المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لماذا لا تصل يد «العدالة الأميركية» إلى الشيشان؟



لمياء
10-30-2006, 07:11 AM
محمود المبارك

الحياة - 30/10/06//

في تقرير مقدم أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي في مارس (آذار) 2000، تحدث الباحث المتخصص في أزمات الطوارئ في منظمة مراقبة حقوق الإنسان (هيومان رايتس واتش) بيتر بوكرت عن «الانتهاكات الجسيمة» التي تقوم بها القوات الروسية في الشيشان والتي وصلت بحسب شهادة منظمته إلى درجة «جرائم حرب».

كان الموقف المؤازر من الشيوخ الـ18 لا يحتاج إلى تأكيد، فقد كانت كلمة بوكرت بليغةً للغاية ومدعمة بالشواهد والأرقام التي قدمت من خلال تقريرين و40 بياناً لمنظمته، وطالب المتحدث أعضاء لجنة مجلس الشيوخ - الذين بدا عليهم التأثر بما سمعوه من حقائق مذهلة - بتشجيع الدول الأوروبية على رفع دعوى ضد الحكومة الروسية أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، كما طالبهم بعرض الأمر على مجلس الأمن، وأن تكون مسألة الحرب في الشيشان من ضمن بنود جدول أعمال الدورة المقبلة للجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة.

لم يخطر على بال بوكرت أن الذين بدا منهم التعاطف الإنساني في تلك الساعة ستتغير مواقفهم في غمضة عين، حين تكون حكومتهم في حاجة إلى مساعدةٍ من الحكومة المتهمة. فبعد أحداث سبتمبر (أيلول) 2001، تبين للمؤسسات السياسية في الولايات المتحدة بما فيها البيت الأبيض والكونغرس بشقيه مجلس الشيوخ ومجلس النواب، أن «الحرب على الإرهاب» كما تطلبت التعاون مع أنظمة غير ديموقراطية، وصلت إلى سدة الحكم بانقلابات عسكرية ضد أنظمة منتخبة ديموقراطياً، فإنها كذلك قد تشمل تنازلاً عن بعض القيم والمبادئ المتعلقة بالعدالة الأميركية ونشرها في العالم.

من هذا المنطلق، رأت الحكومة الأميركية أنه ليس من الحكمة استعداء روسيا بلومها على ما قامت وتقوم به من اعتداءات حربية في الشيشان، وإن صنفت على أنها «جرائم حرب» من منظمات حقوقية دولية كانت إلى وقت قريب تحظى بدعم كامل من الحكومة الأميركية.

لم تكن هذه الحرب الروسية الأولى على جارتها الصغيرة، فقد سبق لروسيا الاتحادية أن وجهت قواتها العسكرية شمال القوقاز تجاه هذه الدولة الجبلية بين عامي 1994-1995، إذ قامت القوات الروسية خلالها بجرائم حرب لا تقل فظاعة عن مثيلتها.

وعلى رغم أن الحرب الحالية التي بدأت مع الغزو الروسي عام 1999، شهدت اعتراضات قانونية من مؤسسات قانونية دولية، إلا إن الأمور لم تتحسن قيد أنملة، بل ازدادت سوءاً منذ ذلك التاريخ. فبعد تقرير مجلس الشيوخ المشار إليه بشهر واحد، نشر المجلس الأوروبي لحقوق الإنسان أول قائمة رسمية مفصلة لـ329 حالة تتعلق بجرائم روسية ضد المدنيين في الشيشان بين عامي 1999 - 2000.

إلا أن الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، لم تفعل شيئاً حيال التقارير الدولية العديدة التي حذرت من وحشية الانتهاكات الدولية التي تقوم بها القوات الروسية في الشيشان، ومنها - على سبيل المثال لا الحصر- قتل الآلاف وجرح عشرات الآلاف من المدنيين بغير ذنب، إضافة إلى طرق التعذيب التي ابتدعها الروس. إذ ذكرت تقارير أن الروس كانوا يقومون بتكسير عظام الأيدي والأرجل بآلات حديدية، ويقومون بفقء الأعين والتعذيب بالصعق الكهربائي، إضافة إلى تجريد المعتقلين من ملابسهم واغتصاب عدد من النساء. وذكرت صحيفة «الصنداي تايمز» البريطانية في تغطية خاصة عن معتقلات التعذيب الروسية في نسبة إلى شهود عيان، أنه يتم إلقاء كل 12 مدنياً شيشانياً في حفرٍ عمقها 9 أمتار في جنوب الشيشان، ويحاط المحتجزون بعدد من الجنود الروس المدججين بالسلاح.

