سيد مرحوم
10-11-2003, 09:53 PM
رسالة الإمام الخميني(رض) إلى العلماء في الحوزة العلمية
22شباط 1989 م _ 15 رجب 1409 هـ.. ق
بسم الله الرحمن الرحيم
http://www.al3.jeeran.com/Q9.JPG
إلى الحضرات علماء جميع أرجاء البلاد ومراجع الإسلام العظام ومدّرسي وطلبة الحوزات العلمية الكرام والأعزاء، وأئمة الجمعة والجماعات المحترمين، دامت بركاتهم:
صلوات الله وسلامه وصلوات رسول الله وسلامه على أرواح الشهداء الطيبين، خاصةً شهداء الحوزات والعلماء الأعزاء، تحيةً لحملة أمانة الوحي والرسالة، الحرس الذين حملوا على عاتق الالتزام القاني والدامي، أُسس عظمة وفخر الثورة الإسلامية. السلام على صانعي الملاحم من العلماء الخالدين الذين كتبوا بدم الشهادة ومداد الدم رسالتهم العلمية والعملية، وصنعوا من على منبر الهداية والوعظ والخطابة ومن شمع حياتهم جوهر أنوار الليل.
هنيئاً لشهداء الحوزة والعلماء الذين قطعوا أثناء الحرب سلسلة الدرس والمباحثة والمدارسة، وسحبوا وثاق الأماني الدنيوية من تحت أقدام حقيقة العلم، وذهبوا بِحملٍ خفيف إلى ضيافة أهل العرش، وأنشدوا في مجمع أهل الملكوت أُنشودة الحضور.
السلام على الذين تقدّموا إلى الإمام حتى انكشاف حقيقة التفقه، وأصبحوا منذرين صادقين لقومهم وأمتهم، وشهدت قطرات دمائهم وأشلاؤهم المقطّعة إرباً إرباً على حديث صداقتهم. ولا يمكن التوقع غير هذا من علماء الإسلام والشيعة الصادقين وبأن يكونوا في الدعوة إلى الحق وطريق الجهاد الدامي أوّل من يقدِّمون الضحايا وأن تكون الشهادة خاتمة كتابهم.
العلم والعلماء
إنّ من أدرك حلقة ذكر أهل الحوزة والعلماء العرفانية، وسمع مناجاتهم في دعاء السحر، لم يشاهد في أُمنياتهم الخفية والعلنية غير الشهادة، ولم يطلبوا من عطاءات الله في ضيافة الخلوص والتقرب غير عطاء الشهادة.
وبطبيعة الحال، فإنّ جميع المشتاقين والطالبين لم ينالوا كلهم الشهادة، فهناك من بقي، مثلي أنا، عمراً في الظلمات والحجب، ولا يجد في دار العمل والحياة منيّة غير الورقة والكتاب. وهناك من اقتلع صدر الأهواء الأسود في أول ليلة من بدء الحياة وشدّه بالشهادة والعشق والعقد والوصال. وكيف أستطيع أنا الذي لم أخرج بعد من ظلمة العدم إلى حيث الوجود أن أصف قافلة سادة الوجود؟ إنّني وأمثالي نسمع من هذه القافلة رنين الجرس فقط... فلنترك ولنمضِ.
لا شك أنّ الحوزات العلمية والعلماء الملتزمين كانوا على طول تاريخ الإسلام والتشيّع أهم قاعدة ثابتة للإسلام ضدّ حملات المنحرفين وانحرافاتهم. وقد سعى علماء الإسلام العظام وطيلة أعمارهم إلى نشر قضايا الحلال والحرام الإلهيين من دون تدخّل وتصرّف.
فلو لم يكن الفقهاء الأعزّاء، لم يكن معلوماً اليوم أي العلوم كانوا يغذون الناس بها باعتبارها علوم القرآن والإسلام وأهل البيت (عليهم السلام)، ولم يكن أمراً سهلاً في ظروف كانت فيها الإمكانات قليلة جداً، ووظف فيها السلاطين والظلمة جميع طاقاتهم في إزالة آثار الرسالة.. لم يكن سهلاً جمع وحفظ علوم القرآن وأحاديث الرسول الأعظم وسنّة وسيرة المعصومين (عليهم السلام) وتبويبها وتنقيحها. ولكنّنا اليوم نرى _ ولله الحمد _ نتيجة تلك الألقاب في الآثار والكتب المباركة، كالكتب الأربعة وكتب بقيّة المتقدّمين والمتأخّرين في الفقه والفلسفة والرياضيات والنجوم وأُصول الكلام والحديث والرجال والتفسير والأدب والعرفان واللّغة وجميع فروع العلم المختلفة. فلو لم نطلق على هذه الأتعاب والمرارات اسم الجهاد في سبيل الله، فماذا كان يجب أن نطلق عليها؟
إنّ الحديث في مجال الخدمات العلمية للحوزات كثير لا يسع هذا المجال القصير لذكر ذلك. ولله الحمد، فإنّ الحوزات العلمية غنية ومبتكرة من حيث المصادر وأساليب البحث والاجتهاد. ولا نعتقد أنّ هناك طريقاً أنسب من أسلوب العلماء السالفين لدراسة العلوم الإسلامية دراسةً عميقةً وشاملة. ويشهد تاريخ ألف عام من التحقيق ومتابعة علماء الإسلام الصادقين على ادعائنا في سبيل جعل شجرة الإسلام المقدَّسة مثمرةً.
