بركان
11-27-2006, 12:57 AM
أرض كويتية لها في كتب العرب وقلوبهم ذكريات خالدة
بقلم - أحمد بن محارب الظفيري*
»مُقرُّ كَاظِمَة« ذاع صيته بقبر غالب أبو فراس همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية الدارمي التميمي الملقب ب¯ »الفرزدق« لقبح وجهه بسبب آثار ندبات الجدري, والفرزدقة - باللغة - رغيف الخبز, وقيل الرغيف المعمول بالزيت, ولد في سنة 19 ه¯ في بادية كاظمة ونشأ على أرضها, وأبوه غالب من شيوخ بني دارم كان بدوياً صاحب إبل وأنعام كثيرة, وأسرته من بيوت الشرف الكبيرة في قبيلة بني مجاشع بن دارم من تميم, وعرف جده صعصعة بن ناجية بأنه محيي الموؤودات عند قبائل عرب الجاهلية, فهو يفتدي بماله الخاص كل فتاة يهم أبوها أن يئدها (يدفنها).
فهو يعطي والد هذه الفتاة مبلغاً كافياً من المال أو عدداً من الإبل ويأخذ عليه عهداً وميثاقاً بأن لا يئد ابنته, وإذ رفض والدها بقاءها عنده, يأخذها صعصعة إلى بيته ويتكفل بتربيتها والمحافظة التامة على عرضها وشرفها ونسبها إلى أبيها وقبيلتها, وأشراف العرب من أمثال صعصعة بن ناجية التميمي الذين يحيون الموؤودات, كثر في قبائل عربان الجاهلية.
ويئد (يدفن) البعض من العرب بناتهم إما بسبب الفقر أو بسبب التطرف والمغالاة في الشرف والمحافظة عليه من الدنس والشوائب ولما جاء الإسلام العظيم أبطل هذه العادة المقيتة ولما توفي والد الفرزدق »غالب بن صعصعة بن ناجية« أقام له ولده قبراً بارزاً حول مقر كاظمة المعروف, وبنى حول هذا القبر ومقره عدداً من بيوت الشعر جاعلاً إياها مضافة للضيفان وملجأ لكل طريد ومستجير يلوذ بحماها, فهي مكان آمن وأمان, وهيبتها من هيبة أهلها شيوخ بني دارم المعروفين بالعزة والمنعة. وتذكرني قصة بيت الفرزدق بقصة »بويت آل صويط« شيوخ الظفير من العرب الأواخر وهي معروفة وذائعة الصيت عند قبائل عرب اليوم, وبيوتهم هي أيضاً ملجأ للطريد والمظلوم. قال الشاعر الفرزدق (توفي 110 ه¯ وقيل 114 ه¯) مادحاً بني قومه وأجداده الأماجد:
ألم تر أنا بني دارم
زرارة منا أبو معبد
ومنا الذي منع الوائدات
واحيا الوئيد فلم يوأد
وناجية الخير والأقرعان
وقبر ب¯ »كاظمة« المورد
إذاما أتى قبره غارم
أناخ إلى القبر بالأسعد
زرارة: من سادات تميم الكبار في الجاهلية. وابن زرارة المدعو »حاجب بن زرارة التميمي« سيد ذائع الصيت في تاريخ العرب, كفل قبيلته برهن قوته عند كسرى ليأذن لهم في الدخول إلى ريف العراق.
ناجية الخير: هو »ناجية بن عقال بن سفيان بن مجاشع الدارمي التميمي« وهو جد أبيه غالب.
الأقرعان: هما الأقرع وفراس ولد حابس بن عقال بن سفيان بن مجاشع الدارمي التميمي. وهما من فرسان العرب المعدودين. وجدة الفرزدق أم أبيه هي أخت الأقرعين.
كاظمة المورد: يشير إلى مقر كاظمة, فالمقر هو المورد وحوله قبر غالب.
في مراجع ومعاجم العرب
قال أبوعبيدة معمر بن المثنى (ت 210 ه¯/ 825م) في كتابه »النقائض«: »المقر: جبل بكاظمة, وفيه قبر غالب«.
قال ياقوت الحموي (ت 626 ه¯/ 1228م) في كتابه »معجم البلدان«: »المقر: موضع بكاظمة, وقيل أكمة مشرفة على كاظمة« (1).
