فاطمي
11-01-2006, 06:25 PM
مكتبات مثقفي العراق .. كتب تحترق في الوطن وأخرى من منفى إلى منفى
الشرق الاوسط اللندنية - رشيد الخيون
كانت المكتبة أول هدف للشرطة السرية بالعراق، فما أن يُعتقل الباحث أو الكاتب، إلا وبعثرت مكتبته بحثاً عن كتاب ممنوع. وكان الأهالي يخفون كتب أحبائهم من المعتقلين بطرق شتى، كدفنها تحت الأرض، أو نقلها إلى جار مؤتمن. وآخرون كانوا يقطعون رأس البلية، الكتاب، بحرقه أو إتلافه بطريقة ما. وما أكثر كنوز، لا صلة لها بالسياسة، أتلفتها أمهات لا يقرأن ولا يكتبن، ويتخيلن كل كتاب مصيبة. وكل مثقف، عاند السلطة، أو تجرأ على عدم مسايرتها، قصة مع مكتبته داخل العراق، ناهيك من حياة الترحال التي عاشها المنفيون منهم، وما يتعلق بتأسيس المكتبات، ثم لا يحمل منها أكثر من عشرين كليوغراماً، وهو الوزن المسموح به في الطيارت، حين يغادر إلى مناف وملاجئ أخرى، وما أكثرها.
مَنْ بحث في كتاب «العراق بين احتلالين» لعباس العزاوي (ت 1971)، سيقدر عدد المصادر التي استخدمها هذا المؤرخ، وسيتعاطف مع أحزانه، وهو على فراش الموت، على مصير مكتبته العامرة، وقلق ابنته على ذخيرة والدها. وكذلك الحال بالنسبة للأب ماري انستاس الكرملي (ت 1947). كان مصير مكتبة العزاوي، حسب ما نقله لي الأديب مير بصري (ت 2006)، أنه شاهد عمال يرمون بالكتب من الشبابيك إلى بطن سيارة مكشوفة، وكأنهم يرمون بطابوق. أما مكتبة الأب الكرملي، فقد حشرت في مكتبة الموصل، وتفرقت شذر مذر، من دون أن يحفظ اسمه عليها، ومعلوم ما كان فيها من نفائس الأثر.
وللعلم أن نشأة المكتبة الوطنية العراقية كانت فضلاً من أفضال هذا العالم، إذ تبنى نشأتها العام 1922، وبدأت تحت اسم مكتبة السلام، ثم نقلت محتوياتها لتأخذ اسم المكتبة العامة، ثم المكتبة الوطنية (1961)، وأُلحقت بوزارة الثقافة والإرشاد (قزانجي، المكتبات في العراق).
أتذكر عندما صحبني الأديب سالم الدباغ (توفي منتصف الثمانينات)، وكنت أحد تلاميذه، إلى بيت الأديب واللغوي هاشم الطعان (ت 1980) هالني عدم رؤية جدارن في الدار، فقد غُلفت بالمجلدات، وتكوم بعضها على الروازين، وتحت السلالم. وما زاد دهشتي، أنه كان ينوي شراء مكتبة أحد المتوفين من العلماء!. وسألت هيثم نجل الطعان عن مصير مكتبة والده، فقال بحسرة كبيرة إنه بعد وفاة والده، واعتقاله، ثم إطلاق سراحه، من دون إكمال مدة الحكم 25 عاماً، جاءه الأديب ماجد العزي، وكان بعثياً، وعلى صلة جيدة بوالده، واقترح عليه بيعها إلى جامعة بغداد. لكن الجامعة رفضت شرطه، وهو أن تخزن تحت اسم صاحبها.
ثم أعاد عليه الكرة واقترح بيعها إلى جامعة الكوفة، التي قبلت بالشرط. وسريعاً حُملت الكتب باللوريات تحت نظرات أفراد الأسرة الحزينة، ففي كل كتاب لفقيدهم لمسة من يده وخفقة من روحه، وقد جمعها، رغم العوز، كتاباً كتاباً.
ولما ذهب هيثم إلى جامعة الكوفة لاستحصال ثمن المكتبة، وهو لايزيد على ما يُقابل أربعمائة دولاراً، كانت المفاجئة أن الكتب «فرهدت» قبل دخولها إلى الجامعة، وقسمت بين الأساتذة والمسؤولين، ولم يبق منها غير كتيبات، وليس هناك اسم لصاحبها ولا يحزنون. والأنكى من هذا لم يتمكن من استحصال المبلغ، وقد أنسل ماجد العزي من العملية برمتها. هذه باختصار قصة إحدى مكتبات أدباء ومثقفي العراق في الداخل.
كان الراحل مير بصري حزيناً على مصير مكتبته، خائفاً أن تلاقي مصير مكتبة العزاوي، وأن يزال اسمه من على كتبه مثلما أزيل اسم الكرملي. مازالت مكتبة بصري بداره بلندن. عائلته لم تفعل شيئاً بها، إلا إنها ما تزال بعيدة عن بغداد، وكانت نيته أن تكون هناك. ومن ثمرات مكتبة بصري كتبه في طبقات المجتمع العراق «أعلام السياسة في العراق الحديث»، «أعلام الأدب في العراق الحديث»، «أعلام التركمان.. »، «أعلام الكرد.. » وغيرها.
يعيش المعاناة نفسها المعماري محمد مكية، 91 عاماً، بعد أن أُغلق ديوان الكوفة، ووجدت مكتبته طريقها إلى الخزن، في مخازن باردة، وكان يمر بها يومياً ملامساً ورامقاً صفوفها، وفيها كتب تعود القرن السابع عشر.
