زوربا
02-09-2007, 12:56 PM
http://www.aawsat.com/2007/02/04/images/media.404842.jpg
بقي يكتب عموده رغم كل المحن وحتى الأسابيع الأخيرة من حياته
يعد آرت بوكوالد، الذي توفي يوم 17 يناير (كانون الثاني) الماضي، عن 81 سنة، احدى العلامات المضيئة في عالم الكتابة السياسية الساخرة والتعليقات الصحافية اللماحة العميقة في الولايات المتحدة. وطارت شهرته داخل أميركا وخارجها بفضل عموده الساخر في صحيفة «الواشنطن بوست»، الذي حقق نجاحاً طويلاً وكان ينشر بترخيص خاص في العديد من الصحف الأخرى.
لكن ربما كانت من المفارقات أن جانباً من خفة ظل بوكوالد، التي أعطت الملايين من قرائه المواظبين متعة استثنائية لدى تناوله القضايا العامة والشؤون الدولية، نشأت من معاناة طويلة بدأت مع الحرمان، واستمرت تحت وطأة مرض الاكتئاب، واكتست نهايتها بالتعايش الصعب مع أمراض الكلى. وكان في الجزء الأخير من حياته مضطراً إلى إجراء غسل منتظم للكلى إلى أن قرر في نهاية المطاف، وبعدما توفيت زوجته، أنه اكتفى من الحياة وقرر الموت بكرامة، لكن صحته لم تتدهور بالسرعة التي كان يتوقع مما ساعده أن ينجز قبل وفاته كتابه الأخير عن سيرة حياته.
ولد آرثر بوكوالد يوم 20 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1925، لعائلة يهودية من أصول بولندية ومجرية في نيويورك. وكان أبوه جوزيف بوكوالد تاجر ستائر، أما أمه التي أمضت في ما بعد 35 سنة من حياتها في مصحة عقلية، فنادراً ما عاشت مع ابنها. وكان له ثلاث أخوات.
في سن مبكرة وضعه أبوه في ميتم يهودي بنيويورك بعدما تعرّضت تجارته للإفلاس إبان «الكساد الكبير» (انهيار وول ستريت). ثم نقل آرت الصغير بين عدة بيوت للإشراف على تربيته منها بيت إقامة داخلية للأطفال المرضى يديره السبتيون (الأدفنتست) في حي كوينز بنيويورك. لكن عند بلوغه سن الخامسة جمع أبوه شمل العائلة من جديد، وسكن مع أبيه وأخواته الثلاث في منطقة فوريست هيلز (الشهيرة سابقاً بمكانتها في عالم رياضة كرة المضرب) بحي كوينز. وفي المدرسة المحلية تلقى بوكوالد دراسته المتوسطة وجزءاً من دراسته الثانوية، ذلك أنه هجر المنزل والمدرسة بعيد بلوغه السابعة عشرة من عمره. وعلى الأثر التحق بسلاح مشاة البحرية «المارينز» لدى اندلاع الحرب العالمية الثانية بعدما ادعى كذباً أنه أكبر سناً مما كان سنه الحقيقي، وهو السن الذي لا يتيح تجنيده.
وبين خريف 1942 وخريف 1945، خدم في جناح الطيران الرابع التابع للمارينز، وكان مسرح لمدة سنتين عملياته جبهة المحيط الهادئ. وعند انتهاء الحرب أنهيت خدمته العسكرية برتبة رقيب.
التحق بوكوالد بعد الحرب بجامعة سوذرن كاليفورنيا (كاليفورنيا الجنوبية) في لوس أنجليس، وهي من كبريات الجامعات الأميركية الخاصة، بفضل منحة قدامى المحاربين. وفي الجامعة تفجرت مواهبه الكتابية، فصار مدير تحرير مجلة الجامعة «وامبوس»، كما صار أحد كتّاب الأعمدة في صحيفة الجامعة «الديلي تروجان».
