سلسبيل
10-24-2006, 02:08 PM
قاتلت في صفوف «فتح» بالجنوب اللبناني قبل الذهاب إلى افغانستان
تخيلنا أن الأمل سيتحقق في أفغانستان وتخرج جيوش الفتح الإسلامي من هناك وكنا مخطئين
* سؤال من أفغاني غاضب «انت ليش يجي هون؟ ليش ماتسوي جهاد في فلسطين؟» أثار أوجاعنا ووضع النقاط على الحروف
لندن: محمد الشافعي
يطل ابو الوليد المصري منظر «الافغان العرب» وصهر سيف العدل القائد العسكري لـ«القاعدة» من مخبئه (حسب اصوليين في لندن)، داخل افغانستان بالقرب من الشريط الحدودي مع باكستان بكتاب جديد، بحثت عنه «الشرق الاوسط» طويلا، وعثرت عليه في احد المواقع البحثية التابعة لوزارة الدفاع الاميركية (البنتاغون)، مع عشرات من الوثائق ومراسلات قادة «القاعدة» السرية، التي عثرت عليها القوات الاميركية في كابل وقندهار، بعد سقوط حركة طالبان نهاية عام 2001.
والوثائق الجديدة التي تنشرها مواقع تابعة للمؤسسة العسكرية الاميركية تعتبر ثروة للدارسين، قد لا تقدر بثمن، بينها رسائل كتبها أسامة بن محمد بن لادن وأمهرها بتوقيعه، واخرى رسائل نصيحة لابن لادن بعد هجمات سبتمبر، واخرى «تكفيرية» من اصوليين مصريين لهم باع طويل، كانوا يقيمون في بيشاور، يردون على ابو قتادة الزعيم الروحي لـ«القاعدة» في اوروبا، الذي يدافع عن حركة طالبان، وعشرات من بيانات مكتب «النصيحة والاصلاح» بلندن، الذي كان يديره الاسلامي خالد الفواز (سعودي) قبل اعتقاله في لندن، إضافة إلى مجموعة من أدبيات تنظيم «القاعدة» وأهدافه وشروط الالتحاق بمعسكراته.
واغلب تلك الوثائق عثر عليها الجيش الاميركي في قندهار ووزير ستان بكابل في منازل قادة «القاعدة». وكتاب ابو الوليد المصري الجديد اسمه «ثرثرة فوق سقف العالم»، كتبه في معسكر الفاروق بخوست عام 1994، وتحدث فيه عن اسباب ذهاب العرب الى افغانستان. ويقول «سمعت هذا السؤال مرات عديدة من اصدقاء وزملاء ومعارف ومن اناس لا أعرفهم، كما سمعته في رحلتي الاولى لافغانستان عندما سألني شاب افغاني غاضبا: انت ليش يجي هون؟ ليش ماتسوي جهاد في فلسطين ؟
قالها بعربية ركيكة، وكان السؤال مفاجئا ومثيرا لكثير من الاوجاع». وكأنه يتوقع المستقبل فيقول: «ان هذا الكتاب لن يجد اصدقاء، لا على المستوى الدولي ولا على مستوى القوى الاسلامية المؤثرة على الساحة، والمتوقع ان ترقد هذه الاوراق في قاع احد الادراج، حتى تأكلها الفئران او العثة، او ان يجعل الله لها فرجا، ويقضي الله من يتولى طباعتها ونشرها كأثر يحمل عبق الماضي». يعتبر ابو الوليد المصري من اقدم المقاتلين العرب في افغانستان، وهو صحافي مصري غطى التجربة الافغانية بقلمه لصحيفة خليجية، ووقع ابو الوليد المصري كتاب «ثرثرة فوق سقف العالم» باسمه الحقيقي مصطفى حامد، رغم ان كتابه السابق حول «الافغان العرب»، الذي نشرته «الشرق الاوسط» على حلقات قبل عامين، وتضمن انتقادات حادة لاسلوب عمل اسامة ابن لادن زعيم «القاعدة»، الذي وصفه بانه يفتقر للحكمة في افغانستان، لم يتضمن الاشارة الى اسمه الحقيقي لا من قريب ولا من بعيد. وكان ابو الوليد حتى ايام قليلة من سقوط طالبان يشرف على النسخة العربية من مجلة «الامارة»، التي تصدرها طالبان في افغانستان، من مقر اقامته في قندهار.
وعرف ابو الوليد بين الاسلاميين في لندن باسم هاشم المكي، وكانت «الشرق الأوسط»، قد نشرت له عدة مقالات بعد سقوط طالبان، انتقد فيها بن لادن ورؤيته «الاستراتيجية» في تفاقم الصراع مع الاميركيين، التي ادت تبعا لذلك الى خسارة «الافغان العرب» لدولة طالبان، التي عاشوا تحت ظلها في أمن وأمان، مشيرا الى ان الاميركيين اوهموا بن لادن بأنه «قوة عظمى مخيفة»، مما اثار حفيظة عدد كبير من قادة الحركة الاصولية في بريطانيا ضده.
