بركان
11-04-2006, 01:17 AM
دراسات إحصائية أثبتت موتهم المبكر دون سواهم من المبدعين
القاهرة- شريف رضوان
/ تحمل مقولة نيتشه "النوابغ يموتون في شبابهم لأنهم طيبون أكثر مما تستطيع الأرض تحمله" مساحة جزئية من مساحات الإجابة عن السؤال العريض: "لماذا يموت الشعراء مبكراً?!".
الشعراء يموتون مبكراً إذن لأنهم نوابغ بمنطق نيتشه, لكن لماذا تبدو حياة الشعراء داخل خانة النبوغ ¯ وهذه حقيقة إحصائية ¯ أقصر من حياة غيرهم من المبدعين والأدباء النابهين الذين يكتبون الروايات مثلاً أو المسرحيات?! بالمنطق ذاته وبالبساطة ذاتها قد تكون الإجابة: لأن الشعراء أكثر نبوغاً!
والحقيقة أن التساؤل "لماذا يموت الشعراء مبكراً" رغم أنه ينطلق من يقين الإحصاءات والقياسات الدقيقة لمعدلات أعمار الشعراء الأقصر من غيرها من في المعدل العمري, الإجابة عنه لابد أن تظل احتمالية غير مؤكدة, فلغة العلم هنا تمكنت حقاً من رصد الظاهرة (الموت المبكر للشعراء دون سواهم من المبدعين), لكن تفسير الظاهرة لا يمكن أن يخضع لنظرية علمية محددة, وإنما يترتب على افتراضات واستنتاجات وقراءات وتحليلات يسهم فيها العالم والباحث الاجتماعي والمؤرخ والناقد الأدبي وغيرهم, بل ويسهم فيها بقدر كبير الشاعر ذاته (موضع الدراسة), وذلك بما خلفه من إبداعات قد تكشف عن مقدمات موته المبكر وأسبابه.
وطرح أحد العلماء بعض التصورات المبدئية من أجل تحديد أسباب لموت الشعراء مبكراً مقارنة بالأدباء الآخرين ككتاب الراوية وكتاب المسرحيات وغيرهم, وهذه الأسباب التي طرحها جيمس كوفمان (من معهد بحوث التعلم بجامعة ولاية كاليفورنيا) في تقرير تناقلته وكالات الأنباء هي: أن الشعراء يتعذبون أكثر من غيرهم, أو أنهم يكونون أكثر عرضة لتدمير الذات, أو أنهم يصبحون مشهورين في سن مبكرة وهو ما يجعل وفاتهم تحظي بالاهتمام أكثر من غيرهم ممن يموتون في نفس أعمارهم ولا يشعر بهم أحد. ومما اكتشفه الباحث في دراسته للعينة التي ضمت قرابة ألفي أديب راحل عاشوا في قرون مختلفة في الولايات المتحدة والصين وتركيا وأوروبا الشرقية أن متوسط أعمار الشعراء 62 عاماً, وكتاب المسرحية 63 عاماً, وكتاب الرواية 66 عاماً, وبقية الكتاب 68 عاماً. كما توصل الباحث إلى أن الشاعرات كن أكثر عرضة للإصابة بالمرض النفسي قبل موتهن, وهو ما ترتب عليه إيداعهن بمصحات نفسية أو انتحارهن.
عذابات اليأس
والذي يزيد من ضبابية العرض السابق لأسباب موت الشعراء مبكراً أن الأسباب التي وضعها الباحث كاختيارات متوازية أو كبدائل منعزلة يمكن أن تلتقي كلها مجتمعة في حالة الشاعر الواحد محل الدراسة, فما الذي يمنع أن يكون الشاعر قد مات في سن مبكر بسبب تألمه أكثر من غيره, وأنه في الوقت نفسه قد لجأ إلى تدمير ذاته لعدم قدرته على تحمل عذاباته مثلاً أو ليأسه واكتئابه, ثم إذ به بعد موته أو حتى انتحاره الاختياري يُلقَي الضوءُ عليه أكثر من غيره نظراً لشهرته الفائقة, في حين أن أمثاله كثيرون من غير الشعراء, لا أحد يدري بعذاباتهم وبتدميرهم لأنفسهم وبموتهم المبكر!
