دشتى
11-26-2006, 04:43 PM
أدونيس في حوار لـ الشرق الاوسط:
الاسكندرية: داليا عاصم
عشرة أيام قضاها أدونيس في الإسكندرية، ضيفا على مكتبتها في إطار برنامج «الباحث المقيم» الذي يستضيف باحثين في قضايا التراث والفكر من مختلف دول العالم. ومن خلال أربع محاضرات شملها برنامجه، قدم أدونيس ما يشبه المراجعة وإعادة القراءة للكثير من أفكاره ورؤاه الخاصة بقضايا الشعر والتراث، وثنائية «الثابت والمتحول» التي كرس لها كتابه الشهير بهذا الاسم والذي صدر في سبعينات القرن الماضي، كما تحدث عن الذائقة الشعرية العربية ومرجعياتها على المستوى الثقافي والاجتماعي والسياسي، وعلاقة الشعر بالفكر والهوية.
على هامش هذه الزيارة تحدث أدونيس لـ«لشرق الأوسط» عن المتوازيات والمتفارقات في حياته، وعلاقته بالرسم «الكولاج» وحلمه بأن يحترف هذا الفن بعد أن يطلّق الشعر، كما تحدث عن أحلامه، وكيف يخاف من تحققها، كي لا يشعر بالتوقف أو الانتهاء... وهنا نص الحديث:
> إلى أي مدى ترى ثنائية «الثابت والمتحول» التي روجت لها صالحة لإعادة النظر... ألا ترى أن المتغيرات المعرفية والتراكمات التي حدثت في العالم الآن قد تجاوزتها؟
ـ هناك مناهج عديدة صالحة للباحث في قضايا التراث العربي وغيرها. انما لا أزال أكثر ميلا إلى استخدام هذين المصطلحين، لأنهما يتيحان للباحث أن يفلت من قبضة المنهج. فالمنهج قد يكون قيدا أو حجابا، لأنه يوجه صاحبه في اتجاهات محددة، ويحيد به عن قضايا كثيرة، أو يفرض وجهه نظر واحدة، تتطابق مع مقومات هذا المنهج أو مقتضياته. بينما مصطلح «الثابت والمتحول» يتيح مزيدا من الحرية والتحرر، لرؤية القضايا من مختلف الاتجاهات، كما يتيح إمكانات الإحاطة والتعمق بشكل أكبر بالقضايا المدروسة. ولهذا أكرر أنني لا أزال ميالا لاستخدام هذين المصطلحين.
> هل هذا لأن المتن أصبح هامشا والهامش أصبح متناً؟
ـ ربما تكون هذه العبارة سببت نوعا من الالتباس. أنا قلت إن ديوان الشعر العربي أعطى الإمكانية لما كان يعد هامشيا في الماضي أن يتحول الي متن. بمعنى ان الرؤية الجديدة، لم تعد تهتم بالمناسبة التي قيلت فيها القصيدة سواء كانت مدحا أو هجاء أو رثاء، وإنما صارت أكثر ميلا للاهتمام بالنص، بجمالية النص وبنيته اللغوية الفنية والآفاق التي يفتحها أمام القارئ، بصرف النظر عن المناسبة. وأتى ديوان الشعر العربي لكي يضع أمام القارئ نصوصا أفلتت من المناسبة، لا تعتمد على المدح ولا جميع الأغراض القديمة التي كان يتناولها الشاعر. بهذا المعني قلت
إن الهامش الشعري الذي كان يعد هامشيا في الماضي، تحول الى متن وصار هو الأساس.
> يرى بعض النقاد والشعراء أن حداثة أدونيس، حداثة ترتبط باللغة أكثر من ارتباطها بالواقع. فمثلا قصيدتك الأخيرة عن العدوان الاسرائيلي على لبنان، أحس القارئ بأنها لا تتحدث عن هذه الحرب وإنما عن حرب كونية، مجردة من الصلة الحية مع الواقع. فهل اللغة عندك مجرد أيقونة؟
ـ لا شك أنني أعطي أهمية كبيرة جدا للغة، وهو أمر معروف وألح عليه. ولا أعرف كيف يتم الفصل بين اللغة والواقع! فما معنى أن هناك انفصالا بين اللغة التي أكتب بها والواقع الذي أتحدث عنه! هذا لا أفهمه، لأنني لا أراه. ربما قوة اللغة وعلوها وغناها، يخيل للقارئ ان في هذا كله ما يحجب الواقع، لكن هذا نابع من قسوة الواقع وتعقيداته، ومن الرعب القائم فيه.
