Osama
02-08-2007, 01:32 AM
بين ماضي الشهادة والراهن من خلاصاتها
أحمد جابر - الحياة
http://www.alhayat.com/special/issues/02-2007/Item-20070206-98235be1-c0a8-10ed-00cd-6695ebd1c6c2/book_15.jpg_200_-1.jpg
تحدّث رئيس الجزائر السابق، أحمد بن بيلا، عن بعض أسرار ثورة الجزائر، وترك لسواه أن يقدم الخلاصات ويصوغ الاستنتاجات. كانت «السيرة» حافلة بالأسماء والأرقام والتواريخ، لكنها متواضعة في مضمونها النقدي، الذي يشكّل، في العادة، مادة المراجعة الأساسية، ويكون الدليل الأوفى والأوضح على مصداقيّة القائل، وعلى قدرته على تنسيب «ماضيه إلى حاضره»، من خلال استحضار الراهن في التجربة، سلبياً كان هذا الراهن أو إيجابياً.. والحاصل أن الكثير من ماضي الجزائر ما زال مستمراً في حاضرها، على صعيد خلافي، ما زال يتناول «الهوية والمرجعيّة والعروبة والإسلام والديموقراطية والتعدّدية ومسألة الأقليات، والتنمية الاقتصادية...» أي كل القضايا التي تصدّت ثورة الجزائر لحلّها، فأخفقت في ميادينها المتعدّدة على وجه الإجمال.
لكن لنرافق بن بيلا قليلاً في رحلته السردية، كي نعود ونتوقف أمام أكثر من خاتمة للقصة، كتبت بأقلام عديدة من قِبَل شهود آخرين على عصر الثورة، بعضهم نافح عن «السرد» وبعضهم الآخر تصدّى له ودحضه!!
ركّز «الشاهد الرئيس» على نشأته الدينيّة الأولى، لأنها ظلّت، لاحقاً، الخيط الواصل بين عقله وقلبه، ولأنها تدخّلت بقوّة في تفسير بعض قناعاته، ولوّنت قسمات عدد من إجراءاته، مثلما أعانته على تقبّل ما تعرّض له في حياته، وسوّغت له التمسّك بالأساسي من مبادئه وشكّلت خلفيّة «فكريّة» لبعض مصطلحاته.
هكذا اعتبر «بن بيلا» أن الجامع الأساسي بين القوى السياسية الجزائريّة، هو الإسلام، وإن اختلفت المقاربات... وعندما قاتل بشجاعة مع الجيش الفرنسي، إبّان الحرب العالميّة الثانية «قاتل كمسلم» ولما لجأ إلى بعض التدابير الإشتراكية، لم يجد في ذلك ما يتعارض وإسلامه، بل إنه استوحى ضرباً «من الاشتراكية القرآنية»، وهو قام، من موقعه كرئيس «بإغلاق سبعين خمارة» لأن في ذلك ما يتعارض وإيمانه، هذا على رغم أنه انتقد إجراءه وقال «إنه لا يفعل ذلك اليوم» – أما نقطة الصراع الأساسية التي تكمن خلف ذلك، وتشكّل المصدر لكل ما تلاها من صراعات، فهو الخلاف على هويّة الجزائر المستقلة وعلى توجّهاتها، إذ أن السؤال الذي رافق المسيرة الاستقلاليّة، (ولعله ما زال يرافق الجزائر اليوم) كان سؤال:
الجزائر مستقلة عربية، أم الجزائر جزء من فرنسا، أو ذات توجّه غربي بلغة اليوم؟ وكيف تدير الجزائر وجهها: شطر الشرق والعمق الإسلامي والعربي، أم شطر «الغرب» مع ما يعنيه ذلك من تنكّر لأصل هويّتها، وللعروة الوثقى التي تشدّ النسيج الجزائري بعضه إلى بعض؟؟... نعلم من «السرديات» أن مسألة الموقع الطبيعي للجزائر من الصراع الدائر حول هوية المنطقة وثرواتها، كان موضع خلاف بين التيّارات الجزائرية، وكان لكل توجّه أنصاره ورموزه. هكذا نعلم موقع الرئيس «بن بيلا» وعلاقته بالرئيس المصري جمال عبدالناصر، مثلما نعرف موقف الحكومة الموقتة وفرحات عباس ومصالي الحاج وآخرين من العلاقة بفرنسا، وفي امتداد ذلك نطلّ على فهم حيثيات الصراع وعلى أساليبه وامتداداته وارتباطاته.
