1997, لتبدأ مرحلة التحول من حالة الثورة إلى حالة الدولة بما تعنيه من إقامة مؤسسات قوية تخضع لرقابة شعبية.
في هذه اللحظة بالتحديد بدا أن ثمة تغيرا كبيرا حدث في التوجهات الفكرية لجمعية الحجتية, فبدلا من رفض نظرية ولاية الفقيه التي كانت السبب الأساسي في صدام الحجتية مع الثورة, بدأت الحجتية في الترويج للنظرية والتأكيد عليها, حيث أدعت أن الولي الفقيه (المرشد الأعلى للجمهورية) معين من قبل الله والمهدي المنتظر ومسؤولية مجلس الخبراء هي اكتشاف الفقيه الذي اختاره الله ليقود الأمة, ومن ثم لا يستطيع مجلس الخبراء عزل الولي الفقيه أو مراقبة أنشطته, بل إنه من الممكن وبموافقة الولي الفقيه, أن يمارس مجلس الخبراء نوعا من الرقابة على أنشطة وأداء المؤسسات الخاضعة لإشراف الولي الفقيه. وزادت الحجتية على ذلك بقولها إن الولي الفقيه معصوم وهو فوق الدستور والسلطات.
وقد ساعد ذلك الحجتية على التمدد داخل مؤسسات صنع القرار, خصوصا الحرس الثوري وقوات التعبئة الشعبية والأجهزة التنفيذية والأمنية والاستخبارات, حتي واتتها الفرصة خلال انتخابات الدورة التاسعة لرئاسة الجمهورية,
فساهمت في وصول مرشح الجناح الأصولي من التيار المحافظ محمود أحمدي نجاد إلى منصب رئيس الجمهورية. ولذا تعتبر مبادئ جمعية الحجتية أحد أهم الروافد الفكرية للرئيس أحمدي نجاد وطاقم حكمه, والتي شكلت إطارا يحكم توجهاته ويضبط تفاعلاته إزاء قضايا الداخل والخارج.
من هنا يمكن تفسير أسباب الحديث المتكرر للرئيس أحمدي نجاد عن قرب عودة المهدي المنتظر, وعن أن إيران تمثل قاعدة ظهور المهدى, إلى جانب تصريحاته الصاخبة التي أطلقها ضد إسرائيل والتي أثارت ردود فعل عنيفة في الخارج, وسياسته المتشددة إزاء أزمة الملف النووى, والأهم من ذلك أنه يمكن تفسير أسباب حالة التحفز التي بدا عليها الجناح الأصولي المتشدد, الذي ينتمي إليه الرئيس أحمدي نجاد, للسيطرة على مجلس الخبراء,
وهو الهيئة المنوط بها تعيين وعزل المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية, والتي أجريت انتخاباته بالتزامن مع انتخابات مجالس الشوري المحلية (البلديات), والتكميلية لمجلس الشوري الإسلامي (البرلمان) في 15 ديسمبر 2006, فقد كان هدف الأصوليين هو الفوز بأغلبية مقاعد المجلس البالغة 86 مقعدا, ومن ثم امتلاك الكلمة الفصل في تحديد هوية المرشد القادم لإيران, وقد انحصرت ترشيحاتهم لهذا المنصب في آية الله محمد تقي مصباح يزدي أحد رموز جمعية الحجتية ومدرسة حقاني, لكن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن, حيث فشل الأصوليون في تحقيق الأغلبية في الدورة الجديدة للمجلس التي شهدت عودة نسبية للإصلاحيين والمحافظين المعتدلين.
محورية قضية المهدي المنتظر في فكر أحمدي نجاد بدت جلية في تخصيصه قسما من خطابه الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 15سبتمبر 2005 للحديث عن المهدي المنتظر, وتأكيده على أن هالة من النور كانت تحيطه أثناء إلقاء الخطاب في الجمعية العامة.
كما قال أئمة خطباء الجمعة في جميع أنحاء إيران في 18 نوفمبر من العام نفسه إن المهمة الرئيسية للثورة هي تمهيد الطريق لظهور الإمام المهدي الثاني عشر, لذا وفي رؤيته يجب أن تكون إيران مجتمعا قويا متطورا ونموذجا إسلاميا. الأهم من ذلك هو التقرير الذي نشرته صحيفة "انتخاب" الإصلاحية عن أن الرئيس أحمدي نجاد وطاقم حكمه الجديد وقعوا ميثاقا مع المهدي المنتظر في أول جلسة لمجلس الوزراء, وكلفوا وزير الثقافة صفار هرندي بإلقائه في بئر "جمكران" في مدينة قم, التي يزورها آلاف الشيعة أسبوعيا ويرمون بها رسائل وأموال "نُذُر" إلى المهدي المنتظر. وفي الجلسة الثانية لمجلس الوزراء اقترح وزير النقل والطرق الاستعاضة عن تخصيص جزء من موازنة الدولة لإنشاء طريق طهران - جمكران بأموال النُذُر المتجمعة في بئر "جمكران", إلا أن أحمدي نجاد رفض الاقتراح, مؤكدا أن حكومته "لم تأت من أجل قيادة الشعب بل من أجل التمهيد للمهدي المنتظر".