قال محمد بن مكرم بن منظور (ت 711 ه¯/ 1311م) في كتابه »لسان العرب« تحت مادة »قرر«:
»المقر: موضع وسط كاظمة, وبه قبر غالب أبي الفرزدق وقبر امرأة جرير, قال الراعي:
فصبحن المقر, وهن خوص
على روحٍ يقلبن المحارا
وقيل: المقر ثنية كاظمة وقال خالد بن جبلة: زعم النميري أن المقر جبل لبني تميم«.
قال الإمام محمد بن موسى الحازمي (ت 584 ه¯/ 1189م) في كتابه »الأماكن«: »المقر: بكسر الميم وفتح القاف وتشديد الراء: جبل كاظمة حيث ديار بني دارم« (2).
في نطقه ومعناه وتعريفه
نقول: لقد اختلف المؤرخون والبلدانيون والأدباء العرب القدامى في وصف »مقر كاظمة« فمنهم من قال المقر هو »جبل« ومنهم من قال هو »موضع« ومنهم من قال هو »أكمة« ومنهم من قال هو »ثنية«. واللافت للنظر أن المراجع العربية قديمها وحديثها اختلفت كذلك في صياغة كتابه اسم »المقر« فكتبه بصيغ مختلفة: »مَقَرّ« و»مِقَرّ« و»مُقْرّ« و»تَقْرّ فهل يا ترى هذا الاختلاف في الصياغة من المؤلف ذاته أو من النساخ الذين جاؤوا من بعده? عموماً نحن لا نلوم المؤلفين القدامى - يرحمهم الله - لأن ما دونوه في كتبهم من لغة وتضاريس وأماكن وشروحات نقلوه من أفواه الأعراب الذين يفدون إليهم في حواضرهم, وإجابات هؤلاء الأعراب فيها الكثير من الغموض واللبس والخطأ المتعمد أحياناً, لأن من طبيعة أعراب البادية الاستهجان والاستخفاف من كثرة أسئلة أهل الحاضرة التي يطرحونها عليهم والمتعلقة بشؤون حياة عرب الصحراء من لغة وآداب وديار وأيام, فهذه الأمور تعتبر من البديهيات المعروفة والعادية جداً عند أهل الصحراء, لذلك فهم يستغربون من هؤلاء الحضر وخصوصاً الكتاب منهم, في كثرة أسئلتهم واستفساراتهم واستيضاحاتهم عن مثل هذه البديهيات المعروفة لعموم عرب الصحراء, ولكن هناك ملاحظة يجب أن ننبه عليها وهي: إذا كانت هناك علاقة أسرية أو قبلية أو مصلحة مشتركة بين البدوي والحضري, فإن الأمور تكون بين السائل الحضري والمجيب البدوي طبيعية, ولهذا السبب تكون الأجوبة صحيحة وواضحة, لذلك نجد أن مؤلفات الجاحظ والأصمعي وغيرهما من ذوي الأصول العربية المرتبطة بالقبيلة تكاد تكون خالية من الأخطاء بسبب اتصالهم المباشر مع بني عمومتهم.
ما هو المقر?
قبل أن نحدد تشكيل صياغة الكلمة بحركات الإعراب, نعرف أولاً ب¯ »المقر« ما هو المقر? المقر عند العرب الأوائل والأواخر الذين أدركناهم وعشنا بينهم في البادية أيام الفتوة والشباب, هو اسم لنوع من موارد المياه فالمقر إذن هو »المورد«, وجرت العادة عند العرب أن ينسب »المقر« إلى صاحبه الذي اكتشفه, أو إلى الجبل أو التلعة أو الرابية أو الأكمة أو الثنية التي يقع في مسيلها أو بالقرب منها, فيقال: »مقر غالب« أو »مقر جبل كاظمة« أو »مقر كاظمة« أو »مقر أكمة كاظمة« أو »مقر ثنية كاظمة«, وعربان البوادي في جزيرة العرب يعرفون هذا التنوع من التسميات المتعلقة بموارد المياه من مقور وثمايل وحسيان وقلبان وثغبان. والمقور.. جميع مقر.. كثيرة في بوادي جزيرة العرب وتعرف حسب الطريقة التي ذكرناها, و»المقر« من موارد المياه المتواضعة نسبة إلى الآبار العدود (الكبيرة) وهو عبارة عن نقب يخترق الأرض من الأعلى إلى الأسفل, يتجمع فيه ماء المطر العذب المنحدر من مسيل الجبل أو التلعة, وبعض المقور يكون أسفله وسيعاً فيختزن كميات كبيرة من المياه, والمقر عادة ينتهي بأرض صلبة, وفي موسم الأمطار الغزيرة قد يمتلئ بالمياه, وإذا كانت فوهته صغيرة يغطيها البدو بصفاة (صخرة كبيرة ملساء) للمحافظة على نظافة مياهه, وماء المقر يستخدمه البدو لشربهم وطبخهم أما حيواناتهم فتشرب من مياه القلبان (الآبار) وأكثر هذه القلبان مالحة المياه.