فالواقع ليس بسيطا لكي تجيء اللغة بسيطة، انه مركب ومعقد وله طبقات عديدة، لذلك فاللغة التي تفصح عنه يجب ـ في تقديري ـ ان تكون هي أيضا، مركبة غنية وقوية، ولها طبقات عديدة. فلو عبرنا، مثلا، عما يحدث في فلسطين بلغة بسيطة، نكون في تقديري، تحت الواقع ودون مستواه. الشاعر، على الأقل، يجب ان يدمج الواقع كله في لغتة لكي يمكن أن يقال أنه يفصح عن هذا الواقع، ويعيد تشكيله في الوقت نفسه. وعموما مثل هذه الأسئلة تصدر عن اشخاص لهم وجهة نظر خاصة في علاقة اللغة بالواقع، وانا احترمها، لكنني أعتقد انها في حاجة لمزيد من التأمل.
> هل تحرص على الغموض في قصائدك؟
ـ لا احرص علي الغموض. الواقع هو نفسه غامض، وإذا أراد الشاعر تبسيطه وتسطيحه فكأنه يخونه. في رأيي، لا يجب على القارئ أن يكتفي بصورة مبسطة يقدمها له الشاعر، ولا يجب أن تكون القصيدة مناسبة للقارئ، فهو يحتاج أيضا أن يغوص في تعقيدات الواقع ومشكلاته. ويجب على الشاعر ألا يكون بمثابة من يهش للقارئ، وإنما من يحرضه على الذهاب بعيدا في فهم ما يحدث.
نحن نعاني من ان ذائقة شعرية ترتبط عضويا بالجواب لا بالسؤال. إنها حرب ضد الاسئلة. وهذه الحرب تؤكد الذائقة على مجرد المشاهدة في ما يتعلق بالصورة والسماع، في ما يتعلق بالشعر وجعله مجرد أغنية لا صلة لها بالتأمل. والمفارقة أنه لا توجد مرحلة في تاريخ الشعر العربي اكثر جهلا بالشعر من هذه المرحلة التي نعيشها الآن.
> كيف يرى أدونيس واقع الشعرية العربية الآن، خاصة في مواجهة الأدب الذي يعتمد على الصورة، وهل نعيش بالفعل ـ كما يقال ـ زمن الرواية؟
ـ باختصار أنا أعتقد أن هناك مواهب شعرية كثيرة عند العرب، لكن التجارب الشعرية الكبيرة قليلة. ولو سلمنا بذلك سيفتقر الشعر العربي إلى سؤال الكينونة، وسيظل مجازفا بأن يكون زيا بين الأزياء البالية سرعان ما تلتهمها الحداثة، وسيظل سجينا في معزل عن التربة الأساسية للغة والشعر وعن فكرة الإنسان والحقيقة.
> هل يصلح الأفق النظري الذي رأيت من خلاله الشعر العربي وشعرائه أن يشكل مهدا لنظرية عربية؟
ـ أنا ضد الواحدية، أي أن يكون هناك رأي واحد يعم ويسود. أنا مع التعددية والكثرة والتنوع لأنها تتيح للقارئ والكاتب أن يرى الواقع بمختلف انحائه ومستوياته. شخصيا، أتمنى أن تكون هناك وجهات نظر كثيرة أفيد منها، وتشكل نوعا من التحدي الذي يدفعني إلى أن أقوى وجهات نظري وأحسن مساري النظري. ولا أدعي أن تكون وجهة نظري الوحيدة هي السائدة، فهذا لا يصح. أنا ادعو إلى نشوء نظريات عديدة لدراسة الشعر العربي والواقع العربي.
> هناك اجتهادات ومشاريع نقدية على الساحة، تتعالى أحيانا على النص نفسه.
ـ بالفعل هناك وجهات نظر عديدة، ولكن بالنسبة إلي لا ترقى إلى مستوى الفهم الحقيقي الذي اتطلع اليه، وعلى هذا الأساس اختلف معها. لكن في جميع الحالات، يجب ان يكون هناك تعدد، وهذا أفضل بكثير من الرأي الواحد. ويطيب لي هنا، أن أشير إلى احد الفروق الجوهرية بين الشعر العربي والغربي. فالأخير قائم على الانفصال عن الواقع والطبيعة. فهو ليس وسيلة لأي شيء. ولقد أردت أن ينظر الى الشعر العربي بمعزل عن الأحداث، لأنه لا يتكلم عن الحقيقة بل الحقيقة هي التي تتكلم حقا بالشعر وعنه. فهو بين جميع اشكال التعبير الإنساني الأكثر قدرة علي الغوص في ليل المعنى مثل الموسيقى، ويتحرك بحرية في محيط السؤال والبحث .