وما زال ينتظر نقلها إلى بغداد أيضاً. لكن بغداد، وقبل ثلاثة عقود، لاهية عن الكتاب بعذابها، وليست هناك جهة تؤمن الكتب إلى مستقرها في القسم المعماري الذي أسسه (1959)، ووعد فيها أحفاده وحفيداته من المعماريين عند زيارته بغداد في نسيان الماضي. بدأ مكية بجمعها منذ الأربعينيات، وأخذ يستخدمها كذخيرة، تصاحبها مكتبة من المخطوطات العربية والفارسية، ومجموعة نادرة من اللوحات الفنية لكبار الفنانين العراقيين.
ووجدت وزير المال الأسبق عبد الكريم الأزري، 98 عاماً) محتضناً مكتبته الشخصية كالأب، معتنياً بها كل العناية. ويحاول من أول وهلة إشعارك أنه لا يعير كتاباً، ويرمقك بنظرة اعتراض وأنت تتصفحه، وكأنه ما صُنف إلا له.
فيها الكثير من الكتب النادرة، المعروضة بتبويب مكتبي سليم، وبنظام مريح للباحث. إنها تحتل أكثر من غرفة من داره، ولا ينوي أن يهديها أو يوصي بها، وذلك لشدة تعلقه بها، فبفضلها صدرت له عدة مؤلفات خاصة بالتاريخ السياسي العراقي، إلا أنه ربما أكثر حظاً من غيره، فلديه ولده حيدر مولع بالكتب، لديه مكتبته الخاصة، بعد أن نشأ نشأة طويلة بالعراق.
أما زميله وزير الزراعة الأسبق عبد الغني الدلي، 93 عاماً، فما زال يبحث عن طريقة لحفظ ما في حوزته من كتب، لعله يتمكن من ضمها إلى مكتبته التي تركها ببغداد بدار خاصة. وكان من أمانيه أن يعود إلى العراق، ويؤسس مكتبة في مسقط رأسه سوق الشيوخ، يجمع فيها شتات كتبه. وأبلغني عن مصير مكتبة صديقه القديم الحقوقي عبد المجيد القيسي (ت 2002)، صاحب كتاب «التاريخ يُكتب غداً». وكان توفي بدولة الإمارات المتحدة، وذووه ما زالوا ينتظرون العثور على مكتبة تستوعبها بطريقة تحفظ اسمه ردحاً من الزمن، بعد أن قُطعت حبال الوصل ببغداد، ومازالت مقطوعة. وما يذكر عن القيسي أنه أقام مجلس فاتحة على روح الملك فيصل الثاني في اليوم الثاني من 14 تموز، عندما كان قائمقام في قضاء الرفاعي، وقد سجن وأُطلق سراحه فمجلس الفاتحة لا يُعد جريمة يعاقب عليها القانون.
وفي لقاء بعمان أخبرني علي نجل اللغوي إبراهيم السامرائي الأكبر (ت 2001) عن مصير مكتبة والده، إنه لما طلب منه أن يصبح مصححاً لغوياً في القصر الجمهوري (1981)، بامتيازات يحصل عليها كبار موظفي القصر، ورد والده على الطلب بالقول: «أنا أستاذ جامعي، وكل وقتي أقضيه بين كليتي والدار، فليس لي غيرهما».
وكان محسوباً على اليسار من غير انتظام في حزب، بمعنى أنه لم يكن على وئام مع السلطة. عندها توجس السامرائي شراً مما ستأتي به الأيام القادمة، على خلفية رفضه طلباً موجهاً من صدام حسين، فحمل مكتبته وأسرته وهجر العراق، وعمل في عدة بلدان، ومنها اليمن، وبسبب تدخل أحد الإخوان المسلمين العراقيين وبعثيين عراقيين هناك، تغير موقف الجامعة منه، فعاد ثانية واستقر بالأردن حتى وفاته. أما مكتبته، التي تنقل بها من مكان إلى آخر، فأهديت إلى المجمع الثقافي بدبي، ومكتبة المجمع العلمي الأردني، ولا ندري هل يحتفظ باسمه عليها أم لا. وكانت ثمرتها حوالى مئة كتاب من تصنيفه، وأبرزها تحقيق كتاب «العين» للفراهيدي. وكان محمد مهدي الجواهري (ت 1997) لا يطمئن إلا لمشاركة السامرائي في تحقيق ديوانه.
عراقيون آخرون أرقهم السؤال حول مصير مكتباتهم، بعد سنوات طويلة من جمعها، وحملها بين العواصم، وتحمل شكاوى العائلة وضيق العيش بسببها، إضافة إلى تكاليف شراء الكتب نقلها وخزنها. صمت نجدة فتحي صفوة عندما سألته عن مصير مكتبة عباس العزاوي، وماذا ستفعل عائلة مير بصري، إن كان لديه تصور، بكتبه، وقبل الإجابة قال: «وأنا كذلك! لا أدري ما سيؤول إليه مصير مكتبتي». وهي تملأ شقة خاصة بها، بالإضافة إلى الكتب الموجودة في شقته المجاورة، التي يسكن فيها. وهو يفكر بإهدائها إلى إحدى الجامعات، والأولى إلى العراق، إن كان هناك مَنْ يستقبلها. إنها مكتبة ثرية بالكتب التاريخية، وعلى وجه الخصوص تاريخ العراق وتاريخ المملكة العربية السعودية. ولا أدري كم سيكلف نقلها إذا حسم أمره، واختار الإقامة بالأردن، كما يفكر.