لكن كما كان حال بوكوالد مع مدرسته الثانوية، غادر الجامعة عام 1948 قبل أن يتخرج، واتجه إلى العاصمة الفرنسية باريس، وهناك بعد فترة صار مراسلاً لمجلة «فارييتي» الفنية الشهيرة، مسجلاً بصورة خاصة أخبار كبار الفنانين الأميركيين عندما كانوا يزورون المدينة.
وفي مطلع عام 1949 أخذ يكتب عموداً لصحيفة «نيويورك هيرالد تريبيون» بعنوان «باريس.. بعد المغيب»، ملأه بأقاصيص عن حياة باريس الليلية. ونجح العمود وثبّت بوكوالد في جهاز تحرير الصحيفة. وعام 1951 أضاف عموداً آخر اختار له عنوان «غالباً عن الناس»، وفي ما بعد أدمج العمودان بعمود واحد أسماه «الجانب الخفيف من أوروبا». وبلغ من تأثير العمود الذي كتبه يوم «عيد الشكر» ـ الذي يقع كل رابع خميس في نوفمبر (تشرين الثاني) ـ عام 1953، شارحاً فيه للفرنسيين معنى تلك المناسبة أنه صار ينشر بانتظام في كل نوفمبر، عاماً بعد عام.
وطارت شهرة بوكوالد على عدوتي المحيط الأطلسي، في أميركا كما في أوروبا. ويقال إنه خلال هذه الفترة، أو قبلها بقليل، ارتبط بوكوالد بعلاقة عاطفية مزعومة وقصيرة مع الممثلة الراحلة مارلين مونرو. وتذهب الشائعات إلى حد القول إنه عرّفها لأول مرة على الديانة اليهودية التي اعتنقتها لاحقاً، وأن بوكوالد استوحى من مونرو إحدى شخصيات قصته «هدية من الفتيان» التي نشرت عام 1958.
عام 1962 عاد بوكوالد إلى الولايات المتحدة ليستقر في العاصمة واشنطن ـ حيث عاش مع زوجته وأولاده الثلاثة بالتبني ـ ومن هناك ينطلق في رحلة نجاح غير مسبوق، خاصة أن عموده صار ينشر ـ في عز رواجه ـ في ما لا يقل عن 550 صحيفة، وظل يكتبه حتى الأسابيع الأخيرة من حياته. كما أنه ألف ونشر أكثر من ثلاثين كتاباً. وعام 1982، حاز بوكوالد على جائزة بوليتزر، ارفع الجوائز التقديرية التي تمنح للكتّاب والمؤلفين وأهل الإعلام، وذلك في فئة «التعليق الصحافي». ثم عام 1986، حصل على تقدير آخر كان اختياره لعضوية الأكاديمية والمعهد الأميركي للفنون الآداب.
وعام 1988 رفع بوكوالد ـ وزميله الان بيرنهايم ـ دعوى قضائية وربحها ضد شركة بارامونت، بخصوص جدل حول سرقة سيناريو فيلم «المجيء إلى أميركا»، الذي لعب دور البطولة فيه الممثل إيدي مورفي. ولم تلبث خلفيات القضية تداعياته أن ظهرت في كتاب نشر عام 1992.
السنوات الأخيرة من عمر بوكوالد كانت سنوات معاناة مع المرض والشيخوخة. فعام 2000، أي عندما كان في الـ 74 من عمره تعرض لجلطة. وفي العام نفسه ساءت حالته الصحية واضطر الأطباء لبتر ساقه بسبب قصور في الدورة الدموية. ولاحقاً تفاقم مرض الكلى، وأدخل نفسه مصحة للمرضى المقطوع الأمل في شفائهم ورفض مواصلة غسل الكلى متوقعاً الموت. لكن صحته لم تتدهور بالسرعة التي كان يتوقعها وبالتالي تمكن من كتابه الأخير «لم يحن الوقت بعد للوداع الأخير» عن الأشهر الأخيرة من حياته.
