زوربا
11-07-2006, 01:45 PM
لقطات من الفصل الأخير في قصة حياة طاغية
واشنطن: فيليب كنيكوت *
ظل صدام حسين، الذي خسر حربين كبريين ضد الولايات المتحدة، شريرا موثوقا في نظر القائمين على السياسة الأميركية لفترة لا تقل عن 15 عاما، وهي أطول من فترة هتلر الذي حكم ألمانيا منذ عام 1933 حتى انتحاره في مخبأ عام 1945. غير ان صور صدام حسين الآتية يوم أول من أمس من بغداد، وهو يحكم عليه بالاعدام شنقا لم يكن لها ذلك التأثير المرئي أو العاطفي الكبير الذي كان المرء يتوقعه من الفصل الأخير في قصة حياة الطاغية.
كان الرجل ذو اللحية التي ملأها الشيب والجيوب تحت عينيه يحدق مطلقا اشاراته بنفاد صبر امام الكاميرا عندما أعلن الحكم. وكشأن سياسي في برنامج تلفزيوني رفع صدام صوته مقاطعا الحديث، موجها الذم، كما فعل غالبا عبر محاكمته الغريبة، الى الأميركيين الذي أطاحوا به.
انها ثقة شكسبيرية من ان ملكا مخلوعا سيبدو صغيرا بل حزينا بدون امتيازاته، ومشهد حاشيته وهي تحيط به. غير ان صدام بدا أقل حزنا وأكثر غضبا، وهو غضب ظل يلازمه منذ ان أخرج من حفرته قبل ثلاث سنوات. وباستثناء بعض الصور المشوشة التي التقطت له بعد اعتقاله مباشرة، ظل محافظا على شخصيته في فترة الحرب وما أعقبها. وكان غاضبا ومستبدا عندما رأيناه قبل الغزو، وهو يطلق الرصاص في الهواء من شرفة. وكان غاضبا ومستبدا وهو يواجه أنباء اعدامه أول من أمس.
وبالنسبة للأميركيين فانه على الدوام شخص مفعم بالطاقة المدمرة. لقد كان يشيخ مع تقدم العمر، ولكن اشاراته ظلت ثابتة في الغالب منذ أن واجهناه باعتباره العدو الأول المعلن خلال الاعداد لحرب الخليج الأولى. لقد قتل هتلر وستالين ملايين من البشر. وقد وصل صدام الى مرتبتيهما عبر قتل عشرات الألوف من الاكراد وغزو الكويت. فقد وجه شروره الى جيرانه وأرهب عشرات الألوف من مواطنيه وحصل على لقب «قاتل». وعندما كان في السلطة كان غضبه يعني خطرا بالنسبة لأميركا. وعبر محاكمته بات يمثل المخاطر الداخلية المتفجرة في عراق ما بعد الحرب، حيث كل نوبة غضب هي صورة مصغرة للغضب الاكبر من جانب مؤيديه السنة، كما أن فوضى المحاكمة عكست الفوضى العامة في العراق. وعلى خلاف المحاكمات في ألمانيا او جنوب افريقيا ما بعد العنصرية، لم تبد محاكمة صدام بداية جديدة لتاريخ. ومن الواضح انها لم تحقق تسوية بين الأطراف المتصارعة في العراق. بل انه حتى قاعة المحكمة كانت مكانا محسوبا للتقليل من أهمية التاريخ. فقد بدت صغيرة وذات اضاءة سيئة (بالنسبة للكاميرات على الأقل)، ولم تبد العدالة قادرة على تحقيق استسلام الشر كما كانت مثيرة للنزاع والمشادات الكلامية داخل القاعة.
ومع ذلك افلح صدام في ان يبقى، خلال فترة المحاكمة، راسخا على نحو متوافق مع صورته المعروفة قبل الحرب. اختفى زيه العسكري ولكن بقرآن في يديه وباشارات يده التي تكشف عن مستبد فاقد الصبر لم يبد اقل من شخص مقتنع بأنه ما يزال صدام حسين، المتوج مثل نبوخذنصر. وعبر ذلك كان لديه موالون. صدام الذي يحرص على صبغ شعره وهو في السجن ويأكل نوعا خاصا من الشوكولاته، وحتى قيل انه ادمن على أكل الكعك والبسكويت الأميركي «مافن».
