جون
03-08-2007, 01:07 AM
جهيمان بعد 28 عاماً.. نهاية أسطورة
الوقت البحرينية
منصور النقيدان
أولاً: اسمه المهدي محمد بن عبدالله.
ثانيا: نسبه من قريش، من أهل بيت النبي (ص) من ولد فاطمة (رضي).
ثالثاً: إنه يخرجه في ليلة.
رابعاً: إنه أجلى الجبهة، أقنى الأنف.
خامسـاً: إنه يظهـر إلى من ملأ الأرض ظلماً وجـوراً، فيملـؤها قسـطاً وعدلاً.
سادسا: إنه يُبايع بين الركن والمقام.
فاعلمـوا أيها المسلمون.. أنه انطبقت هذه الصفات كلـها..انطبقت هذه الصفات كلها على هذا المهدي الذي سوف تبايعون بعد لحظات بين الركن والمقام، وهو موجود معنا الآن، وكذلك أخوكم جهيمان بن محمد بن سيف العتيبي، وهو موجود أيضـا معنا الآن).
تلك الكلمات السابقة، مقتبسة من الخطبة الشهيرة التي ألقيت على مسامع المصلين والمعتمرين، فجر يوم الثلثاء الأول من العام والقرن الهجري الجديد 1400 للهجرة، العشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني 1979 في المسجد الحرام بمكة.
الخطبة ألقيت على لسان فيصل العجمي، خطيب الجماعة التي احتلت الحرم المكي لخمسة عشر يوماً، حيث لقي مهديها محمد بن عبدالله القحطاني حتفه بعد هذه الخطبة بأربعة أيام في ساحة المسجد، واستسلم جهيمان الذي نفذ فيه حكم الإعدام ضمن 62 شخصاً بعد ذلك بشهرين.
الآباء الملهمون
في ديسمبر/ كانون الأول ,1990 كنت أصغي لشاهر بن هدبا المطيري في منزله بمدينة الزلفي وسط السعودية، وهو يسرد على مسامعنا بعينين دامعتين وصوت متحشرج بالعبرات قصصاً كانت قبل أربعة عقود حكايا عشقها جهيمان الفتى وهو يدرج في مرابعه بهجرة ‘’ساجر’’ غرب العاصمة الرياض، وعينه ترى، وأذناه تسمعان، وفؤاده يعي، والشيوخ يتلون بكل وقار كيف كان أولئك الفرسان يعيشون وكيف كانوا يحبون ويقاتلون، وكيف كانوا يؤمنون ويبغضون، وكيف انتهوا، وكيف يحكي له من بقي منهم قصة أن رجالاً باعوا نفوسهم وأموالهم بذكريات (جاهلية) دفنوها، وصبوات يفاع خلفوها وراءهم ظهرياً، وثارات وأحقاد اجتثوها من سويداء قلوبهم.
هجروا أحبابهم ومرابعهم، باعوا أعز ما يملكون، وطمروا أشواقاً.. خلعوا عادات آبائهم وتعاليم أسلافهم، وكيف أسدل الستار على أسطورتهم، قتلى بسيف من عشقوه وآمنوا به، وزلزلوا القلوب لأجله وتحت رايته. لحقت بهم خيوط لا ترى كخيوط العنكبوت، تشدهم نحو(الجاهلية) الغابرة، فانتهوا أيادي سبأ، ما بين قاطع طريق، أو مثير للاضطرابات، أو جامح نحو السلطة، أو لاجئ إلى الإنجليز جنوب العراق.
هكذا آل أمرهم بعدها، ما بين قتيل أو هارب تلفظه كل أرض، وتشي به كل عين ترصد، وكل أذن تلتقط، وكل صاحب ثأر فقد أباً أو قريباً.
بعد تسليم المتمردين والقضاء على فلولهم. ليأذن صبح عهد جديد، لمملكة حديثة مترامية الأطراف، يحكمها أعظم ملوك العرب في عصره، الملك عبدالعزيز آل سعود.
كان أولئك الماضون من (الإخوان) هم الآباء الروحيون الملهمون لعشرات من أولئك المقاتلين الذين استيقظ العالم صبيحة الحادي والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني 1979 على أصوات خطبتهم، وطلقات رشاشاتهم، في المسجد الحرام، معلنين ظهور مهدي يملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجوراً!
عيون على الحدود
في الثلاثين من شهر يوليو/ تموز العام ,1979 الواقع في الخامس من شهر رمضان العام 1399هـ، ألقت قوات حرس الحدود السعودي القبض على ثماني سيارات قادمة من الكويت تسللت ليلاً، وأثناء التفتيش عثرت أجهزة الأمن على ما يقارب 14000 نسخة من كتيب صغير غلافه وردي اللون، مخبأة تحت أرتال من الأعلاف في سيارة ‘’وانيت’’.
كانت تلك الشحنة المتعثرة واحدة من أخريات وجدت طريقها إلى العمق في الأراضي السعودية. استقرت الحمولة الكبرى أخيراً في مكة المكرمة بعد أن توقفت لأيام في مزرعة في قرية ‘’العمار’’ غرب العاصمة الرياض، وفي ليلة السابع والعشرين من رمضان قام عشرات من الأشخاص المجهولين، ومعهم المصلون في الركعة الأخيرة من صلاة التهجد، بتوزيع الآلاف من ذلك الكتيب في ردهات المسجد الحرام وفي ساحاته. وقد ساهم في إنجاح تلك الحركة الخاطفة صبية وشباب أخذتهم الحماسة من دون علم منهم بما تحويه تلك النشرة. وفي اللحظات نفسها جرى توزيع الكتيب في الرياض والقصيم وحائل ومدن سعودية أخرى بطريقة مشابهة.
