لا يوجد
02-07-2007, 04:50 PM
الراية القطرية
جمال البنـّا
أضفي الفكر السلفي قداسة علي الصحابة، ثم لم يقف عند هذا، بل سحب هذه القداسة علي التابعين، وكذلك علي تابعي التابعين، وهذا أمر يثير الدهشة، لأن الإسلام دون كل الأديان تقريبًا رفض الرهبان والأحبار والقسيسين وكل من يسمونهم رجال الدين، واعتبر أن تحريمهم وتحليلهم نوع من الشرك، كما يدلنا علي ذلك حديث الرسول لعدي بن حاتم الذي كان نصرانيًا ثم أسلم وزار الرسول، وفي عنقه صليب، فسمع الرسول يقرأ "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ"، فقال يا رسول الله : ما كنا نعبدهم فبين له الرسول إن إصدارهم الأحكام وتوليهم التحريم والتحليل شرك بالله لأن الله تعالي وحده هو الشارع.
فالإسلام - أصلاً - لا يعرف رجال الدين ولا يعطيهم أي صفة.
كما أن الإسلام لا يعطي صلة النسب فضيلة في حد ذاتها، لأن قاعدته المؤكدة "وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَي"، "وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَي"، "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ".
فلم ينفع الأوُلتين أنهما زوجتا نبيين، ولم يضر الأخيرتين أن قومهما كانا كافرين، ولم يضر إبراهيم أن أباه كان كافرًا، ولم ينفع ابن نوح أن أباه كان نبيًا رسولاً.وكان الرسول يقول : "يا فاطمة اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية اعملي فإني لا أغني لك من الله شيئاً"، وكان عمر بن الخطاب يقول لأفراد أسرته : "لا يأتيني الناس بالأعمال وتأتوني بالإنساب".فإذا كانت علاقات النسب الوثيق والمباشرة كالأبوة والبنوة والزوجية لا تغني شيئاً، فهل تغني الصحبة، وهي أقل من القرابة؟.ومما يثير الدهشة أن المحدثين اعتبروا أن الصحابة هم كل من رأي الرسول ولو للحظة ومات مسلمًا، وألحقوا بهم أطفال الصحابة الصغار مثل ابن عباس ومثل أنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، والحسن والحسين، وكذلك الجن المؤمنين الذين رأوا الرسول، كما سحبوا صفة القداسة التي أضفوها علي الصحابة وعلي تابعي الصحابة، وعلي تابعي التابعين.ومما يوجه الإسلام المؤمنين إليه البعد عن الزهو والفخر والحرص علي مظاهر التميز واستبعاد الألقاب، كانت الصفة التي أعطاها الرسول لنفسه هي "محمد عبد الله ورسوله"، وكان يرفض أي تميز، فقد كان مع صحابته في سفر وأرادوا إعداد الطعام، قال أحدهم علي ذبح الشاة، وقال الثاني وعلي سلخها، وقال الرسول وعلي جمع الحطب، فقالوا يا رسول الله نكفيك، قال : "أعلم ولكني أكره الرجل المتميز"، وتحذيرات الرسول عمن يحب أن يتمثل له الناس قيامًا، أو يشار إليه بالأصابع معلومة.
بل الأعجب من هذا أن الفقهاء والمفسرين الذين يقرءون القرآن ليل نهار يمرون علي الآيات التي لا تجعل للأنبياء أنفسهم سلطة علي الناس، وترد الإشارة إليهم في القرآن كبشر مثل باقي الناس "قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ"، فهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وإن فضلهم الوحيد أن الله اصطفاهم لتبليغ رسالته، وليس لهم من عمل إلا هذا التبليغ، وحتي في هذا فإنه لا يهدي من يحب "إنك لا تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ"، "لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ" .. الخ.ولا يوجد في الإسلام فرد يطلق عليه "قديس"، كما في الديانات الأخري التي لديها ألقاب كهنوتية.وهناك مبدأ إسلامي هو أن "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون"، فالإسلام يعترف بالضعف البشري الذي هو في أصل النفس البشرية التي ألهمها فجورها وتقواها، ولم يعط أحدًا حصانة من الخطأ إلا الأنبياء فيما كلفوا بتبليغه، أما ما عدا هذا فهم ليسوا في حصانة تامة من الخطأ، وقد تحدث القرآن عن الأنبياء، وهم المثل العليا للبشرية في غير ما كلفوا بتبليغه، فقال القرآن عن آدم :
"فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً"، وعن سليمان "وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَي كُرْسِيِّهِ جَسَداً"، وقال عن يوسف "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَي بُرْهَانَ رَبِّهِ"، وروي عن موسي "وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً"، وقال عن ذي النون "وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ"، وقال عن محمد "وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ"، " وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً، وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً، إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً" ( لا نجهل ما تذكره كتب التفسير عن هذه الآيات، لكن ظاهر الكلمات والسياق يأباها، وليس الأنبياء بعد بمعصومين لولا رحمة الله بهم وفضله عليهم).
