المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القرآن أولاً ثم السنة



كانون
10-24-2003, 03:44 AM
القرآن أولاً ثمّ السنّة

العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله

أُثيرت كثيراً قضية العلاقة بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة، وعندما تُثار المسألة بهذا الاتجاه، فإننا ندخل في خلفيات التصوّر للإنسان المسلم، حيث المسافة في عملية الوعي، بين ما هو الشعار في ما يطرحه الإنسان أمام نفسه وأمام الناس بالطريقة الاستهلاكية للفكرة أو للمقدّسات، وبين ما يعيشه الإنسان في خلفياته الفكرية والشعورية التي تتحرّك الممارسة من خلالها، لذا نستطيع أن نقول: إنّ القرآن بالنسبة إلينا يمثّل كتاباً مقدّساً، نقدّسه بطريقةٍ تقليدية، حتى أننا عندما نستلهمه، نستلهمه بطريقةٍ تقليدية، لأنّ المسألة في الواقع الإسلامي العام، تتمثّل في أننا لا نبادر إلى القرآن لنأخذ منه الفكرة، ثم نبحث بعد ذلك عن خصوصياتها وملامحها وتفاصيلها، فيما بين أيدينا من تراثٍ إسلامي آخر... ربما نحن كفقهاء، وفي المجال الفقهي، قد يكون هناك اتجاه بارز، ينفذ إلى السنّة المروية عن النبي(ص)، أو عن أئمة أهل البيت(ع)، ليستنطقها عن الحكم الشرعي، وعن المفهوم الأخلاقي، وعن الخط العملي، ثم بعد أن نستجمع ذلك من السنّة، ننفذ إلى القرآن، لنرى ماذا يقول، وربما يبادر البعض إلى تأويل المفهوم القرآني، أو إلى تحديده من خلال السنّة..

وهكذا في الاتّجاهات الفكرية، قد لا نجد في الممارسة البارزة أنّ القرآن يمثّل الوجه الأوّل الذي نلتقي به عندما نريد أن نلتقي بالمفهوم الإسلامي، وإنما نأتي به كشاهد بعد استكمال كثيرٍ من الدراسات. قد لا تكون هذه الظاهرة ظاهرة شاملة، ولكنّنا نستطيع أن نعتبرها ظاهرة عامة، ولهذا أصبح القرآن بعيداً عن حالة التمثّل الفكري التي نعتبر مفهومها هو القاعدة التي تحكم على بقية المصادر، لا أن تحكم عليها بقية المصادر.

ولعلّ هذا الاتجاه، هو الذي جعل الكثيرين من الذين يحملون اتجاهات مذهبية، أو اتجاهات فكريّة معينة، يلجأون إلى القرآن ليخضعوه لاتجاهاتهم الفكرية، لا على أساس أن يأخذوا منه الاتجاه.. ولهذا رأينا أنّ الثقافة الإسلامية التي تحركت في كثيرٍ من العصور، والتي اختلفت في اتجاهاتها الفكرية، على صعيد فلسفي وفقهي، وعلى صعيد روحي ـ إذا صحّ التعبير ـ كانت تجد في القرآن، الكثير مما تحاولُ أن تجعل منه دعماً لتفكيرها. إن هذا الاتجاه انطلق مما ألمحنا إليه، وهو أنّ التراث الآخر ـ غير القرآن ـ يُعتبر النقطة الأولى التي ينطلق منها بعض المفكّرين..