> في حياة أدونيس «متوازيات ومتفارقات»، كيف تراها؟
ـ أعتقد أن الشعر يتوازى مع جميع الأشياء. أي أنه يسير في خط مواز لكل الأشياء، وأحيانا يعكس هذه الموازاة ويخترقها كلها عموديا. فالشعر مثل الحب والهواء وضوء الشمس، بوصفه خارجاً عن كل تحديد، وبوصفه يقظة عفوية في جسد الإنسان وعقله، وأيضا يقظة عفوية بالطبيعة والعالم، لذلك فهو قادر على أن يتوازى مع جميع الأشياء، وفي الوقت نفسه، قادر على أن ينزل عموديا ويخترقها، إلا الأنظمة والمؤسسات لأنها تعيش في زمن نفعي «براغماتي»، والحقيقة عندها لا ضرورة لها في معظم الأحيان، بالعكس الضرورة لها هي الكذب والخداع. الشعر والأنظمة والمؤسسات، من المتفارقات بالنسبة لي.
> قلت إن الإسلام قضية عظيمة، فما هو دفاعك عنه؟
ـ أنا سآخذ الجانب الثقافي في الإسلام وأدافع عنه ثقافيا، سأقول إن النموذج الأول لوحدة الثقافات نراها في الإسلام، بدءا من القرآن الكريم، لأنه نص جامع للثقافات الدينية، اليهودية والمسيحية، وللثقافات غير الدينية السابقة، مثل اليونانية وغيرها. فهو جامع لروح الإنسانية. وفي تقديري، انه من أخطاء المسلمين اليوم، أنهم لا يلحون على القراءة الثقافية لهذا المعني الذي يقوله النص القرآني.
أما النقطة الثانية التي سأدافع بها عن الإسلام، فهي العلاقة بالآخر. وأرى أن الآخر، خاصة بالنسبة للمسلم، كان عنصرا تكوينيا من عناصر ذاته، خاصة في الفلسفة، التي أقامت نظرتها ورؤيتها إلى العالم على التوحيد بين ما أسمته النقل ممثلا في الدين الإسلامي، وما أسمته العقل ممثلا في الثقافة اليونانية.
أما العنصر الثالث في الثقافة الإسلامية فهو التصوف. مع أن الرؤية المغلقة للإسلام لا تعتبره جزءا منه، لكن اعتقد أن التصوف نشأ في مناخ الثقافة الإسلامية، وهو تجربة عبقرية وفريدة وكونية إنسانية. هذه هي العناصر الاساسية في دفاعي عن الإسلام، لكن لا أستطيع أن أدافع عنه إلا إذا انتقدت التأويل السائد له. وهو تأويل يعطي عن الإسلام صورة ليست في مستوى الرسالة الإسلامية ويجب نقد هذا التأويل .
> برأيك متى يصل الشاعر الي مرحلة نقد الذات، وما هي المعايير التي يلتزم بها؟
ـ كل شاعر حقيقي يمارس نقدا ذاتيا في كل قصيدة يكتبها. الشعر هو مواصلة في التغيير. إذ لا يمكن للشاعر أن يكرر رؤيته السابقة. فهو بمجرد أن يكتب يخطو خطوة تالية متقدمة لموضوع آخر، لكن لا يستطيع ان يخطو هذه الخطوة إلا اذا كانت هذه الخطوة نقدية، فكتابة الشعر بهذا المعني هي في العمق كتابة نقدية، لا للعالم وحده وإنما للذات أولاً. وعلى هذا المستوى قلت وأكرر، إن القصيدة ليست سؤالا مطروحا على العالم وحده، وإنما هي سؤال مطروح على الشاعر وعلى الشعر. وأعظم ناقد للشاعر هو نفسه. الشاعر هو أهم من ينقد نفسه، لأنه هو الذي يعرفها أكثر من غيره، وأعتقد أننا يجب أن نعمم هذا على الآخرين. فالإنسان الذي لا يستطيع ان ينتقد نفسه عنده مشكلة. وحقيقة نحن لا نعرف النقد حق المعرفة. وقد يبدو هذا الحكم قاسيا غير ان ما يلغي هذه القسوة، انه حكم حقيقي.