كيفية نطقه
ونطق كلمة »مقر« عند عربان بوادي جزيرة العرب الحاليين, نجد أن بعضهم ينطقها »مُقْرّ« - بضم الميم وتشديد الراء - وبعضهم ينطقها »مَقْرّ« - بفتح الميم وتشديد الراء - وبعضهم ينطقها »مِقْرّ« - بكسر الميم وتشديد الراء - ونلاحظ أن الاختلاف فقط في حركة الحرف الأول (الميم), وكل هذه الصيغ التي ذكرناها, مذكورة في معاجم لغة العرب. والصيغتان الأولى والثانية هما الشائعتان عند العرب الأواخر. وجمعه: »مُقُور«.
»المقر« في أشعار العرب الأواخر
»المقر« وجمعه »مقور«: هو مورد ماء, واسم المقر بهذ المعنى معروف, عند كل بوادي جزيرة العرب, شأنه شأن موارد المياه الأخرى كالقلبان (جمع قليب) والثمايل (جمع ثميلة) والحسيان (جمع حسو) والدحول (جمع دحل) والعقل (جمع عقلة) والثغبان (جمع ثغب) والقلات (جمه قلتة). ويفضل أهل القوافل وغزاة البادية الدليل الجيد الذي يعرف إضافة إلى موارد المياه الكبيرة, المقور فهي من موارد المياه الخفية المهمة في أيام الغزوات والاضطرابات بين القبائل, فالموارد الكبيرة قد يصعب الوصول إليها. و»المقر« الذي سنذكره بالشعر الشعبي البدوي ليس بالضرورة أن يكون مقر كاظمة. وهذا الشاعر الظفيري سند بن مرزوق الحشار, عاش في النصف الأول من القرن التاسع عشر, يذكر أن دليل القافلة تاه وضيع مورد الماء »المقر« فأصبح في أرض مظماة »مظمئة« - خالية من موارد المياه.
تاه الدليل وضيع »المقر« بعشاه
وأصبح بمظماة عن »المقر« مايل
وهذا الشاعر العنزي محدى بن فيصل الهبداني, عاش في النصف الأول من القرن الماضي يقول في بيتين من قصيدة طويلة بأنه سيعقد »يجلس« حول مقر »المقر« موجود في أرض رهراهة (واسعة) بعيدة, لا تصل إليه إلا الناقة الذلول الحايل (أي دار عليها الحول ولم يضربها الجمل). وفعلاً الناقة الحايل أقوى بكثير من الناقة اللقحة. وهذا المقر ممتلئ من أمطارالوسمي وأرضه مخصبة وأعشابها متكومة للإبل.
لاقعد على »مقر« خفي مواريه
برهراهة ما ياصله كود حايل
من الوسم رويان مع الصيف مطغيه
تلقى الخصاب مكوم للرحايل
والشيء بالشيء يذكر; لما تحرك خالد بن الوليد - رضي الله عنه - من العراق إلى الشام لنجدة جيش اليرموك, كان يرافقه عدداً من الادلاء العرب العارفين بدروب الصحراء وموارد المياه, وعلى رأسهم الحليلة (الهاء للمبالغة والتضخيم) الأعرابي رافع بن عميرة الطائي الذي قاد الجيش إلى مجموعة من »المقور« الخفية استدل عليها بنوعية الأشجار النابتة على أرضها لأنه سبق أن مر عليها وشرب منها.
باحث في التاريخ والتراث*
oh-mhareb@maktoob.com
الهوامش:
(1) ياقوت الحموي. معجم البلدان 5/.175 بيروت.
(2) الإمام الحافظ محمد بن موسى الحازمي. الأماكن 2/.854 إعداد حمد الجاسر. دار اليمامة, الرياض.
