سلسبيل
12-16-2006, 05:03 PM
http://www.aawsat.com/2006/12/15/images/hassad.396860.jpg
ترك أبو عمار المئات من الدفاتر التي سجل فيها يوميا التطورات السياسية ومسائل شخصية.. كلها مكتوبة باللون الأحمر.. لكن أين هي؟
غزة: منير أبو رزق
في دفاتر صغيرة، احتفظ ياسر عرفات بأدق أسراره ويومياته، لم يجرؤ أحد، حتى بعد وفاته في ظروف ما زالت غامضة، على فتح تلك الدفاتر، أو مجرد فتح الصناديق التي تحفظها في مكان لا يعرف معظم أعضاء القيادة الفلسطينية، حتى أولئك المقربون من الزعيم الراحل، أين هي، ولا من المسؤول عن حمايتها، أو ماهية المعلومات التي خطها ياسر عرفات بقلمه، إلا أنهم يتفقون جميعًا على أهمية هذه الدفاتر وخطورتها، خاصة أن الزعيم الراحل دأب، ومنذ انطلاقة الثورة الفلسطينية، على تسجيل أدق المعلومات وأخطرها في دفتر صغير يحتفظ به داخل جيوب بدلته العسكرية، التي حرص على ارتدائها طوال أكثر من خمسين عامًا من قيادته للثورة الفلسطينية. لم يفارق أبو عمار دفتره الصغير أينما حطت قدماه، وكان يحتفظ بدفاتره هذه بعد امتلائها في صناديق ومظاريف خاصة داخل مكتبه، من دون أن يسمح لأحد بالاطلاع عليها.
«الشرق الأوسط» حاولت الغوص في عالم عرفات السري، والبحث عن مصير تلك المذكرات، وماهية ما قد تحتويه، في لقاءات منفصلة مع عدد من مقربيه؛ منهم من رفض الحديث، مما زاد الأمر غموضًا، ومنهم من تحدث وقال إن تلك الأوراق تمثل تاريخ الثورة الفلسطينية وأسرارها بخط يد مفجرها وقائدها، وإن المعلومات التي تخفيها تلك المذكرات قد تمس العلاقة الفلسطينية مع دول شقيقة وأجنبية، تمامًا مثلما قد تطول أحياء وشهداء داخل الثورة الفلسطينية نفسها.
يقظة عرفات الدائمة، وحرصه الأمني غير المسبوق، كانا يدفعانه دائما، حسب كل من عملوا معه، إلى الاحتفاظ بأوراق خاصة كثيرة في الجيوب الأربعة لبدلته العسكرية الخضراء، إضافة إلى الدفتر الصغير، بحيث كانت جيوبه ـ على حد وصف مصوره الخاص حسين حسين ـ أشبه بمكتبة متجولة تقبع فيها أسرار ووثائق يحتاج إليها عرفات في اجتماعاته وجولاته، إلى جانب قصاصات صحف، ويقول حسين: «إن أبو عمار كان عادة ما يبرز من جيوبه بعض تلك الأوراق والقصاصات خلال لقاءاته مع زعماء وقادة الدول، كي يبرهن على كلامه». مشيرًا إلى أن من بين ما أبرزه من جيبه للرئيس الاميركي بيل كلينتون، خلال مفاوضات كامب ديفيد الثانية، كانت قصاصة من صحيفة إسرائيلية تكشف أن نصف القادمين الجدد إلى إسرائيل ليسوا بيهود. ولا يعرف حسين أو غيره ممن عملوا إلى جانب الرئيس الراحل، ماذا كان يكتب الرئيس عرفات في دفتره الخاص، ويقول:
ما أعرفه هو أن أبو عمار اعتاد على تسجيل بعض ملاحظاته الخاصة في كل اجتماع للتنفيذية والمركزية، أو مع رئيس آخر، وعندما كان يمتلئ الدفتر بعد أيام أو أسابيع، كان يضعه في صندوق خاص داخل مكتبه، وهو ما تؤكده انتصار الوزير عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، نافية هي الأخرى ـ مثل كثيرين في القيادة الفلسطينية ـ علمها بمصير تلك الدفاتر، أو محتواها بعد وفاته، مشيرة إلى أن لجنة خاصة شكلت بعد وفاة أبو عمار لفحصها، ورجحت الوزير أن تحتوى تلك الأوراق على ملاحظات كان أبو عمار بحاجة إلى عدم نسيانها، كقرارات للجنة المركزية والتنفيذية، ومعلومات خاصة لا يريد أن يطلع عليها أحد، مدللة على ذلك بعودة الرئيس الراحل إلى دفتره مرات عديدة خلال الاجتماعات، لتذكير عضو في القيادة الفلسطينية، أو ضيف اجنبي أو عربي بقرار أو اتفاق في اجتماع سابق، وهي طريقة طالما لجأ إليها الرئيس عرفات مع محدثيه بمن فيهم رؤساء دول أو أعضاء في القيادة.
وأشارت انتصار الوزير إلى أن دفترا مماثلا كان يحتفظ به زوجها خليل الوزير «أبو جهاد»، واكتشفت بعد اغتياله أن الدفتر يحتوي على ملاحظات متعددة؛ منها ما هو شخصي، ومنها ما هو أمني لا يستطيع فك طلاسمه إلا كاتبه، وتتفق بذلك أيضًا مع المحلل السياسي طلال عوكل، الذي قال لـ«الشرق الأوسط»، «إن أحدًا لا يعرف بالضبط كم عدد النوتات التي ملأها عرفات، ولا أظن زعيمًا أو رئيسًا ترك أوراقا بخط يده أو موقعة باسمه، توازي ما تركه عرفات، وهي شاملة في كافة الاختصاصات والتفاصيل، ومنها ما هو أمني وخطير، ومنها ما هو سياسي، ومنها ما يطول أشخاصًا آخرين من القيادة وخارجها».