المحامي جعفر البياتي قلق كذلك على مصير مكتبته، وهو محقق وقارئ نهم، جمع من الكتب ما جمعه في داره بفيينا، وبفضلها حقق كتاب «سِراج الملوك» لمحمد بن الوليد الطرطوشي (ت 520هـ)، صنف كتاب «مفهوم الدولة عند الطرطوشي وابن خلدون». إن مكتبته هي مدفأته في الغربة، وقد توسط عقده التاسع. ولده ليس له الاهتمام نفسه، وهو يدرك تماماً موقف وريثه منها، ولا يريد تخيل المكان من دون المكتبة، أو حملها إلى متاجر الورق ليُعاد تصنيعها، والطريق إلى بغداد ما زال وعراً للمسافر، فكيف لمكتبة!
ويراود القلق نفسه المحقق والباحث جليل العطية، المقيم بباريس، وقد جمع مكتبة من نفائس كتب التراث، وما يختص باهتمامه، حتى أغنته في العديد من مصنفاته عن زيارة المكتبات العامة، فعمل مثل «الذخائر الشرقية» لتركة استاذه كوركيس عواد، وعشرات التحقيقات لا توفر مصادرها إلا مكتبة عامرة. ولما فاجأته بالسؤال: هل فكرت بمصير مكتبتك؟ قال: «كان الأمل، وما زال، أن تستقر ببغداد، ضمن مركز بحوث ودراسات، أو جمعية تهتم بالتراث والتاريخ، يستفيد منها الباحثون والدارسون». وخصوصاً بعد ما فقدت مكتبات بغداد من درر الكتب.إلا أنه حتى هذه اللحظة ليس لديه تصور آخر، ولا مفك من القلق على سبعة آلاف كتاب، ومصورات لكتب قديمة ومخطوطات. إنها محنة حقيقية، فأولاده بعيدون عن الاهتمام بمثل هذا الميراث، ولا يعنيهم الكتاب العربي، نتيجة نشأتهم في باريس.
اقتصادي النفط فاضل الجلبي، تحدث عن ترحال طويل ومستمر، كلما شيد مكتبة ودعها بمكان، ولا يحمل منها غير القريب إلى نفسه، إلا أنه تحدث بمرارة عن مكتبة نفيسة ببغداد، التي أودعها في دار أهله، منضدة في صناديق تحتل السرداب، الذي استهرت به بيوت بغداد القديمة، وقد داهمها الماء، ولم ينج منها كتاب واحد. كانت تحتوي على مؤلفات أدباء من الأربعينيات والخمسينيات، مزينة بإهداءاتهم الشخصية، ومنها دواوين الشاعرة نازك الملائكة وإهداءات بخطها.
كان الشاعر فوزي كريم متهيئاً للإجابة أكثر من غيره، بعد معايشة القلق سنوات طويلة على مكتبته، التي تكونت لديه خلال ثلاثين عاماً، واستحوذت على غرف الدار وممراتها. وإلى جانب الكتب لديه مكتبة موسيقية، يصل عددها إلى خمسة آلاف عمل موسيقي، ولوحات فنية من رسمه، ومن أعمال فنانين آخرين، يحلم أن يُلحقها بمكتبته الخاصة ببغداد. وفعلاً خطى خطوة عملية، عشية سقوط النظام، لينقلها إلى بغداد، لتكون تحت تصرف مركز ثقافي أو مكتبة ، وليس لديه شرط سوى أن تُخزن باسمه، مثلما تجري العادة. طلب، بُعيد سقوط النظام، من وزير الثقافة مفيد الجزائري توفير فرصة النقل، وتأمين مصير لمكتبته بمستوى تعلقه بها وقلقه عليها، إلا أن الأمل أخذ يتضاءَل، وعاد يداهمه القلق من جديد.
كنت أزور الأديب سمير نقاش (ت 2004) بمانشتستر، وتحتل مكتبته فضاء الدار الأسفل وغرفاً من الطابق العلوي. كان يتحدث عن خزنها، وإمكانية نقلها، في ما بعد، معه إلى بغداد. ولما سمع بتصريحات وزراء عراقيين جدد، أن لا عودة ليهود العراق مثل بقية اللاجئين، بذريعة أن وزير الدفاع الإسرائيلي عراقي الأصل، رد بألم: «ربما هو الوحيد الذي سيعود»! وكان لا يكتفي بطبعة واحدة من الكتاب، فإلى جانب طبعة قديمة، ترقى إلى نهاية القرن التاسع عشر، وجدته يتابع الطبعات الجديدة، ويضمها إلى رفوف مكتبته. وبعد وفاته اتصلت بيَّ زوجته فكتوريا، تقول: «ماذا أعمل في الكتب، التي ملأ سمير بها الدار، وصرف عليها شقاء عمره؟ مات سمير ووجدت مكتبته طريقها إلى صناديق مغلقة بلا فهرسة، قد تتآكل من الرطوبة.
أما الشاعر صلاح نيازي فقد حسم قلقه سريعاً، وحافظ على التناسب بين حجم الدار ورفوف المكتبة، وجعلها ثابتة على أربعة آلاف كتاب، حيث أخذ يعزل شهرياً ما يفيض لديه ويهديه إلى مكتبة جامعة لندن، أو مكتبات بريطانية أخرى، وهو يرى أنها أكثر حفظاً وصوناً من تسفيرها إلى بغداد، شأنها شأن الآثار العراقية، التي تحتفظ بها المتاحف الأوروبية بكل قداسة، مصانة من نوبات فرهود أو تحطيم واتجار. وفي حديثه تذكر هوس الأديب والمترجم نجيب المانع (ت 1982) بجمع الكتب، في كل مدينة وعاصمة يحل بها. أسس مكتبة بالزبير، ثم ببغداد، ثم ببيروت، وقد باعها بـ18 ألف دولار، ليؤسس مكتبة جديدة بلندن. وما تزال شقيقته الكاتبة سميرة المانع تحاول إيصالها إلى جامعة البصرة، حيث مسقط رأسه، أو أي خزانة كتب عراقية تحتضنها.