لقد بدأ الخلاف الجزائري مبكراً حول كل شيء فلم يقتصر الأمر على «أي جزائر نريد» بل إن انطلاقة الثورة من أساسها كانت موضع أخذ وردّ هي الأخرى. لقد آمن «بن بيلا» كما قال «بالعنف المسلح بخاصة بعد مذابح سطيف وقليمة» التي حصدت أرواح آلاف الجزائريين» لكن كان هناك ثمّة مَن يعتقد بإمكانية الإضراب السلمي والنضال السياسي وصولاً إلى فرض الاستقلال وانتزاعه من الاستعمار الفرنسي. اتخذ التباين حول الأساليب وجهاً آخر عندما جرى الحديث عن إعلان البدء بالثورة، وذلك خلف ستار «التوقيت مناسب أم غير مناسب»، خصوصاً أن بن بيلا اعترف أن «الشروط الداخلية للثورة لم تكن كافية» خصوصاً لجهة السلاح، الذي جيء به لاحقاً من مصر وبأعداد وفيرة.
عند هذه النقطة، نقطة الدعم، نلمس من «شهادة بن بيلا» دعماً عربياً، «مغربياً» على الأخص من «تونس ومراكش» شكّل عاملاً مساعداً أساسياً في استقبال السلاح وتخزينه ثم نقله إلى الجزائر. أي أن الجوار العربي لعب دور القاعدة الخلفية في الإمداد والتنظيم والتسليح، واحتضن بعض المؤتمرات القيادية وسهّل حركة عدد من القياديين الجزائريين... في نفس خط الدعم هذا، لعبت الجالية الجزائرية في فرنسا دوراً مهماً في التمويل والتجنيد أيضاً وفي جعل القضية الجزائرية «مشكلة يومية فرنسية» إذا جاز التعبير، وفي كسب المؤيّدين الفرنسيين لها، خصوصاً في الأوساط اليسارية.
احتل مؤتمر الصومام، في «شهادة الرئيس» مكانة أساسيّة، لجهة اعتباره أحد المفاصل في مسار الثورة، ولجهة الأحداث التي نجمت عنه، ولنوعية الردود التي استثارها بعد نهاية «جلسات الشهادة». لقد توزّعت المواقف حول «عبان رمضان» الذي بدا أنه «نجم المؤتمر ومعقد رباط خلافه»، فكان المذكور «بطلاً» لدى طرف، و»خائناً» لدى طرف آخر. وكان «ديموقراطياً أرسى التعدّدية من جهة» و «ديكتاتورياً يستحق القتل من جهة أخرى»... قيل في تفسير ذلك أن أصل الخلاف كامن في النزاع بين أولوية الداخل الجزائري أو أولوية القيادة في الخارج، وفي أولوية العمل السياسي على العمل العسكري أو العكس.. لقد كانت حصيلة ذلك تصفيات «متبادلة» ما زال خيط دمها يسحّ، خلافياً، حتى اليوم، وشعاراً، ما زال يتردّد على الأسماع «أن الثورة أكلت أبناءها».
لكن الصراع بين «السياسي والعسكري» لم يكن مقتصراً على الجزائريين فقط، بل طال الفرنسيين أيضاً، الذين أفشل عسكريوهم اتفاقاً كان كفيلاً بوقف الحرب بالجزائر، من خلال اختطاف طائرة بن بيلا ورفاقه، أطال أمد المعاناة سنوات إضافية، اضطر بعدها الفرنسيون لعقد اتفاقية مع الجزائر «لا تختلف كثيراً» عن تلك التي كان قد جرى التوصل إليها في العام 1956.