هي إذن مجرد مجموعة من الافتراضات والاحتمالات قدمها راصد الظاهرة نفسه, تعتريها الشكوك, فما بالنا بغيره من المراقبين فقط المتعاملون مع النتائج التي توصل إليها الباحث الراصد للظاهرة? لا شك في أن أطروحاتهم وتصوراتهم وتحليلاتهم ستبقي رهينة الاحتمال, وقد تعبر كل أطروحة من الأطروحات عن جانب من الحقيقة, وقد ينطبق أحد الشروط أو الأسباب على شاعر دون سواه, وينطبق شرط أو سبب آخر على شاعر غيره, وقد ينطبق أكثر من شرط أو سبب على شاعر واحد, وهكذا. وبدون الاتفاق على هذه القابلية للاختلاف في تحديد أسباب الظاهرة, لا يمكن التوصل إلى معرفة: لماذا يموت الشعراء مبكراً.
ويطرح الشاعر والناقد أحمد سويلم تصوراً آخر لأسباب موت الشعراء يمكن استشفافه من بين سطور مقدمة كتابه "شعراء العمر القصير" الذي يبرز فيه التجارب الشعرية لمجموعة من الشعراء العرب القدامي والمحدثين ممن ماتوا في سن مبكرة (منهم: امرؤ القيس, طرفة بن العبد, وضاح اليمن, أبو تمام, أبو فراس الحمداني, أبو القاسم الشابي, صالح الشرنوبي, أمل دنقل, بدر شاكر السياب). وينبني التصور ببساطة على أن أسباب الموت المبكر للشاعر تقترن مباشرة بتمرده الدائم والمبرر على الواقع, وكراهيته ¯ أكثر من غيره ¯ للحياة المزيفة, وزهده فيها. ويقول أحمد سويلم: إن تمرد الشاعر على الواقع له ما يبرره, إنه يتمرد على كل ما هو قبيح, ناقص, وما يجذب الإنسان إلى مناطق الفساد النفسي والاجتماعي. وقد ينفي الشاعر نفسه في الاعتزال عن الناس, وهذه العزلة لا تكون غالباً مجردة من المخاطر, فهو يلجأ إلى تدمير نفسه بوسائل كثيرة مثل تعاطي الخمور, لتغييب العقل بطرق مختلفة, لعله يزداد بعداً عن الواقع. والشاعر الذي يفعل ذلك يؤكد لنفسه العجز الكامل حتى عن مواجهة نفسه, ويصبح النفي هنا (موتاً بطيئاً) طال أم قصر. إحساساً خاصاً بالغربة عن الواقع, ويحتدم في داخله اقتناع خالص بأنه جاء في زمن غير زمانه, وأن البشر كلهم على خطأ, وهو الوحيد الذي على صواب. ومن ثم, يفضل الاعتزال لعله يصنع لنفسه عالماً خاصاً لا يعيش فيه إلا هو وحده, لكنه عالم ممزق يزيده تمزيقاً وغربةً ونفياً. وقد يزداد هذا الشعور لدى الشاعر, فيحكم على نفسه بالموت, وقد يلجأ إلى التخلص من حياته فجأة. وهو يفضل ذلك تخلصاً من المعاناة, ومما يشعر به من هذا التناقض بين حلمه والواقع, بل نجده قد يعبر عن سبب تخلصه من حياته بأن حلمه قد انطفأ وانكسر, فلماذا يحيا ويعيش?! وماذا يجدي لو استمر في الحياة?! ومن ثم فهو يفضل أساليب النفي والخلاص عن أسلوب التراجع عن الموقف, والسير في دروب متعرجة, والاستجابة إلى بريق يبعد به عن تحقيق الحلم. يفضل الشاعر أن ينجو بنفسه لنفسه. ويرتضي الموت المبكر عن الحياة المزيفة التي تسقط ذكره, وتجعل منه مسخاً في المجتمع أمام نفسه وضميره.