الكويت حيث النصرة والمتعاطفون
كان الكتيب هو آخر رسالة ألفها جهيمان بن محمد بن سيف العتيبي، والذي كان قبل عشرين سنة مضت عسكرياً متواضعاً في الحرس الوطني أثناء فترة رئاسة الأمير عبدالله الفيصل الفرحان كما يذكر جهيمان نفسه في إحدى رسائله. كان جهيمان قد ألف رسالة (الإمارة والبيعة والطاعة)، وهو مطارد من أجهزة الأمن السعودية لفترة قاربت السنة والنصف، حينها ضاعفت المباحث العامة حملتها لمطاردته في الشهور الأخيرة من ذلك العام، حيث واكب تحركاته المكثفة غير المعتادة، تشديد أمني في الداخل في المنطقة الوسطى والمدينة المنورة وعلى الحدود السعودية الكويتية، بعدما تأكدت الشكوك باجتياز عدد من المطلوبين للحدود الكويتية.
وكان وزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبدالعزيز قد ذكر في ندوة له في جامعة الرياض في شهر صفر 1400هـ، أن التحقيقات كشفت أن رسائلهم (الجماعة السلفية المحتسبة) كانت تطبع في المطبعة التجارية لدار الطليعة الكويتية، ويجري تهريبها من بعد إلى الأراضي السعودية، الأمر الذي أكده عبدالله النيباري رئيس التحرير الحالي لمجلة ‘’الطليعة’’ في لقاء لي معه أثناء الإعداد لهذا الملف في يناير/ كانون الثاني .2006 وفي ذلك الوقت لم تكن الحدود تشهد فقط تهريب تلك النشرات، بل حركة تهريب متبادلة بين البلدين جرت بين أعضاء الجماعة والمتعاطفين معها.
النفيسي ورسالة إلى من يهمه الأمر
كان أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت عبدالله النفيسي قد التقى خريف 1979 جهيمان في مسجد العباسية بالكويت، وسنحت له الفرصة مرة أخرى بلقاء خاطف مع المهدي محمد بن عبدالله التركي (القحطاني) في ‘’الفنطاس’’. وفي حديث أجريته معه في أوائل شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، ذكر النفيسي أنه كان في شهر رمضان من العام 1399هـ/1979 في شوق عارم لأداء العمرة، ولكنه لم يكن يملك جوازاً يمكنه من دخول الأراضي السعودية بعد أن قامت الحكومة الكويتية بسحب جوازه عقب تأليفه لكتاب (الكويت والرأي الآخر)، ولكنه وجد من يعرض عليه المساعدة بتهريبه إلى داخل الحدود السعودية، وبعد دقائق من اجتيازهم الحدود أحاطت بهم سيارات أمن الحدود السعودي في ‘’الرقعي’’، فقبض عليه متنكراً باسم عبداللطيف الفهد، ضمن عشرين شخصاً، أودعوا السجن في المنطقة الشرقية لأكثر من شهر حيث أطلق سراحهم جميعاً بعد تدخل الشيخ سعد العبدالله الصباح ولي العهد الكويتي، ماعدا شخصاً واحداً هو صاحب ‘’الوانيت الداتسون’’ عبداللطيف الدرباس للتحقيق معه بشأن النشرات.
الألباني يثير قلقاً
تأسست (الجماعة السلفية المحتسبة) التي عرفت فيما بعد باسم أهل الحديث عام ,1966 -حسب ما يؤكده ناصر الحزيمي في أوراقه التي لم تنشر (أيام مع جهيمان) - حيث خضعت لإشراف الشيخ عبدالعزيز بن باز الذي اختار اسمها وباركها، كان ابن باز يشغل منصب رئيس الجامعة الإسلامية، منذ تأسيس الجامعة العام .1960
الجامعة الإسلامية وفي العام 1964 قامت بإنهاء عقد محمد ناصرالدين الألباني عالم الحديث السوري. حيث يذكر الألباني في تسجيـل صوتي له عـن حيـاتــه العلمية، أن عدداً من أساتذة الجامعة رفعوا شكاوى متكررة من استفراده بالطلاب وتأثيره عليهم وإحداثه انقلاباً أبقى أثره في طرق تدريس الحديث النبوي والاحتجاج بصحيح السنة وذم التمـذهب والتعصـب له حتى اليوم.
أنهت الجامعة عقد الألباني ولكنه استمر في الالتقاء بطلابه ومريديه والمتتلمذين على كتبه كل سنة أثناء زياراته للسعودية لأداء العمرة والحج، فيما بقيت كتبه مصدر إلهام يحتذيه تلاميذه، كما استمرت علاقته الوثيقة بصديقه الوفي الأثير على نفسه الشيخ ابن باز.
كان الألباني أحد قلائل يعدون على أصابع اليد الواحدة، ممن وضعوا بصماتهم على الخطاب الإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين. وعلى رغم التجاهل الذي قابله به الإخوان المسلمون لسنوات طويلة، إلا أن تأثيره الحقيقي وسطوته على الإسلام الحركي بدأت بالتعاظم منتصف الثمانينات الميلادية وحتى منتصف التسعينات من القرن الميلادي المنصرم.
الكاريزما
منتصف 1979 كان أبومحمد، وهي الكنية المحببة إلى جهيمان، قلقاً من أن يتم القبض عليه قبل أن يتمكن من تحقيق حلم راوده منذ القدم، وسعى لتحقيقه تسعَ سنوات مرت بطيئة ملأى بالأحداث والتقلبات، وهو عاكف على دراسة كل ما روته كتب السنة، والفتن والملاحم، عن ظهور رجل من بيت الرسول في آخر الزمان، بعد أن ملأت الأرض ظلما وجورا، فيشيع العدل والقسط. أعوام تسعة عجمت عوده، وهيأته لقيادة شباب الجماعة والمنضمين إليها حديثاً.