ومنذ مئات السنين، حيث كان علماء الإسلام ملجأ المحرومين، ارتوى المستضعفون دائماً من نبع زلال علم الفقهاء العظام. وبغضِّ النظر عن جهادهم العملي والثقافي الذي هو أفضل من عدة جوانب من دماء الشهداء، فإنهم تحمَّلوا أيضاً المرارات في كل العصور في الدفاع عن المقدّسات الدينية والوطنية، وإلى جانب تحملهم النفي والسجن والأذى وطعنات اللّسان، فقد قدّموا شهداء إلى الله الحق.
العلماء مداد الثورة
ولا يقتصر شهداء العلماء على شهداء الكفاح والحرب في إيران، فبالقطع واليقين، فإنّ عدد شهداء الحوزات والعلماء المجهولين الذين استشهدوا في سبيل نشر العلوم والأحكام الإلهية على يد العملاء واللئام الأجانب هو أكبر.
وفي كل حركة وثورة إلهية وشعبية، كان علماء الإسلام أول من ارتسمت على جبينهم صورة الدم والشهادة. وهل هناك ثورة شعبية إسلامية لم تكن فيها الحوزات والعلماء روّاد الشهادة، ولم يصعدوا أعواد المشانق ولم تقف أجسادهم الطاهرة على أرضية الأحداث الدامية للشهادة؟ ومن أيّة طبقة كان الشهداء الأوائل في الخامس عشر من خرداد وفي الأحداث التي وقعت قبل الانتصار وبعده؟ ونشكر الله على أن دم شهداء الحوزة والعلماء الطاهر قد لَوَّنَ أفق التفقّه بلون الورد الأحمر، ابتداءً من جدران الفيضية والزنزانات الانفرادية المرعبة لنظام الشاه، ومن الزقاق والشارع، إلى المسجد ومحراب إمامة الجمعة والجماعة، ومن مكاتب العمل والخدمة وحتى الخطوط الأمامية للجبهات وحقول الألغام، وفي الختام، كان عدد شهداء ومعوّقي ومفقودي الحوزات في الحرب المفروضة أعلى قياساً إلى بقية الفئات.
لقد استشهد أكثر من 2500 (ألفين وخمسمائة) شخص من طلبة العلوم الدينية في جميع أرجاء إيران في الحرب المفروضة. ويشير هذا العدد إلى أي حدّ استعد العلماء من أجل الدفاع عن الإسلام والبلد الإسلامي الإيراني. واليوم، وكما في السابق، فقد اتجهت عيون الاستعمار في جميع أنحاء العالم من مصر وباكستان وأفغانستان ولبنان والعراق والحجاز وإيران والأراضي المحتلة، إلى أبطال الطبقة العلمائية المعادية للشرق والغرب، والمعتمدة على أصول الإسلام المحمّدي الأصيل. ومن الآن فصاعداً، سيشهد العالم الإسلامي في كل فترة انفجار غضب مصّاصي العالم ضدّ كل عالم طاهر عاشق.
إنّ علماء الإسلام الأصيل لم يرضخوا أبداً لأصحاب الثروات وعبّاد المال والرؤساء، واحتفظوا بهذا الشرف العظيم لأنفسهم دائماً، ومن الظلم الفاحش أن يقول أحد إنّ العلماء الأصيلين أتباع الإسلامي المحمدي الأصيل كانوا يداً واحدة مع أصحاب الثروات. وأدعو أن لا يغفر الله لمن يبثون مثل هذه الدعاية، أو يحملون مثل هذه الفكرة. فالعلماء الملتزمون هم عطشى لدماء أصحاب الثروات، ولم يفكروا في المصالحة معهم ولا يفكرون... إنّهم درسوا في ظلّ حياة الزهد والتقوى وترويض النفس، وبعد نيل الدرجات العلمية والمعنوية عاشوا بالأسلوب الزاهد نفسه، وبالفقر والفاقة وعدم التعلق بملذات الدنيا، ولم يخضعوا أبداً للمنّ والذلّة.
موقف العلماء من التمدن
إنّ التحقيق والدراسة في حياة العلماء السلف تتحدّث عن فقرهم وروحيتهم اليافعة لنيل المعارف وكيف إنّهم درسوا في ضوء نور الشمع وأشعة القمر وعاشوا بقناعة وعظمة، ولم تتم الدعوة إلى العلماء وترويج الفقه بقوة الحراب ولا بثروة عباد المال والأثرياء، بل كانت طهارتهم وصدقهم والتزامهم هو الذي جعل الناس يختارونهم. وإن خشية بعض العلماء من مظاهر التمدن في السابق كانت ناجمةً بالأصل عن خشيتهم من نفوذ الأجانب. فكان الإحساس بخطر انتشار الثقافة الأجنبية، ولا سيما ثقافة الغرب الخليعة، سبباً لأن يتعامل هؤلاء بحذر مع المخترعات والظواهر الأخرى. فبعد أن لمس العلماء الصادقون الكذب والمكر من ناهبي العالم، لم يعودوا يثقون بأي شيء، وكانوا يعتبرون وجود أجهزة كالراديو والتلفزيون مقدمة لمجيء الاستعمار. لذلك فقد كانوا يحكمون أحياناً بحرمة استخدامهما. ألم يكن الراديو والتلفزيون في بلدان مثل إيران وسائل روّجت ثقافة الغرب؟ وألم يستخدم النظام السابق الراديو والتلفزيون لإسقاط اعتبار المعتقدات الدينية والاستخفاف بالآداب والتقاليد الوطنية؟!