التمسك بالرفض
وتقرن الناقدة عبلة الرويني في كتابها " الشعراء الخوارج " بين التوهج الشعري الخارق والرغبة الدائمة في "الرفض" و"التمرد" و"الثورة" و"الخروج على المألوف", فشاعر مثل أمل دنقل (مات في سن مبكرة) كان ملاذه في كتابة القصيدة التي تعتبر لحظة كتابتها بدلاً عن (لحظة الانتحار), وهو كان دائماً غير محايد, لأن الشاعر المحايد شعره منه إليه, فحياد الإنسان يقتل في داخله الطموح. بل إن الشعر لديه كان دائماً في موقف المعارضة, حتى لو تحققت القيم التي يحلم بها الشاعر, لأن الشعر هو حلم بمستقبل أجمل, والواقع لا يكون جميلاً إلا في عيون السذج.
والتمسك ب¯"الرفض" على طول الخط قد يعجل من رحيل الشعراء, فقد تتزايد صداماتهم المباشرة مع الحكومات أو السلطات السياسية والثقافية الرسمية في بلادهم, وينالون نصيبهم من الاعتقال أو التشهير أو التحقير أو النفي أو التجاهل بدرجة أو بأخرى. وقد يصل الرفض ببعض الشعراء إلى حد السقوط في العدمية الكاملة والسوداوية وحالات الاكتئاب والموت البطيء والتفكير في الانتحار. وبالنسبة لأمل دنقل على سبيل المثال, فإنه بسبب تمسكه بالرفض والتمرد في مجمل قصائده, تعرض لما يشبه ( الاغتيال البارد ) من النظام السياسي لسنوات طويلة, وعاش كالمنبوذ مع أنه كان من أفضل شعراء جيله, ولولا مساحة الحرية في بعض دور النشر العربية ( وبخاصة في لبنان ) لما استطاع أمل دنقل أن ينشر قصائده وظلت حبيسة الأدراج, أو ربما فقد حماسه للكتابة في حد ذاتها! إن شعر أمل دنقل ; كما يرى الناقد الدكتور جابر عصفور في دراسة له ; هو شعر التمرد الذي أدان الخنوع والاستسلام, وظل متوهجاً بالرفض السياسي الاجتماعي إلى آخر لحظة من حياة الشاعر القصيرة. وكانت نزعات الهجاء السياسي والنقد الاجتماعي في قصائده لا تقتصر على الحياة المصرية وحدها, وإنما كانت تتخذ من النموذج السياسي الاجتماعي المصري مثالاً لغيره من النماذج العربية على امتداد الوطن العربي والتي أعلن دنقل عن رفضه لمعظمها, وتمرده عليها!
وللكاتبة اللبنانية فرح جبر أطروحة نشرتها أخيراً تحمل جانباً آخر من جوانب الإجابة عن السؤال المحوري: "لماذا يموت الشعراء مبكراً", حيث ترى أن عالم الشاعر ¯ دون سواه ¯ يتعلق بجوانياته, وهذا يحمله مزيداً من الإحساس بالعبء والحزن والألم, ويستدعي تنشيطاً دائماً للخيال وقوي الخلق. واستثارة هذه الجوانب لدى الإنسان الشاعر تحيله كائناً هشاً, صاحب مزاج متقلب وصعب للغاية. ومن هنا تتكالب الأمراض الروحية والبدنية على الشعراء, وربما يستخدمون الشعر كشكل من أشكال العلاج الذاتي لمشكلاتهم, وقد يأتي الموت مبكراً ليأخذهم, مرةً بالقتل, وأخرى بالمرض, وثالثة بالانتحار. ويلاحظ ارتفاع معدل الإصابة ببعض الأمراض بين الشعراء, أغلبها تتعلق بالميل إلى إيذاء الذات, مثل إدمان الكحوليات, وإساءة استخدام المخدرات, فضلاً عن حالات الاكتئاب والانتحار. ولكي يواصل الشعراء العيش, ينبغي أن يضعوا أنفسهم (خارج الثقافة), وهي عملية تقتضي ثمناً باهظاً ليس من المؤكد أنهم يستطيعون دائماً تسديده! ومن هنا فليس بغريب أن نجد الشاعر طرفة بن العبد قد مات ولم يبلغ السادسة والعشرين من العمر, ونجد لوتريامون مات في الرابعة والعشرين, وجون كيتس عن ستة وعشرين عاماً, وأبا القاسم الشابي قبل أن يبلغ الثلاثين , وألكسندر بوشكين في الثامنة والثلاثين, وأبا فراس الحمداني عن ستة وثلاثين عاماً, ومحمد الهمشري في الثلاثين, ولوركا في الثامنة والثلاثين, وآرثر رامبو في السابعة والثلاثين.