في لقاء مع جريدة ‘’السفير’’ اللبنانية في يناير/ كانون الثاني 1980 أشار ولي العهد السعودي الأمير فهد بن عبدالعزيز، إلى أن جهيمان لم يكن سوى (رجل عادي إلى درجة متناهية، وأنه متواضع لغوياً وفكرياً، وأنه لا يمتلك من القدرات ما يمكنه من تأليف كتب). ولكن ذلك الإنسان المتواضع كان قادراً على قيادة 250 مسلحاً اعتصموا بالمسجد الحرام لأسبوعين، حبست أنفاس المسلمين في العالم أجمع، وخلفت آلاماً عميقة، ووضعت بصمتها حتى اليوم على السياسة السعودية. وفي الوقت ذاته كان جهيمان لكثير من ذوي التوجهات المتناقضة شخصية ملهمة تتلقى الثناء والإعجاب.
كان الأمن السعودي أوائل مطلع ,1979 يجري تحقيقاً متواصلاً مع أشخاص اتهموا بكتابة رسائل جهيمان، أو ساعدوه في كتابتها، كشيخه اليمني عالم الحديث، مقبل بن هادي الوادعي (توفي في أميركا 2001)، الذي يذكر في سيرته الذاتية الصوتية، أن علاقته بتلميذه جهيمان كان يشوبها القطيعة والهجران، بسبب آراء الأخير في رسائله التي بدأ بنشرها منذ العام ,1977 ورغم كل ذلك، وعلى رغم انفراط عقد الجماعة بعد اجتماع بيت ‘’الحرة الشرقية’’ الذي حضره عدد من القضاة وأساتذة الجامعة الإسلامية، لتحديد موقف أعضائها من عدد من المسائل الفقهية، مثل ‘’التثويب في الأذان الأول لصلاة الفجر، والسترة في الصلاة’’.
وقد استفرد جهيمان بعدها بقيادة ما يربو على ثلاثمئة شخص كان في عدادهم من يفوقه علماً ويكبره سناً، وربما كرماً وسخاء، وانضم إلى الجماعة- حسب ما يؤكده مقبل الوادعي في كتابه’’ المخرج من الفتنة’’- أفراد قلائل من المصريين يحملون أفكار جماعة التكفير والهجرة، وجماعة ‘’الوقف والتبين’’ ممن سكنوا المدينة المنورة والتحقوا للدراسة بالجامعة الإسلامية.
طوى جهيمان أعضاء الجماعة تحت عباءته مع الشرارة الأولى لبدء الانحراف عن تعاليم وخط المؤسسين الذين رعوها منذ نشأتها.
التعاليم والأفكار
كانت أفكار الجماعة مزيجاً سلفياً من نهج الألباني وتعاليم ابن باز الذي خلط الفقه بالحديث، وكان نهجاً مغايراً لنظرائه من علماء الوهابية الذين لم يكن فيهم من يعتني بعلم الحديث وطرقه ورجاله. وعلى رغم ما قيل عن تميز سليمان بن عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب بمعرفة الرجال، حيث ذكر من ترجم له أنه كان يقول ‘’إنني برجال الحديث أعلم مني بأهل الدرعية’’، والأساطير التي حيكت عن سعد بن حمد بن عتيق الذي سافر إلى الهند لطلب العلم وعاد كما ذهب، وأبقى تركة متواضعة جداً لا تزيد عن بضع رسائل وحواشِ على كتب الحنابلة، لا تعكس شيئاً ذا بال.
كتب الألباني وأفكاره (التصفية والتربية)، لقيت رواجاً لدى سلفيي الكويت، وخصوصاً أنه كان من طلابه في الجامعة الإسلامية زعيم سلفيي الكويت عبدالرحمن عبدالخالق، الذي كان يعتمد آراء الألباني واجتهاداته. كما أنه حظي بأتباع مخلصين لدى سلفيي المدينة المنورة، وأهل الحرة الشرقية، فأفكاره كانت هي الوشيجة والرحم الموصول بين الضفتين، ومع كل موسم حج تطرح على الألباني في مكة والمدينة قضايا ذات حساسية شديدة داخل الجماعة وإشكالات عقدية وحركية وخلافات بين أعضائها يقوم بالتوسط فيها وإصلاح ذات البين.
وفي كتاب الألباني حياته وآثاره لمحمد الشيباني تفاصيل بهذا الخصوص، في رسالة البيان والتفصيل لمحمد بن عبدالله التركي ‘’القحطاني’’( المهدي المزعوم. لقي حتفه في ساحة الحرم المكي في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 1979)، أورد أسماء خمسة من كتب الألباني ضمن قائمة من العناوين ينبغي على طالب العلم أن يقتنيها، وجاء في القائمة ‘’إتحاف الجماعة’’ لحمود بن عبدالله التويجري ‘’توفي في الرياض ‘’1992 الصادر العام ,1975 وأضواء البيان للأمين الشنقيطي. وبعد ست سنوات قام الشيخ التويجري نفسه بتأليف كتاب تضمنت صفحاته تضليلاً لجهيمان ولحركته.
كانت الجماعة حتى العام 1396هـ - ,1976 تنشط في القرى وهجر البدو والأماكن النائية عن الحواضر والمدن، تدعو إلى اتباع الكتاب والسنة وتعظيم أحاديث الرسول، مع ذم لفقهاء أهل المذاهب الذين يقدمون أقوال أئمتهم على صحيح السنة. في ذم مبطن لـ’’كبار العلماء’’ السعوديين الذين يذكر جهيمان في إحدى رسائله أنهم صنفان: من لحق بالسلاطين، ومن لحق بالتجار.
