المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صور من العشر الأواخر من ليالي رمضان في مكة المكرمة



زوربا
10-20-2006, 03:25 PM
الجمعة الحزينة.. آخر جمعة في الشهر الفضيل


مكة المكرمة: عمر المضواحي

عيون المسلمين ترحل إليها كل يوم، ترمق هالات السكينة، وتبكي لحظات الخطايا، وترجو سانحات العفو والمغفرة في مساءات العشر الآواخر من رمضان، وفي أول مكان يعبد فيه الله على الأرض.
مكة في الجمعة الحزينة، حيث تودع أحب الليالي الى الله، تبدو للناظر إليها وكأنها اقتطعت من مشهد يوم المحشر الرهيب، كأن الأرض حشدت فلول لونها الأبيض، وأرغمت سكانها على السفر في اتجاه واحد، حيث بهاء الحجر الأسود.

من زار مكة في رمضان، لا بد وأن عاش تجربة الإيثار وسخاء النفس وأريحية القلوب. فما من طريق خلا من موائد الرحمن، وعلى نواصي الطرقات وعند إشارات المرور يطوف أحفاد رجال السقاية والرفادة قبيل غروب الشمس بأكواب من ماء ولبن وحبات تمر ليطفئوا عطش القادمين الى رحاب مكة، قبل أن تبتل عيونهم ومهجهم برؤية منارات البيت الحرام.

لم يعرف أهل مكة موسما بهذه الكثافة من قبل، فلم يعد في أروقة البيت العتيق ولا باحاته موطئ لقلب، أو سجدة لجبين. وحيثما يممت وجهك في هذا المكان تصافح وجوه القادمين من كل فج عميق، وقد تفجر حنينها للصفا والمروة، وشعائر الله عند الحطيم وزمزم والمقام.

في الساحات المحيطة كسوار للمسجد الحرام تزدحم موائد الرحمن، من كل بيت طبق سنوي لضيوف الرحمن، ومن كل مخبز تصل جبال من الخبز والكعك والمعجنات المختلفة هدايا وصدقات يحتسبها المؤمنون عند الله. وتتسابق الجمعيات الخيرية في خدمة هذه المائدة وروادها. وليس في العالم مائدة تضاهي طول هذه البسط الممدودة على مدى البصر، وهي تعرض انواع المأكولات الخفيفة الى جانب التمور والألبان والمياه، والمشروبات الساخنة من الشاي والقهوة. حالات من الكرم الروحي تجتاح مشاعر الناس هنا، تكاد تشعر أنك في أسرة واحدة رغم اختلاف اللون واللغة والثقافة. في صحن الطواف يتحرك العابدون في عكس اتجاه عقارب الساعة حول الكعبة، لتكون قلوبهم أقرب إليها حبا ومودة، وترتفع حناجرهم في خشوع وتبتل رجاء عتق رقابهم من النار، مرددين «رب اغفر وارحم، واعف وتكرم، وتجاوز عما تعلم، إنك تعلم ما لا نعلم، انك الله الأعز الأكرم» قبل أن يطبعوا قبلة على يمين الله في الأرض (الحجر الأسود). وفي جنبات الحرم المكي الشريف وأروقته الخلفية، يتوزع العاكفون معظم الأماكن، في مجموعات صغيرة. أناس تخففوا من الدنيا ومشاغلها، ليكتسبوا أوقاتا خاصة تقربهم الى الحق، في رياضة روحية تشرق بجلاء على وجوههم. ويزداد عددهم في الطبقات العليا للمسجد الحرام، ففي النهار يلجأون الى ظل الأسقف وبرودة المراوح، وفي المساء يخرجون الى الأسطح طلبا للهواء المعتدل عند أداء صلات التراويح والقيام، وما بقي في قراءة القرآن وحفظه. وفي كل اتجاهات المسجد تقام منابر لعلماء الحرم حيث يلقون دروسهم الدينية وباللغات المختلفة لينهل مريدوها من تعاليم الدين الحنيف في الفقه والحديث ومعاني القرآن الكريم وتفسيره. والى جوارها حلقات تحفيظ القرآن الذي ينبعث منها أصوات الصغار والكبار، وهم يرددون في خشوع آيات الكتاب الحكيم.

وهناك أيضا «اللاجئون الى الآخرة» وهم خليط من الجنسيات والأعراق والألوان، ينتظرون الموت في هدوء وسكينة وسلام. لاجئون من نوع خاص يعرفهم الطائفون والراكعون بسيمائهم في جنبات البيت العتيق وأروقته. جاؤوا بحثا عن دار هجرة آمنة، يستنقذون دماء جفت في عروقهم، خوفا من بطش الزمان وجبروت السلطان. وراء كل رجل منهم حكاية تقطر يأسا ومرارة جاء الى مكة لغسل سطورها بماء زمزم المبارك.