كما يشكك عوكل في قدرة أية لجنة تشكل على عجل، على فحص تلك الأوراق والدفاتر وتحليلها، وقال: «إن أية لجنة ستحتاج إلى عدد ليس قليل من الكفاءات المتفرغة، ومن أدوات ووسائل العمل، وستحتاج إلى فترة طويلة للبحث والتنقيب في جمع تراثه، وهو كثير».
لم يلجأ أبو عمار إلى كتابة مذكراته كزعيم على الطريقة التقليدية، تمامًا كعمله وكطريقة إدارته للنضال الوطني الفلسطيني، وكيفية اتخاذه القرار وصناعته في حركة تحرر وطني، وسلطة تدير حياة يومية وسياسية معقدة للفلسطينيين، متماهيًا بذلك مع شخصيته التي تحتوى على جملة من المتناقضات، حيث تمكّن بنمطه القيادي الـمتفرِّد، من كسر القوانين والمواصفات. فقد كان برأي المراقبين خطيباً من دون أن يُتقن الخطابة، يرضى بالممكن، ويسعى دوماً إلى المستحيل، قوياً رغم الظروف الداخلية والاقليمية والدولية الخانقة. كما أن أيًا من المحيطين به ـ من مستشارين ومقربين ـ لم يجرؤ على مجرد نصحه بكتابة مذكراته لأسباب عديدة؛ لعل من أهمها حساسية القيام بمثل هذا العمل في حركة تحرر وطني، وخوفهم من أن يفهم عرفات أن ذلك يعني قرب انتهاء أجله أو قيادته للشعب الفلسطيني.
ويشير عضو المجلس الثوري يحيى رباح إلى أسباب أخرى كانت تمنع الرئيس عرفات من كتابة المذكرات، أبرزها حرصه على عدم خلق أزمات سياسية مع رؤساء وقادة عرب، مشيرًا إلى أن عرفات كان يتحفظ على إطلاع مستشاريه على معلومات كثيرة، مرددا عبارة «أن ما سيقوله قد يحدث طوفانًا نحن كفلسطينيين في غنى عنه».
وهو ما يؤكده أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء السابق، وأحد أبرز المقربين للرئيس الراحل بقوله: «إن أبو عمار لم يكتب أية مذكرات؛ لأنه كان يقود ثورة يمكن أن تؤدي تلك المذكرات إلى كشف أسرارها التي يصعب عليه كقائد كشفها، ولكنه كان طوال حياته يدون يوميًا ما يحدث في دفتر صغير يحتفظ به في جيبه؛ لأنه يحتوى على معلومات سرية». ويصف عبد الرحمن مجموع هذه الدفاتر الصغيرة الحجم بأنها تاريخ ثورة الشعب الفلسطيني، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «إن أبو عمار كان دقيقا جدًا في تسجيل كل الملاحظات المهمة في دفتره على مدى عقود، بدءًا من ملخص اجتماعاته مع القيادة، أو الرؤساء العرب والأجانب، وانتهاء بأسماء الحضور، وملاحظاته، وتاريخ الاجتماع، ومكانه، وعندما كنا نسأله منذ حصار بيروت عن هذا الحرص العجيب على تدوين كل شيء في دفتره الصغير كان يقول: «هادا تاريخ شعبنا ولازم الأجيال القادمة تعرف كل ما مررنا به».
وهو ما يؤكده أيضا عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية جميل مجدلاوي قائلاً: إن الرئيس الراحل أخرج الدفتر من جيبه مرات لا تحصى خلال اجتماعاته مع قيادة الجبهة الشعبية لإثبات ما يقول، وكان يقرأ بنفسه من الدفتر حديثًا أو قرارًا أو جملة قالها احد القياديين في الجبهة خلال اجتماع مغلق سابق بأشهر».
ورجح مجدلاوي قيام أبو عمار بتجهيز الدفتر المعني به قبل حضوره الاجتماع قائلاً: «من المستحيل أن يكون الدفتر نفسه بقي في جيبه ولم يمتلئ، أو لم يغيره طوال أشهر، وهذا يثبت أن (أبو عمار) يحتفظ بدفاتر كثيرة، ومواظب جيد على تسجيل كل شيء بنفسه، وأنه يستخرج الدفتر المناسب في الوقت المناسب».