هذه الأسماء مجرد نماذج قليلة تعكس عمق القلق على مصائر الذخائر من الكتب والمخطوطات، والأعمال الفنية، وكل واحد من هؤلاء، وغيرهم المئات من مشاهير الثقافة العراقية، تركوا مكتبات عامرة لهم بالعراق، موزعة صناديقها على منازل الجيران والأصدقاء، ومنهم مَنْ هجر المكان، وطرحها أمانة عند غيره، ثم انقطعت الأخبار، ومنهم مَنْ غادر الحياة، وصار مصير المكتبات إلى الباعة المتجولين، مفروشة على قارعات الطرق.
كثيراً ما تشير الإهداءات على صفحاتها الأُول أنها تنحدر من مكتبة عالم من العلماء، أو شخصية مهمة من شخصيات بغداد، اضطر إلى بيعها لمواجهة تكاليف الحياة، وهذا ما تناقلته الأخبار عن مكتبة الناقد علي جواد الطاهر (ت 1996). حقاً إنها مصائر مقلقة، فليس لمثقف عراقي طوال الأربعين عاماً الأخيرة تمكن من الاطمئنان على ذخيرة حياته، وعصارة جهده، المكتبة. وربما يكون السؤال أعظم، لو علمنا بمصائر مكتبات كبار مثل: مصطفى جواد، علي جواد الطاهر، ومهدي المخزومي، وكوركيس عواد، وميخائيل عواد، وطه باقر، محمد أمين زكي، ونعيم الناشي، وفؤاد سفر، والطبيب راجي عباس التكريتي وغيرهم.
ويضيف د. حربي: «القضية ليست قضية شخصية بل قضية تراثية، فالتراث يخص كل فرد من افراد امتنا العربية ولا يخص يوسف زيدان وحده، وقد طالبت رسميا مناظرته هو وادارته علميا فلم يوافق متعللا بأننا لسنا قرناء فقمت بذلك على صفحات الجرائد وسأظل أطالب بذلك فأنا متخصص في الرازي وأعكف على تراثه المخطوط منذ 12 سنة ونشرت عنه 7 كتب حتى الآن».
ومن جهته يقول د. يوسف زيدان، الذي يحظى بمكانة دولية كمدير بمكتبة الاسكندرية ومستشار لهيئة اليونسكو ومشرف على عدة مشروعات دولية منذ عدة سنوات: «إن د. حربي قد افتعل مشكلة وهمية معي بإصراره على المشاركة في مؤتمر «المخطوطات الموقعة» بعد ان تم رفض مقترحات مشاركته والتي لم ترق للمستوى المطلوب. وفي يوم افتتاح مؤتمر دولي بالمكتبة احدث شغبا فطرده افراد الأمن، فسارع بتحرير محضر مدعيا أنني طردته من المؤتمر، وقد حفظ المحضر. ثم طالب بعد ذلك بتشكيل لجنة لتدلي برأيها في «مقالة في النقرس». ولم يكتف بهذا بل قام بعمل حملة سب وقذف في الصحف، مما دفعني لاقامة دعوى سب وقذف في 20 سبتمبر (أيلول) الماضي امام محكمة جنايات الاسكندرية وصدر فيها حكم يدين د. خالد حربي والزامه بدفع غرامة مالية وتعويض مالي. وحول ما جاء بتقرير لجنة جامعة القاهرة أكد زيدان إن التقرير يحتوي على افتراءات ليس لها اساس من الصحة وأنه يشتمل على مغالطات وتهويلات وإساءات كثيرة في حقه مؤكدا نية اللجنة في التشهير به، وهو ما دفعه إلى ان يرفع دعوى قضائية يرد فيها على مغالطات التقرير الـ50 ويطالب فيها بالتعويض. ويرى زيدان إن الدعوى تستهجن التقرير حيث أنه قد تعدى مجرد الحكم على الكتاب الصادر منذ عدة أعوام، وإنما تعرض للخلفية العلمية لزيدان، والتشكيك في نزاهته واتهامه بالتعدي على التراث العربي الاسلامي الذي قضي عمره يعمل لخدمته ونشر فيه كتبا يصل مجموع صفحاتها إلى24 الف صفحة، ونال عنها عدة جوائز دولية منذ كان في الثلاثينات من عمره، وآخرها جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي للعام الحالي، وذلك عن كتابيه «الشامل في الصناعة الطبية» لابن النفيس و«مقالة في النقرس» للرازي.
وبحسب ما جاء بالدعوى فإنه من الغريب ان يجعل اعضاء اللجنة ـ على حد قول زيدان ـ من أنفسهم غيورين على الرازي اكثر منه هو شخصيا، وهو الذي نشر الكتاب بعد اكثر من 1000 سنة ظل فيها مجهولا، كما أن كتابه «هو من أكثر الكتب التي نشرت للرازي أناقة وفائدة حيث انه اشتمل لأول مرة في التاريخ على النص العربي ومعه ترجمات إلى الانجليزية والفرنسية والألمانية له وصورة طبق الاصل من مخطوطته.
ويقول د. زيدان ان الكتاب ـ محل الخلاف ـ في مجال تاريخ الطب العربي، وهو مجال بعيد عن مجال تخصص اللجنة، وكان من الأحرى أن يصدر التقرير من المختصين بمركز تاريخ العلوم بجامعة القاهرة.