بقلم - أحمد بن محارب الظفيري*
»مُقرُّ كَاظِمَة« ذاع صيته بقبر غالب أبو فراس همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية الدارمي التميمي الملقب ب¯ »الفرزدق« لقبح وجهه بسبب آثار ندبات الجدري, والفرزدقة - باللغة - رغيف الخبز, وقيل الرغيف المعمول بالزيت, ولد في سنة 19 ه¯ في بادية كاظمة ونشأ على أرضها, وأبوه غالب من شيوخ بني دارم كان بدوياً صاحب إبل وأنعام كثيرة, وأسرته من بيوت الشرف الكبيرة في قبيلة بني مجاشع بن دارم من تميم, وعرف جده صعصعة بن ناجية بأنه محيي الموؤودات عند قبائل عرب الجاهلية, فهو يفتدي بماله الخاص كل فتاة يهم أبوها أن يئدها (يدفنها).
فهو يعطي والد هذه الفتاة مبلغاً كافياً من المال أو عدداً من الإبل ويأخذ عليه عهداً وميثاقاً بأن لا يئد ابنته, وإذ رفض والدها بقاءها عنده, يأخذها صعصعة إلى بيته ويتكفل بتربيتها والمحافظة التامة على عرضها وشرفها ونسبها إلى أبيها وقبيلتها, وأشراف العرب من أمثال صعصعة بن ناجية التميمي الذين يحيون الموؤودات, كثر في قبائل عربان الجاهلية.
ويئد (يدفن) البعض من العرب بناتهم إما بسبب الفقر أو بسبب التطرف والمغالاة في الشرف والمحافظة عليه من الدنس والشوائب ولما جاء الإسلام العظيم أبطل هذه العادة المقيتة ولما توفي والد الفرزدق »غالب بن صعصعة بن ناجية« أقام له ولده قبراً بارزاً حول مقر كاظمة المعروف, وبنى حول هذا القبر ومقره عدداً من بيوت الشعر جاعلاً إياها مضافة للضيفان وملجأ لكل طريد ومستجير يلوذ بحماها, فهي مكان آمن وأمان, وهيبتها من هيبة أهلها شيوخ بني دارم المعروفين بالعزة والمنعة. وتذكرني قصة بيت الفرزدق بقصة »بويت آل صويط« شيوخ الظفير من العرب الأواخر وهي معروفة وذائعة الصيت عند قبائل عرب اليوم, وبيوتهم هي أيضاً ملجأ للطريد والمظلوم. قال الشاعر الفرزدق (توفي 110 ه¯ وقيل 114 ه¯) مادحاً بني قومه وأجداده الأماجد:
ألم تر أنا بني دارم
زرارة منا أبو معبد
ومنا الذي منع الوائدات
واحيا الوئيد فلم يوأد
وناجية الخير والأقرعان
وقبر ب¯ »كاظمة« المورد
إذاما أتى قبره غارم
أناخ إلى القبر بالأسعد
زرارة: من سادات تميم الكبار في الجاهلية. وابن زرارة المدعو »حاجب بن زرارة التميمي« سيد ذائع الصيت في تاريخ العرب, كفل قبيلته برهن قوته عند كسرى ليأذن لهم في الدخول إلى ريف العراق.
ناجية الخير: هو »ناجية بن عقال بن سفيان بن مجاشع الدارمي التميمي« وهو جد أبيه غالب.
الأقرعان: هما الأقرع وفراس ولد حابس بن عقال بن سفيان بن مجاشع الدارمي التميمي. وهما من فرسان العرب المعدودين. وجدة الفرزدق أم أبيه هي أخت الأقرعين.
كاظمة المورد: يشير إلى مقر كاظمة, فالمقر هو المورد وحوله قبر غالب.
في مراجع ومعاجم العرب
قال أبوعبيدة معمر بن المثنى (ت 210 ه¯/ 825م) في كتابه »النقائض«: »المقر: جبل بكاظمة, وفيه قبر غالب«.
قال ياقوت الحموي (ت 626 ه¯/ 1228م) في كتابه »معجم البلدان«: »المقر: موضع بكاظمة, وقيل أكمة مشرفة على كاظمة« (1).