ولادة عهد جديد
في خريف 1939 - نصب رأس شيخ ضمخت لحيته بالحناء، في كوة أمام سجناء قصر ‘’المصمك’’ في العاصمة الرياض، بعد محاولة فاشلة للهروب أبقته بعد سقوطه من السور في الرمق الأخير حيث أجهز عليه الحراس وقتها.
كانت تلك محاولة يائسة بعد عشر سنوات مضت على تمرد السبلة العام ,1929 وكان جهجاه بن حميد أخو سلطان بن بجاد قد أرسل مجموعة من نسوة أسرته (الحمدة) ومعهن أفراس من أصايل خيلهم المشهورة إلى الرياض للقاء عبدالعزيز، عسى أن يخفف ذلك من غضب الملك العظيم ويعفو عن (سلطان الدين). كان استقباله لهن فاتراً، وبعد أن مللن المقام وأيسن من لقائه، طلبن الإذن بالانصراف فأذن لهن وعدن بالهدايا، بعدها كتب عبدالعزيز إلى جهجاه ‘’إرسالك حريم الحمدة ما له معنى، الظاهر انك تجهل طباعي، وانك تظن أني مثل (البقرة) وإذا جرت بأذنها ربضت، أنا رجل مؤمن، طباعي طباع المؤمن القوي، في الرخاء لين، وفي الشدة قاس، وليست طباعي طباع المنافق، في الرخاء قاس، وفي الشدة ليِّن’’!.
جراح لم تندمل
شتاء 1408هج-1988 وبعد قرابة عقد من السنين على احتلال الحرم، وقفت أمام مكتبة صغيرة شرقي جامع الإمام تركي بن عبدالله في الرياض، وبينما تغاضى صاحب المكتبة عن تنقيبي في الأدراج السفلية أنفض الغبار عن ركام من الكتب، وأقلبها، ظهر لي من بينها رزمة حوت نسخاً مكررة لكتاب بحجم الكف، سحبت واحداً منها، قلبته وفتحت الصفحة الأخيرة منه، وأثار دهشتي أن آخر صفحاته موقعة باسم (جهيمان بن محمد بن سيف العتيبي).
اقتربت من صاحب المكتبة وكان في أواخر الخمسين من عمره فسألته عنها وكيف وصلت إليه، وبينما هو يتصفحها تبسم وقال لا، هذه ليست للبيع، هذه مضى عليها تسع سنوات وهي منسية مركونة هناك وليس هذا مكانها، أخذ بعدها يحدثني عن ابنه سلطان ابن الستة عشر عاماً الذي واجه الموت بشجاعة، ومع إصراري وإلحاحي سمح لي بأخذ نسخة واحدة، كانت تلك هي رسالة (الإمارة والبيعة والطاعة).
***
كان طموح جهيمان إلى قيادة عشرات من الأشخاص ذوي المراس الصعب، أمراً بالغ الصعـــوبة. صحيح إن الأجواء كانت متاحة له بعد العام 1977 لينفرد بنصيب الأسد من المناصرين، والمتعاطفين، وصغـــار الســن، والـــذين التحقوا حديثاً بالجماعـــة، ووجـــدوا في جهيمان بغيتهم، يشحنهم ويحيي فيهـــم روح التمــرد، ويغــض الطـــرف عن طيشهم. كمــــا مكنـتـــــه مــــن إضـــعــــاف دور ‘’أبوبكــــر الجـــزائــــري’’ وغـــيره من شيـــوخ الجماعـــة المؤسســين. وكـــان الجزائري قد خلـــف ابن باز في الإشراف على الجماعـــة بعـــد انتقاله إلى الرياض، ليتولى منصب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتـــــاء، العـــــام .1974
كان غياب جهيمان المتكرر عن بيت ‘’الحرة الشرقية’’، وجولاته التي لا تنقطع على متن إحدى سيارتيه ‘’البيجو’’ أو ‘’الصالون’’ وحيداً أو بصحبة أحدهم، لزيارة باقي أفراد الجماعة والمحبين لها، والمنتشرين في عدد من مدن المملكة، وبواديها، كان ذلك أحد العوامل التي أضفت عليه رونقاً خاصاً، وغموضاً ساحراً. ينقل مراسيلهم ووصاياهم، ويتفقد أحوالهم، في فترة لم يكن فيها الهاتف متاحاً للغالبية العظمى منهم، فضلاً عن أن كثيراً منهم كانوا يقطنون البوادي والهجر.
كل ذلك منح جهيمان خبرة بشؤون الجماعة وخباياها، وبالتالي القدرة الفائقة على التأثير والانحياز بالأغلبية تجاه مواقفه من الأشخاص وأحكامه فيهم. يذكر مقبل الوادعي في كتابه ‘’المخرج من الفتنة’’ (1983)، أن جهيمان اتهم عدداً من المشايخ بأنهم كانوا مخبرين للحكومة، واتهم أحد كبار الجماعة ‘’أبوبكر الجزائري’’ بتسريب أسرار الجماعة والأحاديث التي تجري في مجالسهم الخاصة، وفي كل مرة كان يجد تأييداً منقطع النظير، وكان فالح بن نافع الحربي الأستاذ بمعهد المعلمين بالمدينة المنورة، وهو أحد الذين قاطعوا الجماعة في وقت متأخر، وفي سؤال وجه إليه عن علاقته بجهيمان في مكة المكرمة العام ,2002 ذكر أن جهيمان وفيصل العجمي (الذي ألقى الخطبة الشهيرة عن ظهور المهدي في المسجد الحرام) قاما بسحبه وطرده من بيت ومسجد ‘’الحرة الشرقية’’، وأغلقا الباب بوجهه في حادثة أخرى.
