فاطمي
01-25-2007, 12:50 PM
عزمي بشارة - الحياة اللندنية
في مؤتمر هرتسيليا السابع الذي يعقده المركز الإسرائيلي العابر للتخصصات اجتمعت بقايا المحافظين الجدد، وأيضاً القدامى ممن حافظوا على «حيوية حماية وشباب دائم»، كما في الدعاية لأحد أنواع «الكريمات» النسائية من أيام شبابنا نحن. أليس مما ينعش النفس ويدفئ القلب في الوقت ذاته أن يصادف الإنسان في مؤتمر واحد المستشرق الأبدي برنارد لويس، والمستغرب الدائم شمعون بيريز، والذين يثير وجودهم الاستغراب من أمثال ريتشارد بيرل وجيمس وولسي رئيس المخابرات الأميركية السابق المنتمي للشلة نفسها؟!
أين يمكن أن تصادف كل هؤلاء وأشباههم ومتطفلين آخرين على المنطقة العربية تحت سقف واحد؟ فقط في إسرائيل طبعا، أحد مواقع التحريض لصراع الحضارات والثقافات والإطراء لـ «الحضارة الغربية» حيث تموضع إسرائيل ذاتها فيها رغم الـ «عالم ثالثية» الآتية على كل شيء في ثقافتها الجماهيرية وثقافة سياسييها. وإسرائيل تكتشف الليبرالية الاقتصادية والسياسات والعولمة كأمركة ولكن من دون نقد ذاتي ومن دون تظاهرات خارج المؤتمر. فهرتسيليا ليست فانكوفر ولا جنوى حيث يتظاهر الناس في وجه مثل هذه المؤتمرات، بل هي هامش الغرب الاستعماري الأكثر تطرفا، أو هي بفهم الصهيونية الذاتي «رأس الحربة في مواجهة البربرية الشرقية»، كما كان القيادي الصهيوني التاريخي أوسشكين يقول ليقنع الانكليز بحيوية المشروع الصهيوني.
طمح برنارد لويس في محاضرته أن يلخص التاريخ العربي منذ حملة نابليون على مصر بجمل معدودة قصيرة موجزة كما هو شأن المغرورين جدا أو الحكماء جدا: منذ تلك الحملة والقادة العرب يناورون داخل النظام الدولي مع قوة عظمى ضد أخرى، ولكن هذه المرحلة انتهت مع انهيار النظام السوفياتي. ولم تعد القوى العالمية تبدي اهتماما بالمنطقة العربية... وهنالك عودة لأنماط قديمة سبقت الحملة الفرنسية على مصر. لقد كان الشرق الأوسط دائما دينيا في هويته ودوافعه، لا إثنيا ولا قوميا. وواجب المسلم أن ينشر الإسلام، فبالنسبة اليه هنالك المسلمون من جهة وبقية العالم من جهة اخرى، وكما في حالة الأندلس ثم العثمانيين جرت محاولات إسلامية لاقتحام أوروبا... وهنالك مسلمون يعدّون أنفسهم لهذه المهمة حاليا. ويتابع لويس قائلا إن الصراع الشيعي السني مهم جداً كما البروتستانتي الكاثوليكي في حينه. هنا ينهي لويس. هنالك بعد ما قيل من يجرؤ على اتهام العرب بخلط التحليل بالخيال الشرقي الجامح. الرجل هو طبعا بروفسور في جامعة برنستون وكاتب ومستشرق أثر تأثيرا حاسما ليس فقط على الإعلام، بل على باحثين مثل هنتغتون، وقد قطع آلاف الأميال ليقول مثل هذا الكلام.
ونحن نورده كمقدمة لأجواء ثقافية سائدة تخيم بمزاجها وقيمها وليس بالمثابرة التحليلية على أجواء هذه النخبة المجتمعة في إسرائيل كأنها مركز المنطقة.