وفي ليلة النطق بالحكم طلب لعشائه الرز واللحم، لا يعكس صورة الرجل المهزوم. فالرجل المهزوم لا يهتم كثيرا بأكمام قميصه، ولا يضع منديلا في جيب الصدر، كما فعل صدام عند ظهوره في المحكمة. وليس سوى الارهاق في عينيه والمظهر الشاحب لوجهه ما يشير الى دليل على بحثه الروحي، وحتى تلك القراءة لملامح وجهه ربما تكون من باب الامنيات. والا فان وجود صدام يشير الى رجل يشعر بالخيبة أساسا بسبب عجزه عن التحدث علنا وكثيرا الى الجمهور. والرجل الذي ما يزال يصرخ في مايكروفون التاريخ هو رجل ما يزال يشعر بأن لديه قضية يطرحها على العالم مدافعا عنها بقوة.
وفي شوارع العراق، تبقى الحجة القديمة من أن بلدا منقسما بحاجة الى زعيم براغماتي مستبد، تبقى لصالحه حيث تستمر تفجيرات السيارات اليومية. وكان العنف متصاعدا الى حد كبير في الفترة الأخيرة بحيث انه جرى اتخاذ قرار بفرض حظر التجول قبل اصدار الحكم. ولكن ما تزال هناك مظاهرات في الشوارع. فالشيعة والأكراد يطلقون الرصاص في الهواء ابتهاجا، والسنة يطلقون الرصاص في الهواء احتجاجا في مدينة تكريت مسقط رأس صدام.
أما هوليوود فستعامل هذا الموضوع على نحو مختلف الى حد كبير. فسيكون هناك مزيد من الوضوح بشأن معنى ذلك كله. وسيكون هناك على الأقل أناشيد مؤثرة وعناقات ودموع وفرح عام. ولكن رد الفعل كان أكثر اختلاطا. وفي ذلك الغموض، وتلك الازدواجية بشأن الحرب، هناك مرونة التاريخ التي يبذل صدام كل ما في وسعه لاستثمارها لصالح الأجيال اللاحقة.
وقد احتلت صور صدام مهزوما (رمزيا عندما سقط تمثاله في بغداد، وشخصيا عندما اخرج من الحفرة، وقانونيا عندما حكم عليه يوم أول من أمس) مكانها بين تشكيلة أكبر من صور هذه الحرب. ولكن ما زال يتعين عليهم أن يقدموا ما يريده كثير من الناس: صورة أخيرة تلخص الصراع بطريقة يمكن أن يتعايش معها الجميع. وفي حرب مسيسة ومثيرة للجدل ويصعب التكهن بها، قد لا تأتي تلك الصورة أبدا.
* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»
واشنطن: فيليب كنيكوت *
ظل صدام حسين، الذي خسر حربين كبريين ضد الولايات المتحدة، شريرا موثوقا في نظر القائمين على السياسة الأميركية لفترة لا تقل عن 15 عاما، وهي أطول من فترة هتلر الذي حكم ألمانيا منذ عام 1933 حتى انتحاره في مخبأ عام 1945. غير ان صور صدام حسين الآتية يوم أول من أمس من بغداد، وهو يحكم عليه بالاعدام شنقا لم يكن لها ذلك التأثير المرئي أو العاطفي الكبير الذي كان المرء يتوقعه من الفصل الأخير في قصة حياة الطاغية.
كان الرجل ذو اللحية التي ملأها الشيب والجيوب تحت عينيه يحدق مطلقا اشاراته بنفاد صبر امام الكاميرا عندما أعلن الحكم. وكشأن سياسي في برنامج تلفزيوني رفع صدام صوته مقاطعا الحديث، موجها الذم، كما فعل غالبا عبر محاكمته الغريبة، الى الأميركيين الذي أطاحوا به.
انها ثقة شكسبيرية من ان ملكا مخلوعا سيبدو صغيرا بل حزينا بدون امتيازاته، ومشهد حاشيته وهي تحيط به. غير ان صدام بدا أقل حزنا وأكثر غضبا، وهو غضب ظل يلازمه منذ ان أخرج من حفرته قبل ثلاث سنوات. وباستثناء بعض الصور المشوشة التي التقطت له بعد اعتقاله مباشرة، ظل محافظا على شخصيته في فترة الحرب وما أعقبها. وكان غاضبا ومستبدا عندما رأيناه قبل الغزو، وهو يطلق الرصاص في الهواء من شرفة. وكان غاضبا ومستبدا وهو يواجه أنباء اعدامه أول من أمس.