ولا يعرف الأمين العام السابق لمجلس الوزراء أحمد عبد الرحمن على وجه الدقة، كم عدد الدفاتر التي سطرها ياسر عرفات بخط يده، كما رفض البوح بمكانها، قائلاً إنها ضخمة ومحفوظة في صناديق، كما لا يعرف عن اللجنة التي تتحدث عنها عضو اللجنة المركزية في حركة فتح انتصار الوزير «أم جهاد»، والتي تم تكليفها حسب قولها بفتح الأوراق والدفاتر، وقال «إن اللجنة مجرد فكرة طرحت على مستوى القيادة، إلا أنها لم تشكل بعد، كما لم تفتح هذه الصناديق، ولم يقرأ أي دفتر من دفاتر أبو عمار فهذا يحتاج إلى قرار قيادي، لأنها بالتأكيد تحتوي على أسرار تمس الأحياء والشهداء، إلا أنني أعرف أنها في أيدٍ أمينة». آخر يد كانت تمسك بتلك الدفاتر بعد أبو عمار، حسب المقدم محمد الداية المرافق الخاص السابق للرئيس الراحل، كانت يد مدير عام مكتبه الدكتور رمزي خوري، والذي كان يتسلم الدفتر الممتلئ من الرئيس عرفات، ويضعه في جارور مكتب الرئيس بعد أن يسلمه دفترًا جديدًا، ولم تتمكن «الشرق الأوسط» من الحديث مع الدكتور خوري، الذي لم يتحدث لأية وسيلة إعلام منذ رحيل عرفات، وتعينه من قبل الرئيس الجديد محمود عباس مسؤولاً عن الصندوق القومي الفلسطيني في العاصمة الأردنية عمان، كما لم تتمكن «الشرق الأوسط» من الحديث مع ثلاثة مسؤولين آخرين كانوا أشبه بسدنة المعبد السري لعرفات في الأيام الأخيرة من حياته، وهم المدير العام فى مكتبه فايز حماد، الذي غادر الأراضي الفلسطينية فور وفاة الرئيس عرفات بطريقة أثارت تحفظات الكثيرين، مفضلاً العيش متنقلاً بين عواصم عربية مختلفة، ويوسف العبد الله المسؤول الأول عن حرسه الخاص، الذي عين مستشارًا في السفارة الفلسطينية في موسكو، وسعيد زهران علان المعروف بأبي السعود؛ مدير العلاقات العامة في مكتب الرئيس الراحل، والذي يعيش متنقلا بين بيروت والعاصمة الأردنية عمان والإمارات العربية المتحدة.
إلا أن المقدم الداية، والذي عمل مرافقا خاصا للرئيس عرفات ثمانية عشر عاما، يقول «إن أحدًا لم يكن يجرؤ على فتح الدفتر، بمن فيهم أنا مرافقه الخاص، وعندما كنت أغير بدلة الرئيس ببدلة أخرى، وأساعده على ارتدائها، كنت أحمل ما في الجيب اليمين إلى اليمين، وما في الشمال إلى الشمال، وغالبًا ما كانت تحتوى جيوبه على دفتر صغير، وأوراق يتسلمها من وزراء ومسؤولين، إضافة إلى معاملات خاصة بمواطنين يطلبون علاجًا ومساعدة، وأدوية ومناديل ورقية».
ويشير المقدم الداية إلى أن أبو عمار كان يكتب بنفسه وبقلمه الأحمر تحديدا في دفتر خاص ازرق اللون قياسه 10سم ـ 15سم، ولا يتجاوز أكثر من أربعين صفحة، وبشيء من التفصيل، محاضر اجتماعاته المغلقة مع رؤساء الوزراء الإسرائيليين براك وننتياهو وبيرس وغيرهم». ولا يعرف المرافق الشخصي للرئيس الراحل، هو الآخر عدد الدفاتر التي كان يحتفظ بها أبو عمار، ولو بشكل تقريبي، أو مكانها، ويقول إنها كثيرة جدًا، «فالرئيس رحمه الله لم أره ولو مرة واحدة طوال أكثر من عشرين عامًا من مرافقتي له يتلف أي دفتر». إجماع المقربين من الرئيس الراحل ياسر عرفات على أهمية وخطورة ما تحتويه تركة أبو عمار من دفاتر، هي على ما يبدو ما تمنع وريثه الرئيس محمود عباس من إصدار قرار بفتح تلك الدفاتر، خاصة وأن الأخير ورث نظامًا سياسيًا صنعه عرفات بنفسه، ولا يشابه أي نظام سياسي آخر في العالم، وهو النظام الذي يحاول عباس إدارة دفته بعد رحيل عرفات بصعوبة لا تحتاج إلى ألغام أخرى قد تفجرها دفاتر عرفات. قد أدار الزعيم الراحل حركة فتح ومنظمة التحرير، ثم السلطة الوطنية، بطريقته الخاصة، وهي أقرب إلى النظام الأبوي والشمولي منها إلى النظام المؤسساتي.
ويقول عضو المجلس الثوري لحركة فتح يحيى رباح «إن أبو عمار كان على وعي كامل بخطورة القضية التي يحمل أمانتها، وبحجم التداخل الاقليمي والدولي في هذه القضية، وكان على ثقة مطلقة بأن الآخرين لهم أيدي وأصابع في الإطار الفلسطيني، ولذلك كان يتوقع كل شيء، ويحافظ على أسراره بعيدا عن تلك الأيدي».
ويشكك المحلل السياسي طلال عوكل في إمكانية قيام الرئيس عباس بإعطاء ضوء أخضر لأية لجنة بفتح الدفاتر في الوقت الحالي، أو في المستقبل المنظور، نظرًا لما تمر به السلطة والشعب الفلسطيني بمجمله من أحداث جسام، وحاجة الرئيس عباس إلى الكثير من الهدوء لعلاج الإشكاليات القائمة حاليًا، خاصة أن ما خطه الرئيس الراحل بيده قد يمس أشخاصًا في مواقع مسؤولة، أو حتى رؤساء عربا وأجانب، وهو الأمر الذي قد يخلق إشكاليات جديدة هو في غنى عنها.
وعلى الرغم من خطورة وأهمية ما تركه عرفات من دفاتر، وما قد تحدثه كتاباته تلك من ردود فعل، إلا أنه لم يكن كاتبًا، أو محترفًا للغة، فهو لم يكتب قط خطابًا واحدًا في حياته، بل كان يستعين بمستشاريه ورفاقه في القيادة لكتابة خطبه؛ أبرزهم ياسر عبد ربه وأحمد عبد الرحمن والطيب عبد الرحيم ونبيل عمرو وأكرم هنية، إضافة إلى يحيى رباح.