ولأن «العالم غير مهتم» فإن أميركا ترسل الجيوش إلى العراق، وتعد العدة لإيران، وتقوم كوندوليزا رايس بعملية صيانة دورية لعملية السلام بعد كل عشرة آلاف كلم، ويزورنا خافيير سولانا كل أسبوعين ليطمئن الإسرائيليين عبر تلفزيونهم: «إننا لا نتدخل بقرارات أصدقائنا في الحكومة الإسرائيلية، ونحن سوف ندعمكم في ما تقررون، ولكننا نتقرح عليكم التشكيك بالنيات السورية بالسلام. فعلى سورية أن تثبت صدق نياتها في لبنان والعراق وفي عدم منح مقر للإرهاب الفلسطيني أولا... ولا يكفي حكومة وحدة فلسطينية، بل عليها أن تقبل شروط الرباعية...» (التلفزيون الإسرائيلي القناة العاشرة 22 كانون الثاني/ يناير الجاري) وخوسيه ماريا أثنار الذي دعا في المؤتمر أوروبا إلى المبادرة لضم إسرائيل إلى الحلف الاطلسي، ورئيس المخابرات الأميركية السابق الذي يقول في المؤتمر نفسه إن إسرائيل لا يمكنها أن تفاوض من يريد إبادتها. وجميعهم ينصح حكومة لبنان ألا تبدي مرونة تجاه الأغلبية في بلدها، ويحاول إسقاط حكومة الأغلبية في فلسطين... ومع ذلك علينا أن نعتبر ذلك جزءاً من عدم الاكتراث العالمي بالمنطقة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية.
ويدعي برنارد لويس طبعا أن لا شيء يتغير أو يتطور وأن المسلمين هم المسلمون، استيقظوا الآن من مرحلة الحملة الفرنسية على مصر ليعودوا إلى ما قبلها، وأن الدين عند العرب يقزِّم كل ما عداه من انتماءات... والبحر هو البحر نفسه والسماء هي السماء نفسها. ومن جهة أخرى وفي الأسبوع ذاته نشهد مؤتمرا للحوار بين رجال دين سنة وشيعة ينتهي إلى التوصية بتأميم المذهبين السني والشيعي وتحويلهما إلى سمات رديفة بهويات قومية بحيث يتم الالتزام بعدم «التشيع» في «بلاد السنة» وعدم «التسنن» في «بلاد الشيعة». لقد قطعت الهويات القومية والإثنية كما يبدو شوطا لم يبلّغ برنارد لويس به، فقفزت المذاهب عن الاقتتال الديني لتصبح أدوات بيد خصومات تطرح كخصومات قومية، فالصراع لا يدور حول المذهب وتفسيراته بقدر ما يستخدم في صراعات أخرى. ونقول إنها أدوات بيد ما يطرح وكأنه خصومات قومية، لأن التطور يقفز عن تشكيل الأمة ذات السيادة ووجهها الآخر أي المواطنة، بحيث يتم الانتقال من عقائد تبرر الخصومة في صراعات دينية كما تخيلها لويس إلى أدوات بيد هويات تؤسس ذاتها عبر استخدامها للمذاهب ليس كمعتقدات بل كانتماءات وولاءات في حالة صراع... أما فصل المعتقد عن المواطنة وعن الشأن العام وجعله شأنا خاصا أو حتى شأنا عاما في إطار تعددية ثقافية وحضارية داخل الأمة أو القومية المتعددة الديانات والمذاهب، فقد بقي خارج الصورة هنا وعند برنارد لويس وما يمثله.