> تحدثت عن علاقة الشعر بمفهوم الهوية، لكن هل الهوية إرث بمحمولاته المتعددة، أم انها ابتكار دائم؟
ـ الهوية ممكن ابتكارها، والهوية الاسمية هي هوية سطحية لأن المهم هو مضمون هذا الاسم وماهيته. هل هو مضمون الطفولة أم ما بعدها أو هو مضمون الحب؟ إذاً، أنت في داخل هذا الاسم، في عالم لانهاية له لا يتوقف حتى بالموت. لأن الذي يكتب نصوص الموت لا يفنيه، فكم من الشعراء ماتوا نعرفهم من نصوصهم أكثر مما عرفناهم بحياتهم. إذاً فالهوية بهذا المعنى متحركة، ليست هذا فقط وانما متغيرة. فمثلاً، اذا سألتك الآن: أي مرحلة من حياتك تشعرين أنها تعبر عنك؟ هذه المرحلة التي تعبر عنك هي التي تحوي النقطة التي تحمل معنى هويتك. وهي قابلة للتغيير، فاذا جاءت مرحلة اعمق تعطي لحياتك معنى جديدا، فهويتك ستنتقل اليها. الهوية مفتوحة وليست موروثة. بهذا المعني الإنسان لا يولد مسلما... يصير مسلما، لأنه إذا ولد مسلماً سيصبح الناس كلهم سواء. إذاً الهوية صيرورة، وأعظم مكان تتجلى فيه هذه الصيرورة هو الشعر .
>لماذا ينتابك الخوف من قراءة قصيدة «قبر من اجل نيويورك» التي صدرت عام 1971 بالرغم من انها استشراف لأحداث11 سبتمبر والتي أصبحت واقعا؟
ـ بالضبط... لهذا السبب أحيانا بقاسي الإنسان من تحقق أحلامه، وهو شيء مخيف، لأنه يصبح يخاف من نفسه. فكيف اذا كان يقول شيئا عفويا، ويرى أن هذا الذي قاله عفويا تحقق في الواقع، لذلك أخاف، من قراءتها، لأنني لا أريد أن يتحقق ما أحدس به، لأنه اذا تحقق، أشعر بأنني توقفت، بأنني انتهيت أو كأنني صرت كائنا آخر. أريد ان أظل أواجه الواقع، ويظل الغد نقطة تساؤل ومكان استشراف، لا مكان تحقق لأحلامي. لأنها اذا تحققت سأحزن .
> أحيانا نجد بجوار قصائدك المنشورة في الصحف لوحات تشكيلية، فماذا يمثل لك «الكولاج»؟
ـ هذه الأعمال الفنية قمت بها بالمصادفة. وقد اخترعت للكولاج اسما هو«رقيمة». ورقم في اللغة العربية مثل «رقن»، تفيد اللون والكتابة في آن واحد. واكتشفت بمرور الوقت، أن ما لا أستطيع أن أقوله شعرا ونثرا، يتاح لي ان اقوله بطريقة أخرى في فن الرقائم. واكتشفت أيضا أن ما أفعله في الرقائم نال اعجاب الناس وحبهم لأنه مختلف. وربما ذات يوم أتوقف عن كتابة الشعر وأتفرغ لهذا الفن.
> تجربتك في مكتبة الإسكندرية كباحث مقيم، هل تجدها مجدية كشكل لتطوير البحث المعرفي العربي؟
ـ أعتقد أنها مجدية جدا وعلى مستويات عديدة، أولا: المستوى المعرفي الأكاديمي. فالفضاء الذي يتاح للباحث هنا، وتنوع الكتب وغناها، وسهولة الوصول اليها ،تسمح للباحث ان يكون أمام مروحة متنوعة وعريضة من الدراسات والأبحاث. وهناك سهولة في تناول هذه الكتب. ثانيا: العلاقات مع المسؤولين في المكتبة أيضا غنية جداً ،لأنها لا تتيح لنا التعرف على الوجه العملي فقط في حياة الانسان، وانما الوجه الإنساني، وكأنها مجتمع مصغر بأخلاقه وعاداته وقيمه. هذا عدا اتاحة المجال للتعرف شخصيا على الأشخاص. فكل شخص تعرفينه هنا كأنه غنى يضاف الى شخصيتك ومعرفتك .
هذا غير المكتبة التي هي جزء من المحيط الثقافي الذي يتمثل في الاسكندرية وتاريخها وطبقات هذا التاريخ، منذ ما قبل الميلاد حتى اليوم. إنها فرصة أتاحت لي الاطلاع على هذا التاريخ من خلال وجودي هنا. فالإسكندرية تاريخ عريق ومدينة عريقة جدا على حوض المتوسط، بل من اهم مدن المتوسط، لا الحوض الشرقي وحده وإنما في الحوض الغربي ايضا. فهي عاصمة ثقافية كبري.
