فاطمة
02-15-2007, 06:42 PM
دلال البزري
الحياة
العقل العربي موسْوس اليوم بنوع جديد أو متجدّد من النزاعات: النزاع المذهبي، السني-الشيعي. الآن صار نافلا الجهر به. الاسماء، الشعارات، الهوية، «السجالات»، الرموز، مشاهد الموت اليومية... كل عدّة النزاع المذهبي باتت على درجة عالية من الجهوزية. بعد الجحيمين، العراقي واللبناني المرتقب. بعدما «طقّ» شريان الحياء، وباتَ من ليس عنده شيعة، يُخترع له شيعة. مثل فلسطين نفسها التي انخرطت مؤخرا في هذا النزاع، وإن خلتْ من الشيعة.
ومع نوع كهذا من النزاع، كان لا بد من التاريخ، ومن لحظات تأسيسية منه بالذات. الجميع أُقحم في الموضوع: الصحابة، زوجات الرسول، وخصوصا عائشة، وزيد ومعاوية وحروب الردة والفتنة الكبرى... فكأنها حصلت البارحة؛ وما زالت ندية في ذاكرتنا وهي ذاكرة معروفة بالمزاجية الفائقة. اللحظات التأسيسية للسلطة السياسية في «امة الاسلام»، وقد عادت الى زيد، فكان الشيعة من المتمردين العاصين عليها. ومن يومها واصحاب السلطة من السنة يحتكرون نواصيها.
فيما الشيعة، خارجها، محرومون من امكانية استرجاعها. والآن اتتْ اللحظة المناسبة: ايران الامبرطورية الاسلامية الجديدة، ذات العقيدة السياسية-الشيعية، تأخذ بثأر الشيعة العرب، فتمكّنهم من ان يعيدوا لكل ذي حق حقه: أي غنائم السلطة. تلك هي بإختصار الرواية التي «تفسر»، أو»تشخّص»، النزاع الدائر الآن. في مناطق النزاع الساخنة، كما الباردة منها.
طبعا ليس غريبا ان يكون ابطال هذا «النزاع» من المعمّمين. فهم اصحاب هذا الزمن، مناضلو القضية وقضاة مذاهبها. ودورهم لا يقتصر على اصدار شروحات هذا النزاع ومقولاته الشرعية. بل هم يقودونه، وبالمعنى الالهي للقيادة. كلٌ يمثل الله في مذهبه، يمثّلنا ويحمينا. ولا فرق هنا بين حركة «مهدوية» يدعي زعيمها بأنه المهدي المنتظر، وبين اصحاب صكوك الموت تكفيراً أوتخويناً، او الاثنين معاً.
خارج المعمّمين، رهطٌ من «الزمنيين» الخائضين في هذا النزاع. او بالاحرى الملتحقين به، بالضبط كما يلتحق «الحلفاء» القوميون واليساريون بالقيادة الدينية-السياسية لـ «المقاومة» ضد المشاريع والمؤامرات الصهيونية والاميركية...
ابرز انشطة هذا النزاع مؤتمر رجال الدين الشيعة والسنة في قطر، والذي تميز بـ»الجرأة» الشديدة، كما وصفته صحافتنا. وتعريفها لـ»الجرأة»: ان كلاً من الطرفين، السني والشيعي من أئمة وشيوخ، رمى على الآخر «مآخذه». التشيع، مهاجمة آل البيت، مهاجمة الصحابة. ثم اتفقوا على ان لكل مذهب مملكته المحروسة بقرار إغلاق حدودها على المذهب الآخر... تلك كانت «جرأة» المؤتمرين. ما من احد منهم إلا اعتبر نفسه معسكر الخير المطلق! هذه «المصارحة» خرجت الى الاعلام، فعاد كلٌ الى دياره مكلّلا بأوراق غار الكراهية تجاه الآخر... تلك هي تحديدا واحد من فروع هذا النزاع: الكراهية.