ويقول الأخير إن أبو عمار كان يراجع الخطاب مراجعة دقيقة، ويضع لمسات خاصة عليه، كان أهمها ما يتعلق بمفاصل الموقف السياسي، وآيات قرآنية، وعبارات عامية، كان يرددها دومًا في خطاباته، مثل: «اللي مش عاجبه يشرب من بحر غزة.. وإحنا وإياهم والزمن طويل. إلا أنه دائما ما كان يخرج عن النص المكتوب، ويرتجل بحرارة شديدة، وهو الارتجال الذي طالما ألهب مشاعر الناس، وهو ما دفعنا دائمًا ـ كما يضيف رباح ـ إلى نصحه بعدم الارتجال «تحسبًا من أن تقوده مشاعره عبر الارتجال إلى عواقب سياسية كان يتجنبها، لكنه لم يكن يستجيب لنا».
ومراعاة لصحته ووزنه، وكي يتمكن دائمًا من أن يكون في اللياقة الملائمة بسبب الساعات الطويلة التى يقضيها فى المكتب او الاجتماعات، كان أبو عمار يمارس رياضة المشي داخل مكتبه، ويخضع نفسه لنظام غذائي قاس، وكانت أهم الوجبات الأساسية التي يتناولها الذرة وشوربة العدس والخس وصفار البيض والفول والحلاوة بالعسل، إضافة إلى الخبز المحمص مع حبة البركة، والتي غالبًا ما كان يفرضها على ضيوفه ومقربيه، الذين كانوا يتقبلونها مكرهين لغرابة مذاقها، ومن العادات الاخرى لعرفات، قيامه بإطعام الجالسين حوله من الطبق الذي أمامه، فيناولهم الطعام بيده، كما كان صاحب نكتة على الطراز المصري، وعادة ما كان يلجأ إلى الهروب من روتين العمل والسياسة إلى التخفيف عن نفسه بقراءة القرآن الكريم، أو بمناقشة الأوضاع الشخصية لمقربيه وضيوفه؛ بدءا من أخبار أطفالهم، وانتهاء بطريقة لباسهم وصحتهم، من دون أن يعرج على السياسة.
في المقابل كان أبو عمار يعمل ساعات طويلة، تصل إلى عشرين ساعة يوميًا، يقرأ خلاها أكثر من ثلاثة آلاف ورقة؛ نصفها تقارير عمل أمنية وسياسية واقتصادية، وترجمات عن كبريات الصحف الأميركية والإسرائيلية، ونصفها الآخر رسائل قصيرة، وكتب مساعدة من المواطنين، ما بين مساعدات زواج وعلاج في الخارج، وطلبات توظيف، وخلال تلك الساعات العشرين، كان أبو عمار يلتقي بالمئات من كبار موظفيه وضيوفه وقادة ونشطاء من مختلف التنظيمات الفلسطينية والمؤسسات الأهلية، وعرف عنه تمتعه بذاكرة قوية تحفظ ملايين التفاصيل وأسماء الناس، وكان لا ينسى وجها رآه على الإطلاق.
ويصف أحمد عبد الرحمن تفاعل عرفات مع الكلمة المكتوبة بتعاطي تاجر الذهب مع مجوهراته، ويقول: كان أبو عمار يدقق في كل كلمة وجملة تكتب له، سواء باسمه أو باسم اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، أو اللجنة المركزية لحركة فتح، وكان عادة ما يمسك بالقلم الأحمر محاولاً تطويع لغة الخطاب، وصولاً إلى المعنى الذي يريد، حتى لو وصل الأمر به بعد ساعات من التدقيق إلى خلق انزلاق في اللغة لخدمة المعنى الذي يريد، وكان يقول دائمًا «إن ثمن الكلام دم فلسطيني»، مشيرا إلى إن استخدام أبو عمار القلم الأحمر كان لقناعته ان اللون الأحمر يوحى بهيبة وسلطة القرار. ويؤكد عبد الرحمن أن الرئيس عرفات كان خير من يعبر عن الموقف السياسي، ولو باللغة العامية، وكان يضيف مجموعة من الكلمات والجمل إلى أي خطاب كنا نقوم بكتابته، ولم يكن يخرج عن النص المكتوب في خطاباته الشعبية أو الرسمية، في الأمم المتحدة والقمم العربية والدولية، إلا في مجال التعبئة العامة لتحريك الجمهور، بعيدا عن المساس بالموقف السياسي الذي يكتب كلماته بعناية فائقة. ما يقوله عبد الرحمن في دقة أبو عمار خلال الكتابة، واستخدامه اللون الأحمر فقط في دفاتره الصغيرة، يؤكد الأهمية الكبيرة برأي المراقبين لما تركه الرئيس الراحل من كتابات، بل يتجاوز ذلك بنظر عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية جميل مجدلاوى إلى إمكانية أن تخلق كتاباته نقلة نوعية في اي تحقيق جدي يفتح حول ظروف موته، وهو التحقيق الذي لم يراوح نقطة الصفر منذ رحيل عرفات في الحادي عشر من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2004، نظرًا ـ كما يقول عوكل ومجدلاوى ـ لتشعباته وامتداده إلى عواصم عربية وغربية، وظروف التخبط والحصار والتغير الذي تمر به السلطة الفلسطينية، ومحاولة بعض التيارات السياسية إدخال ملف التحقيق دائرة المزايدة السياسية فيما بينها من دون أي اعتبار للبعد الوطني والتاريخي. وإلى أن يتم فتح دفاتر عرفات، وحل لغز وفاته، يمكن القول إن (أبو عمار) الذي عاش حياته غريبًا واستثنائيًا ومحيرًا في كل شيء، أبى إلا أن يكون كذلك حتى في مماته، ولو إلى حين.