الاسكندرية: داليا عاصم
عشرة أيام قضاها أدونيس في الإسكندرية، ضيفا على مكتبتها في إطار برنامج «الباحث المقيم» الذي يستضيف باحثين في قضايا التراث والفكر من مختلف دول العالم. ومن خلال أربع محاضرات شملها برنامجه، قدم أدونيس ما يشبه المراجعة وإعادة القراءة للكثير من أفكاره ورؤاه الخاصة بقضايا الشعر والتراث، وثنائية «الثابت والمتحول» التي كرس لها كتابه الشهير بهذا الاسم والذي صدر في سبعينات القرن الماضي، كما تحدث عن الذائقة الشعرية العربية ومرجعياتها على المستوى الثقافي والاجتماعي والسياسي، وعلاقة الشعر بالفكر والهوية.
على هامش هذه الزيارة تحدث أدونيس لـ«لشرق الأوسط» عن المتوازيات والمتفارقات في حياته، وعلاقته بالرسم «الكولاج» وحلمه بأن يحترف هذا الفن بعد أن يطلّق الشعر، كما تحدث عن أحلامه، وكيف يخاف من تحققها، كي لا يشعر بالتوقف أو الانتهاء... وهنا نص الحديث:
> إلى أي مدى ترى ثنائية «الثابت والمتحول» التي روجت لها صالحة لإعادة النظر... ألا ترى أن المتغيرات المعرفية والتراكمات التي حدثت في العالم الآن قد تجاوزتها؟
ـ هناك مناهج عديدة صالحة للباحث في قضايا التراث العربي وغيرها. انما لا أزال أكثر ميلا إلى استخدام هذين المصطلحين، لأنهما يتيحان للباحث أن يفلت من قبضة المنهج. فالمنهج قد يكون قيدا أو حجابا، لأنه يوجه صاحبه في اتجاهات محددة، ويحيد به عن قضايا كثيرة، أو يفرض وجهه نظر واحدة، تتطابق مع مقومات هذا المنهج أو مقتضياته. بينما مصطلح «الثابت والمتحول» يتيح مزيدا من الحرية والتحرر، لرؤية القضايا من مختلف الاتجاهات، كما يتيح إمكانات الإحاطة والتعمق بشكل أكبر بالقضايا المدروسة. ولهذا أكرر أنني لا أزال ميالا لاستخدام هذين المصطلحين.
> هل هذا لأن المتن أصبح هامشا والهامش أصبح متناً؟
ـ ربما تكون هذه العبارة سببت نوعا من الالتباس. أنا قلت إن ديوان الشعر العربي أعطى الإمكانية لما كان يعد هامشيا في الماضي أن يتحول الي متن. بمعنى ان الرؤية الجديدة، لم تعد تهتم بالمناسبة التي قيلت فيها القصيدة سواء كانت مدحا أو هجاء أو رثاء، وإنما صارت أكثر ميلا للاهتمام بالنص، بجمالية النص وبنيته اللغوية الفنية والآفاق التي يفتحها أمام القارئ، بصرف النظر عن المناسبة. وأتى ديوان الشعر العربي لكي يضع أمام القارئ نصوصا أفلتت من المناسبة، لا تعتمد على المدح ولا جميع الأغراض القديمة التي كان يتناولها الشاعر. بهذا المعني قلت
إن الهامش الشعري الذي كان يعد هامشيا في الماضي، تحول الى متن وصار هو الأساس.
> يرى بعض النقاد والشعراء أن حداثة أدونيس، حداثة ترتبط باللغة أكثر من ارتباطها بالواقع. فمثلا قصيدتك الأخيرة عن العدوان الاسرائيلي على لبنان، أحس القارئ بأنها لا تتحدث عن هذه الحرب وإنما عن حرب كونية، مجردة من الصلة الحية مع الواقع. فهل اللغة عندك مجرد أيقونة؟
ـ لا شك أنني أعطي أهمية كبيرة جدا للغة، وهو أمر معروف وألح عليه. ولا أعرف كيف يتم الفصل بين اللغة والواقع! فما معنى أن هناك انفصالا بين اللغة التي أكتب بها والواقع الذي أتحدث عنه! هذا لا أفهمه، لأنني لا أراه. ربما قوة اللغة وعلوها وغناها، يخيل للقارئ ان في هذا كله ما يحجب الواقع، لكن هذا نابع من قسوة الواقع وتعقيداته، ومن الرعب القائم فيه.