لكن السرد «الغني» لا يلغي التوقف أمام الخلاصات الضئيلة المردود. نكرّر القول إن النقد غاب عن مراجعة بن بيلا، وإن التبرير حضر في أكثر من مناسبة في صيغة رفض للاتهامات التي كان يوردها المحاور أحمد منصور، نقلاً عن عارفي بن بيلا ومعاصريه. لقد نفى أنه ظلم أو أنه استبد أو أنه سجن أحداً (مجرّد إقامة جبريّة على عباس فرحات وبوضياف مثلاً) وكثيراً ما تمسّك بمقولة «الشعب معي» التي تطيح كل الصيغ التمثيلية الديموقراطية وتحيل الأمر إلى نوع «من الشعبوية» التي عرفها أكثر من نظام عربي.
مع النقد غابت الخلاصة المتعلقة «بمهام الثورة» التي أدّعتها لنفسها، والعوائق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي حالت دون ذلك، في مجال الفكر وعلى صعيد الممارسة. إذ أن ما ورثه العالم العربي، كنتيجة لثوراته، مزيداً من الشعارات ونزراً يسيراً من الإنجازات، وكل ذلك، في قوالب دعوية جاهزة، تحرسها أجهزة قمعيّة عاتية، أي في ظل غياب تام للحرّيات واستحضار فاقع وشاذ لكل صنوف القمع والإلغاء والمصادرة... لم يستوقف أي من هذه المظاهر بن بيلا، ولم يدفعه إلى الربط بين مقولتي «الثورة وأدواتها»، وما إذا كانت الأداة مناسبة دائماً للوصول إلى الغاية، أم أن الوسيلة، التي كانت غالباً العنف، أطاحت كل الأهداف.
في تفسيره لأخطائه، شخصن الرئيس بن بيلا الأمور، فأحال القضايا الكبرى، والإخفاقات (أو الإنجازات ربما) في مجالاتها إلى صفات فردية. لقد قال انه «ربما كان غير محنك.. غير مؤهل كفاية للقيادة... أفرط في التأميم – أفاد من عائدات التأميم... جمَعَ غير الجديرين بذلك...»... فهل يكفي هذا تفسيراً لانتكاسة «حلم» وطني عام؟ وهل القسمة عادلة بين خسائر «المليون ونصف شهيد» واختزال ذلك إلى مسألة ضمير فردي يبدو مرتاحاً «لأنه دفع الثمن سنوات من السجن»!! وهل «من سنن الله وسنن الكون» أن يكون الانقلاب ضد الرئيس بن بيلا وسجنه، عزاءه الوحيد والخلاصة اليتيمة التي يمكن الخروج بها من «شهادة» عمّمت أحكامها على «عصر بكامله» فكانت شاهدة عليه؟!
هكذا ينجو «الرئيس» فيعلن تحمله المسؤولية، ويعلن القصاص الذي ناله من جرّاء الثغرات فيها، ليخرج بعد ذلك ثابتاً من دون تحوير أو تبديل في مبادئه، ما يجعلنا نسأل هل مرّ العصر بالشاهد عليه؟! وما يعنينا في طرح هذا السؤال المرّ، هو أن الكثيرين ممن سمعوا الشاهد أجابوا من نفس الجعبة، لكأنما «مؤتمر الصومام» يعقد اليوم، ولكأنما عبان رمضان، قُتل الآن، ولكأنما ثورة الجزائر لما تنطلق بعد... إذاً من أين تنتظر الجزائر التغيير؟ طالما أن كل قوم «ما زالوا بما لديهم فرحين»!
* كاتب لبناني.
* كتاب «الجزيرة» شاهد على العصر «أسرار ثورة الجزائر»، صدر قبل أيام عن الدار العربية للعلوم ودار ابن حزم.