ترك أبو عمار المئات من الدفاتر التي سجل فيها يوميا التطورات السياسية ومسائل شخصية.. كلها مكتوبة باللون الأحمر.. لكن أين هي؟
غزة: منير أبو رزق
في دفاتر صغيرة، احتفظ ياسر عرفات بأدق أسراره ويومياته، لم يجرؤ أحد، حتى بعد وفاته في ظروف ما زالت غامضة، على فتح تلك الدفاتر، أو مجرد فتح الصناديق التي تحفظها في مكان لا يعرف معظم أعضاء القيادة الفلسطينية، حتى أولئك المقربون من الزعيم الراحل، أين هي، ولا من المسؤول عن حمايتها، أو ماهية المعلومات التي خطها ياسر عرفات بقلمه، إلا أنهم يتفقون جميعًا على أهمية هذه الدفاتر وخطورتها، خاصة أن الزعيم الراحل دأب، ومنذ انطلاقة الثورة الفلسطينية، على تسجيل أدق المعلومات وأخطرها في دفتر صغير يحتفظ به داخل جيوب بدلته العسكرية، التي حرص على ارتدائها طوال أكثر من خمسين عامًا من قيادته للثورة الفلسطينية. لم يفارق أبو عمار دفتره الصغير أينما حطت قدماه، وكان يحتفظ بدفاتره هذه بعد امتلائها في صناديق ومظاريف خاصة داخل مكتبه، من دون أن يسمح لأحد بالاطلاع عليها.
«الشرق الأوسط» حاولت الغوص في عالم عرفات السري، والبحث عن مصير تلك المذكرات، وماهية ما قد تحتويه، في لقاءات منفصلة مع عدد من مقربيه؛ منهم من رفض الحديث، مما زاد الأمر غموضًا، ومنهم من تحدث وقال إن تلك الأوراق تمثل تاريخ الثورة الفلسطينية وأسرارها بخط يد مفجرها وقائدها، وإن المعلومات التي تخفيها تلك المذكرات قد تمس العلاقة الفلسطينية مع دول شقيقة وأجنبية، تمامًا مثلما قد تطول أحياء وشهداء داخل الثورة الفلسطينية نفسها.
يقظة عرفات الدائمة، وحرصه الأمني غير المسبوق، كانا يدفعانه دائما، حسب كل من عملوا معه، إلى الاحتفاظ بأوراق خاصة كثيرة في الجيوب الأربعة لبدلته العسكرية الخضراء، إضافة إلى الدفتر الصغير، بحيث كانت جيوبه ـ على حد وصف مصوره الخاص حسين حسين ـ أشبه بمكتبة متجولة تقبع فيها أسرار ووثائق يحتاج إليها عرفات في اجتماعاته وجولاته، إلى جانب قصاصات صحف، ويقول حسين: «إن أبو عمار كان عادة ما يبرز من جيوبه بعض تلك الأوراق والقصاصات خلال لقاءاته مع زعماء وقادة الدول، كي يبرهن على كلامه». مشيرًا إلى أن من بين ما أبرزه من جيبه للرئيس الاميركي بيل كلينتون، خلال مفاوضات كامب ديفيد الثانية، كانت قصاصة من صحيفة إسرائيلية تكشف أن نصف القادمين الجدد إلى إسرائيل ليسوا بيهود. ولا يعرف حسين أو غيره ممن عملوا إلى جانب الرئيس الراحل، ماذا كان يكتب الرئيس عرفات في دفتره الخاص، ويقول:
ما أعرفه هو أن أبو عمار اعتاد على تسجيل بعض ملاحظاته الخاصة في كل اجتماع للتنفيذية والمركزية، أو مع رئيس آخر، وعندما كان يمتلئ الدفتر بعد أيام أو أسابيع، كان يضعه في صندوق خاص داخل مكتبه، وهو ما تؤكده انتصار الوزير عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، نافية هي الأخرى ـ مثل كثيرين في القيادة الفلسطينية ـ علمها بمصير تلك الدفاتر، أو محتواها بعد وفاته، مشيرة إلى أن لجنة خاصة شكلت بعد وفاة أبو عمار لفحصها، ورجحت الوزير أن تحتوى تلك الأوراق على ملاحظات كان أبو عمار بحاجة إلى عدم نسيانها، كقرارات للجنة المركزية والتنفيذية، ومعلومات خاصة لا يريد أن يطلع عليها أحد، مدللة على ذلك بعودة الرئيس الراحل إلى دفتره مرات عديدة خلال الاجتماعات، لتذكير عضو في القيادة الفلسطينية، أو ضيف اجنبي أو عربي بقرار أو اتفاق في اجتماع سابق، وهي طريقة طالما لجأ إليها الرئيس عرفات مع محدثيه بمن فيهم رؤساء دول أو أعضاء في القيادة.
وأشارت انتصار الوزير إلى أن دفترا مماثلا كان يحتفظ به زوجها خليل الوزير «أبو جهاد»، واكتشفت بعد اغتياله أن الدفتر يحتوي على ملاحظات متعددة؛ منها ما هو شخصي، ومنها ما هو أمني لا يستطيع فك طلاسمه إلا كاتبه، وتتفق بذلك أيضًا مع المحلل السياسي طلال عوكل، الذي قال لـ«الشرق الأوسط»، «إن أحدًا لا يعرف بالضبط كم عدد النوتات التي ملأها عرفات، ولا أظن زعيمًا أو رئيسًا ترك أوراقا بخط يده أو موقعة باسمه، توازي ما تركه عرفات، وهي شاملة في كافة الاختصاصات والتفاصيل، ومنها ما هو أمني وخطير، ومنها ما هو سياسي، ومنها ما يطول أشخاصًا آخرين من القيادة وخارجها».