ولكنّنا عندما نواجه القرآن الكريم، نجد أنّه هو وحده الذي يواجه الحقيقة، وعندما نقول وحده، ليس معناه أن نتحرّك بالاتجاه الذي انطلق في بعض الأوضاع القلقة التي أخذت بُعداً سياسياً في الساحة الإسلامية، والتي تحاول أن تعزل السنّة عن الاتجاه الفكري والفقهي في الإسلام، بحيث يكون القرآن الأوّل والأخير، وألاّ يكون للسنة أي مجال. طبعاً نحن لا نميل مطلقاً إلى هذا، لأنّ الله أكّد لنا السنّة في القرآن، ولكنّ المسألة هي أنّ القرآن يمثّل الحقيقة التي لا ريب فيها من ناحية المصدر، يعني من ناحية السند ـ إذا صحّ التعبير ـ فليس هناك شكٌ في أنّ القرآن كلام الله، ونحن لا نحتاج إلى أن نثبت النص القرآني كنصٍ صادر عن الله على لسان رسول الله(ص).. ولكنّنا عندما نواجه السنة، فإننا نجد الكثير الكثير من إمكانات الشك، وإمكانات التساؤل في كثيرٍ مما ينقله الرواة، لأنّ مشكلة الثقة بالرواة مشكلة كبيرة جداً، لا سيما مع وجود الزمن المتباعد بيننا وبينهم.

الأخذ بما وافقه وترك ما خالفه

لهذا، فنحن عندما نعيش هذه المسألة في الفرق بين القرآن كمصدرٍ أساس ليس فيه أيّ شك، وبين السنة كمصدرٍ نؤمن به، ولكن طريقة ثبوته تحتاج إلى كثيرٍ من الجهد، يفرض هذا علينا أن نلجأ إلى القرآن أولاً، لنثبت مصداقية السنّة على هذا الأساس. وهذا ما قام به أئمة أهل البيت(ع) عندما كانوا يواجهون الكثير من الأحاديث الفكرية القلقة التي ارتبكت في طبيعتها من خلال الأحاديث المتعارضة والمتضاربة، فالأئمة(ع) في مواقفهم في باب تعارض الأحاديث، وعندما كان يسألهم بعض الرواة عن وجود حديثين متضاربين فبأيّهما يُؤخذ، كانوا(ع) يُشيرون إلى الأخذ بما وافق كتاب الله، وترك ما خالفه. من هنا نستطيع أن نعتبر أنّ القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو الأساس في ما نريد أن نعيشه من تصوّراتنا الفكرية عن الكون والحياة، وما نريد أن نتمثّله في وعينا لكثيرٍ من الخطوط العملية التي نريد أن نتحرّك فيها كمسلمين.

ومن الطبيعي جداً أنّ القرآن إذا كان نصاً قطعياً في سنده، فإنّه ليس نصاً قطعياً في دلالته، لأنّ القرآن يختلف في نصوصه، فهناك من النصوص ما هو صريحٌ لا يقبل التأويل، وهناك ما هو ظاهرٌ يعطي الفكرة بنسبة 80%، ولكنه يترك مجالاً للاحتمال بنسبة 20%، وهناك في القرآن ما ـ ربما ـ يعتبر مُجملاً، لا أنه نزل مجملاً، ولكن لأنّ هناك بعض ما أحاط به جعله مُتَشابهاً، لذلك لا بدّ لنا أن نملك الثقافة القرآنية، والثقافة اللغوية بمعناها الواسع، أي الثقافة الأدبية التي تنطلق في النص الأدبي، لأنّ القرآن الكريم نصّ أدبيّ إلهي في أعلى مستويات النصوص.. ولا بدّ أيضاً لمن يريد أن يفهم القرآن، أن تكون لديه ثقافة أدبية عالية، لأنّ المسألة، ليست مسألة تفسير اللفظة بمعناها من خلال القاموس، ولكنّ المسألة أن نتمثّل النص من خلال كلّ العناصر البلاغية التي تشتمل عليها "العربية" في طريقة التعبير. وإذا لم يكن للإنسان ثقافة أدبية بمستوى جيّد، وثقافة عامة بمستوى جيّد، فمن الصعب جداً أن يفهم القرآن فهماً حقيقياً، بحيث يستطيع أن يستنطقه، ليكون ذلك في مستوى الحقيقة الفكرية، لأنّ القرآن هو الذي يمثّل الحقيقة في طبيعته.