فالواقع ليس بسيطا لكي تجيء اللغة بسيطة، انه مركب ومعقد وله طبقات عديدة، لذلك فاللغة التي تفصح عنه يجب ـ في تقديري ـ ان تكون هي أيضا، مركبة غنية وقوية، ولها طبقات عديدة. فلو عبرنا، مثلا، عما يحدث في فلسطين بلغة بسيطة، نكون في تقديري، تحت الواقع ودون مستواه. الشاعر، على الأقل، يجب ان يدمج الواقع كله في لغتة لكي يمكن أن يقال أنه يفصح عن هذا الواقع، ويعيد تشكيله في الوقت نفسه. وعموما مثل هذه الأسئلة تصدر عن اشخاص لهم وجهة نظر خاصة في علاقة اللغة بالواقع، وانا احترمها، لكنني أعتقد انها في حاجة لمزيد من التأمل.
> هل تحرص على الغموض في قصائدك؟
ـ لا احرص علي الغموض. الواقع هو نفسه غامض، وإذا أراد الشاعر تبسيطه وتسطيحه فكأنه يخونه. في رأيي، لا يجب على القارئ أن يكتفي بصورة مبسطة يقدمها له الشاعر، ولا يجب أن تكون القصيدة مناسبة للقارئ، فهو يحتاج أيضا أن يغوص في تعقيدات الواقع ومشكلاته. ويجب على الشاعر ألا يكون بمثابة من يهش للقارئ، وإنما من يحرضه على الذهاب بعيدا في فهم ما يحدث.
نحن نعاني من ان ذائقة شعرية ترتبط عضويا بالجواب لا بالسؤال. إنها حرب ضد الاسئلة. وهذه الحرب تؤكد الذائقة على مجرد المشاهدة في ما يتعلق بالصورة والسماع، في ما يتعلق بالشعر وجعله مجرد أغنية لا صلة لها بالتأمل. والمفارقة أنه لا توجد مرحلة في تاريخ الشعر العربي اكثر جهلا بالشعر من هذه المرحلة التي نعيشها الآن.
> كيف يرى أدونيس واقع الشعرية العربية الآن، خاصة في مواجهة الأدب الذي يعتمد على الصورة، وهل نعيش بالفعل ـ كما يقال ـ زمن الرواية؟
ـ باختصار أنا أعتقد أن هناك مواهب شعرية كثيرة عند العرب، لكن التجارب الشعرية الكبيرة قليلة. ولو سلمنا بذلك سيفتقر الشعر العربي إلى سؤال الكينونة، وسيظل مجازفا بأن يكون زيا بين الأزياء البالية سرعان ما تلتهمها الحداثة، وسيظل سجينا في معزل عن التربة الأساسية للغة والشعر وعن فكرة الإنسان والحقيقة.
> هل يصلح الأفق النظري الذي رأيت من خلاله الشعر العربي وشعرائه أن يشكل مهدا لنظرية عربية؟
ـ أنا ضد الواحدية، أي أن يكون هناك رأي واحد يعم ويسود. أنا مع التعددية والكثرة والتنوع لأنها تتيح للقارئ والكاتب أن يرى الواقع بمختلف انحائه ومستوياته. شخصيا، أتمنى أن تكون هناك وجهات نظر كثيرة أفيد منها، وتشكل نوعا من التحدي الذي يدفعني إلى أن أقوى وجهات نظري وأحسن مساري النظري. ولا أدعي أن تكون وجهة نظري الوحيدة هي السائدة، فهذا لا يصح. أنا ادعو إلى نشوء نظريات عديدة لدراسة الشعر العربي والواقع العربي.
> هناك اجتهادات ومشاريع نقدية على الساحة، تتعالى أحيانا على النص نفسه.
ـ بالفعل هناك وجهات نظر عديدة، ولكن بالنسبة إلي لا ترقى إلى مستوى الفهم الحقيقي الذي اتطلع اليه، وعلى هذا الأساس اختلف معها. لكن في جميع الحالات، يجب ان يكون هناك تعدد، وهذا أفضل بكثير من الرأي الواحد. ويطيب لي هنا، أن أشير إلى احد الفروق الجوهرية بين الشعر العربي والغربي. فالأخير قائم على الانفصال عن الواقع والطبيعة. فهو ليس وسيلة لأي شيء. ولقد أردت أن ينظر الى الشعر العربي بمعزل عن الأحداث، لأنه لا يتكلم عن الحقيقة بل الحقيقة هي التي تتكلم حقا بالشعر وعنه. فهو بين جميع اشكال التعبير الإنساني الأكثر قدرة علي الغوص في ليل المعنى مثل الموسيقى، ويتحرك بحرية في محيط السؤال والبحث .
