زوربا
03-16-2007, 02:08 PM
الحياة اللندنية
تجربة أفرايم هاليفي أو ما يستطيع كشفه منها ...
شادية الحلو
«رجل الظلال» الذي عمل ما يناهز الأربعين سنة في قلب الموساد «المجبول» بالأسرار اختار أن تبقى الأسرار مكتومة، واستعاض عن كشفها بالكتابة عن أحداث الشرق الأوسط المضطرب بأسلوب التقرير «البارد» لرجل الاستخبارات.
ومن موقعه المميز والقوي على رأس «الموساد، وأيضاً من موقعه ودوره كمبعوث خاص لعدد من رؤساء الوزراء: شامير، رابين، نتانياهو، باراك، وشارون، يكتب أفرايم هاليفي تاريخ المنطقة في السنوات العشرين الماضية ويقدم تقويمات ورؤى رجل الاستخبارات الإسرائيلي الذي دخل عالم السياسية من باب الأمن ثم أصبح أحد صناعها.
ويعتبر هاليفي ان «السنوات الممتدة ما بين 1990 و2003 غيرت وجه العالم على نحو جذري». إذ تراكمت خلالها السحب من كل حدب وصوب لتؤدي الى اندلاع ما يطلق عليه الكاتب «الحرب العالمية الثالثة». هذه الحرب «التي ما زالت رحاها تدور حتى الآن ما بين الإرهاب الإسلامي العالمي وعالم الغرب الحر بكل ما يمثله من طريقة حياة وقيم». ويحدد هاليفي شرارة الحرب بتفجير سفارتي الولايات المتحدة في كل من نيروبي ودار السلام عام 1998، أي بعد أقل من عشر سنوات على انسحاب السوفيات من أفغانستان (1989)، وتحول أسامة بن لادن نحو التدريب والتعبئة العقائدية للإسلاميين الأصوليين، واستعرت هذه الحرب في رأي الكاتب بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001.
نتوقف بداية عند بعض أهم الاختراقات التي يفتخر هاليفي بإنجازها وفي مقدمها دوره في إنجاز معاهدة السلام بين إسرائيل والأردن عام 1994. إلا أن قيام رئيس الوزراء رابين بكشف دوره هذا لوسائل الإعلام اضطره الى تقديم استقالته من الموساد. الاختراق الآخر هو قيام هاليفي شخصياً بحل الأزمة مع الأردن إثر المحاولة الفاشلة للموساد لاغتيال خالد مشعل قائد «حماس» عام 1997، والتي على أثرها أفرج عن الشيخ أحمد ياسين من السجن الإسرائيلي. والإنجاز الأخير تمثل بالاقتراح «الاستراتيجي» الذي قدمه هاليفي لشارون ومنه لرئيس الولايات المتحدة الذي تبناه فوراً، والقاضي «بتغيير النظام الفلسطيني وإيجاد قيادة بديلة لعرفات». وأصبح هذا الاقتراح سياسة رسمية أميركية وعالمية عندما أعلن بوش في 24 حزيران (يونيو) 2002 عن «الدعوة لقيام قيادة فلسطينية جديدة».
يفرد الكاتب فصلاً عن قيادات المنطقة من العرب والإسرائيليين. وهنا نعرض لرأيه في اثنين هما: ياسر عرفات الذي صنفه هاليفي من ضمن اللاعبين الأساسيين في العقد الأخير من القرن الماضي. لكنه كان في نظره «قائداً فاشلاً» و «كذاباً من الطراز الأول». وعلى رغم ذلك يعترف هاليفي بأن «عرفات استطاع في أصعب الظروف أن يقود شعبه عبر سنين طويلة وأن يرفض قضيته على كل من العالمين العربي والدولي». كما يعتبر ان «كذب» عرفات على رئيس الولايات المتحدة حول عدم معرفته بسفينة «كارين آي» التي كانت تنقل أسلحة للفلسطينيين، ومن ثم استغلاله رئيس الولايات المتحدة مرتين: الأولى لدى قيام الأخير بزيارة غزة وعودته خالي الوفاض سياسياً، والثانية في كامب ديفيد صيف 2000 حيث رفض عرفات، وفق هاليفي، العرض السخي الذي قدم له آنذاك، وذلك كان «تعبيراً عن جهل عرفات بقواعد السلوك الأساسية في العلاقات الدولية، فلا أحد يقول لا لرئيس الولايات المتحدة الأميركية» على حد قول هاليفي. ولهذا السبب دفع عرفات الثمن غالياً باستبعاده نهائياً كمحاور أو طرف يمتلك أدنى صدقية.