عندما يهجو المحبط منا إحياء الاقتتال بغطاء مذهبي فإن ما يقصده هو عكس ما يرمي إليه برنارد لويس. هو يرى عودة من عصر الحملة الفرنسية الذي انتهى برأيه للتو إلى ما قبلها كإثبات لطبيعة لا تتغير في الإسلام والمسلمين. فيما نستخدم نحن استعارة دول المماليك وتشتتها وتباينها، لكي نحذر وننبه ونستصرخ. لقد حولت هذه الأوضاع الدولة الصليبية في حينه إلى لاعب يتحالف معه الأخ ضد أخيه حرفيا في بعض إماراتها، كما مكنها من الانتصار على الدويلات المحيطة حتى من دون «هاي تيك» (High Tech) ومن دون تفوق تكنولوجي ومن دون قوة نووية، وبأسلحة تشبه أسلحة العرب، وبدرجة تطور أدنى من تطور العرب الاجتماعي والعلمي... وطبعا من دون مؤتمر هرتسيليا. كانت حليفتها بنية الدويلات المحيطة والعلاقات فيما بينها ومخاوفها المتبادلة. نستخدمها استعارة، أي نستعيرها لننبه مما قد يحصل نتيجة عدم بناء الأمة والوجه الآخر لعملة الأمة أي المواطنة. صدق أو لا تصدق عزيزي القارئ، صدق استعاراتنا ولكن لا تصدق نظريات برنارد لويس. لقد تقدم العرب منذ تلك المرحلة ولم تعد إسرائيل قادرة على الانتصار عليهم ولا حتى المحافظة على ذاتها من دون تفوق تكنولوجي وحضاري خلافا للدولة الصليبية التي كانت قادرة على فعل ذلك من دون هذا التفوق ما يقارب القرنين من الزمن. لقد تقدمت الحالة العربية منذ تلك الفترة. وكانت إسرائيل أحد عوامل إعاقة وإجهاض هذا التقدم بالتأكيد. والحال العربية ما زالت موضوع تنظير في مؤتمر هرتسيليا، كأنها مسألة استعمارية.
ولكي نبين ما نقول نرجو قراءة محاضرة شمعون بيريز المدهش، والمندهش من ذاته ومن العلم والتكنولوجيا والتقدم، وهو يخلط بينها أحيانا، فلا يميز ذاته عن التقدم الاقتصادي والعلمي، فيدعي حرفيا في المحاضرة التي ألقاها وبكل الرضا الذي يمكن تخيله عن الذات أنه يبدو بمظهر جيد رغم سنه لأنه متفائل، وهو متفائل بقوة الاقتصاد والعلم. وهو يتقدم بالشكر من الرئيس الإيراني احمدي نجاد على انه جند كل هذا التضامن مع إسرائيل بتصريحاته. ويتوجه بالتقدير حتى للسيد حسن نصرالله لأنه نبه إلى «ضعف إسرائيل الإنساني» في أنها لا تتخلى عن أسير، وتبادل حتى بجثث قتلاها، كما نبه إلى ديموقراطيتها في المحاسبة والاستنتاج من الخطأ والفشل، وهو سر قوتها برأيه. وهو طبعا لا يرى الجانب الآخر في مقولته هذه، أي في تطور قوى سياسية عربية غير منسحقة إعجابا بإسرائيل، بل هي من ألد أعدائها، ولكن لديها ثقة كافية بالنفس إلى درجة التحدث بحرية عن نقاط قوة إسرائيل. وهي في حال «حزب الله» (بالصدفة) الطرف القادر نفسه على إلحاق الهزائم بها. وهو، أي الحزب، الطرف القادر نفسه ليس فقط على هذه الدرجة من التنظيم في الحرب بل أيضا في التظاهر والإضراب والانضباط والاحتجاج بدفع أعداد غير مسبوقة إلى الشوارع بعد حرب مدمرة ومخاطبتها عقليا من دون الفاشية والشعبوية التي تميز الخطاب الموجه للتحركات الجماهيرية من هذا النوع حتى في دول أوروبية... مثل هذه الحركات والقوى التي بالمفاهيم السائدة عن التنظيم الحديث والإدارة العقلانية والمؤسسات تستحق أن تحكم دولا بمعايير هرتسيليا هي التي تعتبر العدو الأول لإسرائيل. فما تفضله إسرائيل وتنظِّر له هو الدويلة المملوكية السعيدة بتحالف مع إسرائيل ضد دويلة مملوكية أو ضد خصومها الداخليين، أو التي تقدر اللقاء مع حملة العلم والاقتصاد والحداثة الإسرائيلية عليها وأن تصغي جيدا للواعظ شمعون بيريز وهو ينصحها بنبذ تلك القوى الحديثة فعلا، أي ليس بالمظهر والتقليد بل بالقدرة على بناء المؤسسات والتنظيم.