قال محمد بن مكرم بن منظور (ت 711 ه¯/ 1311م) في كتابه »لسان العرب« تحت مادة »قرر«:
»المقر: موضع وسط كاظمة, وبه قبر غالب أبي الفرزدق وقبر امرأة جرير, قال الراعي:
فصبحن المقر, وهن خوص
على روحٍ يقلبن المحارا
وقيل: المقر ثنية كاظمة وقال خالد بن جبلة: زعم النميري أن المقر جبل لبني تميم«.
قال الإمام محمد بن موسى الحازمي (ت 584 ه¯/ 1189م) في كتابه »الأماكن«: »المقر: بكسر الميم وفتح القاف وتشديد الراء: جبل كاظمة حيث ديار بني دارم« (2).
في نطقه ومعناه وتعريفه
نقول: لقد اختلف المؤرخون والبلدانيون والأدباء العرب القدامى في وصف »مقر كاظمة« فمنهم من قال المقر هو »جبل« ومنهم من قال هو »موضع« ومنهم من قال هو »أكمة« ومنهم من قال هو »ثنية«. واللافت للنظر أن المراجع العربية قديمها وحديثها اختلفت كذلك في صياغة كتابه اسم »المقر« فكتبه بصيغ مختلفة: »مَقَرّ« و»مِقَرّ« و»مُقْرّ« و»تَقْرّ فهل يا ترى هذا الاختلاف في الصياغة من المؤلف ذاته أو من النساخ الذين جاؤوا من بعده? عموماً نحن لا نلوم المؤلفين القدامى - يرحمهم الله - لأن ما دونوه في كتبهم من لغة وتضاريس وأماكن وشروحات نقلوه من أفواه الأعراب الذين يفدون إليهم في حواضرهم, وإجابات هؤلاء الأعراب فيها الكثير من الغموض واللبس والخطأ المتعمد أحياناً, لأن من طبيعة أعراب البادية الاستهجان والاستخفاف من كثرة أسئلة أهل الحاضرة التي يطرحونها عليهم والمتعلقة بشؤون حياة عرب الصحراء من لغة وآداب وديار وأيام, فهذه الأمور تعتبر من البديهيات المعروفة والعادية جداً عند أهل الصحراء, لذلك فهم يستغربون من هؤلاء الحضر وخصوصاً الكتاب منهم, في كثرة أسئلتهم واستفساراتهم واستيضاحاتهم عن مثل هذه البديهيات المعروفة لعموم عرب الصحراء, ولكن هناك ملاحظة يجب أن ننبه عليها وهي: إذا كانت هناك علاقة أسرية أو قبلية أو مصلحة مشتركة بين البدوي والحضري, فإن الأمور تكون بين السائل الحضري والمجيب البدوي طبيعية, ولهذا السبب تكون الأجوبة صحيحة وواضحة, لذلك نجد أن مؤلفات الجاحظ والأصمعي وغيرهما من ذوي الأصول العربية المرتبطة بالقبيلة تكاد تكون خالية من الأخطاء بسبب اتصالهم المباشر مع بني عمومتهم.
ما هو المقر?
قبل أن نحدد تشكيل صياغة الكلمة بحركات الإعراب, نعرف أولاً ب¯ »المقر« ما هو المقر? المقر عند العرب الأوائل والأواخر الذين أدركناهم وعشنا بينهم في البادية أيام الفتوة والشباب, هو اسم لنوع من موارد المياه فالمقر إذن هو »المورد«, وجرت العادة عند العرب أن ينسب »المقر« إلى صاحبه الذي اكتشفه, أو إلى الجبل أو التلعة أو الرابية أو الأكمة أو الثنية التي يقع في مسيلها أو بالقرب منها, فيقال: »مقر غالب« أو »مقر جبل كاظمة« أو »مقر كاظمة« أو »مقر أكمة كاظمة« أو »مقر ثنية كاظمة«, وعربان البوادي في جزيرة العرب يعرفون هذا التنوع من التسميات المتعلقة بموارد المياه من مقور وثمايل وحسيان وقلبان وثغبان. والمقور.. جميع مقر.. كثيرة في بوادي جزيرة العرب وتعرف حسب الطريقة التي ذكرناها, و»المقر« من موارد المياه المتواضعة نسبة إلى الآبار العدود (الكبيرة) وهو عبارة عن نقب يخترق الأرض من الأعلى إلى الأسفل, يتجمع فيه ماء المطر العذب المنحدر من مسيل الجبل أو التلعة, وبعض المقور يكون أسفله وسيعاً فيختزن كميات كبيرة من المياه, والمقر عادة ينتهي بأرض صلبة, وفي موسم الأمطار الغزيرة قد يمتلئ بالمياه, وإذا كانت فوهته صغيرة يغطيها البدو بصفاة (صخرة كبيرة ملساء) للمحافظة على نظافة مياهه, وماء المقر يستخدمه البدو لشربهم وطبخهم أما حيواناتهم فتشرب من مياه القلبان (الآبار) وأكثر هذه القلبان مالحة المياه.