يتوزع المجاورون لبيت الله في أروقة المسجد المطلة على صحن الطواف. ويتجمع رعايا كل جنسية في منطقة بعينها، ويتركزون عادة تحت الأعمدة القديمة. كل حوائجهم معهم، وهي لا تتجاوز سجادة صلاة، وشالا طويلا يقيهم حر النهار وبرد الليل، وحاملا خشبيا للمصحف الشريف. معظمهم يرفضون التحدث عن أسرار قصتهم، عيونهم ملؤها الخوف كأنهم يصرون على طي صفحات ماضيهم بكل ما فيها من تناقضات دفعت بهم الى الفرار من بيوتهم وبلادهم للاستقرار في بلد الله وبيته.

ولماء زمزم البارد بعد نهار الصوم، قصة لا يمكن إغفالها، فليس هناك شراب على وجه الأرض يفوق مكانة ماء زمزم عند المسلمين. وتحرص الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف على إرواء ظمأ الصائمين والمعتكفين طيلة أيام وليالي شهر رمضان المبارك وتوفير مياه زمزم المبردة لزوار الحرم المكي والمعتمرين، وتمتد من قبل انطلاقة آذان المغرب وحتى وقت الإمساك. وتشرف إدارة سقيا زمزم التابعة لرئاسة الحرمين على خدمات تقديم المياه بمساندة مئات العمال والموظفين يتنافسون على خدمة الزوار والصائمين والعاكفين على مدار الساعة لمتابعة أعمال السقيا على الوجه الأكمل.

كما تشرف الإدارة على تهيئة وتجهيز السقاية داخل المسجد الحرام، وتوزيع عشرات الآلاف من الترامس وحافظات المياه الأكواب البلاستيكية، ومتابعتها دوريا للتأكد من جاهزيتها، مع التشديد على الحرص على نظافة الحافظات والمجمعات التي يزيد عددها عن الألف مجمع ومشربية متوفرة داخل الحرم المكي وساحاته المحيطة، والإشراف على نظافة وسلامة من يتولى تعبئتها بالمياه.

في العشر الأواخر، يتشكل ثاني أهم موسم اقتصادي في مكة المكرمة بعد موسم الحج الأكبر. وتصبح المدينة المقدسة في هذه الليال المدينة الأكثر إقبالا على مساكنها وفنادقها لقضاء هذه الليال بجوار الحرم المكي. وتعج أسواقها ليلا ونهارا بالزوار والمتسوقين، ويندر ألا تجد بغيتك في حوانيتها ودكاكين أسواقها التناريخية المحيطة بالمسجد الحرام. ملابس ومنسوجات وأقمشة ومحلات مختصة في كل صنف ولون وماركة، فهناك أسواق خاصة بالحجارة الكريمة والسبح بأنواعها، يقابلها صفوف أخرى من محلات متخصصة في بيع هدايا مكة من الصناعات التقليدية والحلويات الشعبية المشهورة بها على مر الزمان. كما أن الأسواق الحديثة والمكيفة توفر كل جديد في عالم الإلكترونيات والأجهزة الكهربائية والأدوات المنزلية.

وفي نهار رمضان ولياليه وفي أوقات الفراغ يتوجه كثير من المعتمرين والزوار الى زيارة العديد من الأثار الإسلامية التي تعج بها جبال مكة وبطاحها، فهم لا يتركون فرصة لزيارة جبل النور وغار حراء، حيث محضن أول آية أنزلت في القرآن الكريم، ومقر خلوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثته. وجبل ثور وفيه غار ثور وهو الغار الذي اختبأ فيه النبي مع صاحبه الصديق في طريق الهجرة. ومقابر المعلاة التي تضم رفات أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وعدد كبير من الصحابة والتابعين، وبئر طوى التي ثبت أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم شرب منه واغتسل فيه خلال حجة الوداع، إضافة الى مكان ولادة النبي محمد عليه الصلاة والسلام فيما يعرف الآن بـ«مكتبة مكة المكرمة» القريبة من الساحة الشمالية من جهة الصفا، وغيرها من الآثار التي تذكر زوارها بتاريخ صدر الإسلام ورجاله.

اليوم، في الجمعة الأخيرة لشهر رمضان، التي يطلق عليها الجمعة الحزينة كونها آخر يوم جمعة في الشهر الفضيل، سينتظم المصلون خلف إمام الحرم للصلاة، وحضور دعاء ختم القرآن الكريم. وسيتابع العالم حقيقة الدين الإسلامي والمؤمنين به، وهم يغسلون خطاياهم بدموع التوبة والرجاء في أن يعيدهم الى الله الى عين المكان سالمين غانمين، وملبين النداء الخالد لبييك اللهم لبيك.