وعلى كل حال، فإن خصوصيات عظيمة، كالقناعة والشجاعة والصبر والزهد وطلب العلم وعدم الارتباط بالقوى، والأهم من كل هذا الإحساس بالمسؤولية أمام الشعوب.. هذه الخصوصيات هي التي أحيت العلماء وجعلتهم صامدين ومحبوبين. وأيّة عزّة أسمى من أن ينشر العلماء، بإمكانات قليلة، فكر الإسلام الأصيل بين عالم الأفكار، ويجعل المحققون الآن شجرة الفقه المقدّسة تزدهر في بستان الحياة والمعنويات؟
ثمّ، أليس من الجهل أن يرى البعض بأنّ الاستعمار لم يلاحق العلماء مع ما كانت لهم من العظمة والمجد والنفوذ؟ إنّ مسألة كتاب «الآيات الشيطانية» هي عمل محسوب من أجل ضرب أساس الدين والتديّن، وفي مقدّمته الإسلام والعلماء. وباليقين، لو استطاع مصاصو العالم لأحرقوا جذور واسم العلماء، إلاّ أنّ الله تعالى كان دائماً حامي هذا المشعل المقدّس، وسيكون من الآن وما بعد، شرط أن ندرك حيلة ومكر مصّاصي العالم. وبطبيعة الحال، لا يعني هذا بأن ننهض للدفاع عن جميع العلماء، إذ إن علماء البلاط والمزيّفين والمتحجّرين ليسوا قليلين ولن يكونوا قليلين.
http://www.al3.jeeran.com/SH74.JPG
الاستكبار يحارب العلماء
إنّ في الحوزات العلمية أشخاصاً يعملون ضد الثورة والإسلام المحمّدي الأصيل. ويوجّه اليوم عدد من المزيّفين السهام إلى الدين والثورة والنظام إلى الحدّ الذي يظهر وكأن لا وظيفة لهم غير هذا. وليس قليلاً إذاً خطر المتحجرين والمزيفين الحمقى في الحوزات العلمية. وعلى الطلبة الأعزاء أن لا يتقاعسوا لحظةً واحدة في معرفة أمر هؤلاء الثعابين التي يبدو ظاهرها ليّناً جداً. فإنّهم مروّجو الإسلام الأميركي، وإنّهم أعداء رسول الله. أليس من الواجب إذاً على الطلبة الأعزاء أن يحفظوا تكاتفهم مقابل هذه الثعابين؟!
وعندما يئس الاستكبار من إزالة العلماء وتدمير الحوزات بشكل كامل، اختار أسلوبين لتنفيذ ضربته:
الأوّل أسلوب الإرهاب والقوة،
والثاني أسلوب الخدعة والنفوذ.
ولمّا لم تكن حربة الإرهاب والتهديد فاعلة جدّاً، سعى الاستكبار إلى تغذية وتقوية أسلوب النفوذ. وكان أوّل وأهم التحركات في هذا المجال هو تلقين شعار فصل الدين عن السياسة، حيث كانت هذه الحربة _ ومع الأسف _ فاعلة إلى حد ما في الحوزة وصفوف العلماء، حتى أصبح التدخل في السياسة دون شأن الفقيه، ودخول معركة السياسيين تهمة للارتباط بالأجنبي.
وباليقين، فقد أصاب العلماء المجاهدين جرح أكبر بسبب النفوذ. ولا تعتقدوا أن تهمة الارتباط والافتراء باللاّدينية توجّهت إلى العلماء من الأجانب فقط، إذ كانت طعنات العلماء المطلعين المرتبطين وغير المطلعين أشد أضعافاً كثيرة من ضربات الأجانب، فلو أردت في بداية التحركات الإسلامية أن تقول إنّ الشاه خائن، لكنت تسمع الجواب فوراً بأنّ الشاه شيعي. وقد كان عدد من المزيّفين يعتبرون كل شيء حراماً، فلم يكن هناك من يستطيع أن يعلن عن وجوده في مقابلهم. وقد كانت الطعنة التي تلقّاها أبوكم العجوز من هؤلاء المتحجّرين طعنة لم يتلق مثلها من ضغط وقساوة الآخرين.
وعندما قام شعار فصل الدين عن السياسة، وأصبح الفقيه في منطق الجهلة غارقاً في الأحكام الفردية والعبادية، ولم يكن يسمح للفقيه أن يخرج عن هذا الإطار ويتدخّل في السياسة وشؤون الحكم، عند ذاك، أصبحت حماقة العالم في معاشرة الناس فضيلةً، وعلى زعم بعضهم يصبح العلماء موضع احترام وتكريم الناس حين تأخذ الحماقة كافة وجوده. بينما كان العالم السياسي والعالم العامل النشط يعتبر إنساناً مدسوساً. ومن القضايا التي كانت منتشرة في الحوزات، اعتبار كل من يسير منحرفاً أكثر تديناً، فيما أصبح تعلّم اللّغات الأجنبية كفراً وتعلّم الفلسفة والعرفان ذنباً وشركاً. وعندما شرب ابني الصغير المرحوم مصطفى الماء من شربة في المدرسة الفيضية أخذوا تلك الشربة وطهّروها بالماء لأنني كنت أُدرِّس الفلسفة.