الشعر علاجاً
وهذا يقارب ما يقدمه الشاعر فاروق شوشة في كتابه " العلاج بالشعر ", فمن فرط ما تبدو القصيدة ¯ دون سواها من الفنون ¯ معبأة بمعاناة الشاعر ومكابداته الروحية ومحصلة صراعاته في الحياة وتمرده على الواقع, فإنها قد تستخدم في علاج غيره من البشر, مثلما أنها تعالج الشاعر نفسه, وقد تؤجل ( موته ) بعض الوقت. وتعتمد فكرة العلاج بالشعر; كما يقول شوشة في كتابه; على نظرية التطهير التي كان أول من أشار إليها أرسطو. فعندما أشار إلى لون من الشعر هو التراجيديا لاحظ أن مشاعر الشفقة والخوف التي تحدثها في النفس وتستثيرها هذه القصائد التراجيدية يمكن أن تؤدي إلى التصحيح والتهذيب, ثم صاغ مصطلح (التطهير) الذي يعني به التخلص من شيء مؤلم ومفزع. وهذه العملية التطهيرية علاج نفسي مثلي, أي يقوم به الإنسان لمثله, ثم يحدث التطهير بالتجربة الشعرية, وعندئذ تحدث الراحة للنفس وتستريح. وقد كان اليونان القدماء الذين امتلكوا ناصية الحكمة هم أول من اكتشفوا قوة الشعر وقدرته الفعالة في النفس, كما أنهم عبدوا (أبوللو) وقدسوه باعتباره إلهاً ثنائياً للطب والشعر. فالطب والشعر بهذا المعني علاجان مقترنان أو علاجان مرتبطان بقوة قاهره واحدة.
وقد تكون الهموم الذاتية والوطنية, والمكابدات الروحية, والمعاناة التي يواجهها الشاعر, والاغتراب المرير,.. فوق حد التحمل, لدرجة إعتقاد الشاعر دائماً أن الحياة ما هي إلا طريق قصير للموت, وهنا قد يجيء الموت بالفعل في ريعان الشباب. ويذهب إلى هذا التأويل الناقد عبد العزيز النعماني في كتابه " رحلة طائر في دنيا الشعر " متخذاً من الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي (1909 - 1934) نموذجاً. ويقول النعماني في كتابه: إن الشابي لم يكتب شعره مأخوذاً بالذهنية الأسطورية فحسب, بل إنه استوي في البشرية متأملاً, محاولاً العثور على الأصل البكر. إنه لم يحلق في متاهات ميتافيزيقية بقدر ما التمس طهارة الإنسان في حياة كان متأكداً أنها طريق للموت. ولهذا فقد رأي أن الإنسان ينبغي تكريس حياته للجمال والفن, من خلال أقطاب دلالية. وأول هذه الأقطاب جمال الطبيعة, فقد نجح الشابي في أن يربط بين الحس المرهف ومظاهر الطبيعة الصافية. أما القطب الثاني فهو الغربة, فقد عزف الشابي عليه أنغام الألم, والمعاناة, واليأس, والضباب. أما القطب الدلالي الثالث فهو الإبداع أو الكتابة, والتي شقت طريقها في اتجاهين: اتجاه يستنفر أعماق الشاعر, واتجاه آخر يغوص في أعماق هذا الفن العظيم, فن الشعر. لقد كان الشابي شاعر القلب, والأحزان, حمل همه الذاتي, وهم وطنه تونس, وهم الأمة العربية, بل هم العالم الإنساني كله.