المنطلقات الفكرية للرئيس أحمدي نجاد وطاقم حكمه كان لها تأثير ملحوظ على التعاطي الإيراني مع أزمة الملف النووى, والموقف من إسرائيل. فالأمر الذي لا شك فيه أن ثمة اقتناعا قويا لدى أفراد هذا الطاقم بأن امتلاك التكنولوجيا النووية مرتبط بظهور المهدي المنتظر, ومن ثم, وفي رؤيتهم, فإن الإصرار على المضي قدما في طريق امتلاك هذه التكنولوجيا وتجاهل الضغوط الدولية المفروضة على إيران, وتحمل العقوبات الدولية التي بدأ مجلس الأمن في فرضها على إيران بموجب القرار رقم 1737, يمثل شرطا أساسيا لظهور المهدي المنتظر الذي يجب عند عودته أن يجد إيران قوية تمتلك التكنولوجيا المتقدمة, خصوصا التكنولوجيا النووية عنوان التقدم والتنمية في العالم المعاصر.
والأمر نفسه ينطبق على الموقف من إسرائيل, فمحو إسرائيل من الوجود أو على الأقل نقلها من الأراضي الفلسطينية المحتلة من الوسائل المهمة, في رؤية هذا الفريق, التي تهيئ لظهور المهدي المنتظر.
هذه الحقائق في مجملها تطرح بدورها مضامين رئيسية ثلاثة: الأول-أن الرئيس أحمدي نجاد يعتقد أن مهمته الرئيسية كرئيس للجمهورية تتمثل في تهيئة الظروف المناسبة لظهور المهدي المنتظر, والملاحظ في هذا السياق أنه لم يطرح هذه القضية خلال حملته الانتخابية, بل كان شعاره الأساسي هو تقديم الخدمة للشعب, والذي كان أحد أسباب فوزه في الانتخابات, وهو تكتيك زكي من أحمدي نجاد الذي فطن إلى خطورة تركيزه على هذه القضية في برنامجه الانتخابي, والتي كانت من الممكن أن تعصف بحظوظه في الفوز خصوصا وأنه في هذه الحالة كان سيخسر الحليف الأول له في الانتخابات وهو المرشد الأعلى للجمهورية على خامنئي.
والثانى-أن رؤية أحمدي نجاد لدور رئيس الجمهورية وللمهدي المنتظر تختلف إلى حد بعيد عن رؤية سلفيه في الرئاسة: هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمى, فالأخيران, مع الفارق, يعتقدان أن المهمة الرئيسية لرئيس الجمهورية تنفيذية في المقام الأول, أي الاهتمام بالشأن المادي وعدم إعطاء الأولوية لقضية دينية مثل قضية المهدي المنتظر التي تبدو في رؤيتهم حقيقة مجازية مرتبطة بنهاية العالم, وليس لها علاقة بالواقع الحالي أو الظروف الداخلية والخارجية التي تمر بها إيران.
لذا لم يدخر الرئيسان السابقان جهدا في التحذير من مخاطر التوجهات الفكرية للحجتية وتأثيرها على سياسة حكومة الرئيس أحمدي نجاد, حيث هاجم هاشمي رفسنجاني أنصار الحجتية ورموزها وعلى رأسهم مصباح يزدي واتهمهم باستخدام الدين وسيلة للوصول إلى السلطة رغم دعوتهم السابقة إلى فصل الدين عن السياسة, ونفى رفسنجاني أن يكون مصباح يزدي من رجال الثورة وقال إن لا يذكر أبدا أن يزدي كان مع الثورة في بدايتها أو في دائرة الإمام الخميني الذي كان رفسنجاني مقربا منه, بل كان ضد الثورة, في إشارة إلى أن يزدي كان في وقت من الأوقات يدعو إلى فصل الدين عن السياسة وإلى معارضة إقامة جمهورية إسلامية قبل عودة المهدي المنتظر.
أما خاتمي فقد أعرب, قبل إجراء انتخابات مجلس الخبراء في 15 ديسمبر 2006, عن قلقه من سيطرة الأصوليين المتشددين الذين يتخذون مبادئ الحجتية منهجا لهم على مستقبل نظام الجمهورية الإسلامية, حيث قال في هذا السياق: "إنني واثق من أن هذه العناصر لا تقبل لا بالقائد ولا بالثورة ولا بالدستور, وأشعر بالخطر الآن من تركيبة القوى بالنسبة لمستقبل الثورة الإسلامية, لأنه قد تأخذ عناصر لا تنسجم مع الثورة بزمام المبادرة في مجلس الخبراء".
أما المضمون الثالث والأهم فهو أن جمعية الحجتية, ورغم أنها قد أوقفت نشاطها الرسمي قبل ثلاثة وعشرين عاما من الآن, إلا أن مبادئها وتوجهاتها ما زالت متداولة داخل مؤسسات صنع القرار في إيران, بشكل جعلها رقما صعبا في معظم القضايا الداخلية والخارجية, إن لم يكن في مجملها.