وفي كتابه الجديد يقول ابو الوليد المصري: «مضى على فتح كابل على ايدي المجاهدين ما يقارب الثلاثين شهرا، وفي هذا المنفى الجبلي في منطقة خوست شرعت في تحقيق حلم قديم، هو وضع كتاب عن أفغانستان. وليس هناك أسوأ من هذا التوقيت للكتابة عن أفغانستان. فقد استدار الزمان وتبدلت المصالح وأسفرت الوجوه عن ملامحها الأصلية بعد طول تكلف وخداع. وانتهى أحد الفصول الكالحة في لعبة الأمم، تلك اللعبة الشيطانية التي لا تبالي بدين أو دماء. فاز الأقوياء بالغنائم الضخمة وانتزعوا حتى الفتات من أفواه حلفائهم، ورضي الذين باعوا دينهم بقشور تافهة من حظوظ الدنيا باعوا بها الدين كما باعوا دماء إخوانهم، وضربوا أمتهم في مقتل وصدموها في عقائدها وآمالها. مضى الوقت الذي كانت فيه الكتابة عن أفغانستان مشروعاً تجاريا ناجحاً.
طوال عقد الثمانينات كانت أفغانستان هي الحدث الأول على الساحة الدولية ـ وبالتالي الساحة الإسلامية ـ وقرر الغرب بزعامة أميركا أن يلعب بالورقة الإسلامية لإحراج منافسه السوفياتي. وأعطيت الأضواء الخضراء كي تنطلق أكبر حملة مساندة في العالم الإسلامي خلال هذا القرن لنصرة الجهاد الأفغاني بالأموال، بدماء الشباب، بالإعلام. وصارت أفغانستان قضية المسلمين الأولى. وما أن اتم السوفيات انسحابهم من أفغانستان، ثم سقط النظام الشيوعي في كابل بعد ذلك بثلاث سنوات تقريباً، حتى انقلبت الصورة رأساً على عقب وتبدلت المواقف والتحالفات. تحول الأعداء إلى أصدقاء، والأصدقاء إلى أعداء، وتحول المجاهد مجرماً مطارداً، والمجرمون أصبحوا زعماء مسيطرين وزالت الايديولوجيات وعم السلام تحت راية القطب الأوحد، ولم يتبق للعالم أجمع إلا عدو واحد هو: الأصولية الإسلامية. وجاءنا نظام دولي جديد يدافع عن حقوق الإنسان وحرية التجارة وينشر الديمقراطية. ولا يرى غير الإسلام عدوا لدودا يهدد طريقته المثلى ويظهر في الأرض الفساد».
وينتقل ابو الوليد الى الحديث عن اثار نصر المجاهدين في افغانستان بعد طرد السوفيات فيقول: «أما على الجانب الإسلامي فقد تحول إلى كارثة إسلامية شاملة، في صورة حرب صليبية دولية ضد الإسلام، كان أول من دفع ثمنها هو الشعب الأفغاني نفسه، الذي أوقدوا على أرضه حربا حزبية قومية تدمر أول ما تدمر آثار الجهاد، بل آثار الإسلام في تلك البلاد، التي شهدت أكبر نصر عسكري للمسلمين منذ عدة قرون. وأول من دفع ثمن النصر الإسلامي في أفغانستان، هم هؤلاء المتطوعون العرب الذين نالوا النصيب الأوفى من الاضطهاد والملاحقة وتشويه السمعة، سواء من الغرب أو الحكومات الإسلامية، خاصة في باكستان أو الحكومة الإسلامية في أفغانستان نفسها، وتلك أعظم المفارقات وأكثرها إيلاما. ورغم تفوق تكنولوجيا السلاح في الغرب، إلا أن حملاته الإعلامية أشد فعالية وتأثيرا من حملاته العسكرية. ومن الواضح أن المال والإعلام هما السلاحان الرئيسيان في يد اليهود للسيطرة على الغرب، ومن ثم العالم بأجمعه.
وقد تسلطت الآلة الإعلامية الدولية على رأس المتطوعين العرب في أفغانستان، حتى صاروا أشد فئات المجرمين الدوليين خطورة في نظر العامة وليس فقط الحكومات. لقد تشتت ذلك التجمع النادر المثال ولوحق في أصقاع الأرض، ومن تبقى حتى الآن في أفغانستان ـ لا يتعدى عدة عشرات ـ يعيش على خوف وتوجس من بوادر انقلاب أفغاني ضدهم بتحريض أميركي ـ إسلامي. ذلك المجهود الإعلامي الدولي الذي ساهم في جعل أفغانستان قضية العالم الأولى لأكثر من عشر سنوات، أعمل معاول الهدم في الشعب الأفغاني نفسه وشوه صورته عالمياً. وهكذا فإن من ساهموا في صنع ذلك النصر التاريخي على أرض أفغانستان تحولوا جميعاً إلى مجرمين منبوذين على مستوى العالم أجمع ـ يستوي في ذلك العرب والأفغان ـ بينما فازت أميركا بصدارة العالم بلا منازع وإلى حين إشعار آخر. وعن التوقيت التاريخي لكتابه «ثرثرة فوق سقف العالم» يقول ابو الوليد:
«في هذا الوقت الكالح والظروف الكئيبة أشرع في كتابة هذا الكتاب. إن توقيت الكتابة يجعل هذا الكتاب مشروعا تجاريا فاشلا. لقد ذهب إلى غير رجعة ذلك الزمان الذي كان المسلمون والعالم أجمع يقرأون ويتابعون بنهم كل ما ينشر عن أفغانستان. ورغم أنني حضرت وتابعت المشكلة منذ بدايتها المبكرة في مايو (ايار) 1979، إلا أنني امتنعت عن إصدار الكتب رغم إلحاح بعض الزملاء ورواج السوق في ذلك الوقت. والسبب هو أن متطلبات السوق، سواء سوق النشر أو السوق السياسي، لم تكن مناسبة بالمرة كي أكتب ما أرى أنه الحقيقة. فإما أن أقول نعم لكل ما يحدث على الجانب الأفغاني والحليف له، أو أقول لا وأدخل في المعسكر الآخر جملة وتفصيلا. وكنت أرى أن كلا المعسكرين نعم ولا، لا يعبر عن مصالح المسلمين بقدر ما يعبر عن مصالح التكتل الدولي آنذاك. كانت نعم أو لا كلاهما تحقق الشهرة والمال معاً، ومن المؤسف أن موقف المجلات الإسلامية والكتاب الإسلاميين كان يتملق ويستثير عواطف المسلمين، وهو مدخل سهل ورخيص لاكتساب المجد والغنى، ولكن عمليات خداع بهذا الشكل تنتهي دوما بكوارث مفجعة تضر بأجيال المسلمين ومسيرة الإسلام حاضرا ومستقبلا، وهذا ما حدث في أفغانستان، بكل أسف، إن قول الحقيقة شيء صعب في الحياة العادية، وتزداد الصعوبة إذا تعلقت الحقيقة بحالة حرب اختلطت فيها عوامل الدين والمصالح لأطراف متعارضة في كل شيء والبحث عن الحقيقة ومحاولة نشرها على الملأ في تلك الأحوال، إنما هي عملية انتحار مع سبق الإصرار، لأن المقاومة لهذا العمل لن تأتي من أحد طرفي الصراع، بل من كليهما معا. إن أطناناً من المطبوعات ومليارات من الجمل طارت في الأثير تتحدث عن أفغانستان لأكثر من عشر سنوات، ومع ذلك فإن حقيقة ما حدث في أفغانستان ما زالت مجهولة لدى معظم الناس، وما زالت عملية البحث عن الحقيقة ونشرها عملية صعبة للغاية وتكاد تكون مستحيلة، لأن بعض أطراف المأساة ـ أو معظمهم ـ ما زالوا نشيطين في مسرح الأحداث ومنغمسين في تصنيع مزيد من المآسي الدامية للمسلمين».
ويضيف «وزاد في الأمر صعوبة تلك الهيمنة الأحادية للولايات المتحدة على شؤون العالم أجمع. فاختفى ذلك الهامش الضيق الذي كانت تطل منه الحقيقة من خلال تناقض المصالح بين المتنافسين في الشرق والغرب. تلك الهيمنة الأحادية أوضحت بشكل جلي تلك السيطرة المدمرة للقوى اليهودية على العالم أجمع، من خلال سيطرتهم المالية الكاسحة ونفاذهم إلى عظام الغرب الاقتصادية والسياسية والفكرية. علينا في ظل هذه الظروف أن نبحث ـ نحن المسلمين ـ عن الحقائق ونعمل على نشرها والاستفادة منها ـ الآن ومستقبلا ـ في إحدى قضايانا الكبيرة في هذا القرن، قضية أفغانستان. ولا أزعم أن هذا الكتاب سوف يحتوي بين دفتيه على تلك الحقيقة المنشودة، فذلك مستحيل لأسباب كثيرة. ولكن ما أطمح إليه هو أن يكون هذا الكتاب مجرد شهادة متجردة من جانب أحد شهود تلك المرحلة الخطيرة. وبالطبع سوف يحمل هذا الكتاب تلك السلبيات الطبيعية لمثل ذلك العمل، مثل محدودية الفترة الزمنية ومحدودية الاحتكاك ومحدودية المعلومات ومحدودية الفهم والتقييم.. الخ. فلا يمكن إذن الزعم بأن الحقيقة قد جاءت أخيرا بين دفتي كتاب. وعلى أفضل الظنون فإن هذا الكتاب سوف ينير جانبا من الحقيقة قد يساعد يوما على اكتشافها. كما أنه سوف يلقي بعض الضوء على شريحة من هؤلاء البشر الذين انخرطوا في تلك التجربة وكابدوها».
ويخصص منظر الافغان العرب، الفصل الاول من كتابه للحديث عن اسباب ذهابه الى افغانستان فيقول: «في بداية عام 1983، كتبت كتابا صغيرا عن أفغانستان كانت تغلب عليه الرومانسية وسألت صديقا له باع طويل في الكتابة أن يقرأه ويكتب لي ملاحظاته. وكانت أول ملاحظة في القائمة هي: لماذا ذهبت إلى هناك؟ ومن حسن حظ القراء أنني لم أنشر ذلك الكتاب وما زال راقدا في أحد الأدراج، بعد أن فقدت بعض أجزائه. كنت ما زلت شابا في الرابعة والثلاثين من عمري، عندما ذهبت لأول مرة إلى أفغانستان وكنت في العام السابق لذلك قد تطوعت للقتال ضد اليهود في جنوب لبنان، في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية (فتح) إثر الاجتياح الإسرائيلي للجنوب عام 1978. كانت لي لحية صغيرة وأنيقة في ذلك الوقت وسبق لي الحج مرتين، لذا فقد كانت إجابتي بأنني مسافر من أجل الجهاد في سبيل الله مقنعة تماما للبعض، بل مصدر سعادة لهم.
