المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كيف تحولت التيارات الأصولية في العراق إلى ظاهرة حكم طائفي لن يتزحزح؟



المهدى
09-06-2006, 03:30 PM
حكاية الصدر ..


عادل الطريفي

فوجئ المصلّون في بغداد أثناء استماعهم لأول خطبة جمعة بعد سقوط نظام صدام حسين بالخطيب يلقي على مسامعهم فتوى غريبة تقول لهم: بأن بمقدورهم الاحتفاظ بأي شيء سرقوه أو نهبوه من مقرات حزب البعث، أو الوزارات الحكومية لأن المال هو مال الشعب وليس للحكومة فيه شيء .. هذه الفتوى التي باتت تعرف اليوم بفتوى «الحواسم» أصدرها السيد مقتدى الصدر، وقد صدمت بعض المصلين فغادروا المسجد مذعورين من هذه الفتوى التي تجوّز السرقة، أما البعض الآخر من الجهلة واللصوص وقطاع الطريق فخرجوا سريعاً من المسجد أيضاً ليلحقوا بما تبقى من أملاك الدولة بغية سرقته قبل الآخرين .. تلك الحادثة قدمت مقتدى الصدر لكثير من جمهور الطائفة الشيعية في العراق، وكانت فتواه تلك من أولى وسائل الاتصال التي اختارها ليخطب بها ودّ أبناء الطائفة.

مقتدى الصدر الزعيم الشيعي الشاب أثار ولا يزال جدلاً كبيراً بين خبراء السياسة، فالبعض رأى فيه متطرفاً لديه القدرة على تسيير مئات من الشباب العراقي إلى المواجهة المسلحة العنيفة، والبعض الآخر رأى فيه امتداداً لمدرسة أبيه محمد صادق الصدر، وزعيماً دينياً لا يقل عن الزعامات الدينية الشابة مثل حسن نصرالله وخالد مشعل، وغيرهم من القادة الأصوليين الذين يمسكون بأطراف السلطة في أكثر من بلد عربي. ومنذ بداية حركته المسلحة مطلع العام 2004 أثبت مقتدى الصدر أهمية شعبية وعسكرية تجاوزت المحاولات الأولى لتهميشه، أو تصفيته. وتمثل حركته ظاهرة خطيرة فهو يدعوا إلى قتال الأمريكيين المحتلين، ويقوم مرة بمساندة العناصر المسلحة السنّية، ومرة أخرى يرسل فرق الموت لتصفية السنّة في قراهم، وهو في ذات الوقت الذي يشارك فيه بالحكومة (3 وزراء)، والبرلمان (30 نائبا) يفتعل المواجهات مع قوات الجيش والأمن العراقي، أما أسوأ مظاهره فإنه يحكم عبر تنظيمه المسلح «جيش المهدي» مناطق ومحافظات عراقية بأكملها، وتفرض محاكمه الشرعية سلطتها، بينما يُجبر التجّار والمواطنون على دفع الخُمس لمؤسسة والده الصدر التي يديرها. وبلغت أهمية مقتدى الصدر درجة كبيرة حين استطاع أول هذا العام القيام بجولة رسمية لدول المنطقة، واستقبل فيها مرة بشكل رمزي، وأخرى بحفاوة بالغة منحها إياه الرئيس السوري بشار الأسد.

في أبريل الماضي احتلت صورة مقتدى غلاف الطبعة الدولية لمجلة «النيوزويك»، ووصفه تقرير لمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS) كأهم لاعب سياسي داخل الطائفة الشيعية، وقال التقرير بأن عناصره المسلحة من جيش المهدي باتت تشكل 30٪ من عناصر الشرطة والجيش في بغداد. أما تقرير مركز الأزمات الدولية الأخير (يوليو 2006) فحمل عنوان «مقتدى الصدر: عنصر تخريب أم استقرار؟»، ويكشف التقرير عن أهمية كبيرة تمثلها ظاهرة الصدر، فقد أصبح بوسعه أن يمنح الحكومة بركته، أو يعمل على تقويضها وتعطليها، وقد أدى تعنته في ترشيح الجعفري إلى تأخير الإعلان عن الحكومة لفترة خمسة أشهر، بينما واجه مساعي المالكي لعزل أعضاء الوزارة الصدريين إلى مواجهة مسلحة بالديوانية.

إن لظاهرة مقتدى الصدر ثلاثة ملامح مهمة:

- فهي تمثل ثورة أصولية شيعية متطرفة في مقابل الحوزة التقليدية النجفية التي كانت تاريخياً بعيدة بشكل نسبي عن التدخل في الشؤون السياسية للعراق.