* وحدة أبحاث «الشرق الأوسط»
بقي يكتب عموده رغم كل المحن وحتى الأسابيع الأخيرة من حياته
يعد آرت بوكوالد، الذي توفي يوم 17 يناير (كانون الثاني) الماضي، عن 81 سنة، احدى العلامات المضيئة في عالم الكتابة السياسية الساخرة والتعليقات الصحافية اللماحة العميقة في الولايات المتحدة. وطارت شهرته داخل أميركا وخارجها بفضل عموده الساخر في صحيفة «الواشنطن بوست»، الذي حقق نجاحاً طويلاً وكان ينشر بترخيص خاص في العديد من الصحف الأخرى.
لكن ربما كانت من المفارقات أن جانباً من خفة ظل بوكوالد، التي أعطت الملايين من قرائه المواظبين متعة استثنائية لدى تناوله القضايا العامة والشؤون الدولية، نشأت من معاناة طويلة بدأت مع الحرمان، واستمرت تحت وطأة مرض الاكتئاب، واكتست نهايتها بالتعايش الصعب مع أمراض الكلى. وكان في الجزء الأخير من حياته مضطراً إلى إجراء غسل منتظم للكلى إلى أن قرر في نهاية المطاف، وبعدما توفيت زوجته، أنه اكتفى من الحياة وقرر الموت بكرامة، لكن صحته لم تتدهور بالسرعة التي كان يتوقع مما ساعده أن ينجز قبل وفاته كتابه الأخير عن سيرة حياته.
ولد آرثر بوكوالد يوم 20 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1925، لعائلة يهودية من أصول بولندية ومجرية في نيويورك. وكان أبوه جوزيف بوكوالد تاجر ستائر، أما أمه التي أمضت في ما بعد 35 سنة من حياتها في مصحة عقلية، فنادراً ما عاشت مع ابنها. وكان له ثلاث أخوات.
في سن مبكرة وضعه أبوه في ميتم يهودي بنيويورك بعدما تعرّضت تجارته للإفلاس إبان «الكساد الكبير» (انهيار وول ستريت). ثم نقل آرت الصغير بين عدة بيوت للإشراف على تربيته منها بيت إقامة داخلية للأطفال المرضى يديره السبتيون (الأدفنتست) في حي كوينز بنيويورك. لكن عند بلوغه سن الخامسة جمع أبوه شمل العائلة من جديد، وسكن مع أبيه وأخواته الثلاث في منطقة فوريست هيلز (الشهيرة سابقاً بمكانتها في عالم رياضة كرة المضرب) بحي كوينز. وفي المدرسة المحلية تلقى بوكوالد دراسته المتوسطة وجزءاً من دراسته الثانوية، ذلك أنه هجر المنزل والمدرسة بعيد بلوغه السابعة عشرة من عمره. وعلى الأثر التحق بسلاح مشاة البحرية «المارينز» لدى اندلاع الحرب العالمية الثانية بعدما ادعى كذباً أنه أكبر سناً مما كان سنه الحقيقي، وهو السن الذي لا يتيح تجنيده.
وبين خريف 1942 وخريف 1945، خدم في جناح الطيران الرابع التابع للمارينز، وكان مسرح لمدة سنتين عملياته جبهة المحيط الهادئ. وعند انتهاء الحرب أنهيت خدمته العسكرية برتبة رقيب.
التحق بوكوالد بعد الحرب بجامعة سوذرن كاليفورنيا (كاليفورنيا الجنوبية) في لوس أنجليس، وهي من كبريات الجامعات الأميركية الخاصة، بفضل منحة قدامى المحاربين. وفي الجامعة تفجرت مواهبه الكتابية، فصار مدير تحرير مجلة الجامعة «وامبوس»، كما صار أحد كتّاب الأعمدة في صحيفة الجامعة «الديلي تروجان».