الشرق الاوسط اللندنية - رشيد الخيون
كانت المكتبة أول هدف للشرطة السرية بالعراق، فما أن يُعتقل الباحث أو الكاتب، إلا وبعثرت مكتبته بحثاً عن كتاب ممنوع. وكان الأهالي يخفون كتب أحبائهم من المعتقلين بطرق شتى، كدفنها تحت الأرض، أو نقلها إلى جار مؤتمن. وآخرون كانوا يقطعون رأس البلية، الكتاب، بحرقه أو إتلافه بطريقة ما. وما أكثر كنوز، لا صلة لها بالسياسة، أتلفتها أمهات لا يقرأن ولا يكتبن، ويتخيلن كل كتاب مصيبة. وكل مثقف، عاند السلطة، أو تجرأ على عدم مسايرتها، قصة مع مكتبته داخل العراق، ناهيك من حياة الترحال التي عاشها المنفيون منهم، وما يتعلق بتأسيس المكتبات، ثم لا يحمل منها أكثر من عشرين كليوغراماً، وهو الوزن المسموح به في الطيارت، حين يغادر إلى مناف وملاجئ أخرى، وما أكثرها.
مَنْ بحث في كتاب «العراق بين احتلالين» لعباس العزاوي (ت 1971)، سيقدر عدد المصادر التي استخدمها هذا المؤرخ، وسيتعاطف مع أحزانه، وهو على فراش الموت، على مصير مكتبته العامرة، وقلق ابنته على ذخيرة والدها. وكذلك الحال بالنسبة للأب ماري انستاس الكرملي (ت 1947). كان مصير مكتبة العزاوي، حسب ما نقله لي الأديب مير بصري (ت 2006)، أنه شاهد عمال يرمون بالكتب من الشبابيك إلى بطن سيارة مكشوفة، وكأنهم يرمون بطابوق. أما مكتبة الأب الكرملي، فقد حشرت في مكتبة الموصل، وتفرقت شذر مذر، من دون أن يحفظ اسمه عليها، ومعلوم ما كان فيها من نفائس الأثر.
وللعلم أن نشأة المكتبة الوطنية العراقية كانت فضلاً من أفضال هذا العالم، إذ تبنى نشأتها العام 1922، وبدأت تحت اسم مكتبة السلام، ثم نقلت محتوياتها لتأخذ اسم المكتبة العامة، ثم المكتبة الوطنية (1961)، وأُلحقت بوزارة الثقافة والإرشاد (قزانجي، المكتبات في العراق).
أتذكر عندما صحبني الأديب سالم الدباغ (توفي منتصف الثمانينات)، وكنت أحد تلاميذه، إلى بيت الأديب واللغوي هاشم الطعان (ت 1980) هالني عدم رؤية جدارن في الدار، فقد غُلفت بالمجلدات، وتكوم بعضها على الروازين، وتحت السلالم. وما زاد دهشتي، أنه كان ينوي شراء مكتبة أحد المتوفين من العلماء!. وسألت هيثم نجل الطعان عن مصير مكتبة والده، فقال بحسرة كبيرة إنه بعد وفاة والده، واعتقاله، ثم إطلاق سراحه، من دون إكمال مدة الحكم 25 عاماً، جاءه الأديب ماجد العزي، وكان بعثياً، وعلى صلة جيدة بوالده، واقترح عليه بيعها إلى جامعة بغداد. لكن الجامعة رفضت شرطه، وهو أن تخزن تحت اسم صاحبها.
ثم أعاد عليه الكرة واقترح بيعها إلى جامعة الكوفة، التي قبلت بالشرط. وسريعاً حُملت الكتب باللوريات تحت نظرات أفراد الأسرة الحزينة، ففي كل كتاب لفقيدهم لمسة من يده وخفقة من روحه، وقد جمعها، رغم العوز، كتاباً كتاباً.
ولما ذهب هيثم إلى جامعة الكوفة لاستحصال ثمن المكتبة، وهو لايزيد على ما يُقابل أربعمائة دولاراً، كانت المفاجئة أن الكتب «فرهدت» قبل دخولها إلى الجامعة، وقسمت بين الأساتذة والمسؤولين، ولم يبق منها غير كتيبات، وليس هناك اسم لصاحبها ولا يحزنون. والأنكى من هذا لم يتمكن من استحصال المبلغ، وقد أنسل ماجد العزي من العملية برمتها. هذه باختصار قصة إحدى مكتبات أدباء ومثقفي العراق في الداخل.
كان الراحل مير بصري حزيناً على مصير مكتبته، خائفاً أن تلاقي مصير مكتبة العزاوي، وأن يزال اسمه من على كتبه مثلما أزيل اسم الكرملي. مازالت مكتبة بصري بداره بلندن. عائلته لم تفعل شيئاً بها، إلا إنها ما تزال بعيدة عن بغداد، وكانت نيته أن تكون هناك. ومن ثمرات مكتبة بصري كتبه في طبقات المجتمع العراق «أعلام السياسة في العراق الحديث»، «أعلام الأدب في العراق الحديث»، «أعلام التركمان.. »، «أعلام الكرد.. » وغيرها.
يعيش المعاناة نفسها المعماري محمد مكية، 91 عاماً، بعد أن أُغلق ديوان الكوفة، ووجدت مكتبته طريقها إلى الخزن، في مخازن باردة، وكان يمر بها يومياً ملامساً ورامقاً صفوفها، وفيها كتب تعود القرن السابع عشر.