فإذا كان هذا هو حال الأنبياء، فهل يعقل أن يكون الصحابة أعلي منزلة من الأنبياء بحيث أنهم لا يمكن أن يرتكبوا أخطاء، كما يريدون أن يقنعونا به.ولم ينف القرآن وهو بصدد الحديث عن المؤمنين احتمال وقوعهم في خطأ أو استسلامهم لضعف، وقد رضي منهم أن لا يقعوا في "كبائر الإثم والفواحش" دون اللمم وصغائر الذنوب التي افترض سياق الآية وقوعهم فيها، ووعد القرآن المؤمنين بأن يكفر عنهم سيئاتهم عند التقوي والإنابة، وقال النبي : "أيها الناس إنكم لن تفعلوا ولن تطيقوا كل ما أمرتم به، ولكن سددوا وأبشروا".وخطأ الإنسان مهما كان لا يشينه لأنها الطبيعة البشرية، وقد قال الشاعر "كفي المرء نبلاً أن تعد معايبه"، وهذه الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها بعض الصحابة لا يقلل من منزلتهم، ولا تمس مزيتهم لأن أعمالهم العظيمة هي أضعاف أضعاف أخطائهم، ولأن في دين الإسلام "إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ"، و"اتبع السيئة الحسنة تمحها"، فالأخطاء ليست وصمات، ولا هي تلصق دائمًا بالنفوس لأن التوبة والاستغفار والإتيان بالحسنات تجبها وتزيلها.
ويقتضينا العدل أن نعترف لكثير من الصحابة بالأعمال العظيمة التي قاموا بها والكفاح الذي خاضوه مع الرسول وبعده مما يجعلهم من أعظم الرجال في التاريخ.وهذا العدل نفسه هو الذي يلزمنا الاعتراف بوقوع بعضهم في أخطاء، بعضها أخطاء جسيمة طبقاً للبيان الذي سيلي، وأن علينا في هذا الموقف أن نعترف بالحقيقة لا أن نسكت عنها أو نتجاهلها أو نظن أن ذلك يخالف أدب الإسلام مع الصحابة، فالإسلام لا يجامل أبدًا في الحقيقة، وهو إنما نزل بالحق فلا يقبل تهاونًا أو تهاونًا مع الأخطاء والانحرافات أو الميل عن الحق مهما كان فاعله.
* * *
وإذا أردنا أن نترجم هذا إلي عمل فيكون علينا أن نحدد من ينطبق عليه صفة "الصحبة".
فهناك الرعيل الأول والسابقون السابقون مثل أبي بكر الصديق الذي عن طريقه اهتدي للإسلام العديد ممن أصبحوا من كبار الصحابة، وهو "ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ"، وهو الوزير الأول المؤتمن للرسول، وبعده يأتي "عمر بن الخطاب" الذي كان إسلامه عزًا للإسلام وهو صاحب البصيرة التي تهديه إلي الحق، فيشير به علي الرسول ثم ينزل الوحي موافقاً لمشورته، أما آثار هذين العظيمين عندما وليا الخلافة فلا يتسع لها مقال، بل ولا كتاب، ويأتي بعدهما "علي بن أبي طالب" الذي آمن بالإسلام صبيًا، وناصره فتيًا وكان فارسه شابًا قويًا، وهو أفضل ممثل للهاشميين، ويأتي بعده "أبو عبيدة" أمين هذه الأمة، و"مصعب بن عمير" الذي أرسله الرسول صلي الله عليه وسلم للمدينة معلمًا للقرآن، وكانت ثمرة ذلك أن "فتحت المدينة بالقرآن" كما قالت عائشة، وهذا الفتح لم يكن بسيف أو سنان ولكن بالقرآن وبفضل "مصعب بن عمير" وحسن تعليمه القرآن وهو حامل اللواء يوم أحد وشهيدها، وقد يكون هناك ما يزيد علي عشرة في هذه المرتبة.وقد يمكن أن نذكر قبل هؤلاء السيدة "خديجة" العظيمة أول نفس أسلمت والتي وقفت وراء الرسول تسانده وتؤيده وتعينه بإيمانها ومالها.ثم يأتي بعد هؤلاء عدد آخر صحبوا الرسول واقتبسوا منه وخدموا الإسلام، ولكن ليس بمستوي المرتبة الأولي.