ولا يخفى أنّه لو استمرت هذه السياسة لأصبح وضع العلماء والحوزات كوضع كنائس القرون الوسطى، ولكن الله تفضَّل على المسلمين والعلماء وحفظ الكيان الحقيقي والمجد الواقعي للحوزات. وقد تربى في نفس هذه الحوزات أيضاً العلماء المعتقدون بالدين وفصلوا أنفسهم عن الآخرين، وقد نجمت عن هذه المشاعل الثورة الإسلامية الكبرى. وبطبيعة الحال، فإن الحوزات هي مزيج من نظرتين، فيجب الانتباه والحذر حتى لا تسري فكرة فصل الدين عن السياسة من أصحاب الفكر الجامد إلى الطلبة الشباب. ومن الأمور التي يجب إلفات نظر الطلبة الشباب إليها، هي كيف أنّ عدّةً شمّروا عن سواعدهم ووظفوا أرواحهم وحيثيتهم من أجل إنقاذ الإسلام والحوزة والعلماء في فترة نفوذ المزيفين الجهلة والسذج الأميين. فالأوضاع السابقة لم تكن كما هي اليوم. ولم يكن كل واحد معتقداً بالكفاح مائة بالمائة، إذ كان المعتقد بالكفاح يطرد خارج الساحة تحت ضغط وتهديد المزيفين. وكان من المشاكل الكبرى والقاتلة ترويج أفكار مثل «الشاه ظلّ الله»، أو «لا يمكن مواجهة المدفع والدبّابة بالجلد واللّحم»، أو «لسنا مكلّفين بالجهاد والكفاح»، أو «من سيتحمل دماء المقتولين»... والأقسى من ذلك كلّه، هذا الشعار المضلّل «إنّ الحكومة قبل ظهور إمام الزمان (عليه السّلام) باطلة»، والآلاف من «إن قلت» الأخرى. إذ لم يكن بالإمكان الحيلولة دون ذلك بالكفاح السلبي.
إنّ السبيل الوحيد كان سبيل الجهاد والإيثار والدم التي هيّأ الله أسبابها، وفتح العلماء الملتزمون الصدور لمواجهة كل سهم مسموم يطلق نحو الإسلام، وجاءوا إلى مسلخ العشق.
إنّ أوّل وأهمّ فصل دامٍ كان في الخامس عشر من خرداد العاشورائي في قم. ففي الخامس عشر من خرداد 1342 هـ.ش _ المصادف 5 حزيران 1963م _ لم تكن المواجهة فقط مع رصاص الشاه وبنادقه، إذ لو كانت هذه هي المواجهة فقط لكانت سهلة، وإنّما بالإضافة إلى ذلك، كان هناك رصاص الحيلة التي أطلقها المزيفون والمتحجّرون من الداخل، وقد مزّقت رصاصات الطعن بالألسن والنفاق والازدواجية التي كانت أشد أثراً ألف مرّة من البارود والرصاص.. مزّقت وأحرقت القلوب، إذ إنه في ذلك الوقت لم يكن هناك يوم خالٍ من الأحداث، ولجأت الأيادي الخفية والعلنية لأميركا والشاه إلى بث الشائعات وإلصاق التهم، حتى اتهموا أفراداً بترك الصلاة والشيوعية والعمالة للإنجليز، لأنّهم أخذوا على عاتقهم توجيه وترشيد الكفاح.
وفي الحقيقة، كانت الطبقة العلمائية الأصيلة تبكي دماً في الوحدة والأسر، وتبكي كيف أنّ أميركا وخادمها بهلوي يريدون قلع جذور الدين والإسلام، وأنّ عدداً من العلماء المزيفين الجهلة أو المخدوعين وعدداً من المرتبطين الذين انكشفت وجوههم بعد الانتصار يتعاونون في طريق الخيانة الكبرى هذه. وهكذا تلقى الإسلام من هؤلاء المزيفين من الضربات ما لم يتلقها من أية جماعة أخرى، والمثال الشاخص على ذلك مظلومية وغربة أمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث إنّ ذلك في التاريخ واضح. فلنترك ولنمضِ، ولا نجعل المذاقات أكثر مرارةً من هذا. ولكن يبقى على الطلبة الشباب أن يعلموا أنّ أفكار هذه الجماعة ما زالت قائمة، وهي تبدّل أسلوب الزيف وأسلوب بيع الدين بأساليب أخرى. فالذين هُزِموا بالأمس أصبحوا اليوم لاعبي السياسة، والذين لم يكونوا يسمحون لأنفسهم بالتدخّل بالسياسة أصبحوا اليوم حماة الذين خطّطوا لقلب النظام عبر انقلاب عسكري، وتعتبر محنة قم وتبريز التي قامت بتنسيق اليساريين ودعاة الملكية ودعاة انفصال كردستان، نموذجاً واحداً يمكننا الإشارة إليه، حيث إنّهم لم يتخلّوا عن مؤامراتهم رغم إخفاقهم في ذلك وظهروا في مؤامرة نوژه ففضحهم الله مرة أخرى.