وما زال ينتظر نقلها إلى بغداد أيضاً. لكن بغداد، وقبل ثلاثة عقود، لاهية عن الكتاب بعذابها، وليست هناك جهة تؤمن الكتب إلى مستقرها في القسم المعماري الذي أسسه (1959)، ووعد فيها أحفاده وحفيداته من المعماريين عند زيارته بغداد في نسيان الماضي. بدأ مكية بجمعها منذ الأربعينيات، وأخذ يستخدمها كذخيرة، تصاحبها مكتبة من المخطوطات العربية والفارسية، ومجموعة نادرة من اللوحات الفنية لكبار الفنانين العراقيين.
ووجدت وزير المال الأسبق عبد الكريم الأزري، 98 عاماً) محتضناً مكتبته الشخصية كالأب، معتنياً بها كل العناية. ويحاول من أول وهلة إشعارك أنه لا يعير كتاباً، ويرمقك بنظرة اعتراض وأنت تتصفحه، وكأنه ما صُنف إلا له.
فيها الكثير من الكتب النادرة، المعروضة بتبويب مكتبي سليم، وبنظام مريح للباحث. إنها تحتل أكثر من غرفة من داره، ولا ينوي أن يهديها أو يوصي بها، وذلك لشدة تعلقه بها، فبفضلها صدرت له عدة مؤلفات خاصة بالتاريخ السياسي العراقي، إلا أنه ربما أكثر حظاً من غيره، فلديه ولده حيدر مولع بالكتب، لديه مكتبته الخاصة، بعد أن نشأ نشأة طويلة بالعراق.
أما زميله وزير الزراعة الأسبق عبد الغني الدلي، 93 عاماً، فما زال يبحث عن طريقة لحفظ ما في حوزته من كتب، لعله يتمكن من ضمها إلى مكتبته التي تركها ببغداد بدار خاصة. وكان من أمانيه أن يعود إلى العراق، ويؤسس مكتبة في مسقط رأسه سوق الشيوخ، يجمع فيها شتات كتبه. وأبلغني عن مصير مكتبة صديقه القديم الحقوقي عبد المجيد القيسي (ت 2002)، صاحب كتاب «التاريخ يُكتب غداً». وكان توفي بدولة الإمارات المتحدة، وذووه ما زالوا ينتظرون العثور على مكتبة تستوعبها بطريقة تحفظ اسمه ردحاً من الزمن، بعد أن قُطعت حبال الوصل ببغداد، ومازالت مقطوعة. وما يذكر عن القيسي أنه أقام مجلس فاتحة على روح الملك فيصل الثاني في اليوم الثاني من 14 تموز، عندما كان قائمقام في قضاء الرفاعي، وقد سجن وأُطلق سراحه فمجلس الفاتحة لا يُعد جريمة يعاقب عليها القانون.
وفي لقاء بعمان أخبرني علي نجل اللغوي إبراهيم السامرائي الأكبر (ت 2001) عن مصير مكتبة والده، إنه لما طلب منه أن يصبح مصححاً لغوياً في القصر الجمهوري (1981)، بامتيازات يحصل عليها كبار موظفي القصر، ورد والده على الطلب بالقول: «أنا أستاذ جامعي، وكل وقتي أقضيه بين كليتي والدار، فليس لي غيرهما».
وكان محسوباً على اليسار من غير انتظام في حزب، بمعنى أنه لم يكن على وئام مع السلطة. عندها توجس السامرائي شراً مما ستأتي به الأيام القادمة، على خلفية رفضه طلباً موجهاً من صدام حسين، فحمل مكتبته وأسرته وهجر العراق، وعمل في عدة بلدان، ومنها اليمن، وبسبب تدخل أحد الإخوان المسلمين العراقيين وبعثيين عراقيين هناك، تغير موقف الجامعة منه، فعاد ثانية واستقر بالأردن حتى وفاته. أما مكتبته، التي تنقل بها من مكان إلى آخر، فأهديت إلى المجمع الثقافي بدبي، ومكتبة المجمع العلمي الأردني، ولا ندري هل يحتفظ باسمه عليها أم لا. وكانت ثمرتها حوالى مئة كتاب من تصنيفه، وأبرزها تحقيق كتاب «العين» للفراهيدي. وكان محمد مهدي الجواهري (ت 1997) لا يطمئن إلا لمشاركة السامرائي في تحقيق ديوانه.
عراقيون آخرون أرقهم السؤال حول مصير مكتباتهم، بعد سنوات طويلة من جمعها، وحملها بين العواصم، وتحمل شكاوى العائلة وضيق العيش بسببها، إضافة إلى تكاليف شراء الكتب نقلها وخزنها. صمت نجدة فتحي صفوة عندما سألته عن مصير مكتبة عباس العزاوي، وماذا ستفعل عائلة مير بصري، إن كان لديه تصور، بكتبه، وقبل الإجابة قال: «وأنا كذلك! لا أدري ما سيؤول إليه مصير مكتبتي». وهي تملأ شقة خاصة بها، بالإضافة إلى الكتب الموجودة في شقته المجاورة، التي يسكن فيها. وهو يفكر بإهدائها إلى إحدى الجامعات، والأولى إلى العراق، إن كان هناك مَنْ يستقبلها. إنها مكتبة ثرية بالكتب التاريخية، وعلى وجه الخصوص تاريخ العراق وتاريخ المملكة العربية السعودية. ولا أدري كم سيكلف نقلها إذا حسم أمره، واختار الإقامة بالأردن، كما يفكر.