فماذا قال شمعون بيريز الأول (والأخير) في مؤتمر هرتسيليا السابع؟ قال بصراحة متناهية «أن الأسد الابن يريد إصلاح أخطاء الأسد الأب»، وهو يصدقه. ولكنه يجب أن يعلم أن السلام بين إسرائيل وسورية هو معادلة من ثلاثة تشمل أميركا. وأن الأخيرة حاليا لا تريد سلاما ومفاوضات مع سورية لأنها تدعم حكومة السنيورة في لبنان... و «ما في مثل الصراحة»، ولأن سورية تمنح مقرا لخالد مشعل ولأنها تدرب «إرهابيين» لإرسالهم إلى العراق. لذلك لن تكون التسوية ممكنة معها. و «إذا أرادت سورية الحرب فلن تجد إسرائيل وحدها بل سوف تجد المثلث نفسه». لا بد أن بيريز لم يستمع إلى محاضرة برنارد لويس حول عدم اهتمام دول العالم بالمنطقة ونشر الإسلام في أوروبا... فهو لم يترك انطباعا كأنه يدافع عن نفسه ضد خطر نشر الإسلام، وبالعكس لقد أكد أن إسرائيل لا تريد سلاما مع سورية، وأنها قد تنتقل إلى الحرب على إيران، وأنه ليس أمام الفلسطينيين إلا قبول أقل مما عرض عليهم في كامب ديفيد، وبيريز يفصل ما يجب على الفلسطينيين قبوله، قائلا إن إسرائيل لا تنوي الاختفاء كدولة يهودية لأسباب ديموغرافية كما اختفى لبنان كدولة مسيحية وحيدة في المنطقة لأسباب شبيهة وأخطاء لم يفصلها.
على كل حال ببرنارد لويس ومن دونه يبدو لي أن استعارة الدويلات المملوكية مفيدة جديا لفهم، أو لتصوير حالة عدم فهم، النظام العربي الحالي الذي أيد احتلال العراق، ولا يعرف له حاليا موقف فعلي وعملي من تقسيم العراق الجاري فعلا ومن زيادة عدد الجنود الأميركيين فيه، ولكن لديه ميلاً لاستخدام أي آلية لتكريس تخلف شعوبه من نوع الاستنفار المذهبي إذا لزم، ولا يعرف له موقف من محاولات فرض الشروط الإسرائيلية على الفلسطينيين بالحصار، ولكنه يدعو عمليا إلى حكومة وحدة فلسطينية على أساس شروط الرباعية، من دون مقابل إسرائيلي كبداية للتفاوض تشكل نقطة مريحة لقبول الشروط الإسرائيلية، ويبحث عن مخرج من الحرج الذي سببته له المقاومة اللبنانية تنظيما وإرادة.
صحيح أن التفوق الإسرائيلي العلمي والتنظيمي والتكنولوجي قد أصبح ضروريا للبقاء، ولكن أساس الفجوة ليس التقدم الإسرائيلي بقدر ما هو التخلف العربي، وأساسه هذه الدويلات التي يشكل فيها بلغة ابن خلدون التملق والمحاباة الطريق إلى الجاه والسلطان، ويشكل فيها الجاه والسطوة والسلطان الطريق إلى المال، وتتحالف مع إسرائيل ومع أي كان لوأد أي بديل ينشأ لهذا الحال.