الوقت البحرينية
منصور النقيدان
أولاً: اسمه المهدي محمد بن عبدالله.
ثانيا: نسبه من قريش، من أهل بيت النبي (ص) من ولد فاطمة (رضي).
ثالثاً: إنه يخرجه في ليلة.
رابعاً: إنه أجلى الجبهة، أقنى الأنف.
خامسـاً: إنه يظهـر إلى من ملأ الأرض ظلماً وجـوراً، فيملـؤها قسـطاً وعدلاً.
سادسا: إنه يُبايع بين الركن والمقام.
فاعلمـوا أيها المسلمون.. أنه انطبقت هذه الصفات كلـها..انطبقت هذه الصفات كلها على هذا المهدي الذي سوف تبايعون بعد لحظات بين الركن والمقام، وهو موجود معنا الآن، وكذلك أخوكم جهيمان بن محمد بن سيف العتيبي، وهو موجود أيضـا معنا الآن).
تلك الكلمات السابقة، مقتبسة من الخطبة الشهيرة التي ألقيت على مسامع المصلين والمعتمرين، فجر يوم الثلثاء الأول من العام والقرن الهجري الجديد 1400 للهجرة، العشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني 1979 في المسجد الحرام بمكة.
الخطبة ألقيت على لسان فيصل العجمي، خطيب الجماعة التي احتلت الحرم المكي لخمسة عشر يوماً، حيث لقي مهديها محمد بن عبدالله القحطاني حتفه بعد هذه الخطبة بأربعة أيام في ساحة المسجد، واستسلم جهيمان الذي نفذ فيه حكم الإعدام ضمن 62 شخصاً بعد ذلك بشهرين.
الآباء الملهمون
في ديسمبر/ كانون الأول ,1990 كنت أصغي لشاهر بن هدبا المطيري في منزله بمدينة الزلفي وسط السعودية، وهو يسرد على مسامعنا بعينين دامعتين وصوت متحشرج بالعبرات قصصاً كانت قبل أربعة عقود حكايا عشقها جهيمان الفتى وهو يدرج في مرابعه بهجرة ‘’ساجر’’ غرب العاصمة الرياض، وعينه ترى، وأذناه تسمعان، وفؤاده يعي، والشيوخ يتلون بكل وقار كيف كان أولئك الفرسان يعيشون وكيف كانوا يحبون ويقاتلون، وكيف كانوا يؤمنون ويبغضون، وكيف انتهوا، وكيف يحكي له من بقي منهم قصة أن رجالاً باعوا نفوسهم وأموالهم بذكريات (جاهلية) دفنوها، وصبوات يفاع خلفوها وراءهم ظهرياً، وثارات وأحقاد اجتثوها من سويداء قلوبهم.
هجروا أحبابهم ومرابعهم، باعوا أعز ما يملكون، وطمروا أشواقاً.. خلعوا عادات آبائهم وتعاليم أسلافهم، وكيف أسدل الستار على أسطورتهم، قتلى بسيف من عشقوه وآمنوا به، وزلزلوا القلوب لأجله وتحت رايته. لحقت بهم خيوط لا ترى كخيوط العنكبوت، تشدهم نحو(الجاهلية) الغابرة، فانتهوا أيادي سبأ، ما بين قاطع طريق، أو مثير للاضطرابات، أو جامح نحو السلطة، أو لاجئ إلى الإنجليز جنوب العراق.
هكذا آل أمرهم بعدها، ما بين قتيل أو هارب تلفظه كل أرض، وتشي به كل عين ترصد، وكل أذن تلتقط، وكل صاحب ثأر فقد أباً أو قريباً.
بعد تسليم المتمردين والقضاء على فلولهم. ليأذن صبح عهد جديد، لمملكة حديثة مترامية الأطراف، يحكمها أعظم ملوك العرب في عصره، الملك عبدالعزيز آل سعود.
كان أولئك الماضون من (الإخوان) هم الآباء الروحيون الملهمون لعشرات من أولئك المقاتلين الذين استيقظ العالم صبيحة الحادي والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني 1979 على أصوات خطبتهم، وطلقات رشاشاتهم، في المسجد الحرام، معلنين ظهور مهدي يملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجوراً!
عيون على الحدود
في الثلاثين من شهر يوليو/ تموز العام ,1979 الواقع في الخامس من شهر رمضان العام 1399هـ، ألقت قوات حرس الحدود السعودي القبض على ثماني سيارات قادمة من الكويت تسللت ليلاً، وأثناء التفتيش عثرت أجهزة الأمن على ما يقارب 14000 نسخة من كتيب صغير غلافه وردي اللون، مخبأة تحت أرتال من الأعلاف في سيارة ‘’وانيت’’.
كانت تلك الشحنة المتعثرة واحدة من أخريات وجدت طريقها إلى العمق في الأراضي السعودية. استقرت الحمولة الكبرى أخيراً في مكة المكرمة بعد أن توقفت لأيام في مزرعة في قرية ‘’العمار’’ غرب العاصمة الرياض، وفي ليلة السابع والعشرين من رمضان قام عشرات من الأشخاص المجهولين، ومعهم المصلون في الركعة الأخيرة من صلاة التهجد، بتوزيع الآلاف من ذلك الكتيب في ردهات المسجد الحرام وفي ساحاته. وقد ساهم في إنجاح تلك الحركة الخاطفة صبية وشباب أخذتهم الحماسة من دون علم منهم بما تحويه تلك النشرة. وفي اللحظات نفسها جرى توزيع الكتيب في الرياض والقصيم وحائل ومدن سعودية أخرى بطريقة مشابهة.