القاهرة- شريف رضوان
/ تحمل مقولة نيتشه "النوابغ يموتون في شبابهم لأنهم طيبون أكثر مما تستطيع الأرض تحمله" مساحة جزئية من مساحات الإجابة عن السؤال العريض: "لماذا يموت الشعراء مبكراً?!".
الشعراء يموتون مبكراً إذن لأنهم نوابغ بمنطق نيتشه, لكن لماذا تبدو حياة الشعراء داخل خانة النبوغ ¯ وهذه حقيقة إحصائية ¯ أقصر من حياة غيرهم من المبدعين والأدباء النابهين الذين يكتبون الروايات مثلاً أو المسرحيات?! بالمنطق ذاته وبالبساطة ذاتها قد تكون الإجابة: لأن الشعراء أكثر نبوغاً!
والحقيقة أن التساؤل "لماذا يموت الشعراء مبكراً" رغم أنه ينطلق من يقين الإحصاءات والقياسات الدقيقة لمعدلات أعمار الشعراء الأقصر من غيرها من في المعدل العمري, الإجابة عنه لابد أن تظل احتمالية غير مؤكدة, فلغة العلم هنا تمكنت حقاً من رصد الظاهرة (الموت المبكر للشعراء دون سواهم من المبدعين), لكن تفسير الظاهرة لا يمكن أن يخضع لنظرية علمية محددة, وإنما يترتب على افتراضات واستنتاجات وقراءات وتحليلات يسهم فيها العالم والباحث الاجتماعي والمؤرخ والناقد الأدبي وغيرهم, بل ويسهم فيها بقدر كبير الشاعر ذاته (موضع الدراسة), وذلك بما خلفه من إبداعات قد تكشف عن مقدمات موته المبكر وأسبابه.
وطرح أحد العلماء بعض التصورات المبدئية من أجل تحديد أسباب لموت الشعراء مبكراً مقارنة بالأدباء الآخرين ككتاب الراوية وكتاب المسرحيات وغيرهم, وهذه الأسباب التي طرحها جيمس كوفمان (من معهد بحوث التعلم بجامعة ولاية كاليفورنيا) في تقرير تناقلته وكالات الأنباء هي: أن الشعراء يتعذبون أكثر من غيرهم, أو أنهم يكونون أكثر عرضة لتدمير الذات, أو أنهم يصبحون مشهورين في سن مبكرة وهو ما يجعل وفاتهم تحظي بالاهتمام أكثر من غيرهم ممن يموتون في نفس أعمارهم ولا يشعر بهم أحد. ومما اكتشفه الباحث في دراسته للعينة التي ضمت قرابة ألفي أديب راحل عاشوا في قرون مختلفة في الولايات المتحدة والصين وتركيا وأوروبا الشرقية أن متوسط أعمار الشعراء 62 عاماً, وكتاب المسرحية 63 عاماً, وكتاب الرواية 66 عاماً, وبقية الكتاب 68 عاماً. كما توصل الباحث إلى أن الشاعرات كن أكثر عرضة للإصابة بالمرض النفسي قبل موتهن, وهو ما ترتب عليه إيداعهن بمصحات نفسية أو انتحارهن.
عذابات اليأس
والذي يزيد من ضبابية العرض السابق لأسباب موت الشعراء مبكراً أن الأسباب التي وضعها الباحث كاختيارات متوازية أو كبدائل منعزلة يمكن أن تلتقي كلها مجتمعة في حالة الشاعر الواحد محل الدراسة, فما الذي يمنع أن يكون الشاعر قد مات في سن مبكر بسبب تألمه أكثر من غيره, وأنه في الوقت نفسه قد لجأ إلى تدمير ذاته لعدم قدرته على تحمل عذاباته مثلاً أو ليأسه واكتئابه, ثم إذ به بعد موته أو حتى انتحاره الاختياري يُلقَي الضوءُ عليه أكثر من غيره نظراً لشهرته الفائقة, في حين أن أمثاله كثيرون من غير الشعراء, لا أحد يدري بعذاباتهم وبتدميرهم لأنفسهم وبموتهم المبكر!