أحمد جابر - الحياة
http://www.alhayat.com/special/issues/02-2007/Item-20070206-98235be1-c0a8-10ed-00cd-6695ebd1c6c2/book_15.jpg_200_-1.jpg
تحدّث رئيس الجزائر السابق، أحمد بن بيلا، عن بعض أسرار ثورة الجزائر، وترك لسواه أن يقدم الخلاصات ويصوغ الاستنتاجات. كانت «السيرة» حافلة بالأسماء والأرقام والتواريخ، لكنها متواضعة في مضمونها النقدي، الذي يشكّل، في العادة، مادة المراجعة الأساسية، ويكون الدليل الأوفى والأوضح على مصداقيّة القائل، وعلى قدرته على تنسيب «ماضيه إلى حاضره»، من خلال استحضار الراهن في التجربة، سلبياً كان هذا الراهن أو إيجابياً.. والحاصل أن الكثير من ماضي الجزائر ما زال مستمراً في حاضرها، على صعيد خلافي، ما زال يتناول «الهوية والمرجعيّة والعروبة والإسلام والديموقراطية والتعدّدية ومسألة الأقليات، والتنمية الاقتصادية...» أي كل القضايا التي تصدّت ثورة الجزائر لحلّها، فأخفقت في ميادينها المتعدّدة على وجه الإجمال.
لكن لنرافق بن بيلا قليلاً في رحلته السردية، كي نعود ونتوقف أمام أكثر من خاتمة للقصة، كتبت بأقلام عديدة من قِبَل شهود آخرين على عصر الثورة، بعضهم نافح عن «السرد» وبعضهم الآخر تصدّى له ودحضه!!
ركّز «الشاهد الرئيس» على نشأته الدينيّة الأولى، لأنها ظلّت، لاحقاً، الخيط الواصل بين عقله وقلبه، ولأنها تدخّلت بقوّة في تفسير بعض قناعاته، ولوّنت قسمات عدد من إجراءاته، مثلما أعانته على تقبّل ما تعرّض له في حياته، وسوّغت له التمسّك بالأساسي من مبادئه وشكّلت خلفيّة «فكريّة» لبعض مصطلحاته.
هكذا اعتبر «بن بيلا» أن الجامع الأساسي بين القوى السياسية الجزائريّة، هو الإسلام، وإن اختلفت المقاربات... وعندما قاتل بشجاعة مع الجيش الفرنسي، إبّان الحرب العالميّة الثانية «قاتل كمسلم» ولما لجأ إلى بعض التدابير الإشتراكية، لم يجد في ذلك ما يتعارض وإسلامه، بل إنه استوحى ضرباً «من الاشتراكية القرآنية»، وهو قام، من موقعه كرئيس «بإغلاق سبعين خمارة» لأن في ذلك ما يتعارض وإيمانه، هذا على رغم أنه انتقد إجراءه وقال «إنه لا يفعل ذلك اليوم» – أما نقطة الصراع الأساسية التي تكمن خلف ذلك، وتشكّل المصدر لكل ما تلاها من صراعات، فهو الخلاف على هويّة الجزائر المستقلة وعلى توجّهاتها، إذ أن السؤال الذي رافق المسيرة الاستقلاليّة، (ولعله ما زال يرافق الجزائر اليوم) كان سؤال:
الجزائر مستقلة عربية، أم الجزائر جزء من فرنسا، أو ذات توجّه غربي بلغة اليوم؟ وكيف تدير الجزائر وجهها: شطر الشرق والعمق الإسلامي والعربي، أم شطر «الغرب» مع ما يعنيه ذلك من تنكّر لأصل هويّتها، وللعروة الوثقى التي تشدّ النسيج الجزائري بعضه إلى بعض؟؟... نعلم من «السرديات» أن مسألة الموقع الطبيعي للجزائر من الصراع الدائر حول هوية المنطقة وثرواتها، كان موضع خلاف بين التيّارات الجزائرية، وكان لكل توجّه أنصاره ورموزه. هكذا نعلم موقع الرئيس «بن بيلا» وعلاقته بالرئيس المصري جمال عبدالناصر، مثلما نعرف موقف الحكومة الموقتة وفرحات عباس ومصالي الحاج وآخرين من العلاقة بفرنسا، وفي امتداد ذلك نطلّ على فهم حيثيات الصراع وعلى أساليبه وامتداداته وارتباطاته.