كما وصفت منظمة «هيومان رايتس واتش» في تقريرها السنوي لعام 2004، عمليات اختطاف الآلاف من المواطنين الشيشان التي تقوم به السلطات الروسية، بأنها «جريمة ضد الإنسانية أسوأ من الحرب». وتساءلت المنظمة الحقوقية الدولية في بيان لها عن سبب الصمت الأوروبي على الانتهاكات القانونية الدولية ضد الشيشان! إذ قالت المديرة التنفيذية لقسم أوروبا وآسيا الوسطى في منظمة «هيومان رايتس واتش»: «إن غض الطرف عن الجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية (في الشيشان) أمر غير مقبول أخلاقياً».

وفي تقرير لها في شهر أيار (مايو) 2005، أعادت منظمة «هيومان رايتس واتش» تأكيدها على انه مع استمرار «حالات الاختفاء»، (وهو ما يعرف بالاختطاف) على نطاق واسع في الشيشان، فإن تلك الممارسات ارتقت الى مستوى ارتكاب «جرائم ضد الإنسانية» لا يجوز السكوت عليها.

لم يكن الموقف الأميركي أحسن حالاً من موقف حليفه الأوروبي، فقد أدارت الولايات المتحدة ظهرها لجميع النداءات الدولية المطالبة بالتدخل العاجل، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه مما تبقى من ضحايا الحرب الروسية الثانية على الشيشان التي جاوزت مدتها ثماني سنوات.

بيد أن الحكومة الأميركية تتحمل من المسؤولية الدولية ما لا يتحمله غيرها، إذ إن الولايات المتحدة نصبت نفسها حامية للحقوق والحريات في العالم، وما زالت تفتخر بما تزعم أنها حققته في نشر الديموقراطيات وترسيخ الحريات في دول أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية وأفغانستان والعراق ولبنان وغيرها.

ولعل الأسئلة التي تبحث عن إجابة هي: أين موقف الحكومة الأميركية من الانتهاكات الروسية في الشيشان منذ أن قدم تقرير منظمة حقوق الإنسان في آذار (مارس) 2000؟ ولماذا لم تعترض الولايات المتحدة على الاستخدام المفرط للقوة من جانب القوات الروسية ضد المدنيين الشيشان في الوقت الذي استخدمت فيه الإدارات الأميركية المتعاقبة كل ضغوطها على مجلس الأمن لتستصدر أكثر من 40 قراراً ضد العراق عندما كانت الشكوك أنه يسعى للحصول على أسلحة دمار شامل؟

وكيف استطاع الصبر الأميركي أن يحتمل اغتيال رؤساء عدة في الشيشان من السلطات الروسية، في حين لم تحتمل الحكومة الأميركية مسألة اغتيال رئيس وزراء سابق في لبنان، الأمر الذي دعاها لبسط نفوذها واستصدار أكثر من ستة قرارات من مجلس الأمن، وعقد ما يربو على 20 جلسة للمجلس حول خطورة اغتيال رئيس وزراء سابق؟

فخلال عشر سنين، اغتالت السلطات الروسية أربعة رؤساء للشيشان، كان آخرهم مسخادوف الرئيس الشرعي دونما أي اعتراض من الولايات المتحدة أو بقية دول أوروبا، الأمر الذي حمل الكاتب الفرنسي أندريه غلوكسمان لأن يوجه خطاباً في صحيفة «الليموند» الفرنسية لشيراك وشرودر قائلاً: «تقبلوا يا سادة امتنان قيصر الكرملين، تقبلوا شكره لموقفكم الصامت بعد أن اغتالت قواته الرئيس الشرعي مسخادوف الذي شهدت بشرعيته المنظمات الدولية».

ولماذا لم تسع الولايات المتحدة من خلال مجلس الأمن لشجب الانتهاكات الروسية الخطرة للقانون الدولي الإنساني، بما في ذلك الجرائم المعروفة «بجرائم حرب» التي لا تزال تتواصل؟ بل إنه لم يصدر قرار واحد عن مجلس الأمن يعبر عن مجرد اهتمامه بالوضع الشيشاني، في حين أصدر المجلس - بفضل المساعي الأميركية الحثيثة - أكثر من 15 قراراً حول الأوضاع في دارفور في أقل من ثلاثة أعوام.

أسئلة قد تكون إجابتها حاضرة عند رجل الشارع الشيشاني قبل رجل القانون الدولي. فالشعب الشيشاني يعلم جيداً اليوم أن يد «العدالة الأميركية» لن تمتد إليه لتنقذه من براثن الظلم الروسي، إلا كما انتشلت الشعبين الأفغاني والعراقي، وكما تريد أن تنتشل شعب دارفور من ورطته!


حقوقي دولي.