في مؤتمر هرتسيليا السابع الذي يعقده المركز الإسرائيلي العابر للتخصصات اجتمعت بقايا المحافظين الجدد، وأيضاً القدامى ممن حافظوا على «حيوية حماية وشباب دائم»، كما في الدعاية لأحد أنواع «الكريمات» النسائية من أيام شبابنا نحن. أليس مما ينعش النفس ويدفئ القلب في الوقت ذاته أن يصادف الإنسان في مؤتمر واحد المستشرق الأبدي برنارد لويس، والمستغرب الدائم شمعون بيريز، والذين يثير وجودهم الاستغراب من أمثال ريتشارد بيرل وجيمس وولسي رئيس المخابرات الأميركية السابق المنتمي للشلة نفسها؟!
أين يمكن أن تصادف كل هؤلاء وأشباههم ومتطفلين آخرين على المنطقة العربية تحت سقف واحد؟ فقط في إسرائيل طبعا، أحد مواقع التحريض لصراع الحضارات والثقافات والإطراء لـ «الحضارة الغربية» حيث تموضع إسرائيل ذاتها فيها رغم الـ «عالم ثالثية» الآتية على كل شيء في ثقافتها الجماهيرية وثقافة سياسييها. وإسرائيل تكتشف الليبرالية الاقتصادية والسياسات والعولمة كأمركة ولكن من دون نقد ذاتي ومن دون تظاهرات خارج المؤتمر. فهرتسيليا ليست فانكوفر ولا جنوى حيث يتظاهر الناس في وجه مثل هذه المؤتمرات، بل هي هامش الغرب الاستعماري الأكثر تطرفا، أو هي بفهم الصهيونية الذاتي «رأس الحربة في مواجهة البربرية الشرقية»، كما كان القيادي الصهيوني التاريخي أوسشكين يقول ليقنع الانكليز بحيوية المشروع الصهيوني.
طمح برنارد لويس في محاضرته أن يلخص التاريخ العربي منذ حملة نابليون على مصر بجمل معدودة قصيرة موجزة كما هو شأن المغرورين جدا أو الحكماء جدا: منذ تلك الحملة والقادة العرب يناورون داخل النظام الدولي مع قوة عظمى ضد أخرى، ولكن هذه المرحلة انتهت مع انهيار النظام السوفياتي. ولم تعد القوى العالمية تبدي اهتماما بالمنطقة العربية... وهنالك عودة لأنماط قديمة سبقت الحملة الفرنسية على مصر. لقد كان الشرق الأوسط دائما دينيا في هويته ودوافعه، لا إثنيا ولا قوميا. وواجب المسلم أن ينشر الإسلام، فبالنسبة اليه هنالك المسلمون من جهة وبقية العالم من جهة اخرى، وكما في حالة الأندلس ثم العثمانيين جرت محاولات إسلامية لاقتحام أوروبا... وهنالك مسلمون يعدّون أنفسهم لهذه المهمة حاليا. ويتابع لويس قائلا إن الصراع الشيعي السني مهم جداً كما البروتستانتي الكاثوليكي في حينه. هنا ينهي لويس. هنالك بعد ما قيل من يجرؤ على اتهام العرب بخلط التحليل بالخيال الشرقي الجامح. الرجل هو طبعا بروفسور في جامعة برنستون وكاتب ومستشرق أثر تأثيرا حاسما ليس فقط على الإعلام، بل على باحثين مثل هنتغتون، وقد قطع آلاف الأميال ليقول مثل هذا الكلام.
ونحن نورده كمقدمة لأجواء ثقافية سائدة تخيم بمزاجها وقيمها وليس بالمثابرة التحليلية على أجواء هذه النخبة المجتمعة في إسرائيل كأنها مركز المنطقة.