لكل روايته ورؤيته للأمور، ومن مهمات رجل الاستخبارات اتباع أساليب التضليل والمراوغة وبث الإشاعات وقلب الحقائق أيضاً. ونورد مثالاً على ذلك بادعاء هاليفي في سياق الحديث عن عرفات بأن إسرائيل التي كانت تطارده في الضفة الغربية المحتلة بعد حرب 1967 بسبب عمليات المقاومة، إنما كانت تريد أن تتصل به لفتح حوار سياسي بقرار صادر عن أعلى المستويات السياسية آنذاك!
أما الشخصية القيادية الثانية التي يتناولها هاليفي، فهي شمعون بيريز، فيوجه اليه النقد العلني لأن الود بينهما كان مفقوداً تماماً، خصوصاً على أرضية الخلافات التي كانت قائمة بين بيريز ورابين، وكان هاليفي مقرباً للأخير.
والكتاب يحفل بمواقف تبرز طموح بيريز غير المحدود في رأي هاليفي، وانه متعطش للأضواء وللمجد بما يلامس المحظور أحياناً.
ومن ضمن ما يفتخر به هاليفي علاقاته الشخصية القوية مع أجهزة الاستخبارات البريطانية والألمانية والإيطالية والروسية، ووكالة الاستخبارات الأميركية ومنها بالتحديد جيمس انغلتون وجورج تنت الذي كان هاليفي يكن له مشاعر خاصة، ويعتبر أن CIA خسرته بعد أن قدم استقالته.
وعلى رغم هذه العلاقات لا يخفي هاليفي انتقاده لسياسات الاتحاد الأوروبي ويعتبرها مساندة للعرب والمسلمين على حساب إسرائيل في كثير من الأحيان، ولا يتوانى عن نعته بـ «نمر من ورق». وأكثر ما يزعجه هو تجاهل الاتحاد ما يعتبره هاليفي أبرز المشاكل التي ستواجهها أوروبا في هذا القرن وهي التغيير الديموغرافي، إذ يرى أن مدناً رئيسة في دول مثل ألمانيا وفيديراليات في روسيا ستشهد منتصف هذا القرن سيطرة غالبية مسلمة. وما يقلقه ارتباط هذا التحول بالحرب الدائرة على «الإرهاب الإسلامي العالمي» وانعكاساته على العالم الغربي ودولة إسرائيل من ضمنه. ويدعو الاتحاد الأوروبي الى سن قوانين خاصة للسيطرة على تزايد الانتشار «الإسلامي والإرهابي».
وفي ما يتعلق بالولايات المتحدة يرى هاليفي ان الخلاف معها غير مسموح به، وهو ينتقد مواقف أقدمت عليها إسرائيل مثل مساندتها للصرب في يوغوسلافيا خلافاً للموقف الأميركي، والاتصال بكوريا الشمالية من وراء ظهر الولايات المتحدة، لكنه لا يخفي شعوره بالمرارة إزاء مسلك الأميركيين أثناء الحرب الأولى على العراق، إذ يدعي أنهم لم يبذلوا جهداً كافياً لحماية إسرائيل عسكرياً، مما يطرح في رأيه أسئلة كثيرة حول موقفهم ازاء الدفاع عن إسرائيل في لحظات الخطر الوجودي الحقيقي.