وأخيرًا تأتي مجموعات، قد تصل إلي الألف صحبوا الرسول أيامًا أو شهورًا، ولابد أن نال بعضهم شعاعاً من نور النبوة علي حين لم يصل تأثير هذه الصحبة القصيرة المتقطعة لدي البعض الآخر إلي طائل، وقد تذهب الأيام والسنون بأثرها وقد يكونون ممن تنطبق عليهم الآية "وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً"، فلا يعد هؤلاء الذين تركوا الرسول قائمًا يخطب وخرجوا للقاء القافلة التي جاءت المدينة وقتئذ.ومن بين العشرة آلاف الذين خرجوا مع الرسول في حجة الوداع والمائة الألف من بقية القبائل الذين شهدوا أو سمعوا الرسول يخطب خطبته الأخيرة، فلا يمكن أن نستخلص إلا أقل من خمسين من المرتبة الأولي وخمسمائة من المرتبة الثانية الذين ينطبق عليهم صفة الصحبة مع تفاوت.
ولما كان التاريخ الإسلامي قد قام به صحابة المرتبة الأولي فإننا عندما نكتب تاريخهم لابد أن نسجل تصرفات رائعة وسياسات ممتازة، بل تثير الدهشة لما وصلت إليه من روعة وكمال كما هو الحال في سيرة الشيخين، وسيرة مصعب بن عمير وأبي عبيدة بن الجراح، فأعمال معظم رجال هذه المرتبة يصل إلي أعلي المستويات السياسية في العالم أجمع.
لقراءة التعليقات على هذا المقال في موقع ايلاف ...راجعوا هذا الرابط
http://www.elaph.com/ElaphWeb/NewsPapers/2007/2/209603.htm
جمال البنـّا
أضفي الفكر السلفي قداسة علي الصحابة، ثم لم يقف عند هذا، بل سحب هذه القداسة علي التابعين، وكذلك علي تابعي التابعين، وهذا أمر يثير الدهشة، لأن الإسلام دون كل الأديان تقريبًا رفض الرهبان والأحبار والقسيسين وكل من يسمونهم رجال الدين، واعتبر أن تحريمهم وتحليلهم نوع من الشرك، كما يدلنا علي ذلك حديث الرسول لعدي بن حاتم الذي كان نصرانيًا ثم أسلم وزار الرسول، وفي عنقه صليب، فسمع الرسول يقرأ "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ"، فقال يا رسول الله : ما كنا نعبدهم فبين له الرسول إن إصدارهم الأحكام وتوليهم التحريم والتحليل شرك بالله لأن الله تعالي وحده هو الشارع.
فالإسلام - أصلاً - لا يعرف رجال الدين ولا يعطيهم أي صفة.
كما أن الإسلام لا يعطي صلة النسب فضيلة في حد ذاتها، لأن قاعدته المؤكدة "وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَي"، "وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَي"، "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ".
فلم ينفع الأوُلتين أنهما زوجتا نبيين، ولم يضر الأخيرتين أن قومهما كانا كافرين، ولم يضر إبراهيم أن أباه كان كافرًا، ولم ينفع ابن نوح أن أباه كان نبيًا رسولاً.وكان الرسول يقول : "يا فاطمة اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية اعملي فإني لا أغني لك من الله شيئاً"، وكان عمر بن الخطاب يقول لأفراد أسرته : "لا يأتيني الناس بالأعمال وتأتوني بالإنساب".فإذا كانت علاقات النسب الوثيق والمباشرة كالأبوة والبنوة والزوجية لا تغني شيئاً، فهل تغني الصحبة، وهي أقل من القرابة؟.ومما يثير الدهشة أن المحدثين اعتبروا أن الصحابة هم كل من رأي الرسول ولو للحظة ومات مسلمًا، وألحقوا بهم أطفال الصحابة الصغار مثل ابن عباس ومثل أنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، والحسن والحسين، وكذلك الجن المؤمنين الذين رأوا الرسول، كما سحبوا صفة القداسة التي أضفوها علي الصحابة وعلي تابعي الصحابة، وعلي تابعي التابعين.ومما يوجه الإسلام المؤمنين إليه البعد عن الزهو والفخر والحرص علي مظاهر التميز واستبعاد الألقاب، كانت الصفة التي أعطاها الرسول لنفسه هي "محمد عبد الله ورسوله"، وكان يرفض أي تميز، فقد كان مع صحابته في سفر وأرادوا إعداد الطعام، قال أحدهم علي ذبح الشاة، وقال الثاني وعلي سلخها، وقال الرسول وعلي جمع الحطب، فقالوا يا رسول الله نكفيك، قال : "أعلم ولكني أكره الرجل المتميز"، وتحذيرات الرسول عمن يحب أن يتمثل له الناس قيامًا، أو يشار إليه بالأصابع معلومة.