كما يشكك عوكل في قدرة أية لجنة تشكل على عجل، على فحص تلك الأوراق والدفاتر وتحليلها، وقال: «إن أية لجنة ستحتاج إلى عدد ليس قليل من الكفاءات المتفرغة، ومن أدوات ووسائل العمل، وستحتاج إلى فترة طويلة للبحث والتنقيب في جمع تراثه، وهو كثير».
لم يلجأ أبو عمار إلى كتابة مذكراته كزعيم على الطريقة التقليدية، تمامًا كعمله وكطريقة إدارته للنضال الوطني الفلسطيني، وكيفية اتخاذه القرار وصناعته في حركة تحرر وطني، وسلطة تدير حياة يومية وسياسية معقدة للفلسطينيين، متماهيًا بذلك مع شخصيته التي تحتوى على جملة من المتناقضات، حيث تمكّن بنمطه القيادي الـمتفرِّد، من كسر القوانين والمواصفات. فقد كان برأي المراقبين خطيباً من دون أن يُتقن الخطابة، يرضى بالممكن، ويسعى دوماً إلى المستحيل، قوياً رغم الظروف الداخلية والاقليمية والدولية الخانقة. كما أن أيًا من المحيطين به ـ من مستشارين ومقربين ـ لم يجرؤ على مجرد نصحه بكتابة مذكراته لأسباب عديدة؛ لعل من أهمها حساسية القيام بمثل هذا العمل في حركة تحرر وطني، وخوفهم من أن يفهم عرفات أن ذلك يعني قرب انتهاء أجله أو قيادته للشعب الفلسطيني.
ويشير عضو المجلس الثوري يحيى رباح إلى أسباب أخرى كانت تمنع الرئيس عرفات من كتابة المذكرات، أبرزها حرصه على عدم خلق أزمات سياسية مع رؤساء وقادة عرب، مشيرًا إلى أن عرفات كان يتحفظ على إطلاع مستشاريه على معلومات كثيرة، مرددا عبارة «أن ما سيقوله قد يحدث طوفانًا نحن كفلسطينيين في غنى عنه».
وهو ما يؤكده أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء السابق، وأحد أبرز المقربين للرئيس الراحل بقوله: «إن أبو عمار لم يكتب أية مذكرات؛ لأنه كان يقود ثورة يمكن أن تؤدي تلك المذكرات إلى كشف أسرارها التي يصعب عليه كقائد كشفها، ولكنه كان طوال حياته يدون يوميًا ما يحدث في دفتر صغير يحتفظ به في جيبه؛ لأنه يحتوى على معلومات سرية». ويصف عبد الرحمن مجموع هذه الدفاتر الصغيرة الحجم بأنها تاريخ ثورة الشعب الفلسطيني، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «إن أبو عمار كان دقيقا جدًا في تسجيل كل الملاحظات المهمة في دفتره على مدى عقود، بدءًا من ملخص اجتماعاته مع القيادة، أو الرؤساء العرب والأجانب، وانتهاء بأسماء الحضور، وملاحظاته، وتاريخ الاجتماع، ومكانه، وعندما كنا نسأله منذ حصار بيروت عن هذا الحرص العجيب على تدوين كل شيء في دفتره الصغير كان يقول: «هادا تاريخ شعبنا ولازم الأجيال القادمة تعرف كل ما مررنا به».
وهو ما يؤكده أيضا عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية جميل مجدلاوي قائلاً: إن الرئيس الراحل أخرج الدفتر من جيبه مرات لا تحصى خلال اجتماعاته مع قيادة الجبهة الشعبية لإثبات ما يقول، وكان يقرأ بنفسه من الدفتر حديثًا أو قرارًا أو جملة قالها احد القياديين في الجبهة خلال اجتماع مغلق سابق بأشهر».
ورجح مجدلاوي قيام أبو عمار بتجهيز الدفتر المعني به قبل حضوره الاجتماع قائلاً: «من المستحيل أن يكون الدفتر نفسه بقي في جيبه ولم يمتلئ، أو لم يغيره طوال أشهر، وهذا يثبت أن (أبو عمار) يحتفظ بدفاتر كثيرة، ومواظب جيد على تسجيل كل شيء بنفسه، وأنه يستخرج الدفتر المناسب في الوقت المناسب».