ولأن «العالم غير مهتم» فإن أميركا ترسل الجيوش إلى العراق، وتعد العدة لإيران، وتقوم كوندوليزا رايس بعملية صيانة دورية لعملية السلام بعد كل عشرة آلاف كلم، ويزورنا خافيير سولانا كل أسبوعين ليطمئن الإسرائيليين عبر تلفزيونهم: «إننا لا نتدخل بقرارات أصدقائنا في الحكومة الإسرائيلية، ونحن سوف ندعمكم في ما تقررون، ولكننا نتقرح عليكم التشكيك بالنيات السورية بالسلام. فعلى سورية أن تثبت صدق نياتها في لبنان والعراق وفي عدم منح مقر للإرهاب الفلسطيني أولا... ولا يكفي حكومة وحدة فلسطينية، بل عليها أن تقبل شروط الرباعية...» (التلفزيون الإسرائيلي القناة العاشرة 22 كانون الثاني/ يناير الجاري) وخوسيه ماريا أثنار الذي دعا في المؤتمر أوروبا إلى المبادرة لضم إسرائيل إلى الحلف الاطلسي، ورئيس المخابرات الأميركية السابق الذي يقول في المؤتمر نفسه إن إسرائيل لا يمكنها أن تفاوض من يريد إبادتها. وجميعهم ينصح حكومة لبنان ألا تبدي مرونة تجاه الأغلبية في بلدها، ويحاول إسقاط حكومة الأغلبية في فلسطين... ومع ذلك علينا أن نعتبر ذلك جزءاً من عدم الاكتراث العالمي بالمنطقة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية.
ويدعي برنارد لويس طبعا أن لا شيء يتغير أو يتطور وأن المسلمين هم المسلمون، استيقظوا الآن من مرحلة الحملة الفرنسية على مصر ليعودوا إلى ما قبلها، وأن الدين عند العرب يقزِّم كل ما عداه من انتماءات... والبحر هو البحر نفسه والسماء هي السماء نفسها. ومن جهة أخرى وفي الأسبوع ذاته نشهد مؤتمرا للحوار بين رجال دين سنة وشيعة ينتهي إلى التوصية بتأميم المذهبين السني والشيعي وتحويلهما إلى سمات رديفة بهويات قومية بحيث يتم الالتزام بعدم «التشيع» في «بلاد السنة» وعدم «التسنن» في «بلاد الشيعة». لقد قطعت الهويات القومية والإثنية كما يبدو شوطا لم يبلّغ برنارد لويس به، فقفزت المذاهب عن الاقتتال الديني لتصبح أدوات بيد خصومات تطرح كخصومات قومية، فالصراع لا يدور حول المذهب وتفسيراته بقدر ما يستخدم في صراعات أخرى. ونقول إنها أدوات بيد ما يطرح وكأنه خصومات قومية، لأن التطور يقفز عن تشكيل الأمة ذات السيادة ووجهها الآخر أي المواطنة، بحيث يتم الانتقال من عقائد تبرر الخصومة في صراعات دينية كما تخيلها لويس إلى أدوات بيد هويات تؤسس ذاتها عبر استخدامها للمذاهب ليس كمعتقدات بل كانتماءات وولاءات في حالة صراع... أما فصل المعتقد عن المواطنة وعن الشأن العام وجعله شأنا خاصا أو حتى شأنا عاما في إطار تعددية ثقافية وحضارية داخل الأمة أو القومية المتعددة الديانات والمذاهب، فقد بقي خارج الصورة هنا وعند برنارد لويس وما يمثله.