بل الأعجب من هذا أن الفقهاء والمفسرين الذين يقرءون القرآن ليل نهار يمرون علي الآيات التي لا تجعل للأنبياء أنفسهم سلطة علي الناس، وترد الإشارة إليهم في القرآن كبشر مثل باقي الناس "قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ"، فهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وإن فضلهم الوحيد أن الله اصطفاهم لتبليغ رسالته، وليس لهم من عمل إلا هذا التبليغ، وحتي في هذا فإنه لا يهدي من يحب "إنك لا تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ"، "لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ" .. الخ.ولا يوجد في الإسلام فرد يطلق عليه "قديس"، كما في الديانات الأخري التي لديها ألقاب كهنوتية.وهناك مبدأ إسلامي هو أن "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون"، فالإسلام يعترف بالضعف البشري الذي هو في أصل النفس البشرية التي ألهمها فجورها وتقواها، ولم يعط أحدًا حصانة من الخطأ إلا الأنبياء فيما كلفوا بتبليغه، أما ما عدا هذا فهم ليسوا في حصانة تامة من الخطأ، وقد تحدث القرآن عن الأنبياء، وهم المثل العليا للبشرية في غير ما كلفوا بتبليغه، فقال القرآن عن آدم :
"فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً"، وعن سليمان "وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَي كُرْسِيِّهِ جَسَداً"، وقال عن يوسف "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَي بُرْهَانَ رَبِّهِ"، وروي عن موسي "وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً"، وقال عن ذي النون "وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ"، وقال عن محمد "وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ"، " وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً، وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً، إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً" ( لا نجهل ما تذكره كتب التفسير عن هذه الآيات، لكن ظاهر الكلمات والسياق يأباها، وليس الأنبياء بعد بمعصومين لولا رحمة الله بهم وفضله عليهم).
فإذا كان هذا هو حال الأنبياء، فهل يعقل أن يكون الصحابة أعلي منزلة من الأنبياء بحيث أنهم لا يمكن أن يرتكبوا أخطاء، كما يريدون أن يقنعونا به.ولم ينف القرآن وهو بصدد الحديث عن المؤمنين احتمال وقوعهم في خطأ أو استسلامهم لضعف، وقد رضي منهم أن لا يقعوا في "كبائر الإثم والفواحش" دون اللمم وصغائر الذنوب التي افترض سياق الآية وقوعهم فيها، ووعد القرآن المؤمنين بأن يكفر عنهم سيئاتهم عند التقوي والإنابة، وقال النبي : "أيها الناس إنكم لن تفعلوا ولن تطيقوا كل ما أمرتم به، ولكن سددوا وأبشروا".وخطأ الإنسان مهما كان لا يشينه لأنها الطبيعة البشرية، وقد قال الشاعر "كفي المرء نبلاً أن تعد معايبه"، وهذه الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها بعض الصحابة لا يقلل من منزلتهم، ولا تمس مزيتهم لأن أعمالهم العظيمة هي أضعاف أضعاف أخطائهم، ولأن في دين الإسلام "إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ"، و"اتبع السيئة الحسنة تمحها"، فالأخطاء ليست وصمات، ولا هي تلصق دائمًا بالنفوس لأن التوبة والاستغفار والإتيان بالحسنات تجبها وتزيلها.