المحامي جعفر البياتي قلق كذلك على مصير مكتبته، وهو محقق وقارئ نهم، جمع من الكتب ما جمعه في داره بفيينا، وبفضلها حقق كتاب «سِراج الملوك» لمحمد بن الوليد الطرطوشي (ت 520هـ)، صنف كتاب «مفهوم الدولة عند الطرطوشي وابن خلدون». إن مكتبته هي مدفأته في الغربة، وقد توسط عقده التاسع. ولده ليس له الاهتمام نفسه، وهو يدرك تماماً موقف وريثه منها، ولا يريد تخيل المكان من دون المكتبة، أو حملها إلى متاجر الورق ليُعاد تصنيعها، والطريق إلى بغداد ما زال وعراً للمسافر، فكيف لمكتبة!
ويراود القلق نفسه المحقق والباحث جليل العطية، المقيم بباريس، وقد جمع مكتبة من نفائس كتب التراث، وما يختص باهتمامه، حتى أغنته في العديد من مصنفاته عن زيارة المكتبات العامة، فعمل مثل «الذخائر الشرقية» لتركة استاذه كوركيس عواد، وعشرات التحقيقات لا توفر مصادرها إلا مكتبة عامرة. ولما فاجأته بالسؤال: هل فكرت بمصير مكتبتك؟ قال: «كان الأمل، وما زال، أن تستقر ببغداد، ضمن مركز بحوث ودراسات، أو جمعية تهتم بالتراث والتاريخ، يستفيد منها الباحثون والدارسون». وخصوصاً بعد ما فقدت مكتبات بغداد من درر الكتب.إلا أنه حتى هذه اللحظة ليس لديه تصور آخر، ولا مفك من القلق على سبعة آلاف كتاب، ومصورات لكتب قديمة ومخطوطات. إنها محنة حقيقية، فأولاده بعيدون عن الاهتمام بمثل هذا الميراث، ولا يعنيهم الكتاب العربي، نتيجة نشأتهم في باريس.
اقتصادي النفط فاضل الجلبي، تحدث عن ترحال طويل ومستمر، كلما شيد مكتبة ودعها بمكان، ولا يحمل منها غير القريب إلى نفسه، إلا أنه تحدث بمرارة عن مكتبة نفيسة ببغداد، التي أودعها في دار أهله، منضدة في صناديق تحتل السرداب، الذي استهرت به بيوت بغداد القديمة، وقد داهمها الماء، ولم ينج منها كتاب واحد. كانت تحتوي على مؤلفات أدباء من الأربعينيات والخمسينيات، مزينة بإهداءاتهم الشخصية، ومنها دواوين الشاعرة نازك الملائكة وإهداءات بخطها.
كان الشاعر فوزي كريم متهيئاً للإجابة أكثر من غيره، بعد معايشة القلق سنوات طويلة على مكتبته، التي تكونت لديه خلال ثلاثين عاماً، واستحوذت على غرف الدار وممراتها. وإلى جانب الكتب لديه مكتبة موسيقية، يصل عددها إلى خمسة آلاف عمل موسيقي، ولوحات فنية من رسمه، ومن أعمال فنانين آخرين، يحلم أن يُلحقها بمكتبته الخاصة ببغداد. وفعلاً خطى خطوة عملية، عشية سقوط النظام، لينقلها إلى بغداد، لتكون تحت تصرف مركز ثقافي أو مكتبة ، وليس لديه شرط سوى أن تُخزن باسمه، مثلما تجري العادة. طلب، بُعيد سقوط النظام، من وزير الثقافة مفيد الجزائري توفير فرصة النقل، وتأمين مصير لمكتبته بمستوى تعلقه بها وقلقه عليها، إلا أن الأمل أخذ يتضاءَل، وعاد يداهمه القلق من جديد.
كنت أزور الأديب سمير نقاش (ت 2004) بمانشتستر، وتحتل مكتبته فضاء الدار الأسفل وغرفاً من الطابق العلوي. كان يتحدث عن خزنها، وإمكانية نقلها، في ما بعد، معه إلى بغداد. ولما سمع بتصريحات وزراء عراقيين جدد، أن لا عودة ليهود العراق مثل بقية اللاجئين، بذريعة أن وزير الدفاع الإسرائيلي عراقي الأصل، رد بألم: «ربما هو الوحيد الذي سيعود»! وكان لا يكتفي بطبعة واحدة من الكتاب، فإلى جانب طبعة قديمة، ترقى إلى نهاية القرن التاسع عشر، وجدته يتابع الطبعات الجديدة، ويضمها إلى رفوف مكتبته. وبعد وفاته اتصلت بيَّ زوجته فكتوريا، تقول: «ماذا أعمل في الكتب، التي ملأ سمير بها الدار، وصرف عليها شقاء عمره؟ مات سمير ووجدت مكتبته طريقها إلى صناديق مغلقة بلا فهرسة، قد تتآكل من الرطوبة.
أما الشاعر صلاح نيازي فقد حسم قلقه سريعاً، وحافظ على التناسب بين حجم الدار ورفوف المكتبة، وجعلها ثابتة على أربعة آلاف كتاب، حيث أخذ يعزل شهرياً ما يفيض لديه ويهديه إلى مكتبة جامعة لندن، أو مكتبات بريطانية أخرى، وهو يرى أنها أكثر حفظاً وصوناً من تسفيرها إلى بغداد، شأنها شأن الآثار العراقية، التي تحتفظ بها المتاحف الأوروبية بكل قداسة، مصانة من نوبات فرهود أو تحطيم واتجار. وفي حديثه تذكر هوس الأديب والمترجم نجيب المانع (ت 1982) بجمع الكتب، في كل مدينة وعاصمة يحل بها. أسس مكتبة بالزبير، ثم ببغداد، ثم ببيروت، وقد باعها بـ18 ألف دولار، ليؤسس مكتبة جديدة بلندن. وما تزال شقيقته الكاتبة سميرة المانع تحاول إيصالها إلى جامعة البصرة، حيث مسقط رأسه، أو أي خزانة كتب عراقية تحتضنها.