22شباط 1989 م _ 15 رجب 1409 هـ.. ق
بسم الله الرحمن الرحيم
http://www.al3.jeeran.com/Q9.JPG
إلى الحضرات علماء جميع أرجاء البلاد ومراجع الإسلام العظام ومدّرسي وطلبة الحوزات العلمية الكرام والأعزاء، وأئمة الجمعة والجماعات المحترمين، دامت بركاتهم:
صلوات الله وسلامه وصلوات رسول الله وسلامه على أرواح الشهداء الطيبين، خاصةً شهداء الحوزات والعلماء الأعزاء، تحيةً لحملة أمانة الوحي والرسالة، الحرس الذين حملوا على عاتق الالتزام القاني والدامي، أُسس عظمة وفخر الثورة الإسلامية. السلام على صانعي الملاحم من العلماء الخالدين الذين كتبوا بدم الشهادة ومداد الدم رسالتهم العلمية والعملية، وصنعوا من على منبر الهداية والوعظ والخطابة ومن شمع حياتهم جوهر أنوار الليل.
هنيئاً لشهداء الحوزة والعلماء الذين قطعوا أثناء الحرب سلسلة الدرس والمباحثة والمدارسة، وسحبوا وثاق الأماني الدنيوية من تحت أقدام حقيقة العلم، وذهبوا بِحملٍ خفيف إلى ضيافة أهل العرش، وأنشدوا في مجمع أهل الملكوت أُنشودة الحضور.
السلام على الذين تقدّموا إلى الإمام حتى انكشاف حقيقة التفقه، وأصبحوا منذرين صادقين لقومهم وأمتهم، وشهدت قطرات دمائهم وأشلاؤهم المقطّعة إرباً إرباً على حديث صداقتهم. ولا يمكن التوقع غير هذا من علماء الإسلام والشيعة الصادقين وبأن يكونوا في الدعوة إلى الحق وطريق الجهاد الدامي أوّل من يقدِّمون الضحايا وأن تكون الشهادة خاتمة كتابهم.
العلم والعلماء
إنّ من أدرك حلقة ذكر أهل الحوزة والعلماء العرفانية، وسمع مناجاتهم في دعاء السحر، لم يشاهد في أُمنياتهم الخفية والعلنية غير الشهادة، ولم يطلبوا من عطاءات الله في ضيافة الخلوص والتقرب غير عطاء الشهادة.
وبطبيعة الحال، فإنّ جميع المشتاقين والطالبين لم ينالوا كلهم الشهادة، فهناك من بقي، مثلي أنا، عمراً في الظلمات والحجب، ولا يجد في دار العمل والحياة منيّة غير الورقة والكتاب. وهناك من اقتلع صدر الأهواء الأسود في أول ليلة من بدء الحياة وشدّه بالشهادة والعشق والعقد والوصال. وكيف أستطيع أنا الذي لم أخرج بعد من ظلمة العدم إلى حيث الوجود أن أصف قافلة سادة الوجود؟ إنّني وأمثالي نسمع من هذه القافلة رنين الجرس فقط... فلنترك ولنمضِ.
لا شك أنّ الحوزات العلمية والعلماء الملتزمين كانوا على طول تاريخ الإسلام والتشيّع أهم قاعدة ثابتة للإسلام ضدّ حملات المنحرفين وانحرافاتهم. وقد سعى علماء الإسلام العظام وطيلة أعمارهم إلى نشر قضايا الحلال والحرام الإلهيين من دون تدخّل وتصرّف.
فلو لم يكن الفقهاء الأعزّاء، لم يكن معلوماً اليوم أي العلوم كانوا يغذون الناس بها باعتبارها علوم القرآن والإسلام وأهل البيت (عليهم السلام)، ولم يكن أمراً سهلاً في ظروف كانت فيها الإمكانات قليلة جداً، ووظف فيها السلاطين والظلمة جميع طاقاتهم في إزالة آثار الرسالة.. لم يكن سهلاً جمع وحفظ علوم القرآن وأحاديث الرسول الأعظم وسنّة وسيرة المعصومين (عليهم السلام) وتبويبها وتنقيحها. ولكنّنا اليوم نرى _ ولله الحمد _ نتيجة تلك الألقاب في الآثار والكتب المباركة، كالكتب الأربعة وكتب بقيّة المتقدّمين والمتأخّرين في الفقه والفلسفة والرياضيات والنجوم وأُصول الكلام والحديث والرجال والتفسير والأدب والعرفان واللّغة وجميع فروع العلم المختلفة. فلو لم نطلق على هذه الأتعاب والمرارات اسم الجهاد في سبيل الله، فماذا كان يجب أن نطلق عليها؟
إنّ الحديث في مجال الخدمات العلمية للحوزات كثير لا يسع هذا المجال القصير لذكر ذلك. ولله الحمد، فإنّ الحوزات العلمية غنية ومبتكرة من حيث المصادر وأساليب البحث والاجتهاد. ولا نعتقد أنّ هناك طريقاً أنسب من أسلوب العلماء السالفين لدراسة العلوم الإسلامية دراسةً عميقةً وشاملة. ويشهد تاريخ ألف عام من التحقيق ومتابعة علماء الإسلام الصادقين على ادعائنا في سبيل جعل شجرة الإسلام المقدَّسة مثمرةً.