ويقتضينا العدل أن نعترف لكثير من الصحابة بالأعمال العظيمة التي قاموا بها والكفاح الذي خاضوه مع الرسول وبعده مما يجعلهم من أعظم الرجال في التاريخ.وهذا العدل نفسه هو الذي يلزمنا الاعتراف بوقوع بعضهم في أخطاء، بعضها أخطاء جسيمة طبقاً للبيان الذي سيلي، وأن علينا في هذا الموقف أن نعترف بالحقيقة لا أن نسكت عنها أو نتجاهلها أو نظن أن ذلك يخالف أدب الإسلام مع الصحابة، فالإسلام لا يجامل أبدًا في الحقيقة، وهو إنما نزل بالحق فلا يقبل تهاونًا أو تهاونًا مع الأخطاء والانحرافات أو الميل عن الحق مهما كان فاعله.
* * *
وإذا أردنا أن نترجم هذا إلي عمل فيكون علينا أن نحدد من ينطبق عليه صفة "الصحبة".
فهناك الرعيل الأول والسابقون السابقون مثل أبي بكر الصديق الذي عن طريقه اهتدي للإسلام العديد ممن أصبحوا من كبار الصحابة، وهو "ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ"، وهو الوزير الأول المؤتمن للرسول، وبعده يأتي "عمر بن الخطاب" الذي كان إسلامه عزًا للإسلام وهو صاحب البصيرة التي تهديه إلي الحق، فيشير به علي الرسول ثم ينزل الوحي موافقاً لمشورته، أما آثار هذين العظيمين عندما وليا الخلافة فلا يتسع لها مقال، بل ولا كتاب، ويأتي بعدهما "علي بن أبي طالب" الذي آمن بالإسلام صبيًا، وناصره فتيًا وكان فارسه شابًا قويًا، وهو أفضل ممثل للهاشميين، ويأتي بعده "أبو عبيدة" أمين هذه الأمة، و"مصعب بن عمير" الذي أرسله الرسول صلي الله عليه وسلم للمدينة معلمًا للقرآن، وكانت ثمرة ذلك أن "فتحت المدينة بالقرآن" كما قالت عائشة، وهذا الفتح لم يكن بسيف أو سنان ولكن بالقرآن وبفضل "مصعب بن عمير" وحسن تعليمه القرآن وهو حامل اللواء يوم أحد وشهيدها، وقد يكون هناك ما يزيد علي عشرة في هذه المرتبة.وقد يمكن أن نذكر قبل هؤلاء السيدة "خديجة" العظيمة أول نفس أسلمت والتي وقفت وراء الرسول تسانده وتؤيده وتعينه بإيمانها ومالها.ثم يأتي بعد هؤلاء عدد آخر صحبوا الرسول واقتبسوا منه وخدموا الإسلام، ولكن ليس بمستوي المرتبة الأولي.
وأخيرًا تأتي مجموعات، قد تصل إلي الألف صحبوا الرسول أيامًا أو شهورًا، ولابد أن نال بعضهم شعاعاً من نور النبوة علي حين لم يصل تأثير هذه الصحبة القصيرة المتقطعة لدي البعض الآخر إلي طائل، وقد تذهب الأيام والسنون بأثرها وقد يكونون ممن تنطبق عليهم الآية "وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً"، فلا يعد هؤلاء الذين تركوا الرسول قائمًا يخطب وخرجوا للقاء القافلة التي جاءت المدينة وقتئذ.ومن بين العشرة آلاف الذين خرجوا مع الرسول في حجة الوداع والمائة الألف من بقية القبائل الذين شهدوا أو سمعوا الرسول يخطب خطبته الأخيرة، فلا يمكن أن نستخلص إلا أقل من خمسين من المرتبة الأولي وخمسمائة من المرتبة الثانية الذين ينطبق عليهم صفة الصحبة مع تفاوت.
ولما كان التاريخ الإسلامي قد قام به صحابة المرتبة الأولي فإننا عندما نكتب تاريخهم لابد أن نسجل تصرفات رائعة وسياسات ممتازة، بل تثير الدهشة لما وصلت إليه من روعة وكمال كما هو الحال في سيرة الشيخين، وسيرة مصعب بن عمير وأبي عبيدة بن الجراح، فأعمال معظم رجال هذه المرتبة يصل إلي أعلي المستويات السياسية في العالم أجمع.
لقراءة التعليقات على هذا المقال في موقع ايلاف ...راجعوا هذا الرابط
http://www.elaph.com/ElaphWeb/NewsPapers/2007/2/209603.htm