اهم ما في رواية هذا النزاع فصل إستيلاء الاكثرية السنية على السلطة، وتهميش الاقلية الشيعية الى خارج دائرة القرار؛ وذلك منذ اللحظة التأسيسية الاولى... وحتى هذه اللحظة. والأغرب ان الرواية تُختتم عادة بإستدراك: «لكن الخلاف ليس مذهبيا، انه خلاف سياسي!». ليعود العقل فيقع في مواطن الابهام والالتباس المستحبة. النزاع ليس مذهبيا. نعم. انه نزاع سياسي. ولكن، اي نوع من أنواع النزاع السياسي؟ ما هي اطره، لغته، مرجعيته، رؤيته اللحاضر وللتاريخ؟ ما هو خطابه؟ ما هي اداته وآليته وساحته؟ من هم قادته وجنوده ووقوده؟
بل ما هو مستقبل نزاع تقول روايته اغلبية سنية استولت على السلطة منذ 1400 سنة، والآن حان موعد اقلية شيعية للأخذ بحقها المسلوب منذ ذلك التاريخ. ماذا يُتوقّع من فكرة كهذه؟ التقاتل الملحمي طبعاً. شيء من داحس والغبراء. تقاتل نام حينا واستفاق احياناً. والآن فرصة من فرص التاريخ...
لا يفيد الاصرار على تسمية هذه الحرب بـ»السياسية». مذهبية النزاع لا يمكن ان تكون إلا سياسية. «السياسية» كصفة لا تنفي عنه المذهبية، بل تؤكد كارثيته. لذلك فالقول بأن النزاع المذهبي هذا، على كل مذهبيته الفاقعة، ليس مذهبيا بل سياسي، هو من باب تمكين الرواية المذهبية لا من باب اضعافها، وذلك بحجب الغريزة المذهبية عنها، طلباً للصورة الحسنة.
ولا يغرنّك المثل الفلسطيني. حيث النزاع بين «حماس» و»فتح»، حول السلطة، والاثنان من السنة. لا شيعة فيهما. لكن رواية «سني-شيعي» للنزاع تسرّبت اليهم. وصرخت جماعة «فتح» ضد جماعة «حماس»: «شيعة! شيعة!»، فأصبحت «حماس» بذلك شيعية. اذ يكفي ان تلصق بخصمك هوية مكروهة، حتى يتلهّف عليها، ويتلقّفها كغنيمة، كسلاح بوجهك.
الخطر الأكبر من هذه الرواية هو إغفالها التام لواقع كانت له تسميات مختلفة منذ ما لا يزيد عن السنة (عصر الاستهلاك السريع). كان في ذاك الزمن الغابر يُقال «إصلاح»، «تداول سلطة»، «إنتخابات»... على مدار العالم العربي. التشخيص كان: استبدادية الدولة الاستقلالية، فشلها في بناء دولة وقانون وتنمية وانعدام شروط المواطنة وعيشها وآلياتها... الى ما هنالك من توصيفات للواقع، نالها التكرار ولم تعد، على ما يبدو، تحشد الانصار. الحاجة للدين والغيب اقوى. رواية اغلبية سنية واقلية شيعية فيها غواية شديدة، تشبه العصر والتلفزيون والدم المسْفوك.
العقل العربي الهشّ تحول بسرعة خيالية نحو رواية «سني-شيعي»؛ لاغياً ذاكرته الحاضرة، او الماضية القريبة... لحساب ذاكرة مرّت عليها قرون. التاريخ السحيق يبدو اكثر بركة من التاريخ القريب. خطورة الفكرة لا تخفى: ما هو في الواقع اقلية حاكمة استولت على السلطة واحتكرتها في الماضي القريب جدا، تصبح في روايتنا أكثرية سنية انتزعت السلطة من اقلية شيعية. وآخر طرائف هذه الرواية ان ممْعنين في الردح لإستبدادية الرئيس المصري حسني مبارك وتشبّثه بالسلطة يبكون «الشهيد» صدام حسين الذي اغتالته «زمرة شيعية متعصبة»! وهذه طرفة لن تجدها الا في بلاد العرب.
«الخارج» هو الذي أوجد المذهبية، ناهيك عن الطائفية. ونحن براء منها، يقول ابطال النزاع المذهبي ومروّجو روايته... والدهشة طبعا تمتلكهم. كأن اكتشاف شرور العدو والاندهاش منها هما للتملّص من مسؤولية النزاع، من دون التوقف عن مدّه بالطاقة. فالطبيعي ان يستفيد العدو من النزاع وقد يعمل على تأجيج روايته. اسرائيل قالت بصراحة انها لن تهجم على الفلسطينيين، لأنهم يقومون بمفردهم بهذه المهمّة. لكن الجديد ربما، ان اميركا قد تجد فعلا في النزاع المذهبي منفذا ومهربا من فشل سياستها الخارجية، ولكي ترتاح من «مشروعها الديموقراطي» في المنطقة بعدما أوصلت طلائع هذا المشروع الى السلطة دعاة موتها.