عندما يهجو المحبط منا إحياء الاقتتال بغطاء مذهبي فإن ما يقصده هو عكس ما يرمي إليه برنارد لويس. هو يرى عودة من عصر الحملة الفرنسية الذي انتهى برأيه للتو إلى ما قبلها كإثبات لطبيعة لا تتغير في الإسلام والمسلمين. فيما نستخدم نحن استعارة دول المماليك وتشتتها وتباينها، لكي نحذر وننبه ونستصرخ. لقد حولت هذه الأوضاع الدولة الصليبية في حينه إلى لاعب يتحالف معه الأخ ضد أخيه حرفيا في بعض إماراتها، كما مكنها من الانتصار على الدويلات المحيطة حتى من دون «هاي تيك» (High Tech) ومن دون تفوق تكنولوجي ومن دون قوة نووية، وبأسلحة تشبه أسلحة العرب، وبدرجة تطور أدنى من تطور العرب الاجتماعي والعلمي... وطبعا من دون مؤتمر هرتسيليا. كانت حليفتها بنية الدويلات المحيطة والعلاقات فيما بينها ومخاوفها المتبادلة. نستخدمها استعارة، أي نستعيرها لننبه مما قد يحصل نتيجة عدم بناء الأمة والوجه الآخر لعملة الأمة أي المواطنة. صدق أو لا تصدق عزيزي القارئ، صدق استعاراتنا ولكن لا تصدق نظريات برنارد لويس. لقد تقدم العرب منذ تلك المرحلة ولم تعد إسرائيل قادرة على الانتصار عليهم ولا حتى المحافظة على ذاتها من دون تفوق تكنولوجي وحضاري خلافا للدولة الصليبية التي كانت قادرة على فعل ذلك من دون هذا التفوق ما يقارب القرنين من الزمن. لقد تقدمت الحالة العربية منذ تلك الفترة. وكانت إسرائيل أحد عوامل إعاقة وإجهاض هذا التقدم بالتأكيد. والحال العربية ما زالت موضوع تنظير في مؤتمر هرتسيليا، كأنها مسألة استعمارية.
ولكي نبين ما نقول نرجو قراءة محاضرة شمعون بيريز المدهش، والمندهش من ذاته ومن العلم والتكنولوجيا والتقدم، وهو يخلط بينها أحيانا، فلا يميز ذاته عن التقدم الاقتصادي والعلمي، فيدعي حرفيا في المحاضرة التي ألقاها وبكل الرضا الذي يمكن تخيله عن الذات أنه يبدو بمظهر جيد رغم سنه لأنه متفائل، وهو متفائل بقوة الاقتصاد والعلم. وهو يتقدم بالشكر من الرئيس الإيراني احمدي نجاد على انه جند كل هذا التضامن مع إسرائيل بتصريحاته. ويتوجه بالتقدير حتى للسيد حسن نصرالله لأنه نبه إلى «ضعف إسرائيل الإنساني» في أنها لا تتخلى عن أسير، وتبادل حتى بجثث قتلاها، كما نبه إلى ديموقراطيتها في المحاسبة والاستنتاج من الخطأ والفشل، وهو سر قوتها برأيه. وهو طبعا لا يرى الجانب الآخر في مقولته هذه، أي في تطور قوى سياسية عربية غير منسحقة إعجابا بإسرائيل، بل هي من ألد أعدائها، ولكن لديها ثقة كافية بالنفس إلى درجة التحدث بحرية عن نقاط قوة إسرائيل. وهي في حال «حزب الله» (بالصدفة) الطرف القادر نفسه على إلحاق الهزائم بها. وهو، أي الحزب، الطرف القادر نفسه ليس فقط على هذه الدرجة من التنظيم في الحرب بل أيضا في التظاهر والإضراب والانضباط والاحتجاج بدفع أعداد غير مسبوقة إلى الشوارع بعد حرب مدمرة ومخاطبتها عقليا من دون الفاشية والشعبوية التي تميز الخطاب الموجه للتحركات الجماهيرية من هذا النوع حتى في دول أوروبية... مثل هذه الحركات والقوى التي بالمفاهيم السائدة عن التنظيم الحديث والإدارة العقلانية والمؤسسات تستحق أن تحكم دولا بمعايير هرتسيليا هي التي تعتبر العدو الأول لإسرائيل. فما تفضله إسرائيل وتنظِّر له هو الدويلة المملوكية السعيدة بتحالف مع إسرائيل ضد دويلة مملوكية أو ضد خصومها الداخليين، أو التي تقدر اللقاء مع حملة العلم والاقتصاد والحداثة الإسرائيلية عليها وأن تصغي جيدا للواعظ شمعون بيريز وهو ينصحها بنبذ تلك القوى الحديثة فعلا، أي ليس بالمظهر والتقليد بل بالقدرة على بناء المؤسسات والتنظيم.