وبالنسبة للأميركيين فانه على الدوام شخص مفعم بالطاقة المدمرة. لقد كان يشيخ مع تقدم العمر، ولكن اشاراته ظلت ثابتة في الغالب منذ أن واجهناه باعتباره العدو الأول المعلن خلال الاعداد لحرب الخليج الأولى. لقد قتل هتلر وستالين ملايين من البشر. وقد وصل صدام الى مرتبتيهما عبر قتل عشرات الألوف من الاكراد وغزو الكويت. فقد وجه شروره الى جيرانه وأرهب عشرات الألوف من مواطنيه وحصل على لقب «قاتل». وعندما كان في السلطة كان غضبه يعني خطرا بالنسبة لأميركا. وعبر محاكمته بات يمثل المخاطر الداخلية المتفجرة في عراق ما بعد الحرب، حيث كل نوبة غضب هي صورة مصغرة للغضب الاكبر من جانب مؤيديه السنة، كما أن فوضى المحاكمة عكست الفوضى العامة في العراق. وعلى خلاف المحاكمات في ألمانيا او جنوب افريقيا ما بعد العنصرية، لم تبد محاكمة صدام بداية جديدة لتاريخ. ومن الواضح انها لم تحقق تسوية بين الأطراف المتصارعة في العراق. بل انه حتى قاعة المحكمة كانت مكانا محسوبا للتقليل من أهمية التاريخ. فقد بدت صغيرة وذات اضاءة سيئة (بالنسبة للكاميرات على الأقل)، ولم تبد العدالة قادرة على تحقيق استسلام الشر كما كانت مثيرة للنزاع والمشادات الكلامية داخل القاعة.
ومع ذلك افلح صدام في ان يبقى، خلال فترة المحاكمة، راسخا على نحو متوافق مع صورته المعروفة قبل الحرب. اختفى زيه العسكري ولكن بقرآن في يديه وباشارات يده التي تكشف عن مستبد فاقد الصبر لم يبد اقل من شخص مقتنع بأنه ما يزال صدام حسين، المتوج مثل نبوخذنصر. وعبر ذلك كان لديه موالون. صدام الذي يحرص على صبغ شعره وهو في السجن ويأكل نوعا خاصا من الشوكولاته، وحتى قيل انه ادمن على أكل الكعك والبسكويت الأميركي «مافن».
وفي ليلة النطق بالحكم طلب لعشائه الرز واللحم، لا يعكس صورة الرجل المهزوم. فالرجل المهزوم لا يهتم كثيرا بأكمام قميصه، ولا يضع منديلا في جيب الصدر، كما فعل صدام عند ظهوره في المحكمة. وليس سوى الارهاق في عينيه والمظهر الشاحب لوجهه ما يشير الى دليل على بحثه الروحي، وحتى تلك القراءة لملامح وجهه ربما تكون من باب الامنيات. والا فان وجود صدام يشير الى رجل يشعر بالخيبة أساسا بسبب عجزه عن التحدث علنا وكثيرا الى الجمهور. والرجل الذي ما يزال يصرخ في مايكروفون التاريخ هو رجل ما يزال يشعر بأن لديه قضية يطرحها على العالم مدافعا عنها بقوة.
وفي شوارع العراق، تبقى الحجة القديمة من أن بلدا منقسما بحاجة الى زعيم براغماتي مستبد، تبقى لصالحه حيث تستمر تفجيرات السيارات اليومية. وكان العنف متصاعدا الى حد كبير في الفترة الأخيرة بحيث انه جرى اتخاذ قرار بفرض حظر التجول قبل اصدار الحكم. ولكن ما تزال هناك مظاهرات في الشوارع. فالشيعة والأكراد يطلقون الرصاص في الهواء ابتهاجا، والسنة يطلقون الرصاص في الهواء احتجاجا في مدينة تكريت مسقط رأس صدام.
أما هوليوود فستعامل هذا الموضوع على نحو مختلف الى حد كبير. فسيكون هناك مزيد من الوضوح بشأن معنى ذلك كله. وسيكون هناك على الأقل أناشيد مؤثرة وعناقات ودموع وفرح عام. ولكن رد الفعل كان أكثر اختلاطا. وفي ذلك الغموض، وتلك الازدواجية بشأن الحرب، هناك مرونة التاريخ التي يبذل صدام كل ما في وسعه لاستثمارها لصالح الأجيال اللاحقة.
وقد احتلت صور صدام مهزوما (رمزيا عندما سقط تمثاله في بغداد، وشخصيا عندما اخرج من الحفرة، وقانونيا عندما حكم عليه يوم أول من أمس) مكانها بين تشكيلة أكبر من صور هذه الحرب. ولكن ما زال يتعين عليهم أن يقدموا ما يريده كثير من الناس: صورة أخيرة تلخص الصراع بطريقة يمكن أن يتعايش معها الجميع. وفي حرب مسيسة ومثيرة للجدل ويصعب التكهن بها، قد لا تأتي تلك الصورة أبدا.
* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»