أما الأكثر حيطة وذكاء فقد وضعوا افتراضات عديدة، منها أنني قد تزوجت بامرأة أخرى في أفغانستان أو باكستان. وقال آخرون: بل لقد ناء بمسؤولياته العائلية وكثرة أبنائه فهو يريد التخلص من حياته. وقال لي أحد بلدياتي: إنهم يقولون عنك أنك تسافر إلى تلك البلاد بهدف الاتجار في المخدرات. أما هؤلاء الأكثر ثقافة فقد وضعوا نظرية أكثر حداثة تقول: القضية الأفغانية ما هي إلا لعبة أميركية ضد المعسكر الاشتراكي والأفغاني عملاء لأميركا والإمبريالية، أما هو فليس إلا مثلهم. عندما بدأ تواجد المجاهدين العرب في افغانستان يصبح ملحوظا، كنت قد بدأت رحلتي في سن الاربعين وما بعده. كانوا في اغلبهم في العشرينات من العمر ويندر فيهم من تخطى الثلاثين. وقد أثر ذلك في علاقتي بهؤلاء الذين مثلوا ظاهرة فريدة في ذلك العصر، وكان فارق السن اضافة لعوامل كثيرة ـ سيأتي ذكرها ـ سببا في كون العلاقة لم تكن مريحة او مثمرة». ويضيف «في البداية كنت انظر حولي واشعر بغصة الا اجد احدا من ابناء جيلي. لذلك شعرت بالفرح عندما قابلت الشيخ عبد الله عزام لأول مرة في بيشاور في نوفمبر (تشرين الاول) 1984، كان من نفس الجيل وان كان اكبر مني بثلاث سنوات، يومها شعرت بانني لست وحيدا. ولكن لسوء الحظ، فان اختلاف رؤيتنا للاحداث ومواقفنا منها ادى لأن تكون علاقتي معه فاترة ومتحفظة وان سادها الاحترام المتبادل.
هناك خيط مشترك يربط ابناء الجيل الواحد مع بعضهم بعضا بسبب معايشتهم لنفس الظروف والاحداث، لهذا كان هناك قدر مشترك ـ لا بأس به ـ بيني وبين الشيخ عبد الله عزام تجاه قضية افغانستان والموقف منها بشكل عام. وكانت اكبر نقاط التنافر بين مواقفنا هو تقييم قادة الاحزاب الافغانية ودورهم في القضية. فبينما مضى هو الى اقصى حد في تمجيدهم (خاصة الثلاثي سياف، حكمتيار، رباني) ذهبت انا الى الطرف المناقض تماما. لقد كنت متفقا مع الشيخ عبد الله على أن الجهاد هو الوسيلة الوحيدة امام الأمة الاسلامية للدفاع عن دينها ومصالحها، في مواجهة القوى المتكالبة عليها، وان المعركة الرئيسية للمسلمين هي معركتهم مع اليهود والصليبية المتحالفة معهم، وان افغانستان هي فرصة نادرة لمسيرة الجهاد التي ينبغي ان تستمر وتتصاعد وان تكون افغانستان هي المدرسة الكبرى للممارسة العملية على نطاق الأمة.
ان جيلنا كان وافر الحظ مع الحروب، فقد جاء جيلنا الى الحياة مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وقبل ان يدرك ما حوله نشبت حرب 1948، بين اليهود والعرب وضاعت معظم فلسطين وظهرت اسرائيل كأبشع حقيقة سياسية في حياة العرب المعاصرين. تلتها سلسلة من الانقلابات في العالم العربي كرست عملية الانتقال من التبعية للاستعمار البريطاني والفرنسي الى التبعية الجديدة للامبريالية الأميركية، ثم جاءت حرب 1956، بين مصر من جانب واسرائيل مدعومة بفرنسا وبريطانيا من جانب آخر، وفي عام 1967 كانت ابشع الهزائم العربية في التاريخ الحديث امام اسرائيل وضاعت بقية فلسطين مع مساحات شاسعة من الاراضي المصرية والسورية. وفي عام 1973، كانت حرب التحريك بين مصر وسورية من جانب واسرائيل من الجانب الآخر وفعلا تحركت المنطقة نحو مسيرة طويلة للتسوية السلمية مع اسرائيل لتنتهي بها الى استسلام كامل للهيمنة الاسرائيلية على كامل المنطقة العربية تقريبا مع اعتراف بالقطب الأميركي المسيطر الأوحد على الساحة الدولية».
ويقول ابو الوليد «في ابريل (نيسان) 1978، كان الانقلاب الشيوعي في افغانستان تلاه الغزو السوفياتي في ديسمبر (كانون الاول) 1979، وبدأ نجم الجهاد في افغانستان يبزغ على استحياء حتى تلقفته الدوامة الدولية، ولمدة عشر سنوات كان الجهاد والمجاهدون في افغانستان هم حديث الساعة عالميا. بدا لنا ان الفرصة سانحة وان الراية التي رفعت في جبال افغانستان ينبغي ان تظل خفاقة حتى النصر وان تواصل المسير في الافاق حتى تعود للمسلمين دولتهم وعزتهم. هكذا كنا نحلم. وفي هذا الاتجاه حاولنا ان نعمل. اما النتائج فكانت شيئا اخر. كانت هناك عدة فروق بين الحرب في افغانستان والحروب التي شهدتها المنطقة العربية مع اسرائيل. وهي فروق ادهشت الشعوب العربية وجعلت الاسلاميين فيها ينجذبون اليها.