ينتقد هاليفي سياسة الإدارة الأميركية بالنسبة الى الاجراءات الأمنية والاستخباراتية لـ «مكافحة الإرهاب الدولي»، ويدعوها الى تشكيل جهاز أمني خاص لـ «مكافحة الإرهاب». علماً أن هاليفي تلقى النقد لتقديمه مثل هذا الاقتراح واتهم بأنه يدعو لإقامة أنظمة توتاليتارية. كما يعترف بتعاظم دور المؤسسة الأمنية وأجهزتها المختلفة في خضم الحرب على «الإرهاب» ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وذلك في العالم ككل وفي أميركا وإسرائيل على وجه الخصوص. أحد أهم الأسباب التي يسوقها لتبرير ذلك هو أن «الخلايا الإرهابية العالمية» أوصدت جميع أبواب وقنوات الحوار التقليدية التي كانت سائدة زمن «الحرب الباردة»، لذلك اضطر المستوى السياسي غير المهيأ لمثل هذا التحدي، الى الاعتماد الكلي على أجهزة الأمن والاستخبارات للتزود ليس بالمعلومات فحسب، إنما أيضاً بالمشورة والتشجيع والدعم. هذا ما أدى الى تغير في قواعد اللعبة أصبحت بعدها هذه الأجهزة شريكة في اتخاذ القرار ورسم السياسات.
وبهذا نفهم حماسة أفرايم هاليفي ربيب الأمن والاستخبارات للعب دور رجل السياسة أيضاً. ففي الفصل الأخير من كتابه يضع عنواناً معبراً دعاه «الديبلوماسية – فن الممكن، الاستخبارات حرفة المستحيل». يؤطر في هذا الفصل رؤيته الاستراتيجية للصراع مع تنظيم «القاعدة» والسياسة الواجب اتباعها ليس لمنعه من تحقيق أهدافه فحسب إنما للقضاء عليه.
ويقتبس هاليفي ما جاء في إحدى قنوات التلفزيونات العربية أواسط تشرين الأول (اكتوبر) 2005 بأن «أهداف تنظيم القاعدة التي تحتل أولوية قصوى في الوقت الراهن هي تدمير الولايات المتحدة ونمط حياتها، والقضاء على الأنظمة العربية المعتدلة و «الخائنة».
بينما تعلن «القاعدة» عدم نيتها استهداف إسرائيل لوقت طويل قادم، وبالتالي على فلسطين أيضاً أن تنتظر.
وما يثير الاهتمام أكثر هو الاستراتيجية المضادة التي يضعها هاليفي لمحاربة «الإرهاب الإسلامي العالمي» وعلى رأسه القاعدة، إذ يرى: «ان لا شيء في العالم أهم من وضع خطة مركزية مشتركة للدول المعنية للانتصار في هذه الحرب وتحديد سقف زمني لها، وممارسة أقسى درجات الضغوطات داخلياً ودولياً ورفع درجات المواجهة الجسدية، فضلاً عن معاملة الدول التي تؤمن الملاذ الآمن لـ «الإرهابيين» كدولة مارقة».
لا تستوي الأمور في خطة هاليفي من دون أن يرافق المعركة «نضال داخلي ضمن الإسلام نفسه»، تقوم به حركات مثل «حماس» و «حزب الله» (الأخير بدرجة أقل من «حماس»)، فعلى رغم أنهما حركتان «ارهابيتان» كما يدعي، وعلى رغم أن «حزب الله» شن هجمات ضد إسرائيل في الخارج، الشيء الذي لم تفعله «حماس»، التي هدفها الأوحد هو القضاء الكلي على إسرائيل كما يقول. ومع هذا وذاك يرى أن ثمة فوارق واضحة بينهما وبين القاعدة. فالقاعدة المنتشرة في أصقاع الدنيا ليست لها أبعاد جغرافية محددة ولا طموحات للسيطرة على بلد بعينه، فطموحاتها تشمل العالم بأسره. وبالتالي، في رأيه، من الواجب رؤية الاختلافات الكامنة بين الحركات «الإرهابية» والتعامل معها في شكل خلاّق.