هي إذن مجرد مجموعة من الافتراضات والاحتمالات قدمها راصد الظاهرة نفسه, تعتريها الشكوك, فما بالنا بغيره من المراقبين فقط المتعاملون مع النتائج التي توصل إليها الباحث الراصد للظاهرة? لا شك في أن أطروحاتهم وتصوراتهم وتحليلاتهم ستبقي رهينة الاحتمال, وقد تعبر كل أطروحة من الأطروحات عن جانب من الحقيقة, وقد ينطبق أحد الشروط أو الأسباب على شاعر دون سواه, وينطبق شرط أو سبب آخر على شاعر غيره, وقد ينطبق أكثر من شرط أو سبب على شاعر واحد, وهكذا. وبدون الاتفاق على هذه القابلية للاختلاف في تحديد أسباب الظاهرة, لا يمكن التوصل إلى معرفة: لماذا يموت الشعراء مبكراً.
ويطرح الشاعر والناقد أحمد سويلم تصوراً آخر لأسباب موت الشعراء يمكن استشفافه من بين سطور مقدمة كتابه "شعراء العمر القصير" الذي يبرز فيه التجارب الشعرية لمجموعة من الشعراء العرب القدامي والمحدثين ممن ماتوا في سن مبكرة (منهم: امرؤ القيس, طرفة بن العبد, وضاح اليمن, أبو تمام, أبو فراس الحمداني, أبو القاسم الشابي, صالح الشرنوبي, أمل دنقل, بدر شاكر السياب). وينبني التصور ببساطة على أن أسباب الموت المبكر للشاعر تقترن مباشرة بتمرده الدائم والمبرر على الواقع, وكراهيته ¯ أكثر من غيره ¯ للحياة المزيفة, وزهده فيها. ويقول أحمد سويلم: إن تمرد الشاعر على الواقع له ما يبرره, إنه يتمرد على كل ما هو قبيح, ناقص, وما يجذب الإنسان إلى مناطق الفساد النفسي والاجتماعي. وقد ينفي الشاعر نفسه في الاعتزال عن الناس, وهذه العزلة لا تكون غالباً مجردة من المخاطر, فهو يلجأ إلى تدمير نفسه بوسائل كثيرة مثل تعاطي الخمور, لتغييب العقل بطرق مختلفة, لعله يزداد بعداً عن الواقع. والشاعر الذي يفعل ذلك يؤكد لنفسه العجز الكامل حتى عن مواجهة نفسه, ويصبح النفي هنا (موتاً بطيئاً) طال أم قصر. إحساساً خاصاً بالغربة عن الواقع, ويحتدم في داخله اقتناع خالص بأنه جاء في زمن غير زمانه, وأن البشر كلهم على خطأ, وهو الوحيد الذي على صواب. ومن ثم, يفضل الاعتزال لعله يصنع لنفسه عالماً خاصاً لا يعيش فيه إلا هو وحده, لكنه عالم ممزق يزيده تمزيقاً وغربةً ونفياً. وقد يزداد هذا الشعور لدى الشاعر, فيحكم على نفسه بالموت, وقد يلجأ إلى التخلص من حياته فجأة. وهو يفضل ذلك تخلصاً من المعاناة, ومما يشعر به من هذا التناقض بين حلمه والواقع, بل نجده قد يعبر عن سبب تخلصه من حياته بأن حلمه قد انطفأ وانكسر, فلماذا يحيا ويعيش?! وماذا يجدي لو استمر في الحياة?! ومن ثم فهو يفضل أساليب النفي والخلاص عن أسلوب التراجع عن الموقف, والسير في دروب متعرجة, والاستجابة إلى بريق يبعد به عن تحقيق الحلم. يفضل الشاعر أن ينجو بنفسه لنفسه. ويرتضي الموت المبكر عن الحياة المزيفة التي تسقط ذكره, وتجعل منه مسخاً في المجتمع أمام نفسه وضميره.