تخيلنا أن الأمل سيتحقق في أفغانستان وتخرج جيوش الفتح الإسلامي من هناك وكنا مخطئين
* سؤال من أفغاني غاضب «انت ليش يجي هون؟ ليش ماتسوي جهاد في فلسطين؟» أثار أوجاعنا ووضع النقاط على الحروف
لندن: محمد الشافعي
يطل ابو الوليد المصري منظر «الافغان العرب» وصهر سيف العدل القائد العسكري لـ«القاعدة» من مخبئه (حسب اصوليين في لندن)، داخل افغانستان بالقرب من الشريط الحدودي مع باكستان بكتاب جديد، بحثت عنه «الشرق الاوسط» طويلا، وعثرت عليه في احد المواقع البحثية التابعة لوزارة الدفاع الاميركية (البنتاغون)، مع عشرات من الوثائق ومراسلات قادة «القاعدة» السرية، التي عثرت عليها القوات الاميركية في كابل وقندهار، بعد سقوط حركة طالبان نهاية عام 2001.
والوثائق الجديدة التي تنشرها مواقع تابعة للمؤسسة العسكرية الاميركية تعتبر ثروة للدارسين، قد لا تقدر بثمن، بينها رسائل كتبها أسامة بن محمد بن لادن وأمهرها بتوقيعه، واخرى رسائل نصيحة لابن لادن بعد هجمات سبتمبر، واخرى «تكفيرية» من اصوليين مصريين لهم باع طويل، كانوا يقيمون في بيشاور، يردون على ابو قتادة الزعيم الروحي لـ«القاعدة» في اوروبا، الذي يدافع عن حركة طالبان، وعشرات من بيانات مكتب «النصيحة والاصلاح» بلندن، الذي كان يديره الاسلامي خالد الفواز (سعودي) قبل اعتقاله في لندن، إضافة إلى مجموعة من أدبيات تنظيم «القاعدة» وأهدافه وشروط الالتحاق بمعسكراته.
واغلب تلك الوثائق عثر عليها الجيش الاميركي في قندهار ووزير ستان بكابل في منازل قادة «القاعدة». وكتاب ابو الوليد المصري الجديد اسمه «ثرثرة فوق سقف العالم»، كتبه في معسكر الفاروق بخوست عام 1994، وتحدث فيه عن اسباب ذهاب العرب الى افغانستان. ويقول «سمعت هذا السؤال مرات عديدة من اصدقاء وزملاء ومعارف ومن اناس لا أعرفهم، كما سمعته في رحلتي الاولى لافغانستان عندما سألني شاب افغاني غاضبا: انت ليش يجي هون؟ ليش ماتسوي جهاد في فلسطين ؟
قالها بعربية ركيكة، وكان السؤال مفاجئا ومثيرا لكثير من الاوجاع». وكأنه يتوقع المستقبل فيقول: «ان هذا الكتاب لن يجد اصدقاء، لا على المستوى الدولي ولا على مستوى القوى الاسلامية المؤثرة على الساحة، والمتوقع ان ترقد هذه الاوراق في قاع احد الادراج، حتى تأكلها الفئران او العثة، او ان يجعل الله لها فرجا، ويقضي الله من يتولى طباعتها ونشرها كأثر يحمل عبق الماضي». يعتبر ابو الوليد المصري من اقدم المقاتلين العرب في افغانستان، وهو صحافي مصري غطى التجربة الافغانية بقلمه لصحيفة خليجية، ووقع ابو الوليد المصري كتاب «ثرثرة فوق سقف العالم» باسمه الحقيقي مصطفى حامد، رغم ان كتابه السابق حول «الافغان العرب»، الذي نشرته «الشرق الاوسط» على حلقات قبل عامين، وتضمن انتقادات حادة لاسلوب عمل اسامة ابن لادن زعيم «القاعدة»، الذي وصفه بانه يفتقر للحكمة في افغانستان، لم يتضمن الاشارة الى اسمه الحقيقي لا من قريب ولا من بعيد. وكان ابو الوليد حتى ايام قليلة من سقوط طالبان يشرف على النسخة العربية من مجلة «الامارة»، التي تصدرها طالبان في افغانستان، من مقر اقامته في قندهار.
وعرف ابو الوليد بين الاسلاميين في لندن باسم هاشم المكي، وكانت «الشرق الأوسط»، قد نشرت له عدة مقالات بعد سقوط طالبان، انتقد فيها بن لادن ورؤيته «الاستراتيجية» في تفاقم الصراع مع الاميركيين، التي ادت تبعا لذلك الى خسارة «الافغان العرب» لدولة طالبان، التي عاشوا تحت ظلها في أمن وأمان، مشيرا الى ان الاميركيين اوهموا بن لادن بأنه «قوة عظمى مخيفة»، مما اثار حفيظة عدد كبير من قادة الحركة الاصولية في بريطانيا ضده.