ومنذ مئات السنين، حيث كان علماء الإسلام ملجأ المحرومين، ارتوى المستضعفون دائماً من نبع زلال علم الفقهاء العظام. وبغضِّ النظر عن جهادهم العملي والثقافي الذي هو أفضل من عدة جوانب من دماء الشهداء، فإنهم تحمَّلوا أيضاً المرارات في كل العصور في الدفاع عن المقدّسات الدينية والوطنية، وإلى جانب تحملهم النفي والسجن والأذى وطعنات اللّسان، فقد قدّموا شهداء إلى الله الحق.
العلماء مداد الثورة
ولا يقتصر شهداء العلماء على شهداء الكفاح والحرب في إيران، فبالقطع واليقين، فإنّ عدد شهداء الحوزات والعلماء المجهولين الذين استشهدوا في سبيل نشر العلوم والأحكام الإلهية على يد العملاء واللئام الأجانب هو أكبر.
وفي كل حركة وثورة إلهية وشعبية، كان علماء الإسلام أول من ارتسمت على جبينهم صورة الدم والشهادة. وهل هناك ثورة شعبية إسلامية لم تكن فيها الحوزات والعلماء روّاد الشهادة، ولم يصعدوا أعواد المشانق ولم تقف أجسادهم الطاهرة على أرضية الأحداث الدامية للشهادة؟ ومن أيّة طبقة كان الشهداء الأوائل في الخامس عشر من خرداد وفي الأحداث التي وقعت قبل الانتصار وبعده؟ ونشكر الله على أن دم شهداء الحوزة والعلماء الطاهر قد لَوَّنَ أفق التفقّه بلون الورد الأحمر، ابتداءً من جدران الفيضية والزنزانات الانفرادية المرعبة لنظام الشاه، ومن الزقاق والشارع، إلى المسجد ومحراب إمامة الجمعة والجماعة، ومن مكاتب العمل والخدمة وحتى الخطوط الأمامية للجبهات وحقول الألغام، وفي الختام، كان عدد شهداء ومعوّقي ومفقودي الحوزات في الحرب المفروضة أعلى قياساً إلى بقية الفئات.
لقد استشهد أكثر من 2500 (ألفين وخمسمائة) شخص من طلبة العلوم الدينية في جميع أرجاء إيران في الحرب المفروضة. ويشير هذا العدد إلى أي حدّ استعد العلماء من أجل الدفاع عن الإسلام والبلد الإسلامي الإيراني. واليوم، وكما في السابق، فقد اتجهت عيون الاستعمار في جميع أنحاء العالم من مصر وباكستان وأفغانستان ولبنان والعراق والحجاز وإيران والأراضي المحتلة، إلى أبطال الطبقة العلمائية المعادية للشرق والغرب، والمعتمدة على أصول الإسلام المحمّدي الأصيل. ومن الآن فصاعداً، سيشهد العالم الإسلامي في كل فترة انفجار غضب مصّاصي العالم ضدّ كل عالم طاهر عاشق.
إنّ علماء الإسلام الأصيل لم يرضخوا أبداً لأصحاب الثروات وعبّاد المال والرؤساء، واحتفظوا بهذا الشرف العظيم لأنفسهم دائماً، ومن الظلم الفاحش أن يقول أحد إنّ العلماء الأصيلين أتباع الإسلامي المحمدي الأصيل كانوا يداً واحدة مع أصحاب الثروات. وأدعو أن لا يغفر الله لمن يبثون مثل هذه الدعاية، أو يحملون مثل هذه الفكرة. فالعلماء الملتزمون هم عطشى لدماء أصحاب الثروات، ولم يفكروا في المصالحة معهم ولا يفكرون... إنّهم درسوا في ظلّ حياة الزهد والتقوى وترويض النفس، وبعد نيل الدرجات العلمية والمعنوية عاشوا بالأسلوب الزاهد نفسه، وبالفقر والفاقة وعدم التعلق بملذات الدنيا، ولم يخضعوا أبداً للمنّ والذلّة.
موقف العلماء من التمدن
إنّ التحقيق والدراسة في حياة العلماء السلف تتحدّث عن فقرهم وروحيتهم اليافعة لنيل المعارف وكيف إنّهم درسوا في ضوء نور الشمع وأشعة القمر وعاشوا بقناعة وعظمة، ولم تتم الدعوة إلى العلماء وترويج الفقه بقوة الحراب ولا بثروة عباد المال والأثرياء، بل كانت طهارتهم وصدقهم والتزامهم هو الذي جعل الناس يختارونهم. وإن خشية بعض العلماء من مظاهر التمدن في السابق كانت ناجمةً بالأصل عن خشيتهم من نفوذ الأجانب. فكان الإحساس بخطر انتشار الثقافة الأجنبية، ولا سيما ثقافة الغرب الخليعة، سبباً لأن يتعامل هؤلاء بحذر مع المخترعات والظواهر الأخرى. فبعد أن لمس العلماء الصادقون الكذب والمكر من ناهبي العالم، لم يعودوا يثقون بأي شيء، وكانوا يعتبرون وجود أجهزة كالراديو والتلفزيون مقدمة لمجيء الاستعمار. لذلك فقد كانوا يحكمون أحياناً بحرمة استخدامهما. ألم يكن الراديو والتلفزيون في بلدان مثل إيران وسائل روّجت ثقافة الغرب؟ وألم يستخدم النظام السابق الراديو والتلفزيون لإسقاط اعتبار المعتقدات الدينية والاستخفاف بالآداب والتقاليد الوطنية؟!