> في حياة أدونيس «متوازيات ومتفارقات»، كيف تراها؟
ـ أعتقد أن الشعر يتوازى مع جميع الأشياء. أي أنه يسير في خط مواز لكل الأشياء، وأحيانا يعكس هذه الموازاة ويخترقها كلها عموديا. فالشعر مثل الحب والهواء وضوء الشمس، بوصفه خارجاً عن كل تحديد، وبوصفه يقظة عفوية في جسد الإنسان وعقله، وأيضا يقظة عفوية بالطبيعة والعالم، لذلك فهو قادر على أن يتوازى مع جميع الأشياء، وفي الوقت نفسه، قادر على أن ينزل عموديا ويخترقها، إلا الأنظمة والمؤسسات لأنها تعيش في زمن نفعي «براغماتي»، والحقيقة عندها لا ضرورة لها في معظم الأحيان، بالعكس الضرورة لها هي الكذب والخداع. الشعر والأنظمة والمؤسسات، من المتفارقات بالنسبة لي.
> قلت إن الإسلام قضية عظيمة، فما هو دفاعك عنه؟
ـ أنا سآخذ الجانب الثقافي في الإسلام وأدافع عنه ثقافيا، سأقول إن النموذج الأول لوحدة الثقافات نراها في الإسلام، بدءا من القرآن الكريم، لأنه نص جامع للثقافات الدينية، اليهودية والمسيحية، وللثقافات غير الدينية السابقة، مثل اليونانية وغيرها. فهو جامع لروح الإنسانية. وفي تقديري، انه من أخطاء المسلمين اليوم، أنهم لا يلحون على القراءة الثقافية لهذا المعني الذي يقوله النص القرآني.
أما النقطة الثانية التي سأدافع بها عن الإسلام، فهي العلاقة بالآخر. وأرى أن الآخر، خاصة بالنسبة للمسلم، كان عنصرا تكوينيا من عناصر ذاته، خاصة في الفلسفة، التي أقامت نظرتها ورؤيتها إلى العالم على التوحيد بين ما أسمته النقل ممثلا في الدين الإسلامي، وما أسمته العقل ممثلا في الثقافة اليونانية.
أما العنصر الثالث في الثقافة الإسلامية فهو التصوف. مع أن الرؤية المغلقة للإسلام لا تعتبره جزءا منه، لكن اعتقد أن التصوف نشأ في مناخ الثقافة الإسلامية، وهو تجربة عبقرية وفريدة وكونية إنسانية. هذه هي العناصر الاساسية في دفاعي عن الإسلام، لكن لا أستطيع أن أدافع عنه إلا إذا انتقدت التأويل السائد له. وهو تأويل يعطي عن الإسلام صورة ليست في مستوى الرسالة الإسلامية ويجب نقد هذا التأويل .
> برأيك متى يصل الشاعر الي مرحلة نقد الذات، وما هي المعايير التي يلتزم بها؟
ـ كل شاعر حقيقي يمارس نقدا ذاتيا في كل قصيدة يكتبها. الشعر هو مواصلة في التغيير. إذ لا يمكن للشاعر أن يكرر رؤيته السابقة. فهو بمجرد أن يكتب يخطو خطوة تالية متقدمة لموضوع آخر، لكن لا يستطيع ان يخطو هذه الخطوة إلا اذا كانت هذه الخطوة نقدية، فكتابة الشعر بهذا المعني هي في العمق كتابة نقدية، لا للعالم وحده وإنما للذات أولاً. وعلى هذا المستوى قلت وأكرر، إن القصيدة ليست سؤالا مطروحا على العالم وحده، وإنما هي سؤال مطروح على الشاعر وعلى الشعر. وأعظم ناقد للشاعر هو نفسه. الشاعر هو أهم من ينقد نفسه، لأنه هو الذي يعرفها أكثر من غيره، وأعتقد أننا يجب أن نعمم هذا على الآخرين. فالإنسان الذي لا يستطيع ان ينتقد نفسه عنده مشكلة. وحقيقة نحن لا نعرف النقد حق المعرفة. وقد يبدو هذا الحكم قاسيا غير ان ما يلغي هذه القسوة، انه حكم حقيقي.