وفي كتابه الجديد يقول ابو الوليد المصري: «مضى على فتح كابل على ايدي المجاهدين ما يقارب الثلاثين شهرا، وفي هذا المنفى الجبلي في منطقة خوست شرعت في تحقيق حلم قديم، هو وضع كتاب عن أفغانستان. وليس هناك أسوأ من هذا التوقيت للكتابة عن أفغانستان. فقد استدار الزمان وتبدلت المصالح وأسفرت الوجوه عن ملامحها الأصلية بعد طول تكلف وخداع. وانتهى أحد الفصول الكالحة في لعبة الأمم، تلك اللعبة الشيطانية التي لا تبالي بدين أو دماء. فاز الأقوياء بالغنائم الضخمة وانتزعوا حتى الفتات من أفواه حلفائهم، ورضي الذين باعوا دينهم بقشور تافهة من حظوظ الدنيا باعوا بها الدين كما باعوا دماء إخوانهم، وضربوا أمتهم في مقتل وصدموها في عقائدها وآمالها. مضى الوقت الذي كانت فيه الكتابة عن أفغانستان مشروعاً تجاريا ناجحاً.
طوال عقد الثمانينات كانت أفغانستان هي الحدث الأول على الساحة الدولية ـ وبالتالي الساحة الإسلامية ـ وقرر الغرب بزعامة أميركا أن يلعب بالورقة الإسلامية لإحراج منافسه السوفياتي. وأعطيت الأضواء الخضراء كي تنطلق أكبر حملة مساندة في العالم الإسلامي خلال هذا القرن لنصرة الجهاد الأفغاني بالأموال، بدماء الشباب، بالإعلام. وصارت أفغانستان قضية المسلمين الأولى. وما أن اتم السوفيات انسحابهم من أفغانستان، ثم سقط النظام الشيوعي في كابل بعد ذلك بثلاث سنوات تقريباً، حتى انقلبت الصورة رأساً على عقب وتبدلت المواقف والتحالفات. تحول الأعداء إلى أصدقاء، والأصدقاء إلى أعداء، وتحول المجاهد مجرماً مطارداً، والمجرمون أصبحوا زعماء مسيطرين وزالت الايديولوجيات وعم السلام تحت راية القطب الأوحد، ولم يتبق للعالم أجمع إلا عدو واحد هو: الأصولية الإسلامية. وجاءنا نظام دولي جديد يدافع عن حقوق الإنسان وحرية التجارة وينشر الديمقراطية. ولا يرى غير الإسلام عدوا لدودا يهدد طريقته المثلى ويظهر في الأرض الفساد».
وينتقل ابو الوليد الى الحديث عن اثار نصر المجاهدين في افغانستان بعد طرد السوفيات فيقول: «أما على الجانب الإسلامي فقد تحول إلى كارثة إسلامية شاملة، في صورة حرب صليبية دولية ضد الإسلام، كان أول من دفع ثمنها هو الشعب الأفغاني نفسه، الذي أوقدوا على أرضه حربا حزبية قومية تدمر أول ما تدمر آثار الجهاد، بل آثار الإسلام في تلك البلاد، التي شهدت أكبر نصر عسكري للمسلمين منذ عدة قرون. وأول من دفع ثمن النصر الإسلامي في أفغانستان، هم هؤلاء المتطوعون العرب الذين نالوا النصيب الأوفى من الاضطهاد والملاحقة وتشويه السمعة، سواء من الغرب أو الحكومات الإسلامية، خاصة في باكستان أو الحكومة الإسلامية في أفغانستان نفسها، وتلك أعظم المفارقات وأكثرها إيلاما. ورغم تفوق تكنولوجيا السلاح في الغرب، إلا أن حملاته الإعلامية أشد فعالية وتأثيرا من حملاته العسكرية. ومن الواضح أن المال والإعلام هما السلاحان الرئيسيان في يد اليهود للسيطرة على الغرب، ومن ثم العالم بأجمعه.
وقد تسلطت الآلة الإعلامية الدولية على رأس المتطوعين العرب في أفغانستان، حتى صاروا أشد فئات المجرمين الدوليين خطورة في نظر العامة وليس فقط الحكومات. لقد تشتت ذلك التجمع النادر المثال ولوحق في أصقاع الأرض، ومن تبقى حتى الآن في أفغانستان ـ لا يتعدى عدة عشرات ـ يعيش على خوف وتوجس من بوادر انقلاب أفغاني ضدهم بتحريض أميركي ـ إسلامي. ذلك المجهود الإعلامي الدولي الذي ساهم في جعل أفغانستان قضية العالم الأولى لأكثر من عشر سنوات، أعمل معاول الهدم في الشعب الأفغاني نفسه وشوه صورته عالمياً. وهكذا فإن من ساهموا في صنع ذلك النصر التاريخي على أرض أفغانستان تحولوا جميعاً إلى مجرمين منبوذين على مستوى العالم أجمع ـ يستوي في ذلك العرب والأفغان ـ بينما فازت أميركا بصدارة العالم بلا منازع وإلى حين إشعار آخر. وعن التوقيت التاريخي لكتابه «ثرثرة فوق سقف العالم» يقول ابو الوليد:
«في هذا الوقت الكالح والظروف الكئيبة أشرع في كتابة هذا الكتاب. إن توقيت الكتابة يجعل هذا الكتاب مشروعا تجاريا فاشلا. لقد ذهب إلى غير رجعة ذلك الزمان الذي كان المسلمون والعالم أجمع يقرأون ويتابعون بنهم كل ما ينشر عن أفغانستان. ورغم أنني حضرت وتابعت المشكلة منذ بدايتها المبكرة في مايو (ايار) 1979، إلا أنني امتنعت عن إصدار الكتب رغم إلحاح بعض الزملاء ورواج السوق في ذلك الوقت. والسبب هو أن متطلبات السوق، سواء سوق النشر أو السوق السياسي، لم تكن مناسبة بالمرة كي أكتب ما أرى أنه الحقيقة. فإما أن أقول نعم لكل ما يحدث على الجانب الأفغاني والحليف له، أو أقول لا وأدخل في المعسكر الآخر جملة وتفصيلا. وكنت أرى أن كلا المعسكرين نعم ولا، لا يعبر عن مصالح المسلمين بقدر ما يعبر عن مصالح التكتل الدولي آنذاك. كانت نعم أو لا كلاهما تحقق الشهرة والمال معاً، ومن المؤسف أن موقف المجلات الإسلامية والكتاب الإسلاميين كان يتملق ويستثير عواطف المسلمين، وهو مدخل سهل ورخيص لاكتساب المجد والغنى، ولكن عمليات خداع بهذا الشكل تنتهي دوما بكوارث مفجعة تضر بأجيال المسلمين ومسيرة الإسلام حاضرا ومستقبلا، وهذا ما حدث في أفغانستان، بكل أسف، إن قول الحقيقة شيء صعب في الحياة العادية، وتزداد الصعوبة إذا تعلقت الحقيقة بحالة حرب اختلطت فيها عوامل الدين والمصالح لأطراف متعارضة في كل شيء والبحث عن الحقيقة ومحاولة نشرها على الملأ في تلك الأحوال، إنما هي عملية انتحار مع سبق الإصرار، لأن المقاومة لهذا العمل لن تأتي من أحد طرفي الصراع، بل من كليهما معا. إن أطناناً من المطبوعات ومليارات من الجمل طارت في الأثير تتحدث عن أفغانستان لأكثر من عشر سنوات، ومع ذلك فإن حقيقة ما حدث في أفغانستان ما زالت مجهولة لدى معظم الناس، وما زالت عملية البحث عن الحقيقة ونشرها عملية صعبة للغاية وتكاد تكون مستحيلة، لأن بعض أطراف المأساة ـ أو معظمهم ـ ما زالوا نشيطين في مسرح الأحداث ومنغمسين في تصنيع مزيد من المآسي الدامية للمسلمين».
ويضيف «وزاد في الأمر صعوبة تلك الهيمنة الأحادية للولايات المتحدة على شؤون العالم أجمع. فاختفى ذلك الهامش الضيق الذي كانت تطل منه الحقيقة من خلال تناقض المصالح بين المتنافسين في الشرق والغرب. تلك الهيمنة الأحادية أوضحت بشكل جلي تلك السيطرة المدمرة للقوى اليهودية على العالم أجمع، من خلال سيطرتهم المالية الكاسحة ونفاذهم إلى عظام الغرب الاقتصادية والسياسية والفكرية. علينا في ظل هذه الظروف أن نبحث ـ نحن المسلمين ـ عن الحقائق ونعمل على نشرها والاستفادة منها ـ الآن ومستقبلا ـ في إحدى قضايانا الكبيرة في هذا القرن، قضية أفغانستان. ولا أزعم أن هذا الكتاب سوف يحتوي بين دفتيه على تلك الحقيقة المنشودة، فذلك مستحيل لأسباب كثيرة. ولكن ما أطمح إليه هو أن يكون هذا الكتاب مجرد شهادة متجردة من جانب أحد شهود تلك المرحلة الخطيرة. وبالطبع سوف يحمل هذا الكتاب تلك السلبيات الطبيعية لمثل ذلك العمل، مثل محدودية الفترة الزمنية ومحدودية الاحتكاك ومحدودية المعلومات ومحدودية الفهم والتقييم.. الخ. فلا يمكن إذن الزعم بأن الحقيقة قد جاءت أخيرا بين دفتي كتاب. وعلى أفضل الظنون فإن هذا الكتاب سوف ينير جانبا من الحقيقة قد يساعد يوما على اكتشافها. كما أنه سوف يلقي بعض الضوء على شريحة من هؤلاء البشر الذين انخرطوا في تلك التجربة وكابدوها».
ويخصص منظر الافغان العرب، الفصل الاول من كتابه للحديث عن اسباب ذهابه الى افغانستان فيقول: «في بداية عام 1983، كتبت كتابا صغيرا عن أفغانستان كانت تغلب عليه الرومانسية وسألت صديقا له باع طويل في الكتابة أن يقرأه ويكتب لي ملاحظاته. وكانت أول ملاحظة في القائمة هي: لماذا ذهبت إلى هناك؟ ومن حسن حظ القراء أنني لم أنشر ذلك الكتاب وما زال راقدا في أحد الأدراج، بعد أن فقدت بعض أجزائه. كنت ما زلت شابا في الرابعة والثلاثين من عمري، عندما ذهبت لأول مرة إلى أفغانستان وكنت في العام السابق لذلك قد تطوعت للقتال ضد اليهود في جنوب لبنان، في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية (فتح) إثر الاجتياح الإسرائيلي للجنوب عام 1978. كانت لي لحية صغيرة وأنيقة في ذلك الوقت وسبق لي الحج مرتين، لذا فقد كانت إجابتي بأنني مسافر من أجل الجهاد في سبيل الله مقنعة تماما للبعض، بل مصدر سعادة لهم.