ولا يعرف الأمين العام السابق لمجلس الوزراء أحمد عبد الرحمن على وجه الدقة، كم عدد الدفاتر التي سطرها ياسر عرفات بخط يده، كما رفض البوح بمكانها، قائلاً إنها ضخمة ومحفوظة في صناديق، كما لا يعرف عن اللجنة التي تتحدث عنها عضو اللجنة المركزية في حركة فتح انتصار الوزير «أم جهاد»، والتي تم تكليفها حسب قولها بفتح الأوراق والدفاتر، وقال «إن اللجنة مجرد فكرة طرحت على مستوى القيادة، إلا أنها لم تشكل بعد، كما لم تفتح هذه الصناديق، ولم يقرأ أي دفتر من دفاتر أبو عمار فهذا يحتاج إلى قرار قيادي، لأنها بالتأكيد تحتوي على أسرار تمس الأحياء والشهداء، إلا أنني أعرف أنها في أيدٍ أمينة». آخر يد كانت تمسك بتلك الدفاتر بعد أبو عمار، حسب المقدم محمد الداية المرافق الخاص السابق للرئيس الراحل، كانت يد مدير عام مكتبه الدكتور رمزي خوري، والذي كان يتسلم الدفتر الممتلئ من الرئيس عرفات، ويضعه في جارور مكتب الرئيس بعد أن يسلمه دفترًا جديدًا، ولم تتمكن «الشرق الأوسط» من الحديث مع الدكتور خوري، الذي لم يتحدث لأية وسيلة إعلام منذ رحيل عرفات، وتعينه من قبل الرئيس الجديد محمود عباس مسؤولاً عن الصندوق القومي الفلسطيني في العاصمة الأردنية عمان، كما لم تتمكن «الشرق الأوسط» من الحديث مع ثلاثة مسؤولين آخرين كانوا أشبه بسدنة المعبد السري لعرفات في الأيام الأخيرة من حياته، وهم المدير العام فى مكتبه فايز حماد، الذي غادر الأراضي الفلسطينية فور وفاة الرئيس عرفات بطريقة أثارت تحفظات الكثيرين، مفضلاً العيش متنقلاً بين عواصم عربية مختلفة، ويوسف العبد الله المسؤول الأول عن حرسه الخاص، الذي عين مستشارًا في السفارة الفلسطينية في موسكو، وسعيد زهران علان المعروف بأبي السعود؛ مدير العلاقات العامة في مكتب الرئيس الراحل، والذي يعيش متنقلا بين بيروت والعاصمة الأردنية عمان والإمارات العربية المتحدة.
إلا أن المقدم الداية، والذي عمل مرافقا خاصا للرئيس عرفات ثمانية عشر عاما، يقول «إن أحدًا لم يكن يجرؤ على فتح الدفتر، بمن فيهم أنا مرافقه الخاص، وعندما كنت أغير بدلة الرئيس ببدلة أخرى، وأساعده على ارتدائها، كنت أحمل ما في الجيب اليمين إلى اليمين، وما في الشمال إلى الشمال، وغالبًا ما كانت تحتوى جيوبه على دفتر صغير، وأوراق يتسلمها من وزراء ومسؤولين، إضافة إلى معاملات خاصة بمواطنين يطلبون علاجًا ومساعدة، وأدوية ومناديل ورقية».
ويشير المقدم الداية إلى أن أبو عمار كان يكتب بنفسه وبقلمه الأحمر تحديدا في دفتر خاص ازرق اللون قياسه 10سم ـ 15سم، ولا يتجاوز أكثر من أربعين صفحة، وبشيء من التفصيل، محاضر اجتماعاته المغلقة مع رؤساء الوزراء الإسرائيليين براك وننتياهو وبيرس وغيرهم». ولا يعرف المرافق الشخصي للرئيس الراحل، هو الآخر عدد الدفاتر التي كان يحتفظ بها أبو عمار، ولو بشكل تقريبي، أو مكانها، ويقول إنها كثيرة جدًا، «فالرئيس رحمه الله لم أره ولو مرة واحدة طوال أكثر من عشرين عامًا من مرافقتي له يتلف أي دفتر». إجماع المقربين من الرئيس الراحل ياسر عرفات على أهمية وخطورة ما تحتويه تركة أبو عمار من دفاتر، هي على ما يبدو ما تمنع وريثه الرئيس محمود عباس من إصدار قرار بفتح تلك الدفاتر، خاصة وأن الأخير ورث نظامًا سياسيًا صنعه عرفات بنفسه، ولا يشابه أي نظام سياسي آخر في العالم، وهو النظام الذي يحاول عباس إدارة دفته بعد رحيل عرفات بصعوبة لا تحتاج إلى ألغام أخرى قد تفجرها دفاتر عرفات. قد أدار الزعيم الراحل حركة فتح ومنظمة التحرير، ثم السلطة الوطنية، بطريقته الخاصة، وهي أقرب إلى النظام الأبوي والشمولي منها إلى النظام المؤسساتي.
ويقول عضو المجلس الثوري لحركة فتح يحيى رباح «إن أبو عمار كان على وعي كامل بخطورة القضية التي يحمل أمانتها، وبحجم التداخل الاقليمي والدولي في هذه القضية، وكان على ثقة مطلقة بأن الآخرين لهم أيدي وأصابع في الإطار الفلسطيني، ولذلك كان يتوقع كل شيء، ويحافظ على أسراره بعيدا عن تلك الأيدي».
ويشكك المحلل السياسي طلال عوكل في إمكانية قيام الرئيس عباس بإعطاء ضوء أخضر لأية لجنة بفتح الدفاتر في الوقت الحالي، أو في المستقبل المنظور، نظرًا لما تمر به السلطة والشعب الفلسطيني بمجمله من أحداث جسام، وحاجة الرئيس عباس إلى الكثير من الهدوء لعلاج الإشكاليات القائمة حاليًا، خاصة أن ما خطه الرئيس الراحل بيده قد يمس أشخاصًا في مواقع مسؤولة، أو حتى رؤساء عربا وأجانب، وهو الأمر الذي قد يخلق إشكاليات جديدة هو في غنى عنها.
وعلى الرغم من خطورة وأهمية ما تركه عرفات من دفاتر، وما قد تحدثه كتاباته تلك من ردود فعل، إلا أنه لم يكن كاتبًا، أو محترفًا للغة، فهو لم يكتب قط خطابًا واحدًا في حياته، بل كان يستعين بمستشاريه ورفاقه في القيادة لكتابة خطبه؛ أبرزهم ياسر عبد ربه وأحمد عبد الرحمن والطيب عبد الرحيم ونبيل عمرو وأكرم هنية، إضافة إلى يحيى رباح.