التمسك بالرفض
وتقرن الناقدة عبلة الرويني في كتابها " الشعراء الخوارج " بين التوهج الشعري الخارق والرغبة الدائمة في "الرفض" و"التمرد" و"الثورة" و"الخروج على المألوف", فشاعر مثل أمل دنقل (مات في سن مبكرة) كان ملاذه في كتابة القصيدة التي تعتبر لحظة كتابتها بدلاً عن (لحظة الانتحار), وهو كان دائماً غير محايد, لأن الشاعر المحايد شعره منه إليه, فحياد الإنسان يقتل في داخله الطموح. بل إن الشعر لديه كان دائماً في موقف المعارضة, حتى لو تحققت القيم التي يحلم بها الشاعر, لأن الشعر هو حلم بمستقبل أجمل, والواقع لا يكون جميلاً إلا في عيون السذج.
والتمسك ب¯"الرفض" على طول الخط قد يعجل من رحيل الشعراء, فقد تتزايد صداماتهم المباشرة مع الحكومات أو السلطات السياسية والثقافية الرسمية في بلادهم, وينالون نصيبهم من الاعتقال أو التشهير أو التحقير أو النفي أو التجاهل بدرجة أو بأخرى. وقد يصل الرفض ببعض الشعراء إلى حد السقوط في العدمية الكاملة والسوداوية وحالات الاكتئاب والموت البطيء والتفكير في الانتحار. وبالنسبة لأمل دنقل على سبيل المثال, فإنه بسبب تمسكه بالرفض والتمرد في مجمل قصائده, تعرض لما يشبه ( الاغتيال البارد ) من النظام السياسي لسنوات طويلة, وعاش كالمنبوذ مع أنه كان من أفضل شعراء جيله, ولولا مساحة الحرية في بعض دور النشر العربية ( وبخاصة في لبنان ) لما استطاع أمل دنقل أن ينشر قصائده وظلت حبيسة الأدراج, أو ربما فقد حماسه للكتابة في حد ذاتها! إن شعر أمل دنقل ; كما يرى الناقد الدكتور جابر عصفور في دراسة له ; هو شعر التمرد الذي أدان الخنوع والاستسلام, وظل متوهجاً بالرفض السياسي الاجتماعي إلى آخر لحظة من حياة الشاعر القصيرة. وكانت نزعات الهجاء السياسي والنقد الاجتماعي في قصائده لا تقتصر على الحياة المصرية وحدها, وإنما كانت تتخذ من النموذج السياسي الاجتماعي المصري مثالاً لغيره من النماذج العربية على امتداد الوطن العربي والتي أعلن دنقل عن رفضه لمعظمها, وتمرده عليها!
وللكاتبة اللبنانية فرح جبر أطروحة نشرتها أخيراً تحمل جانباً آخر من جوانب الإجابة عن السؤال المحوري: "لماذا يموت الشعراء مبكراً", حيث ترى أن عالم الشاعر ¯ دون سواه ¯ يتعلق بجوانياته, وهذا يحمله مزيداً من الإحساس بالعبء والحزن والألم, ويستدعي تنشيطاً دائماً للخيال وقوي الخلق. واستثارة هذه الجوانب لدى الإنسان الشاعر تحيله كائناً هشاً, صاحب مزاج متقلب وصعب للغاية. ومن هنا تتكالب الأمراض الروحية والبدنية على الشعراء, وربما يستخدمون الشعر كشكل من أشكال العلاج الذاتي لمشكلاتهم, وقد يأتي الموت مبكراً ليأخذهم, مرةً بالقتل, وأخرى بالمرض, وثالثة بالانتحار. ويلاحظ ارتفاع معدل الإصابة ببعض الأمراض بين الشعراء, أغلبها تتعلق بالميل إلى إيذاء الذات, مثل إدمان الكحوليات, وإساءة استخدام المخدرات, فضلاً عن حالات الاكتئاب والانتحار. ولكي يواصل الشعراء العيش, ينبغي أن يضعوا أنفسهم (خارج الثقافة), وهي عملية تقتضي ثمناً باهظاً ليس من المؤكد أنهم يستطيعون دائماً تسديده! ومن هنا فليس بغريب أن نجد الشاعر طرفة بن العبد قد مات ولم يبلغ السادسة والعشرين من العمر, ونجد لوتريامون مات في الرابعة والعشرين, وجون كيتس عن ستة وعشرين عاماً, وأبا القاسم الشابي قبل أن يبلغ الثلاثين , وألكسندر بوشكين في الثامنة والثلاثين, وأبا فراس الحمداني عن ستة وثلاثين عاماً, ومحمد الهمشري في الثلاثين, ولوركا في الثامنة والثلاثين, وآرثر رامبو في السابعة والثلاثين.