هذه الأسماء مجرد نماذج قليلة تعكس عمق القلق على مصائر الذخائر من الكتب والمخطوطات، والأعمال الفنية، وكل واحد من هؤلاء، وغيرهم المئات من مشاهير الثقافة العراقية، تركوا مكتبات عامرة لهم بالعراق، موزعة صناديقها على منازل الجيران والأصدقاء، ومنهم مَنْ هجر المكان، وطرحها أمانة عند غيره، ثم انقطعت الأخبار، ومنهم مَنْ غادر الحياة، وصار مصير المكتبات إلى الباعة المتجولين، مفروشة على قارعات الطرق.
كثيراً ما تشير الإهداءات على صفحاتها الأُول أنها تنحدر من مكتبة عالم من العلماء، أو شخصية مهمة من شخصيات بغداد، اضطر إلى بيعها لمواجهة تكاليف الحياة، وهذا ما تناقلته الأخبار عن مكتبة الناقد علي جواد الطاهر (ت 1996). حقاً إنها مصائر مقلقة، فليس لمثقف عراقي طوال الأربعين عاماً الأخيرة تمكن من الاطمئنان على ذخيرة حياته، وعصارة جهده، المكتبة. وربما يكون السؤال أعظم، لو علمنا بمصائر مكتبات كبار مثل: مصطفى جواد، علي جواد الطاهر، ومهدي المخزومي، وكوركيس عواد، وميخائيل عواد، وطه باقر، محمد أمين زكي، ونعيم الناشي، وفؤاد سفر، والطبيب راجي عباس التكريتي وغيرهم.
ويضيف د. حربي: «القضية ليست قضية شخصية بل قضية تراثية، فالتراث يخص كل فرد من افراد امتنا العربية ولا يخص يوسف زيدان وحده، وقد طالبت رسميا مناظرته هو وادارته علميا فلم يوافق متعللا بأننا لسنا قرناء فقمت بذلك على صفحات الجرائد وسأظل أطالب بذلك فأنا متخصص في الرازي وأعكف على تراثه المخطوط منذ 12 سنة ونشرت عنه 7 كتب حتى الآن».
ومن جهته يقول د. يوسف زيدان، الذي يحظى بمكانة دولية كمدير بمكتبة الاسكندرية ومستشار لهيئة اليونسكو ومشرف على عدة مشروعات دولية منذ عدة سنوات: «إن د. حربي قد افتعل مشكلة وهمية معي بإصراره على المشاركة في مؤتمر «المخطوطات الموقعة» بعد ان تم رفض مقترحات مشاركته والتي لم ترق للمستوى المطلوب. وفي يوم افتتاح مؤتمر دولي بالمكتبة احدث شغبا فطرده افراد الأمن، فسارع بتحرير محضر مدعيا أنني طردته من المؤتمر، وقد حفظ المحضر. ثم طالب بعد ذلك بتشكيل لجنة لتدلي برأيها في «مقالة في النقرس». ولم يكتف بهذا بل قام بعمل حملة سب وقذف في الصحف، مما دفعني لاقامة دعوى سب وقذف في 20 سبتمبر (أيلول) الماضي امام محكمة جنايات الاسكندرية وصدر فيها حكم يدين د. خالد حربي والزامه بدفع غرامة مالية وتعويض مالي. وحول ما جاء بتقرير لجنة جامعة القاهرة أكد زيدان إن التقرير يحتوي على افتراءات ليس لها اساس من الصحة وأنه يشتمل على مغالطات وتهويلات وإساءات كثيرة في حقه مؤكدا نية اللجنة في التشهير به، وهو ما دفعه إلى ان يرفع دعوى قضائية يرد فيها على مغالطات التقرير الـ50 ويطالب فيها بالتعويض. ويرى زيدان إن الدعوى تستهجن التقرير حيث أنه قد تعدى مجرد الحكم على الكتاب الصادر منذ عدة أعوام، وإنما تعرض للخلفية العلمية لزيدان، والتشكيك في نزاهته واتهامه بالتعدي على التراث العربي الاسلامي الذي قضي عمره يعمل لخدمته ونشر فيه كتبا يصل مجموع صفحاتها إلى24 الف صفحة، ونال عنها عدة جوائز دولية منذ كان في الثلاثينات من عمره، وآخرها جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي للعام الحالي، وذلك عن كتابيه «الشامل في الصناعة الطبية» لابن النفيس و«مقالة في النقرس» للرازي.
وبحسب ما جاء بالدعوى فإنه من الغريب ان يجعل اعضاء اللجنة ـ على حد قول زيدان ـ من أنفسهم غيورين على الرازي اكثر منه هو شخصيا، وهو الذي نشر الكتاب بعد اكثر من 1000 سنة ظل فيها مجهولا، كما أن كتابه «هو من أكثر الكتب التي نشرت للرازي أناقة وفائدة حيث انه اشتمل لأول مرة في التاريخ على النص العربي ومعه ترجمات إلى الانجليزية والفرنسية والألمانية له وصورة طبق الاصل من مخطوطته.
ويقول د. زيدان ان الكتاب ـ محل الخلاف ـ في مجال تاريخ الطب العربي، وهو مجال بعيد عن مجال تخصص اللجنة، وكان من الأحرى أن يصدر التقرير من المختصين بمركز تاريخ العلوم بجامعة القاهرة.