الكويت حيث النصرة والمتعاطفون
كان الكتيب هو آخر رسالة ألفها جهيمان بن محمد بن سيف العتيبي، والذي كان قبل عشرين سنة مضت عسكرياً متواضعاً في الحرس الوطني أثناء فترة رئاسة الأمير عبدالله الفيصل الفرحان كما يذكر جهيمان نفسه في إحدى رسائله. كان جهيمان قد ألف رسالة (الإمارة والبيعة والطاعة)، وهو مطارد من أجهزة الأمن السعودية لفترة قاربت السنة والنصف، حينها ضاعفت المباحث العامة حملتها لمطاردته في الشهور الأخيرة من ذلك العام، حيث واكب تحركاته المكثفة غير المعتادة، تشديد أمني في الداخل في المنطقة الوسطى والمدينة المنورة وعلى الحدود السعودية الكويتية، بعدما تأكدت الشكوك باجتياز عدد من المطلوبين للحدود الكويتية.
وكان وزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبدالعزيز قد ذكر في ندوة له في جامعة الرياض في شهر صفر 1400هـ، أن التحقيقات كشفت أن رسائلهم (الجماعة السلفية المحتسبة) كانت تطبع في المطبعة التجارية لدار الطليعة الكويتية، ويجري تهريبها من بعد إلى الأراضي السعودية، الأمر الذي أكده عبدالله النيباري رئيس التحرير الحالي لمجلة ‘’الطليعة’’ في لقاء لي معه أثناء الإعداد لهذا الملف في يناير/ كانون الثاني .2006 وفي ذلك الوقت لم تكن الحدود تشهد فقط تهريب تلك النشرات، بل حركة تهريب متبادلة بين البلدين جرت بين أعضاء الجماعة والمتعاطفين معها.
النفيسي ورسالة إلى من يهمه الأمر
كان أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت عبدالله النفيسي قد التقى خريف 1979 جهيمان في مسجد العباسية بالكويت، وسنحت له الفرصة مرة أخرى بلقاء خاطف مع المهدي محمد بن عبدالله التركي (القحطاني) في ‘’الفنطاس’’. وفي حديث أجريته معه في أوائل شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، ذكر النفيسي أنه كان في شهر رمضان من العام 1399هـ/1979 في شوق عارم لأداء العمرة، ولكنه لم يكن يملك جوازاً يمكنه من دخول الأراضي السعودية بعد أن قامت الحكومة الكويتية بسحب جوازه عقب تأليفه لكتاب (الكويت والرأي الآخر)، ولكنه وجد من يعرض عليه المساعدة بتهريبه إلى داخل الحدود السعودية، وبعد دقائق من اجتيازهم الحدود أحاطت بهم سيارات أمن الحدود السعودي في ‘’الرقعي’’، فقبض عليه متنكراً باسم عبداللطيف الفهد، ضمن عشرين شخصاً، أودعوا السجن في المنطقة الشرقية لأكثر من شهر حيث أطلق سراحهم جميعاً بعد تدخل الشيخ سعد العبدالله الصباح ولي العهد الكويتي، ماعدا شخصاً واحداً هو صاحب ‘’الوانيت الداتسون’’ عبداللطيف الدرباس للتحقيق معه بشأن النشرات.
الألباني يثير قلقاً
تأسست (الجماعة السلفية المحتسبة) التي عرفت فيما بعد باسم أهل الحديث عام ,1966 -حسب ما يؤكده ناصر الحزيمي في أوراقه التي لم تنشر (أيام مع جهيمان) - حيث خضعت لإشراف الشيخ عبدالعزيز بن باز الذي اختار اسمها وباركها، كان ابن باز يشغل منصب رئيس الجامعة الإسلامية، منذ تأسيس الجامعة العام .1960
الجامعة الإسلامية وفي العام 1964 قامت بإنهاء عقد محمد ناصرالدين الألباني عالم الحديث السوري. حيث يذكر الألباني في تسجيـل صوتي له عـن حيـاتــه العلمية، أن عدداً من أساتذة الجامعة رفعوا شكاوى متكررة من استفراده بالطلاب وتأثيره عليهم وإحداثه انقلاباً أبقى أثره في طرق تدريس الحديث النبوي والاحتجاج بصحيح السنة وذم التمـذهب والتعصـب له حتى اليوم.
أنهت الجامعة عقد الألباني ولكنه استمر في الالتقاء بطلابه ومريديه والمتتلمذين على كتبه كل سنة أثناء زياراته للسعودية لأداء العمرة والحج، فيما بقيت كتبه مصدر إلهام يحتذيه تلاميذه، كما استمرت علاقته الوثيقة بصديقه الوفي الأثير على نفسه الشيخ ابن باز.
كان الألباني أحد قلائل يعدون على أصابع اليد الواحدة، ممن وضعوا بصماتهم على الخطاب الإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين. وعلى رغم التجاهل الذي قابله به الإخوان المسلمون لسنوات طويلة، إلا أن تأثيره الحقيقي وسطوته على الإسلام الحركي بدأت بالتعاظم منتصف الثمانينات الميلادية وحتى منتصف التسعينات من القرن الميلادي المنصرم.
الكاريزما
منتصف 1979 كان أبومحمد، وهي الكنية المحببة إلى جهيمان، قلقاً من أن يتم القبض عليه قبل أن يتمكن من تحقيق حلم راوده منذ القدم، وسعى لتحقيقه تسعَ سنوات مرت بطيئة ملأى بالأحداث والتقلبات، وهو عاكف على دراسة كل ما روته كتب السنة، والفتن والملاحم، عن ظهور رجل من بيت الرسول في آخر الزمان، بعد أن ملأت الأرض ظلما وجورا، فيشيع العدل والقسط. أعوام تسعة عجمت عوده، وهيأته لقيادة شباب الجماعة والمنضمين إليها حديثاً.