الشعر علاجاً
وهذا يقارب ما يقدمه الشاعر فاروق شوشة في كتابه " العلاج بالشعر ", فمن فرط ما تبدو القصيدة ¯ دون سواها من الفنون ¯ معبأة بمعاناة الشاعر ومكابداته الروحية ومحصلة صراعاته في الحياة وتمرده على الواقع, فإنها قد تستخدم في علاج غيره من البشر, مثلما أنها تعالج الشاعر نفسه, وقد تؤجل ( موته ) بعض الوقت. وتعتمد فكرة العلاج بالشعر; كما يقول شوشة في كتابه; على نظرية التطهير التي كان أول من أشار إليها أرسطو. فعندما أشار إلى لون من الشعر هو التراجيديا لاحظ أن مشاعر الشفقة والخوف التي تحدثها في النفس وتستثيرها هذه القصائد التراجيدية يمكن أن تؤدي إلى التصحيح والتهذيب, ثم صاغ مصطلح (التطهير) الذي يعني به التخلص من شيء مؤلم ومفزع. وهذه العملية التطهيرية علاج نفسي مثلي, أي يقوم به الإنسان لمثله, ثم يحدث التطهير بالتجربة الشعرية, وعندئذ تحدث الراحة للنفس وتستريح. وقد كان اليونان القدماء الذين امتلكوا ناصية الحكمة هم أول من اكتشفوا قوة الشعر وقدرته الفعالة في النفس, كما أنهم عبدوا (أبوللو) وقدسوه باعتباره إلهاً ثنائياً للطب والشعر. فالطب والشعر بهذا المعني علاجان مقترنان أو علاجان مرتبطان بقوة قاهره واحدة.
وقد تكون الهموم الذاتية والوطنية, والمكابدات الروحية, والمعاناة التي يواجهها الشاعر, والاغتراب المرير,.. فوق حد التحمل, لدرجة إعتقاد الشاعر دائماً أن الحياة ما هي إلا طريق قصير للموت, وهنا قد يجيء الموت بالفعل في ريعان الشباب. ويذهب إلى هذا التأويل الناقد عبد العزيز النعماني في كتابه " رحلة طائر في دنيا الشعر " متخذاً من الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي (1909 - 1934) نموذجاً. ويقول النعماني في كتابه: إن الشابي لم يكتب شعره مأخوذاً بالذهنية الأسطورية فحسب, بل إنه استوي في البشرية متأملاً, محاولاً العثور على الأصل البكر. إنه لم يحلق في متاهات ميتافيزيقية بقدر ما التمس طهارة الإنسان في حياة كان متأكداً أنها طريق للموت. ولهذا فقد رأي أن الإنسان ينبغي تكريس حياته للجمال والفن, من خلال أقطاب دلالية. وأول هذه الأقطاب جمال الطبيعة, فقد نجح الشابي في أن يربط بين الحس المرهف ومظاهر الطبيعة الصافية. أما القطب الثاني فهو الغربة, فقد عزف الشابي عليه أنغام الألم, والمعاناة, واليأس, والضباب. أما القطب الدلالي الثالث فهو الإبداع أو الكتابة, والتي شقت طريقها في اتجاهين: اتجاه يستنفر أعماق الشاعر, واتجاه آخر يغوص في أعماق هذا الفن العظيم, فن الشعر. لقد كان الشابي شاعر القلب, والأحزان, حمل همه الذاتي, وهم وطنه تونس, وهم الأمة العربية, بل هم العالم الإنساني كله.