لكن كما كان حال بوكوالد مع مدرسته الثانوية، غادر الجامعة عام 1948 قبل أن يتخرج، واتجه إلى العاصمة الفرنسية باريس، وهناك بعد فترة صار مراسلاً لمجلة «فارييتي» الفنية الشهيرة، مسجلاً بصورة خاصة أخبار كبار الفنانين الأميركيين عندما كانوا يزورون المدينة.
وفي مطلع عام 1949 أخذ يكتب عموداً لصحيفة «نيويورك هيرالد تريبيون» بعنوان «باريس.. بعد المغيب»، ملأه بأقاصيص عن حياة باريس الليلية. ونجح العمود وثبّت بوكوالد في جهاز تحرير الصحيفة. وعام 1951 أضاف عموداً آخر اختار له عنوان «غالباً عن الناس»، وفي ما بعد أدمج العمودان بعمود واحد أسماه «الجانب الخفيف من أوروبا». وبلغ من تأثير العمود الذي كتبه يوم «عيد الشكر» ـ الذي يقع كل رابع خميس في نوفمبر (تشرين الثاني) ـ عام 1953، شارحاً فيه للفرنسيين معنى تلك المناسبة أنه صار ينشر بانتظام في كل نوفمبر، عاماً بعد عام.
وطارت شهرة بوكوالد على عدوتي المحيط الأطلسي، في أميركا كما في أوروبا. ويقال إنه خلال هذه الفترة، أو قبلها بقليل، ارتبط بوكوالد بعلاقة عاطفية مزعومة وقصيرة مع الممثلة الراحلة مارلين مونرو. وتذهب الشائعات إلى حد القول إنه عرّفها لأول مرة على الديانة اليهودية التي اعتنقتها لاحقاً، وأن بوكوالد استوحى من مونرو إحدى شخصيات قصته «هدية من الفتيان» التي نشرت عام 1958.
عام 1962 عاد بوكوالد إلى الولايات المتحدة ليستقر في العاصمة واشنطن ـ حيث عاش مع زوجته وأولاده الثلاثة بالتبني ـ ومن هناك ينطلق في رحلة نجاح غير مسبوق، خاصة أن عموده صار ينشر ـ في عز رواجه ـ في ما لا يقل عن 550 صحيفة، وظل يكتبه حتى الأسابيع الأخيرة من حياته. كما أنه ألف ونشر أكثر من ثلاثين كتاباً. وعام 1982، حاز بوكوالد على جائزة بوليتزر، ارفع الجوائز التقديرية التي تمنح للكتّاب والمؤلفين وأهل الإعلام، وذلك في فئة «التعليق الصحافي». ثم عام 1986، حصل على تقدير آخر كان اختياره لعضوية الأكاديمية والمعهد الأميركي للفنون الآداب.
وعام 1988 رفع بوكوالد ـ وزميله الان بيرنهايم ـ دعوى قضائية وربحها ضد شركة بارامونت، بخصوص جدل حول سرقة سيناريو فيلم «المجيء إلى أميركا»، الذي لعب دور البطولة فيه الممثل إيدي مورفي. ولم تلبث خلفيات القضية تداعياته أن ظهرت في كتاب نشر عام 1992.
السنوات الأخيرة من عمر بوكوالد كانت سنوات معاناة مع المرض والشيخوخة. فعام 2000، أي عندما كان في الـ 74 من عمره تعرض لجلطة. وفي العام نفسه ساءت حالته الصحية واضطر الأطباء لبتر ساقه بسبب قصور في الدورة الدموية. ولاحقاً تفاقم مرض الكلى، وأدخل نفسه مصحة للمرضى المقطوع الأمل في شفائهم ورفض مواصلة غسل الكلى متوقعاً الموت. لكن صحته لم تتدهور بالسرعة التي كان يتوقعها وبالتالي تمكن من كتابه الأخير «لم يحن الوقت بعد للوداع الأخير» عن الأشهر الأخيرة من حياته.
* وحدة أبحاث «الشرق الأوسط»