وعلى كل حال، فإن خصوصيات عظيمة، كالقناعة والشجاعة والصبر والزهد وطلب العلم وعدم الارتباط بالقوى، والأهم من كل هذا الإحساس بالمسؤولية أمام الشعوب.. هذه الخصوصيات هي التي أحيت العلماء وجعلتهم صامدين ومحبوبين. وأيّة عزّة أسمى من أن ينشر العلماء، بإمكانات قليلة، فكر الإسلام الأصيل بين عالم الأفكار، ويجعل المحققون الآن شجرة الفقه المقدّسة تزدهر في بستان الحياة والمعنويات؟
ثمّ، أليس من الجهل أن يرى البعض بأنّ الاستعمار لم يلاحق العلماء مع ما كانت لهم من العظمة والمجد والنفوذ؟ إنّ مسألة كتاب «الآيات الشيطانية» هي عمل محسوب من أجل ضرب أساس الدين والتديّن، وفي مقدّمته الإسلام والعلماء. وباليقين، لو استطاع مصاصو العالم لأحرقوا جذور واسم العلماء، إلاّ أنّ الله تعالى كان دائماً حامي هذا المشعل المقدّس، وسيكون من الآن وما بعد، شرط أن ندرك حيلة ومكر مصّاصي العالم. وبطبيعة الحال، لا يعني هذا بأن ننهض للدفاع عن جميع العلماء، إذ إن علماء البلاط والمزيّفين والمتحجّرين ليسوا قليلين ولن يكونوا قليلين.
http://www.al3.jeeran.com/SH74.JPG
الاستكبار يحارب العلماء
إنّ في الحوزات العلمية أشخاصاً يعملون ضد الثورة والإسلام المحمّدي الأصيل. ويوجّه اليوم عدد من المزيّفين السهام إلى الدين والثورة والنظام إلى الحدّ الذي يظهر وكأن لا وظيفة لهم غير هذا. وليس قليلاً إذاً خطر المتحجرين والمزيفين الحمقى في الحوزات العلمية. وعلى الطلبة الأعزاء أن لا يتقاعسوا لحظةً واحدة في معرفة أمر هؤلاء الثعابين التي يبدو ظاهرها ليّناً جداً. فإنّهم مروّجو الإسلام الأميركي، وإنّهم أعداء رسول الله. أليس من الواجب إذاً على الطلبة الأعزاء أن يحفظوا تكاتفهم مقابل هذه الثعابين؟!
وعندما يئس الاستكبار من إزالة العلماء وتدمير الحوزات بشكل كامل، اختار أسلوبين لتنفيذ ضربته:
الأوّل أسلوب الإرهاب والقوة،
والثاني أسلوب الخدعة والنفوذ.
ولمّا لم تكن حربة الإرهاب والتهديد فاعلة جدّاً، سعى الاستكبار إلى تغذية وتقوية أسلوب النفوذ. وكان أوّل وأهم التحركات في هذا المجال هو تلقين شعار فصل الدين عن السياسة، حيث كانت هذه الحربة _ ومع الأسف _ فاعلة إلى حد ما في الحوزة وصفوف العلماء، حتى أصبح التدخل في السياسة دون شأن الفقيه، ودخول معركة السياسيين تهمة للارتباط بالأجنبي.
وباليقين، فقد أصاب العلماء المجاهدين جرح أكبر بسبب النفوذ. ولا تعتقدوا أن تهمة الارتباط والافتراء باللاّدينية توجّهت إلى العلماء من الأجانب فقط، إذ كانت طعنات العلماء المطلعين المرتبطين وغير المطلعين أشد أضعافاً كثيرة من ضربات الأجانب، فلو أردت في بداية التحركات الإسلامية أن تقول إنّ الشاه خائن، لكنت تسمع الجواب فوراً بأنّ الشاه شيعي. وقد كان عدد من المزيّفين يعتبرون كل شيء حراماً، فلم يكن هناك من يستطيع أن يعلن عن وجوده في مقابلهم. وقد كانت الطعنة التي تلقّاها أبوكم العجوز من هؤلاء المتحجّرين طعنة لم يتلق مثلها من ضغط وقساوة الآخرين.
وعندما قام شعار فصل الدين عن السياسة، وأصبح الفقيه في منطق الجهلة غارقاً في الأحكام الفردية والعبادية، ولم يكن يسمح للفقيه أن يخرج عن هذا الإطار ويتدخّل في السياسة وشؤون الحكم، عند ذاك، أصبحت حماقة العالم في معاشرة الناس فضيلةً، وعلى زعم بعضهم يصبح العلماء موضع احترام وتكريم الناس حين تأخذ الحماقة كافة وجوده. بينما كان العالم السياسي والعالم العامل النشط يعتبر إنساناً مدسوساً. ومن القضايا التي كانت منتشرة في الحوزات، اعتبار كل من يسير منحرفاً أكثر تديناً، فيما أصبح تعلّم اللّغات الأجنبية كفراً وتعلّم الفلسفة والعرفان ذنباً وشركاً. وعندما شرب ابني الصغير المرحوم مصطفى الماء من شربة في المدرسة الفيضية أخذوا تلك الشربة وطهّروها بالماء لأنني كنت أُدرِّس الفلسفة.