أما أوجه اختلاف «حماس» عن «القاعدة» فتتلخص بأن الأولى ليست مجرد مجموعة «إرهابية»، فلديها مصالح سياسية واجتماعية وبرامج تعليمية وجمهور، وهي تريد المحافظة عليها، وتدرك أن ثمة ثمناً لذلك. فـ «حماس» تعاونت مع الفصائل الفلسطينية الأخرى عندما انسحبت إسرائيل من غزة، «وشكلت عاملاً مهماً في السماح للجيش الإسرائيلي بأن ينسحب بنظام وكرامة» على حد تعبير هاليفي. فضلاً عن انها شاركت في الانتخابات الفلسطينية، وبالتالي تطمح ان تكون جزءاً من النظام وليس تدمير النظام كما تسعى «القاعدة». ويضيف هاليفي ان قادة «حماس» التقوا الإسرائيليين وتحاوروا معهم، كما ان لـ «حماس شبكة واسعة من العلاقات مع الدول والمنظمات في أنحاء العالم.
ويسترسل هاليفي: «أبلغت (أو بلغت) «حماس» بكل وضوح وصراحة ان ازدواجية مقاربتها للسياسة / الإرهاب مرفوضة ومدانة، وأن عليها الاختيار بينهما. هناك اعتقاد متأصل بأن «حماس» تملك خياراً، وقد تنشأ ظروف تدعى بعدها «حماس» الى الخيمة. بينما «القاعدة» لن تواجه مثل هذا الخيار أبداً. فطبيعة «القاعدة» لا تسمح لها أن تكون شريكاً.
متى يمكن لـ «حماس» أن تنضم؟ من الممكن جداً أن نشهد مزيداً من العنف قبل أن ينضج الوضع ويصل الى نقطة تسمح بأن يحصل هذا. وفي تقويم إيجابيات وسلبيات ضم «حماس»، على العالم الحر بقيادة الولايات المتحدة مع بريطانيا والاتحاد الأوروبي، وأخيراً وليس آخراً إسرائيل، أن يفكر ملياً بمدى إسهام وتأثير مثل هذا التطور على الحرب العالمية ضد «القاعدة»».
أخيراً، من المفيد أن نلقي نظرة على رؤية هاليفي لحل الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي. اعتبر رجل الموساد المخضرم اتفاق أوسلو هشاً وشبيهاً بالجبنة السويسرية، الثقوب فيها أكثر من الجبنة. الهدف الذي سعت للوصول اليه وهو الدولة الفلسطينية، هدف غير قابل للتطبيق. كما يعتبر أن قبول شارون «خريطة الطريق» كان خطأ جسيماً وفاجأه كلياً باعتبار انها تؤسس لفرض حل على إسرائيل من الخارج قائم على الدولتين وتقسيم القدس. هاليفي من أنصار الحل الموقت، باعتبار ان الكراهية وفقدان الثقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين هما من الحدة بحيث يمنعان من عقد اتفاق نهائي للقضايا العالقة بينهما في المدى المنظور.
«يوماً بعد يوم تصبح الحياة أكثر استحالة من أي وقت مضى في التاريخ البشري».
هكذا ينهي هاليفي كتابه، ويؤكد ان الديبلوماسية والمفاوضات في أوقات الحرب والسلم بحاجة الى ملكتي العلم والفن معاً. أما اليوم، فيحتاج العالم، إضافة الى ذلك، الى حرفة الاستخبارات التي هي فن أكثر منها علماً. والكثير مما سيحدث مستقبلاً سيتحقق بالطرق والوسائل السرية، والطريق الى النصر سيعتمد على «حرفة صناعة المستحيل».
نشير أخيراً الى أن افرايم هاليفي ولد في لندن عام 1934 وانتقل الى فلسطين في نيسان (ابريل) 1948. درس الحقوق ومن ثم انضم الى الموساد/ وكالة الاستخبارات الإسرائيلية/ عام 1961. وتدرج الى أن أصبح المسؤول الأول للوكالة (1998 – 2002)، «أقوى وأبرز الوكالات الحكومية السرية في العالم» على حد قول هاليفي. عام 1995 عين سفيراً لإسرائيل لدى الاتحاد الأوروبي. وفي أواخر عام 2002 عين مسؤول «مجلس الأمن القومي». إلا أنه استقال بعد عام واحد، وهو حالياً يمارس التدريس في الجامعة العبرية في القدس.