ويقول الأخير إن أبو عمار كان يراجع الخطاب مراجعة دقيقة، ويضع لمسات خاصة عليه، كان أهمها ما يتعلق بمفاصل الموقف السياسي، وآيات قرآنية، وعبارات عامية، كان يرددها دومًا في خطاباته، مثل: «اللي مش عاجبه يشرب من بحر غزة.. وإحنا وإياهم والزمن طويل. إلا أنه دائما ما كان يخرج عن النص المكتوب، ويرتجل بحرارة شديدة، وهو الارتجال الذي طالما ألهب مشاعر الناس، وهو ما دفعنا دائمًا ـ كما يضيف رباح ـ إلى نصحه بعدم الارتجال «تحسبًا من أن تقوده مشاعره عبر الارتجال إلى عواقب سياسية كان يتجنبها، لكنه لم يكن يستجيب لنا».
ومراعاة لصحته ووزنه، وكي يتمكن دائمًا من أن يكون في اللياقة الملائمة بسبب الساعات الطويلة التى يقضيها فى المكتب او الاجتماعات، كان أبو عمار يمارس رياضة المشي داخل مكتبه، ويخضع نفسه لنظام غذائي قاس، وكانت أهم الوجبات الأساسية التي يتناولها الذرة وشوربة العدس والخس وصفار البيض والفول والحلاوة بالعسل، إضافة إلى الخبز المحمص مع حبة البركة، والتي غالبًا ما كان يفرضها على ضيوفه ومقربيه، الذين كانوا يتقبلونها مكرهين لغرابة مذاقها، ومن العادات الاخرى لعرفات، قيامه بإطعام الجالسين حوله من الطبق الذي أمامه، فيناولهم الطعام بيده، كما كان صاحب نكتة على الطراز المصري، وعادة ما كان يلجأ إلى الهروب من روتين العمل والسياسة إلى التخفيف عن نفسه بقراءة القرآن الكريم، أو بمناقشة الأوضاع الشخصية لمقربيه وضيوفه؛ بدءا من أخبار أطفالهم، وانتهاء بطريقة لباسهم وصحتهم، من دون أن يعرج على السياسة.
في المقابل كان أبو عمار يعمل ساعات طويلة، تصل إلى عشرين ساعة يوميًا، يقرأ خلاها أكثر من ثلاثة آلاف ورقة؛ نصفها تقارير عمل أمنية وسياسية واقتصادية، وترجمات عن كبريات الصحف الأميركية والإسرائيلية، ونصفها الآخر رسائل قصيرة، وكتب مساعدة من المواطنين، ما بين مساعدات زواج وعلاج في الخارج، وطلبات توظيف، وخلال تلك الساعات العشرين، كان أبو عمار يلتقي بالمئات من كبار موظفيه وضيوفه وقادة ونشطاء من مختلف التنظيمات الفلسطينية والمؤسسات الأهلية، وعرف عنه تمتعه بذاكرة قوية تحفظ ملايين التفاصيل وأسماء الناس، وكان لا ينسى وجها رآه على الإطلاق.
ويصف أحمد عبد الرحمن تفاعل عرفات مع الكلمة المكتوبة بتعاطي تاجر الذهب مع مجوهراته، ويقول: كان أبو عمار يدقق في كل كلمة وجملة تكتب له، سواء باسمه أو باسم اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، أو اللجنة المركزية لحركة فتح، وكان عادة ما يمسك بالقلم الأحمر محاولاً تطويع لغة الخطاب، وصولاً إلى المعنى الذي يريد، حتى لو وصل الأمر به بعد ساعات من التدقيق إلى خلق انزلاق في اللغة لخدمة المعنى الذي يريد، وكان يقول دائمًا «إن ثمن الكلام دم فلسطيني»، مشيرا إلى إن استخدام أبو عمار القلم الأحمر كان لقناعته ان اللون الأحمر يوحى بهيبة وسلطة القرار. ويؤكد عبد الرحمن أن الرئيس عرفات كان خير من يعبر عن الموقف السياسي، ولو باللغة العامية، وكان يضيف مجموعة من الكلمات والجمل إلى أي خطاب كنا نقوم بكتابته، ولم يكن يخرج عن النص المكتوب في خطاباته الشعبية أو الرسمية، في الأمم المتحدة والقمم العربية والدولية، إلا في مجال التعبئة العامة لتحريك الجمهور، بعيدا عن المساس بالموقف السياسي الذي يكتب كلماته بعناية فائقة. ما يقوله عبد الرحمن في دقة أبو عمار خلال الكتابة، واستخدامه اللون الأحمر فقط في دفاتره الصغيرة، يؤكد الأهمية الكبيرة برأي المراقبين لما تركه الرئيس الراحل من كتابات، بل يتجاوز ذلك بنظر عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية جميل مجدلاوى إلى إمكانية أن تخلق كتاباته نقلة نوعية في اي تحقيق جدي يفتح حول ظروف موته، وهو التحقيق الذي لم يراوح نقطة الصفر منذ رحيل عرفات في الحادي عشر من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2004، نظرًا ـ كما يقول عوكل ومجدلاوى ـ لتشعباته وامتداده إلى عواصم عربية وغربية، وظروف التخبط والحصار والتغير الذي تمر به السلطة الفلسطينية، ومحاولة بعض التيارات السياسية إدخال ملف التحقيق دائرة المزايدة السياسية فيما بينها من دون أي اعتبار للبعد الوطني والتاريخي. وإلى أن يتم فتح دفاتر عرفات، وحل لغز وفاته، يمكن القول إن (أبو عمار) الذي عاش حياته غريبًا واستثنائيًا ومحيرًا في كل شيء، أبى إلا أن يكون كذلك حتى في مماته، ولو إلى حين.