أما الأكثر حيطة وذكاء فقد وضعوا افتراضات عديدة، منها أنني قد تزوجت بامرأة أخرى في أفغانستان أو باكستان. وقال آخرون: بل لقد ناء بمسؤولياته العائلية وكثرة أبنائه فهو يريد التخلص من حياته. وقال لي أحد بلدياتي: إنهم يقولون عنك أنك تسافر إلى تلك البلاد بهدف الاتجار في المخدرات. أما هؤلاء الأكثر ثقافة فقد وضعوا نظرية أكثر حداثة تقول: القضية الأفغانية ما هي إلا لعبة أميركية ضد المعسكر الاشتراكي والأفغاني عملاء لأميركا والإمبريالية، أما هو فليس إلا مثلهم. عندما بدأ تواجد المجاهدين العرب في افغانستان يصبح ملحوظا، كنت قد بدأت رحلتي في سن الاربعين وما بعده. كانوا في اغلبهم في العشرينات من العمر ويندر فيهم من تخطى الثلاثين. وقد أثر ذلك في علاقتي بهؤلاء الذين مثلوا ظاهرة فريدة في ذلك العصر، وكان فارق السن اضافة لعوامل كثيرة ـ سيأتي ذكرها ـ سببا في كون العلاقة لم تكن مريحة او مثمرة». ويضيف «في البداية كنت انظر حولي واشعر بغصة الا اجد احدا من ابناء جيلي. لذلك شعرت بالفرح عندما قابلت الشيخ عبد الله عزام لأول مرة في بيشاور في نوفمبر (تشرين الاول) 1984، كان من نفس الجيل وان كان اكبر مني بثلاث سنوات، يومها شعرت بانني لست وحيدا. ولكن لسوء الحظ، فان اختلاف رؤيتنا للاحداث ومواقفنا منها ادى لأن تكون علاقتي معه فاترة ومتحفظة وان سادها الاحترام المتبادل.
هناك خيط مشترك يربط ابناء الجيل الواحد مع بعضهم بعضا بسبب معايشتهم لنفس الظروف والاحداث، لهذا كان هناك قدر مشترك ـ لا بأس به ـ بيني وبين الشيخ عبد الله عزام تجاه قضية افغانستان والموقف منها بشكل عام. وكانت اكبر نقاط التنافر بين مواقفنا هو تقييم قادة الاحزاب الافغانية ودورهم في القضية. فبينما مضى هو الى اقصى حد في تمجيدهم (خاصة الثلاثي سياف، حكمتيار، رباني) ذهبت انا الى الطرف المناقض تماما. لقد كنت متفقا مع الشيخ عبد الله على أن الجهاد هو الوسيلة الوحيدة امام الأمة الاسلامية للدفاع عن دينها ومصالحها، في مواجهة القوى المتكالبة عليها، وان المعركة الرئيسية للمسلمين هي معركتهم مع اليهود والصليبية المتحالفة معهم، وان افغانستان هي فرصة نادرة لمسيرة الجهاد التي ينبغي ان تستمر وتتصاعد وان تكون افغانستان هي المدرسة الكبرى للممارسة العملية على نطاق الأمة.
ان جيلنا كان وافر الحظ مع الحروب، فقد جاء جيلنا الى الحياة مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وقبل ان يدرك ما حوله نشبت حرب 1948، بين اليهود والعرب وضاعت معظم فلسطين وظهرت اسرائيل كأبشع حقيقة سياسية في حياة العرب المعاصرين. تلتها سلسلة من الانقلابات في العالم العربي كرست عملية الانتقال من التبعية للاستعمار البريطاني والفرنسي الى التبعية الجديدة للامبريالية الأميركية، ثم جاءت حرب 1956، بين مصر من جانب واسرائيل مدعومة بفرنسا وبريطانيا من جانب آخر، وفي عام 1967 كانت ابشع الهزائم العربية في التاريخ الحديث امام اسرائيل وضاعت بقية فلسطين مع مساحات شاسعة من الاراضي المصرية والسورية. وفي عام 1973، كانت حرب التحريك بين مصر وسورية من جانب واسرائيل من الجانب الآخر وفعلا تحركت المنطقة نحو مسيرة طويلة للتسوية السلمية مع اسرائيل لتنتهي بها الى استسلام كامل للهيمنة الاسرائيلية على كامل المنطقة العربية تقريبا مع اعتراف بالقطب الأميركي المسيطر الأوحد على الساحة الدولية».
ويقول ابو الوليد «في ابريل (نيسان) 1978، كان الانقلاب الشيوعي في افغانستان تلاه الغزو السوفياتي في ديسمبر (كانون الاول) 1979، وبدأ نجم الجهاد في افغانستان يبزغ على استحياء حتى تلقفته الدوامة الدولية، ولمدة عشر سنوات كان الجهاد والمجاهدون في افغانستان هم حديث الساعة عالميا. بدا لنا ان الفرصة سانحة وان الراية التي رفعت في جبال افغانستان ينبغي ان تظل خفاقة حتى النصر وان تواصل المسير في الافاق حتى تعود للمسلمين دولتهم وعزتهم. هكذا كنا نحلم. وفي هذا الاتجاه حاولنا ان نعمل. اما النتائج فكانت شيئا اخر. كانت هناك عدة فروق بين الحرب في افغانستان والحروب التي شهدتها المنطقة العربية مع اسرائيل. وهي فروق ادهشت الشعوب العربية وجعلت الاسلاميين فيها ينجذبون اليها.