تجربة أفرايم هاليفي أو ما يستطيع كشفه منها ...
شادية الحلو
«رجل الظلال» الذي عمل ما يناهز الأربعين سنة في قلب الموساد «المجبول» بالأسرار اختار أن تبقى الأسرار مكتومة، واستعاض عن كشفها بالكتابة عن أحداث الشرق الأوسط المضطرب بأسلوب التقرير «البارد» لرجل الاستخبارات.
ومن موقعه المميز والقوي على رأس «الموساد، وأيضاً من موقعه ودوره كمبعوث خاص لعدد من رؤساء الوزراء: شامير، رابين، نتانياهو، باراك، وشارون، يكتب أفرايم هاليفي تاريخ المنطقة في السنوات العشرين الماضية ويقدم تقويمات ورؤى رجل الاستخبارات الإسرائيلي الذي دخل عالم السياسية من باب الأمن ثم أصبح أحد صناعها.
ويعتبر هاليفي ان «السنوات الممتدة ما بين 1990 و2003 غيرت وجه العالم على نحو جذري». إذ تراكمت خلالها السحب من كل حدب وصوب لتؤدي الى اندلاع ما يطلق عليه الكاتب «الحرب العالمية الثالثة». هذه الحرب «التي ما زالت رحاها تدور حتى الآن ما بين الإرهاب الإسلامي العالمي وعالم الغرب الحر بكل ما يمثله من طريقة حياة وقيم». ويحدد هاليفي شرارة الحرب بتفجير سفارتي الولايات المتحدة في كل من نيروبي ودار السلام عام 1998، أي بعد أقل من عشر سنوات على انسحاب السوفيات من أفغانستان (1989)، وتحول أسامة بن لادن نحو التدريب والتعبئة العقائدية للإسلاميين الأصوليين، واستعرت هذه الحرب في رأي الكاتب بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001.
نتوقف بداية عند بعض أهم الاختراقات التي يفتخر هاليفي بإنجازها وفي مقدمها دوره في إنجاز معاهدة السلام بين إسرائيل والأردن عام 1994. إلا أن قيام رئيس الوزراء رابين بكشف دوره هذا لوسائل الإعلام اضطره الى تقديم استقالته من الموساد. الاختراق الآخر هو قيام هاليفي شخصياً بحل الأزمة مع الأردن إثر المحاولة الفاشلة للموساد لاغتيال خالد مشعل قائد «حماس» عام 1997، والتي على أثرها أفرج عن الشيخ أحمد ياسين من السجن الإسرائيلي. والإنجاز الأخير تمثل بالاقتراح «الاستراتيجي» الذي قدمه هاليفي لشارون ومنه لرئيس الولايات المتحدة الذي تبناه فوراً، والقاضي «بتغيير النظام الفلسطيني وإيجاد قيادة بديلة لعرفات». وأصبح هذا الاقتراح سياسة رسمية أميركية وعالمية عندما أعلن بوش في 24 حزيران (يونيو) 2002 عن «الدعوة لقيام قيادة فلسطينية جديدة».
يفرد الكاتب فصلاً عن قيادات المنطقة من العرب والإسرائيليين. وهنا نعرض لرأيه في اثنين هما: ياسر عرفات الذي صنفه هاليفي من ضمن اللاعبين الأساسيين في العقد الأخير من القرن الماضي. لكنه كان في نظره «قائداً فاشلاً» و «كذاباً من الطراز الأول». وعلى رغم ذلك يعترف هاليفي بأن «عرفات استطاع في أصعب الظروف أن يقود شعبه عبر سنين طويلة وأن يرفض قضيته على كل من العالمين العربي والدولي». كما يعتبر ان «كذب» عرفات على رئيس الولايات المتحدة حول عدم معرفته بسفينة «كارين آي» التي كانت تنقل أسلحة للفلسطينيين، ومن ثم استغلاله رئيس الولايات المتحدة مرتين: الأولى لدى قيام الأخير بزيارة غزة وعودته خالي الوفاض سياسياً، والثانية في كامب ديفيد صيف 2000 حيث رفض عرفات، وفق هاليفي، العرض السخي الذي قدم له آنذاك، وذلك كان «تعبيراً عن جهل عرفات بقواعد السلوك الأساسية في العلاقات الدولية، فلا أحد يقول لا لرئيس الولايات المتحدة الأميركية» على حد قول هاليفي. ولهذا السبب دفع عرفات الثمن غالياً باستبعاده نهائياً كمحاور أو طرف يمتلك أدنى صدقية.