في لقاء مع جريدة ‘’السفير’’ اللبنانية في يناير/ كانون الثاني 1980 أشار ولي العهد السعودي الأمير فهد بن عبدالعزيز، إلى أن جهيمان لم يكن سوى (رجل عادي إلى درجة متناهية، وأنه متواضع لغوياً وفكرياً، وأنه لا يمتلك من القدرات ما يمكنه من تأليف كتب). ولكن ذلك الإنسان المتواضع كان قادراً على قيادة 250 مسلحاً اعتصموا بالمسجد الحرام لأسبوعين، حبست أنفاس المسلمين في العالم أجمع، وخلفت آلاماً عميقة، ووضعت بصمتها حتى اليوم على السياسة السعودية. وفي الوقت ذاته كان جهيمان لكثير من ذوي التوجهات المتناقضة شخصية ملهمة تتلقى الثناء والإعجاب.
كان الأمن السعودي أوائل مطلع ,1979 يجري تحقيقاً متواصلاً مع أشخاص اتهموا بكتابة رسائل جهيمان، أو ساعدوه في كتابتها، كشيخه اليمني عالم الحديث، مقبل بن هادي الوادعي (توفي في أميركا 2001)، الذي يذكر في سيرته الذاتية الصوتية، أن علاقته بتلميذه جهيمان كان يشوبها القطيعة والهجران، بسبب آراء الأخير في رسائله التي بدأ بنشرها منذ العام ,1977 ورغم كل ذلك، وعلى رغم انفراط عقد الجماعة بعد اجتماع بيت ‘’الحرة الشرقية’’ الذي حضره عدد من القضاة وأساتذة الجامعة الإسلامية، لتحديد موقف أعضائها من عدد من المسائل الفقهية، مثل ‘’التثويب في الأذان الأول لصلاة الفجر، والسترة في الصلاة’’.
وقد استفرد جهيمان بعدها بقيادة ما يربو على ثلاثمئة شخص كان في عدادهم من يفوقه علماً ويكبره سناً، وربما كرماً وسخاء، وانضم إلى الجماعة- حسب ما يؤكده مقبل الوادعي في كتابه’’ المخرج من الفتنة’’- أفراد قلائل من المصريين يحملون أفكار جماعة التكفير والهجرة، وجماعة ‘’الوقف والتبين’’ ممن سكنوا المدينة المنورة والتحقوا للدراسة بالجامعة الإسلامية.
طوى جهيمان أعضاء الجماعة تحت عباءته مع الشرارة الأولى لبدء الانحراف عن تعاليم وخط المؤسسين الذين رعوها منذ نشأتها.
التعاليم والأفكار
كانت أفكار الجماعة مزيجاً سلفياً من نهج الألباني وتعاليم ابن باز الذي خلط الفقه بالحديث، وكان نهجاً مغايراً لنظرائه من علماء الوهابية الذين لم يكن فيهم من يعتني بعلم الحديث وطرقه ورجاله. وعلى رغم ما قيل عن تميز سليمان بن عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب بمعرفة الرجال، حيث ذكر من ترجم له أنه كان يقول ‘’إنني برجال الحديث أعلم مني بأهل الدرعية’’، والأساطير التي حيكت عن سعد بن حمد بن عتيق الذي سافر إلى الهند لطلب العلم وعاد كما ذهب، وأبقى تركة متواضعة جداً لا تزيد عن بضع رسائل وحواشِ على كتب الحنابلة، لا تعكس شيئاً ذا بال.
كتب الألباني وأفكاره (التصفية والتربية)، لقيت رواجاً لدى سلفيي الكويت، وخصوصاً أنه كان من طلابه في الجامعة الإسلامية زعيم سلفيي الكويت عبدالرحمن عبدالخالق، الذي كان يعتمد آراء الألباني واجتهاداته. كما أنه حظي بأتباع مخلصين لدى سلفيي المدينة المنورة، وأهل الحرة الشرقية، فأفكاره كانت هي الوشيجة والرحم الموصول بين الضفتين، ومع كل موسم حج تطرح على الألباني في مكة والمدينة قضايا ذات حساسية شديدة داخل الجماعة وإشكالات عقدية وحركية وخلافات بين أعضائها يقوم بالتوسط فيها وإصلاح ذات البين.
وفي كتاب الألباني حياته وآثاره لمحمد الشيباني تفاصيل بهذا الخصوص، في رسالة البيان والتفصيل لمحمد بن عبدالله التركي ‘’القحطاني’’( المهدي المزعوم. لقي حتفه في ساحة الحرم المكي في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 1979)، أورد أسماء خمسة من كتب الألباني ضمن قائمة من العناوين ينبغي على طالب العلم أن يقتنيها، وجاء في القائمة ‘’إتحاف الجماعة’’ لحمود بن عبدالله التويجري ‘’توفي في الرياض ‘’1992 الصادر العام ,1975 وأضواء البيان للأمين الشنقيطي. وبعد ست سنوات قام الشيخ التويجري نفسه بتأليف كتاب تضمنت صفحاته تضليلاً لجهيمان ولحركته.
كانت الجماعة حتى العام 1396هـ - ,1976 تنشط في القرى وهجر البدو والأماكن النائية عن الحواضر والمدن، تدعو إلى اتباع الكتاب والسنة وتعظيم أحاديث الرسول، مع ذم لفقهاء أهل المذاهب الذين يقدمون أقوال أئمتهم على صحيح السنة. في ذم مبطن لـ’’كبار العلماء’’ السعوديين الذين يذكر جهيمان في إحدى رسائله أنهم صنفان: من لحق بالسلاطين، ومن لحق بالتجار.