لقد بدأ الخلاف الجزائري مبكراً حول كل شيء فلم يقتصر الأمر على «أي جزائر نريد» بل إن انطلاقة الثورة من أساسها كانت موضع أخذ وردّ هي الأخرى. لقد آمن «بن بيلا» كما قال «بالعنف المسلح بخاصة بعد مذابح سطيف وقليمة» التي حصدت أرواح آلاف الجزائريين» لكن كان هناك ثمّة مَن يعتقد بإمكانية الإضراب السلمي والنضال السياسي وصولاً إلى فرض الاستقلال وانتزاعه من الاستعمار الفرنسي. اتخذ التباين حول الأساليب وجهاً آخر عندما جرى الحديث عن إعلان البدء بالثورة، وذلك خلف ستار «التوقيت مناسب أم غير مناسب»، خصوصاً أن بن بيلا اعترف أن «الشروط الداخلية للثورة لم تكن كافية» خصوصاً لجهة السلاح، الذي جيء به لاحقاً من مصر وبأعداد وفيرة.
عند هذه النقطة، نقطة الدعم، نلمس من «شهادة بن بيلا» دعماً عربياً، «مغربياً» على الأخص من «تونس ومراكش» شكّل عاملاً مساعداً أساسياً في استقبال السلاح وتخزينه ثم نقله إلى الجزائر. أي أن الجوار العربي لعب دور القاعدة الخلفية في الإمداد والتنظيم والتسليح، واحتضن بعض المؤتمرات القيادية وسهّل حركة عدد من القياديين الجزائريين... في نفس خط الدعم هذا، لعبت الجالية الجزائرية في فرنسا دوراً مهماً في التمويل والتجنيد أيضاً وفي جعل القضية الجزائرية «مشكلة يومية فرنسية» إذا جاز التعبير، وفي كسب المؤيّدين الفرنسيين لها، خصوصاً في الأوساط اليسارية.
احتل مؤتمر الصومام، في «شهادة الرئيس» مكانة أساسيّة، لجهة اعتباره أحد المفاصل في مسار الثورة، ولجهة الأحداث التي نجمت عنه، ولنوعية الردود التي استثارها بعد نهاية «جلسات الشهادة». لقد توزّعت المواقف حول «عبان رمضان» الذي بدا أنه «نجم المؤتمر ومعقد رباط خلافه»، فكان المذكور «بطلاً» لدى طرف، و»خائناً» لدى طرف آخر. وكان «ديموقراطياً أرسى التعدّدية من جهة» و «ديكتاتورياً يستحق القتل من جهة أخرى»... قيل في تفسير ذلك أن أصل الخلاف كامن في النزاع بين أولوية الداخل الجزائري أو أولوية القيادة في الخارج، وفي أولوية العمل السياسي على العمل العسكري أو العكس.. لقد كانت حصيلة ذلك تصفيات «متبادلة» ما زال خيط دمها يسحّ، خلافياً، حتى اليوم، وشعاراً، ما زال يتردّد على الأسماع «أن الثورة أكلت أبناءها».
لكن الصراع بين «السياسي والعسكري» لم يكن مقتصراً على الجزائريين فقط، بل طال الفرنسيين أيضاً، الذين أفشل عسكريوهم اتفاقاً كان كفيلاً بوقف الحرب بالجزائر، من خلال اختطاف طائرة بن بيلا ورفاقه، أطال أمد المعاناة سنوات إضافية، اضطر بعدها الفرنسيون لعقد اتفاقية مع الجزائر «لا تختلف كثيراً» عن تلك التي كان قد جرى التوصل إليها في العام 1956.