لكل روايته ورؤيته للأمور، ومن مهمات رجل الاستخبارات اتباع أساليب التضليل والمراوغة وبث الإشاعات وقلب الحقائق أيضاً. ونورد مثالاً على ذلك بادعاء هاليفي في سياق الحديث عن عرفات بأن إسرائيل التي كانت تطارده في الضفة الغربية المحتلة بعد حرب 1967 بسبب عمليات المقاومة، إنما كانت تريد أن تتصل به لفتح حوار سياسي بقرار صادر عن أعلى المستويات السياسية آنذاك!
أما الشخصية القيادية الثانية التي يتناولها هاليفي، فهي شمعون بيريز، فيوجه اليه النقد العلني لأن الود بينهما كان مفقوداً تماماً، خصوصاً على أرضية الخلافات التي كانت قائمة بين بيريز ورابين، وكان هاليفي مقرباً للأخير.
والكتاب يحفل بمواقف تبرز طموح بيريز غير المحدود في رأي هاليفي، وانه متعطش للأضواء وللمجد بما يلامس المحظور أحياناً.
ومن ضمن ما يفتخر به هاليفي علاقاته الشخصية القوية مع أجهزة الاستخبارات البريطانية والألمانية والإيطالية والروسية، ووكالة الاستخبارات الأميركية ومنها بالتحديد جيمس انغلتون وجورج تنت الذي كان هاليفي يكن له مشاعر خاصة، ويعتبر أن CIA خسرته بعد أن قدم استقالته.
وعلى رغم هذه العلاقات لا يخفي هاليفي انتقاده لسياسات الاتحاد الأوروبي ويعتبرها مساندة للعرب والمسلمين على حساب إسرائيل في كثير من الأحيان، ولا يتوانى عن نعته بـ «نمر من ورق». وأكثر ما يزعجه هو تجاهل الاتحاد ما يعتبره هاليفي أبرز المشاكل التي ستواجهها أوروبا في هذا القرن وهي التغيير الديموغرافي، إذ يرى أن مدناً رئيسة في دول مثل ألمانيا وفيديراليات في روسيا ستشهد منتصف هذا القرن سيطرة غالبية مسلمة. وما يقلقه ارتباط هذا التحول بالحرب الدائرة على «الإرهاب الإسلامي العالمي» وانعكاساته على العالم الغربي ودولة إسرائيل من ضمنه. ويدعو الاتحاد الأوروبي الى سن قوانين خاصة للسيطرة على تزايد الانتشار «الإسلامي والإرهابي».
وفي ما يتعلق بالولايات المتحدة يرى هاليفي ان الخلاف معها غير مسموح به، وهو ينتقد مواقف أقدمت عليها إسرائيل مثل مساندتها للصرب في يوغوسلافيا خلافاً للموقف الأميركي، والاتصال بكوريا الشمالية من وراء ظهر الولايات المتحدة، لكنه لا يخفي شعوره بالمرارة إزاء مسلك الأميركيين أثناء الحرب الأولى على العراق، إذ يدعي أنهم لم يبذلوا جهداً كافياً لحماية إسرائيل عسكرياً، مما يطرح في رأيه أسئلة كثيرة حول موقفهم ازاء الدفاع عن إسرائيل في لحظات الخطر الوجودي الحقيقي.