كيفية نطقه
ونطق كلمة »مقر« عند عربان بوادي جزيرة العرب الحاليين, نجد أن بعضهم ينطقها »مُقْرّ« - بضم الميم وتشديد الراء - وبعضهم ينطقها »مَقْرّ« - بفتح الميم وتشديد الراء - وبعضهم ينطقها »مِقْرّ« - بكسر الميم وتشديد الراء - ونلاحظ أن الاختلاف فقط في حركة الحرف الأول (الميم), وكل هذه الصيغ التي ذكرناها, مذكورة في معاجم لغة العرب. والصيغتان الأولى والثانية هما الشائعتان عند العرب الأواخر. وجمعه: »مُقُور«.
»المقر« في أشعار العرب الأواخر
»المقر« وجمعه »مقور«: هو مورد ماء, واسم المقر بهذ المعنى معروف, عند كل بوادي جزيرة العرب, شأنه شأن موارد المياه الأخرى كالقلبان (جمع قليب) والثمايل (جمع ثميلة) والحسيان (جمع حسو) والدحول (جمع دحل) والعقل (جمع عقلة) والثغبان (جمع ثغب) والقلات (جمه قلتة). ويفضل أهل القوافل وغزاة البادية الدليل الجيد الذي يعرف إضافة إلى موارد المياه الكبيرة, المقور فهي من موارد المياه الخفية المهمة في أيام الغزوات والاضطرابات بين القبائل, فالموارد الكبيرة قد يصعب الوصول إليها. و»المقر« الذي سنذكره بالشعر الشعبي البدوي ليس بالضرورة أن يكون مقر كاظمة. وهذا الشاعر الظفيري سند بن مرزوق الحشار, عاش في النصف الأول من القرن التاسع عشر, يذكر أن دليل القافلة تاه وضيع مورد الماء »المقر« فأصبح في أرض مظماة »مظمئة« - خالية من موارد المياه.
تاه الدليل وضيع »المقر« بعشاه
وأصبح بمظماة عن »المقر« مايل
وهذا الشاعر العنزي محدى بن فيصل الهبداني, عاش في النصف الأول من القرن الماضي يقول في بيتين من قصيدة طويلة بأنه سيعقد »يجلس« حول مقر »المقر« موجود في أرض رهراهة (واسعة) بعيدة, لا تصل إليه إلا الناقة الذلول الحايل (أي دار عليها الحول ولم يضربها الجمل). وفعلاً الناقة الحايل أقوى بكثير من الناقة اللقحة. وهذا المقر ممتلئ من أمطارالوسمي وأرضه مخصبة وأعشابها متكومة للإبل.
لاقعد على »مقر« خفي مواريه
برهراهة ما ياصله كود حايل
من الوسم رويان مع الصيف مطغيه
تلقى الخصاب مكوم للرحايل
والشيء بالشيء يذكر; لما تحرك خالد بن الوليد - رضي الله عنه - من العراق إلى الشام لنجدة جيش اليرموك, كان يرافقه عدداً من الادلاء العرب العارفين بدروب الصحراء وموارد المياه, وعلى رأسهم الحليلة (الهاء للمبالغة والتضخيم) الأعرابي رافع بن عميرة الطائي الذي قاد الجيش إلى مجموعة من »المقور« الخفية استدل عليها بنوعية الأشجار النابتة على أرضها لأنه سبق أن مر عليها وشرب منها.
باحث في التاريخ والتراث*
oh-mhareb@maktoob.com
الهوامش:
(1) ياقوت الحموي. معجم البلدان 5/.175 بيروت.
(2) الإمام الحافظ محمد بن موسى الحازمي. الأماكن 2/.854 إعداد حمد الجاسر. دار اليمامة, الرياض.