لكن السرد «الغني» لا يلغي التوقف أمام الخلاصات الضئيلة المردود. نكرّر القول إن النقد غاب عن مراجعة بن بيلا، وإن التبرير حضر في أكثر من مناسبة في صيغة رفض للاتهامات التي كان يوردها المحاور أحمد منصور، نقلاً عن عارفي بن بيلا ومعاصريه. لقد نفى أنه ظلم أو أنه استبد أو أنه سجن أحداً (مجرّد إقامة جبريّة على عباس فرحات وبوضياف مثلاً) وكثيراً ما تمسّك بمقولة «الشعب معي» التي تطيح كل الصيغ التمثيلية الديموقراطية وتحيل الأمر إلى نوع «من الشعبوية» التي عرفها أكثر من نظام عربي.
مع النقد غابت الخلاصة المتعلقة «بمهام الثورة» التي أدّعتها لنفسها، والعوائق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي حالت دون ذلك، في مجال الفكر وعلى صعيد الممارسة. إذ أن ما ورثه العالم العربي، كنتيجة لثوراته، مزيداً من الشعارات ونزراً يسيراً من الإنجازات، وكل ذلك، في قوالب دعوية جاهزة، تحرسها أجهزة قمعيّة عاتية، أي في ظل غياب تام للحرّيات واستحضار فاقع وشاذ لكل صنوف القمع والإلغاء والمصادرة... لم يستوقف أي من هذه المظاهر بن بيلا، ولم يدفعه إلى الربط بين مقولتي «الثورة وأدواتها»، وما إذا كانت الأداة مناسبة دائماً للوصول إلى الغاية، أم أن الوسيلة، التي كانت غالباً العنف، أطاحت كل الأهداف.
في تفسيره لأخطائه، شخصن الرئيس بن بيلا الأمور، فأحال القضايا الكبرى، والإخفاقات (أو الإنجازات ربما) في مجالاتها إلى صفات فردية. لقد قال انه «ربما كان غير محنك.. غير مؤهل كفاية للقيادة... أفرط في التأميم – أفاد من عائدات التأميم... جمَعَ غير الجديرين بذلك...»... فهل يكفي هذا تفسيراً لانتكاسة «حلم» وطني عام؟ وهل القسمة عادلة بين خسائر «المليون ونصف شهيد» واختزال ذلك إلى مسألة ضمير فردي يبدو مرتاحاً «لأنه دفع الثمن سنوات من السجن»!! وهل «من سنن الله وسنن الكون» أن يكون الانقلاب ضد الرئيس بن بيلا وسجنه، عزاءه الوحيد والخلاصة اليتيمة التي يمكن الخروج بها من «شهادة» عمّمت أحكامها على «عصر بكامله» فكانت شاهدة عليه؟!
هكذا ينجو «الرئيس» فيعلن تحمله المسؤولية، ويعلن القصاص الذي ناله من جرّاء الثغرات فيها، ليخرج بعد ذلك ثابتاً من دون تحوير أو تبديل في مبادئه، ما يجعلنا نسأل هل مرّ العصر بالشاهد عليه؟! وما يعنينا في طرح هذا السؤال المرّ، هو أن الكثيرين ممن سمعوا الشاهد أجابوا من نفس الجعبة، لكأنما «مؤتمر الصومام» يعقد اليوم، ولكأنما عبان رمضان، قُتل الآن، ولكأنما ثورة الجزائر لما تنطلق بعد... إذاً من أين تنتظر الجزائر التغيير؟ طالما أن كل قوم «ما زالوا بما لديهم فرحين»!
* كاتب لبناني.
* كتاب «الجزيرة» شاهد على العصر «أسرار ثورة الجزائر»، صدر قبل أيام عن الدار العربية للعلوم ودار ابن حزم.