فماذا قال شمعون بيريز الأول (والأخير) في مؤتمر هرتسيليا السابع؟ قال بصراحة متناهية «أن الأسد الابن يريد إصلاح أخطاء الأسد الأب»، وهو يصدقه. ولكنه يجب أن يعلم أن السلام بين إسرائيل وسورية هو معادلة من ثلاثة تشمل أميركا. وأن الأخيرة حاليا لا تريد سلاما ومفاوضات مع سورية لأنها تدعم حكومة السنيورة في لبنان... و «ما في مثل الصراحة»، ولأن سورية تمنح مقرا لخالد مشعل ولأنها تدرب «إرهابيين» لإرسالهم إلى العراق. لذلك لن تكون التسوية ممكنة معها. و «إذا أرادت سورية الحرب فلن تجد إسرائيل وحدها بل سوف تجد المثلث نفسه». لا بد أن بيريز لم يستمع إلى محاضرة برنارد لويس حول عدم اهتمام دول العالم بالمنطقة ونشر الإسلام في أوروبا... فهو لم يترك انطباعا كأنه يدافع عن نفسه ضد خطر نشر الإسلام، وبالعكس لقد أكد أن إسرائيل لا تريد سلاما مع سورية، وأنها قد تنتقل إلى الحرب على إيران، وأنه ليس أمام الفلسطينيين إلا قبول أقل مما عرض عليهم في كامب ديفيد، وبيريز يفصل ما يجب على الفلسطينيين قبوله، قائلا إن إسرائيل لا تنوي الاختفاء كدولة يهودية لأسباب ديموغرافية كما اختفى لبنان كدولة مسيحية وحيدة في المنطقة لأسباب شبيهة وأخطاء لم يفصلها.
على كل حال ببرنارد لويس ومن دونه يبدو لي أن استعارة الدويلات المملوكية مفيدة جديا لفهم، أو لتصوير حالة عدم فهم، النظام العربي الحالي الذي أيد احتلال العراق، ولا يعرف له حاليا موقف فعلي وعملي من تقسيم العراق الجاري فعلا ومن زيادة عدد الجنود الأميركيين فيه، ولكن لديه ميلاً لاستخدام أي آلية لتكريس تخلف شعوبه من نوع الاستنفار المذهبي إذا لزم، ولا يعرف له موقف من محاولات فرض الشروط الإسرائيلية على الفلسطينيين بالحصار، ولكنه يدعو عمليا إلى حكومة وحدة فلسطينية على أساس شروط الرباعية، من دون مقابل إسرائيلي كبداية للتفاوض تشكل نقطة مريحة لقبول الشروط الإسرائيلية، ويبحث عن مخرج من الحرج الذي سببته له المقاومة اللبنانية تنظيما وإرادة.
صحيح أن التفوق الإسرائيلي العلمي والتنظيمي والتكنولوجي قد أصبح ضروريا للبقاء، ولكن أساس الفجوة ليس التقدم الإسرائيلي بقدر ما هو التخلف العربي، وأساسه هذه الدويلات التي يشكل فيها بلغة ابن خلدون التملق والمحاباة الطريق إلى الجاه والسلطان، ويشكل فيها الجاه والسطوة والسلطان الطريق إلى المال، وتتحالف مع إسرائيل ومع أي كان لوأد أي بديل ينشأ لهذا الحال.