الحياة
العقل العربي موسْوس اليوم بنوع جديد أو متجدّد من النزاعات: النزاع المذهبي، السني-الشيعي. الآن صار نافلا الجهر به. الاسماء، الشعارات، الهوية، «السجالات»، الرموز، مشاهد الموت اليومية... كل عدّة النزاع المذهبي باتت على درجة عالية من الجهوزية. بعد الجحيمين، العراقي واللبناني المرتقب. بعدما «طقّ» شريان الحياء، وباتَ من ليس عنده شيعة، يُخترع له شيعة. مثل فلسطين نفسها التي انخرطت مؤخرا في هذا النزاع، وإن خلتْ من الشيعة.
ومع نوع كهذا من النزاع، كان لا بد من التاريخ، ومن لحظات تأسيسية منه بالذات. الجميع أُقحم في الموضوع: الصحابة، زوجات الرسول، وخصوصا عائشة، وزيد ومعاوية وحروب الردة والفتنة الكبرى... فكأنها حصلت البارحة؛ وما زالت ندية في ذاكرتنا وهي ذاكرة معروفة بالمزاجية الفائقة. اللحظات التأسيسية للسلطة السياسية في «امة الاسلام»، وقد عادت الى زيد، فكان الشيعة من المتمردين العاصين عليها. ومن يومها واصحاب السلطة من السنة يحتكرون نواصيها.
فيما الشيعة، خارجها، محرومون من امكانية استرجاعها. والآن اتتْ اللحظة المناسبة: ايران الامبرطورية الاسلامية الجديدة، ذات العقيدة السياسية-الشيعية، تأخذ بثأر الشيعة العرب، فتمكّنهم من ان يعيدوا لكل ذي حق حقه: أي غنائم السلطة. تلك هي بإختصار الرواية التي «تفسر»، أو»تشخّص»، النزاع الدائر الآن. في مناطق النزاع الساخنة، كما الباردة منها.
طبعا ليس غريبا ان يكون ابطال هذا «النزاع» من المعمّمين. فهم اصحاب هذا الزمن، مناضلو القضية وقضاة مذاهبها. ودورهم لا يقتصر على اصدار شروحات هذا النزاع ومقولاته الشرعية. بل هم يقودونه، وبالمعنى الالهي للقيادة. كلٌ يمثل الله في مذهبه، يمثّلنا ويحمينا. ولا فرق هنا بين حركة «مهدوية» يدعي زعيمها بأنه المهدي المنتظر، وبين اصحاب صكوك الموت تكفيراً أوتخويناً، او الاثنين معاً.
خارج المعمّمين، رهطٌ من «الزمنيين» الخائضين في هذا النزاع. او بالاحرى الملتحقين به، بالضبط كما يلتحق «الحلفاء» القوميون واليساريون بالقيادة الدينية-السياسية لـ «المقاومة» ضد المشاريع والمؤامرات الصهيونية والاميركية...
ابرز انشطة هذا النزاع مؤتمر رجال الدين الشيعة والسنة في قطر، والذي تميز بـ»الجرأة» الشديدة، كما وصفته صحافتنا. وتعريفها لـ»الجرأة»: ان كلاً من الطرفين، السني والشيعي من أئمة وشيوخ، رمى على الآخر «مآخذه». التشيع، مهاجمة آل البيت، مهاجمة الصحابة. ثم اتفقوا على ان لكل مذهب مملكته المحروسة بقرار إغلاق حدودها على المذهب الآخر... تلك كانت «جرأة» المؤتمرين. ما من احد منهم إلا اعتبر نفسه معسكر الخير المطلق! هذه «المصارحة» خرجت الى الاعلام، فعاد كلٌ الى دياره مكلّلا بأوراق غار الكراهية تجاه الآخر... تلك هي تحديدا واحد من فروع هذا النزاع: الكراهية.