ينتقد هاليفي سياسة الإدارة الأميركية بالنسبة الى الاجراءات الأمنية والاستخباراتية لـ «مكافحة الإرهاب الدولي»، ويدعوها الى تشكيل جهاز أمني خاص لـ «مكافحة الإرهاب». علماً أن هاليفي تلقى النقد لتقديمه مثل هذا الاقتراح واتهم بأنه يدعو لإقامة أنظمة توتاليتارية. كما يعترف بتعاظم دور المؤسسة الأمنية وأجهزتها المختلفة في خضم الحرب على «الإرهاب» ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وذلك في العالم ككل وفي أميركا وإسرائيل على وجه الخصوص. أحد أهم الأسباب التي يسوقها لتبرير ذلك هو أن «الخلايا الإرهابية العالمية» أوصدت جميع أبواب وقنوات الحوار التقليدية التي كانت سائدة زمن «الحرب الباردة»، لذلك اضطر المستوى السياسي غير المهيأ لمثل هذا التحدي، الى الاعتماد الكلي على أجهزة الأمن والاستخبارات للتزود ليس بالمعلومات فحسب، إنما أيضاً بالمشورة والتشجيع والدعم. هذا ما أدى الى تغير في قواعد اللعبة أصبحت بعدها هذه الأجهزة شريكة في اتخاذ القرار ورسم السياسات.
وبهذا نفهم حماسة أفرايم هاليفي ربيب الأمن والاستخبارات للعب دور رجل السياسة أيضاً. ففي الفصل الأخير من كتابه يضع عنواناً معبراً دعاه «الديبلوماسية – فن الممكن، الاستخبارات حرفة المستحيل». يؤطر في هذا الفصل رؤيته الاستراتيجية للصراع مع تنظيم «القاعدة» والسياسة الواجب اتباعها ليس لمنعه من تحقيق أهدافه فحسب إنما للقضاء عليه.
ويقتبس هاليفي ما جاء في إحدى قنوات التلفزيونات العربية أواسط تشرين الأول (اكتوبر) 2005 بأن «أهداف تنظيم القاعدة التي تحتل أولوية قصوى في الوقت الراهن هي تدمير الولايات المتحدة ونمط حياتها، والقضاء على الأنظمة العربية المعتدلة و «الخائنة».
بينما تعلن «القاعدة» عدم نيتها استهداف إسرائيل لوقت طويل قادم، وبالتالي على فلسطين أيضاً أن تنتظر.
وما يثير الاهتمام أكثر هو الاستراتيجية المضادة التي يضعها هاليفي لمحاربة «الإرهاب الإسلامي العالمي» وعلى رأسه القاعدة، إذ يرى: «ان لا شيء في العالم أهم من وضع خطة مركزية مشتركة للدول المعنية للانتصار في هذه الحرب وتحديد سقف زمني لها، وممارسة أقسى درجات الضغوطات داخلياً ودولياً ورفع درجات المواجهة الجسدية، فضلاً عن معاملة الدول التي تؤمن الملاذ الآمن لـ «الإرهابيين» كدولة مارقة».
لا تستوي الأمور في خطة هاليفي من دون أن يرافق المعركة «نضال داخلي ضمن الإسلام نفسه»، تقوم به حركات مثل «حماس» و «حزب الله» (الأخير بدرجة أقل من «حماس»)، فعلى رغم أنهما حركتان «ارهابيتان» كما يدعي، وعلى رغم أن «حزب الله» شن هجمات ضد إسرائيل في الخارج، الشيء الذي لم تفعله «حماس»، التي هدفها الأوحد هو القضاء الكلي على إسرائيل كما يقول. ومع هذا وذاك يرى أن ثمة فوارق واضحة بينهما وبين القاعدة. فالقاعدة المنتشرة في أصقاع الدنيا ليست لها أبعاد جغرافية محددة ولا طموحات للسيطرة على بلد بعينه، فطموحاتها تشمل العالم بأسره. وبالتالي، في رأيه، من الواجب رؤية الاختلافات الكامنة بين الحركات «الإرهابية» والتعامل معها في شكل خلاّق.