ولادة عهد جديد
في خريف 1939 - نصب رأس شيخ ضمخت لحيته بالحناء، في كوة أمام سجناء قصر ‘’المصمك’’ في العاصمة الرياض، بعد محاولة فاشلة للهروب أبقته بعد سقوطه من السور في الرمق الأخير حيث أجهز عليه الحراس وقتها.
كانت تلك محاولة يائسة بعد عشر سنوات مضت على تمرد السبلة العام ,1929 وكان جهجاه بن حميد أخو سلطان بن بجاد قد أرسل مجموعة من نسوة أسرته (الحمدة) ومعهن أفراس من أصايل خيلهم المشهورة إلى الرياض للقاء عبدالعزيز، عسى أن يخفف ذلك من غضب الملك العظيم ويعفو عن (سلطان الدين). كان استقباله لهن فاتراً، وبعد أن مللن المقام وأيسن من لقائه، طلبن الإذن بالانصراف فأذن لهن وعدن بالهدايا، بعدها كتب عبدالعزيز إلى جهجاه ‘’إرسالك حريم الحمدة ما له معنى، الظاهر انك تجهل طباعي، وانك تظن أني مثل (البقرة) وإذا جرت بأذنها ربضت، أنا رجل مؤمن، طباعي طباع المؤمن القوي، في الرخاء لين، وفي الشدة قاس، وليست طباعي طباع المنافق، في الرخاء قاس، وفي الشدة ليِّن’’!.
جراح لم تندمل
شتاء 1408هج-1988 وبعد قرابة عقد من السنين على احتلال الحرم، وقفت أمام مكتبة صغيرة شرقي جامع الإمام تركي بن عبدالله في الرياض، وبينما تغاضى صاحب المكتبة عن تنقيبي في الأدراج السفلية أنفض الغبار عن ركام من الكتب، وأقلبها، ظهر لي من بينها رزمة حوت نسخاً مكررة لكتاب بحجم الكف، سحبت واحداً منها، قلبته وفتحت الصفحة الأخيرة منه، وأثار دهشتي أن آخر صفحاته موقعة باسم (جهيمان بن محمد بن سيف العتيبي).
اقتربت من صاحب المكتبة وكان في أواخر الخمسين من عمره فسألته عنها وكيف وصلت إليه، وبينما هو يتصفحها تبسم وقال لا، هذه ليست للبيع، هذه مضى عليها تسع سنوات وهي منسية مركونة هناك وليس هذا مكانها، أخذ بعدها يحدثني عن ابنه سلطان ابن الستة عشر عاماً الذي واجه الموت بشجاعة، ومع إصراري وإلحاحي سمح لي بأخذ نسخة واحدة، كانت تلك هي رسالة (الإمارة والبيعة والطاعة).
***
كان طموح جهيمان إلى قيادة عشرات من الأشخاص ذوي المراس الصعب، أمراً بالغ الصعـــوبة. صحيح إن الأجواء كانت متاحة له بعد العام 1977 لينفرد بنصيب الأسد من المناصرين، والمتعاطفين، وصغـــار الســن، والـــذين التحقوا حديثاً بالجماعـــة، ووجـــدوا في جهيمان بغيتهم، يشحنهم ويحيي فيهـــم روح التمــرد، ويغــض الطـــرف عن طيشهم. كمــــا مكنـتـــــه مــــن إضـــعــــاف دور ‘’أبوبكــــر الجـــزائــــري’’ وغـــيره من شيـــوخ الجماعـــة المؤسســين. وكـــان الجزائري قد خلـــف ابن باز في الإشراف على الجماعـــة بعـــد انتقاله إلى الرياض، ليتولى منصب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتـــــاء، العـــــام .1974
كان غياب جهيمان المتكرر عن بيت ‘’الحرة الشرقية’’، وجولاته التي لا تنقطع على متن إحدى سيارتيه ‘’البيجو’’ أو ‘’الصالون’’ وحيداً أو بصحبة أحدهم، لزيارة باقي أفراد الجماعة والمحبين لها، والمنتشرين في عدد من مدن المملكة، وبواديها، كان ذلك أحد العوامل التي أضفت عليه رونقاً خاصاً، وغموضاً ساحراً. ينقل مراسيلهم ووصاياهم، ويتفقد أحوالهم، في فترة لم يكن فيها الهاتف متاحاً للغالبية العظمى منهم، فضلاً عن أن كثيراً منهم كانوا يقطنون البوادي والهجر.
كل ذلك منح جهيمان خبرة بشؤون الجماعة وخباياها، وبالتالي القدرة الفائقة على التأثير والانحياز بالأغلبية تجاه مواقفه من الأشخاص وأحكامه فيهم. يذكر مقبل الوادعي في كتابه ‘’المخرج من الفتنة’’ (1983)، أن جهيمان اتهم عدداً من المشايخ بأنهم كانوا مخبرين للحكومة، واتهم أحد كبار الجماعة ‘’أبوبكر الجزائري’’ بتسريب أسرار الجماعة والأحاديث التي تجري في مجالسهم الخاصة، وفي كل مرة كان يجد تأييداً منقطع النظير، وكان فالح بن نافع الحربي الأستاذ بمعهد المعلمين بالمدينة المنورة، وهو أحد الذين قاطعوا الجماعة في وقت متأخر، وفي سؤال وجه إليه عن علاقته بجهيمان في مكة المكرمة العام ,2002 ذكر أن جهيمان وفيصل العجمي (الذي ألقى الخطبة الشهيرة عن ظهور المهدي في المسجد الحرام) قاما بسحبه وطرده من بيت ومسجد ‘’الحرة الشرقية’’، وأغلقا الباب بوجهه في حادثة أخرى.