> تحدثت عن علاقة الشعر بمفهوم الهوية، لكن هل الهوية إرث بمحمولاته المتعددة، أم انها ابتكار دائم؟
ـ الهوية ممكن ابتكارها، والهوية الاسمية هي هوية سطحية لأن المهم هو مضمون هذا الاسم وماهيته. هل هو مضمون الطفولة أم ما بعدها أو هو مضمون الحب؟ إذاً، أنت في داخل هذا الاسم، في عالم لانهاية له لا يتوقف حتى بالموت. لأن الذي يكتب نصوص الموت لا يفنيه، فكم من الشعراء ماتوا نعرفهم من نصوصهم أكثر مما عرفناهم بحياتهم. إذاً فالهوية بهذا المعنى متحركة، ليست هذا فقط وانما متغيرة. فمثلاً، اذا سألتك الآن: أي مرحلة من حياتك تشعرين أنها تعبر عنك؟ هذه المرحلة التي تعبر عنك هي التي تحوي النقطة التي تحمل معنى هويتك. وهي قابلة للتغيير، فاذا جاءت مرحلة اعمق تعطي لحياتك معنى جديدا، فهويتك ستنتقل اليها. الهوية مفتوحة وليست موروثة. بهذا المعني الإنسان لا يولد مسلما... يصير مسلما، لأنه إذا ولد مسلماً سيصبح الناس كلهم سواء. إذاً الهوية صيرورة، وأعظم مكان تتجلى فيه هذه الصيرورة هو الشعر .
>لماذا ينتابك الخوف من قراءة قصيدة «قبر من اجل نيويورك» التي صدرت عام 1971 بالرغم من انها استشراف لأحداث11 سبتمبر والتي أصبحت واقعا؟
ـ بالضبط... لهذا السبب أحيانا بقاسي الإنسان من تحقق أحلامه، وهو شيء مخيف، لأنه يصبح يخاف من نفسه. فكيف اذا كان يقول شيئا عفويا، ويرى أن هذا الذي قاله عفويا تحقق في الواقع، لذلك أخاف، من قراءتها، لأنني لا أريد أن يتحقق ما أحدس به، لأنه اذا تحقق، أشعر بأنني توقفت، بأنني انتهيت أو كأنني صرت كائنا آخر. أريد ان أظل أواجه الواقع، ويظل الغد نقطة تساؤل ومكان استشراف، لا مكان تحقق لأحلامي. لأنها اذا تحققت سأحزن .
> أحيانا نجد بجوار قصائدك المنشورة في الصحف لوحات تشكيلية، فماذا يمثل لك «الكولاج»؟
ـ هذه الأعمال الفنية قمت بها بالمصادفة. وقد اخترعت للكولاج اسما هو«رقيمة». ورقم في اللغة العربية مثل «رقن»، تفيد اللون والكتابة في آن واحد. واكتشفت بمرور الوقت، أن ما لا أستطيع أن أقوله شعرا ونثرا، يتاح لي ان اقوله بطريقة أخرى في فن الرقائم. واكتشفت أيضا أن ما أفعله في الرقائم نال اعجاب الناس وحبهم لأنه مختلف. وربما ذات يوم أتوقف عن كتابة الشعر وأتفرغ لهذا الفن.
> تجربتك في مكتبة الإسكندرية كباحث مقيم، هل تجدها مجدية كشكل لتطوير البحث المعرفي العربي؟
ـ أعتقد أنها مجدية جدا وعلى مستويات عديدة، أولا: المستوى المعرفي الأكاديمي. فالفضاء الذي يتاح للباحث هنا، وتنوع الكتب وغناها، وسهولة الوصول اليها ،تسمح للباحث ان يكون أمام مروحة متنوعة وعريضة من الدراسات والأبحاث. وهناك سهولة في تناول هذه الكتب. ثانيا: العلاقات مع المسؤولين في المكتبة أيضا غنية جداً ،لأنها لا تتيح لنا التعرف على الوجه العملي فقط في حياة الانسان، وانما الوجه الإنساني، وكأنها مجتمع مصغر بأخلاقه وعاداته وقيمه. هذا عدا اتاحة المجال للتعرف شخصيا على الأشخاص. فكل شخص تعرفينه هنا كأنه غنى يضاف الى شخصيتك ومعرفتك .
هذا غير المكتبة التي هي جزء من المحيط الثقافي الذي يتمثل في الاسكندرية وتاريخها وطبقات هذا التاريخ، منذ ما قبل الميلاد حتى اليوم. إنها فرصة أتاحت لي الاطلاع على هذا التاريخ من خلال وجودي هنا. فالإسكندرية تاريخ عريق ومدينة عريقة جدا على حوض المتوسط، بل من اهم مدن المتوسط، لا الحوض الشرقي وحده وإنما في الحوض الغربي ايضا. فهي عاصمة ثقافية كبري.