أما أوجه اختلاف «حماس» عن «القاعدة» فتتلخص بأن الأولى ليست مجرد مجموعة «إرهابية»، فلديها مصالح سياسية واجتماعية وبرامج تعليمية وجمهور، وهي تريد المحافظة عليها، وتدرك أن ثمة ثمناً لذلك. فـ «حماس» تعاونت مع الفصائل الفلسطينية الأخرى عندما انسحبت إسرائيل من غزة، «وشكلت عاملاً مهماً في السماح للجيش الإسرائيلي بأن ينسحب بنظام وكرامة» على حد تعبير هاليفي. فضلاً عن انها شاركت في الانتخابات الفلسطينية، وبالتالي تطمح ان تكون جزءاً من النظام وليس تدمير النظام كما تسعى «القاعدة». ويضيف هاليفي ان قادة «حماس» التقوا الإسرائيليين وتحاوروا معهم، كما ان لـ «حماس شبكة واسعة من العلاقات مع الدول والمنظمات في أنحاء العالم.
ويسترسل هاليفي: «أبلغت (أو بلغت) «حماس» بكل وضوح وصراحة ان ازدواجية مقاربتها للسياسة / الإرهاب مرفوضة ومدانة، وأن عليها الاختيار بينهما. هناك اعتقاد متأصل بأن «حماس» تملك خياراً، وقد تنشأ ظروف تدعى بعدها «حماس» الى الخيمة. بينما «القاعدة» لن تواجه مثل هذا الخيار أبداً. فطبيعة «القاعدة» لا تسمح لها أن تكون شريكاً.
متى يمكن لـ «حماس» أن تنضم؟ من الممكن جداً أن نشهد مزيداً من العنف قبل أن ينضج الوضع ويصل الى نقطة تسمح بأن يحصل هذا. وفي تقويم إيجابيات وسلبيات ضم «حماس»، على العالم الحر بقيادة الولايات المتحدة مع بريطانيا والاتحاد الأوروبي، وأخيراً وليس آخراً إسرائيل، أن يفكر ملياً بمدى إسهام وتأثير مثل هذا التطور على الحرب العالمية ضد «القاعدة»».
أخيراً، من المفيد أن نلقي نظرة على رؤية هاليفي لحل الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي. اعتبر رجل الموساد المخضرم اتفاق أوسلو هشاً وشبيهاً بالجبنة السويسرية، الثقوب فيها أكثر من الجبنة. الهدف الذي سعت للوصول اليه وهو الدولة الفلسطينية، هدف غير قابل للتطبيق. كما يعتبر أن قبول شارون «خريطة الطريق» كان خطأ جسيماً وفاجأه كلياً باعتبار انها تؤسس لفرض حل على إسرائيل من الخارج قائم على الدولتين وتقسيم القدس. هاليفي من أنصار الحل الموقت، باعتبار ان الكراهية وفقدان الثقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين هما من الحدة بحيث يمنعان من عقد اتفاق نهائي للقضايا العالقة بينهما في المدى المنظور.
«يوماً بعد يوم تصبح الحياة أكثر استحالة من أي وقت مضى في التاريخ البشري».
هكذا ينهي هاليفي كتابه، ويؤكد ان الديبلوماسية والمفاوضات في أوقات الحرب والسلم بحاجة الى ملكتي العلم والفن معاً. أما اليوم، فيحتاج العالم، إضافة الى ذلك، الى حرفة الاستخبارات التي هي فن أكثر منها علماً. والكثير مما سيحدث مستقبلاً سيتحقق بالطرق والوسائل السرية، والطريق الى النصر سيعتمد على «حرفة صناعة المستحيل».
نشير أخيراً الى أن افرايم هاليفي ولد في لندن عام 1934 وانتقل الى فلسطين في نيسان (ابريل) 1948. درس الحقوق ومن ثم انضم الى الموساد/ وكالة الاستخبارات الإسرائيلية/ عام 1961. وتدرج الى أن أصبح المسؤول الأول للوكالة (1998 – 2002)، «أقوى وأبرز الوكالات الحكومية السرية في العالم» على حد قول هاليفي. عام 1995 عين سفيراً لإسرائيل لدى الاتحاد الأوروبي. وفي أواخر عام 2002 عين مسؤول «مجلس الأمن القومي». إلا أنه استقال بعد عام واحد، وهو حالياً يمارس التدريس في الجامعة العبرية في القدس.