اهم ما في رواية هذا النزاع فصل إستيلاء الاكثرية السنية على السلطة، وتهميش الاقلية الشيعية الى خارج دائرة القرار؛ وذلك منذ اللحظة التأسيسية الاولى... وحتى هذه اللحظة. والأغرب ان الرواية تُختتم عادة بإستدراك: «لكن الخلاف ليس مذهبيا، انه خلاف سياسي!». ليعود العقل فيقع في مواطن الابهام والالتباس المستحبة. النزاع ليس مذهبيا. نعم. انه نزاع سياسي. ولكن، اي نوع من أنواع النزاع السياسي؟ ما هي اطره، لغته، مرجعيته، رؤيته اللحاضر وللتاريخ؟ ما هو خطابه؟ ما هي اداته وآليته وساحته؟ من هم قادته وجنوده ووقوده؟
بل ما هو مستقبل نزاع تقول روايته اغلبية سنية استولت على السلطة منذ 1400 سنة، والآن حان موعد اقلية شيعية للأخذ بحقها المسلوب منذ ذلك التاريخ. ماذا يُتوقّع من فكرة كهذه؟ التقاتل الملحمي طبعاً. شيء من داحس والغبراء. تقاتل نام حينا واستفاق احياناً. والآن فرصة من فرص التاريخ...
لا يفيد الاصرار على تسمية هذه الحرب بـ»السياسية». مذهبية النزاع لا يمكن ان تكون إلا سياسية. «السياسية» كصفة لا تنفي عنه المذهبية، بل تؤكد كارثيته. لذلك فالقول بأن النزاع المذهبي هذا، على كل مذهبيته الفاقعة، ليس مذهبيا بل سياسي، هو من باب تمكين الرواية المذهبية لا من باب اضعافها، وذلك بحجب الغريزة المذهبية عنها، طلباً للصورة الحسنة.
ولا يغرنّك المثل الفلسطيني. حيث النزاع بين «حماس» و»فتح»، حول السلطة، والاثنان من السنة. لا شيعة فيهما. لكن رواية «سني-شيعي» للنزاع تسرّبت اليهم. وصرخت جماعة «فتح» ضد جماعة «حماس»: «شيعة! شيعة!»، فأصبحت «حماس» بذلك شيعية. اذ يكفي ان تلصق بخصمك هوية مكروهة، حتى يتلهّف عليها، ويتلقّفها كغنيمة، كسلاح بوجهك.
الخطر الأكبر من هذه الرواية هو إغفالها التام لواقع كانت له تسميات مختلفة منذ ما لا يزيد عن السنة (عصر الاستهلاك السريع). كان في ذاك الزمن الغابر يُقال «إصلاح»، «تداول سلطة»، «إنتخابات»... على مدار العالم العربي. التشخيص كان: استبدادية الدولة الاستقلالية، فشلها في بناء دولة وقانون وتنمية وانعدام شروط المواطنة وعيشها وآلياتها... الى ما هنالك من توصيفات للواقع، نالها التكرار ولم تعد، على ما يبدو، تحشد الانصار. الحاجة للدين والغيب اقوى. رواية اغلبية سنية واقلية شيعية فيها غواية شديدة، تشبه العصر والتلفزيون والدم المسْفوك.
العقل العربي الهشّ تحول بسرعة خيالية نحو رواية «سني-شيعي»؛ لاغياً ذاكرته الحاضرة، او الماضية القريبة... لحساب ذاكرة مرّت عليها قرون. التاريخ السحيق يبدو اكثر بركة من التاريخ القريب. خطورة الفكرة لا تخفى: ما هو في الواقع اقلية حاكمة استولت على السلطة واحتكرتها في الماضي القريب جدا، تصبح في روايتنا أكثرية سنية انتزعت السلطة من اقلية شيعية. وآخر طرائف هذه الرواية ان ممْعنين في الردح لإستبدادية الرئيس المصري حسني مبارك وتشبّثه بالسلطة يبكون «الشهيد» صدام حسين الذي اغتالته «زمرة شيعية متعصبة»! وهذه طرفة لن تجدها الا في بلاد العرب.
«الخارج» هو الذي أوجد المذهبية، ناهيك عن الطائفية. ونحن براء منها، يقول ابطال النزاع المذهبي ومروّجو روايته... والدهشة طبعا تمتلكهم. كأن اكتشاف شرور العدو والاندهاش منها هما للتملّص من مسؤولية النزاع، من دون التوقف عن مدّه بالطاقة. فالطبيعي ان يستفيد العدو من النزاع وقد يعمل على تأجيج روايته. اسرائيل قالت بصراحة انها لن تهجم على الفلسطينيين، لأنهم يقومون بمفردهم بهذه المهمّة. لكن الجديد ربما، ان اميركا قد تجد فعلا في النزاع المذهبي منفذا ومهربا من فشل سياستها الخارجية، ولكي ترتاح من «مشروعها الديموقراطي» في المنطقة بعدما أوصلت طلائع هذا المشروع الى السلطة دعاة موتها.