ولا يخفى أنّه لو استمرت هذه السياسة لأصبح وضع العلماء والحوزات كوضع كنائس القرون الوسطى، ولكن الله تفضَّل على المسلمين والعلماء وحفظ الكيان الحقيقي والمجد الواقعي للحوزات. وقد تربى في نفس هذه الحوزات أيضاً العلماء المعتقدون بالدين وفصلوا أنفسهم عن الآخرين، وقد نجمت عن هذه المشاعل الثورة الإسلامية الكبرى. وبطبيعة الحال، فإن الحوزات هي مزيج من نظرتين، فيجب الانتباه والحذر حتى لا تسري فكرة فصل الدين عن السياسة من أصحاب الفكر الجامد إلى الطلبة الشباب. ومن الأمور التي يجب إلفات نظر الطلبة الشباب إليها، هي كيف أنّ عدّةً شمّروا عن سواعدهم ووظفوا أرواحهم وحيثيتهم من أجل إنقاذ الإسلام والحوزة والعلماء في فترة نفوذ المزيفين الجهلة والسذج الأميين. فالأوضاع السابقة لم تكن كما هي اليوم. ولم يكن كل واحد معتقداً بالكفاح مائة بالمائة، إذ كان المعتقد بالكفاح يطرد خارج الساحة تحت ضغط وتهديد المزيفين. وكان من المشاكل الكبرى والقاتلة ترويج أفكار مثل «الشاه ظلّ الله»، أو «لا يمكن مواجهة المدفع والدبّابة بالجلد واللّحم»، أو «لسنا مكلّفين بالجهاد والكفاح»، أو «من سيتحمل دماء المقتولين»... والأقسى من ذلك كلّه، هذا الشعار المضلّل «إنّ الحكومة قبل ظهور إمام الزمان (عليه السّلام) باطلة»، والآلاف من «إن قلت» الأخرى. إذ لم يكن بالإمكان الحيلولة دون ذلك بالكفاح السلبي.
إنّ السبيل الوحيد كان سبيل الجهاد والإيثار والدم التي هيّأ الله أسبابها، وفتح العلماء الملتزمون الصدور لمواجهة كل سهم مسموم يطلق نحو الإسلام، وجاءوا إلى مسلخ العشق.
إنّ أوّل وأهمّ فصل دامٍ كان في الخامس عشر من خرداد العاشورائي في قم. ففي الخامس عشر من خرداد 1342 هـ.ش _ المصادف 5 حزيران 1963م _ لم تكن المواجهة فقط مع رصاص الشاه وبنادقه، إذ لو كانت هذه هي المواجهة فقط لكانت سهلة، وإنّما بالإضافة إلى ذلك، كان هناك رصاص الحيلة التي أطلقها المزيفون والمتحجّرون من الداخل، وقد مزّقت رصاصات الطعن بالألسن والنفاق والازدواجية التي كانت أشد أثراً ألف مرّة من البارود والرصاص.. مزّقت وأحرقت القلوب، إذ إنه في ذلك الوقت لم يكن هناك يوم خالٍ من الأحداث، ولجأت الأيادي الخفية والعلنية لأميركا والشاه إلى بث الشائعات وإلصاق التهم، حتى اتهموا أفراداً بترك الصلاة والشيوعية والعمالة للإنجليز، لأنّهم أخذوا على عاتقهم توجيه وترشيد الكفاح.
وفي الحقيقة، كانت الطبقة العلمائية الأصيلة تبكي دماً في الوحدة والأسر، وتبكي كيف أنّ أميركا وخادمها بهلوي يريدون قلع جذور الدين والإسلام، وأنّ عدداً من العلماء المزيفين الجهلة أو المخدوعين وعدداً من المرتبطين الذين انكشفت وجوههم بعد الانتصار يتعاونون في طريق الخيانة الكبرى هذه. وهكذا تلقى الإسلام من هؤلاء المزيفين من الضربات ما لم يتلقها من أية جماعة أخرى، والمثال الشاخص على ذلك مظلومية وغربة أمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث إنّ ذلك في التاريخ واضح. فلنترك ولنمضِ، ولا نجعل المذاقات أكثر مرارةً من هذا. ولكن يبقى على الطلبة الشباب أن يعلموا أنّ أفكار هذه الجماعة ما زالت قائمة، وهي تبدّل أسلوب الزيف وأسلوب بيع الدين بأساليب أخرى. فالذين هُزِموا بالأمس أصبحوا اليوم لاعبي السياسة، والذين لم يكونوا يسمحون لأنفسهم بالتدخّل بالسياسة أصبحوا اليوم حماة الذين خطّطوا لقلب النظام عبر انقلاب عسكري، وتعتبر محنة قم وتبريز التي قامت بتنسيق اليساريين ودعاة الملكية ودعاة انفصال كردستان، نموذجاً واحداً يمكننا الإشارة إليه، حيث إنّهم لم يتخلّوا عن مؤامراتهم رغم إخفاقهم في ذلك وظهروا في مؤامرة نوژه ففضحهم الله مرة أخرى.