- وتعكس المواجهات المسلحة نزاعا حول زعامة البيت الشيعي الداخلي، وهو نزاع ذو طابع جهوي بين العائلات الدينية الشهيرة في النجف.

- وأخيراً، تمثل ظاهرة مقتدى صراعا شيعيا طبقيا بين طائفة المهمشين والفقراء والقبائل المعدمة، وطبقة العائلات الشيعية المتعلمة والغنية والقبائل النافذة، وطبقة رجال البازار الذين يمولون الحوزة التقليدية.

وحتى يمكن فهم ظاهرة مقتدى الصدر لا بد من فهم دور الحوزة الدينية، والمرجعية الطائفية في الفكر السياسي الشيعي ليس في العراق وحده، بل وفي إيران وبقية بلدان العالم الإسلامي. يضاف إلى هذا، فهم الدور المحوري والرئيسي الذي تلعبه العائلات الدينية الشهيرة في توجيه الطائفة اجتماعياً وسياسياً. فعلى الرغم من اختلاف مدارس الشيعة «الاثنى - عشرية» في الفروع الفقهية إلا أن هناك تقارباً في مجمل مظاهر الفتوى الدينية داخل المذهب، حيث يشكل المرجع الديني الأعلى مصدر الاجتهاد والفتوى، ويتفرع عنه شيوخ مقلدون ووكلاء يمثلونه في البلدان وينوبون في نقل الأسئلة إلى المرجع، وتفسير فتاواه ودروسه الدينية، ويكونون وكلاء في جمع الخُمس - وهو العائد المادي المفروض على أتباع المذهب والذي يصرف في وجوه الإنفاق الخيري ولاسيما على المدارس الدينية ومؤسساتها - . أما الحوزة الدينية فهي الوصف الذي يطلق على مكان اجتماع المدارس الدينية المذهبية، وحيث يتواجد الشيوخ والمراجع للانقطاع للدراسة والبحث في الشؤون الدينية قريباً من المراقد المقدسة. هناك خلاف قديم حول الحوزة الدينية الأكثر أهمية لأتباع المذهب في العالم الإسلامي، فإيران بدأت عهد الحوزات الدينية بأصفهان ثم انتقلت إلى مدينة قم، أما في العراق فتمثل الحوزة الدينية في النجف أقدم المدارس والمرجعيات الدينية، ومنذ عدة عقود تنافست الحوزتان الدينيتان للاستئثار بمرجعية الشيعة في العالم. وقد لعب السياسيون في كل من طهران وبغداد دوراً كبيراً في استخدام هذا التنافس بغية النفاذ إلى جمهور الطائفة والتحكم فيه عن طريق احتواء المراجع التقليديين، وهذا التدخل السياسي قاد إلى تنافس بين مرجعية فارسية، ومرجعية عربية. صحيح، أن كثيرا من المراجع كان بإمكانهم تمثيل الشيعة أياً كانت بلدانهم، إلا أن هنالك فترات كانت فيها المنافسة قائمة على التنافس العرقي والعائلي، ويعود السبب الرئيسي في ذلك للدور السلبي الذي لعبته الثورة الإيرانية ومبدؤها الداعي إلى «ولاية الفقيه» في تقويض الطبيعة السلمية الانعزالية للحوزة الدينية. في منتصف القرن الماضي، كان السيد محسن الحكيم بمثابة المرجع الأعلى للشيعة في حوزة النجف، بينما كان السيد البروجردي المرجع الأعلى في قم، وبعد وفاة الأخير قام شاه إيران في محاولة منه لإضعاف المعارضة الدينية بدعم مرجعية محسن الحكيم النجفية ضد مرجعية الحوزة الدينية في قم، وعندما مات محسن الحكيم انتقلت المرجعية لخليفته أبو القاسم الخوئي في النجف (1971)، وواصل الشاه دعم مرجعية الخوئي لبعض الوقت حتى تلاشت تلك المرجعية مع قيام الثورة الإيرانية واحتل الإمام روح الله الخميني صدارة المرجعية في كل مكان، ولكن رغم ذلك كان هنالك ممانعة للخميني في حوزة النجف التي أحست بتهديد الخميني لمرجعيتها، ورفض أبرز علمائها مفهوم «ولاية الفقيه» الذي نادى به الخميني.

ما علاقة مقتدى الصدر بكل هذا؟

في الحقيقة جوهر ما نشاهده من صراع دموي في العراق، أو تعطل في مسار العملية السياسية تعود جذوره للمنافسة الحادة التي وقعت بين العائلات الدينية الشيعية الشهيرة، ففي النجف مثلت كل من عائلة الحكيم والخوئي والصدر أبرز العائلات الدينية، وهناك عائلات دينية أخرى مهمة مثل آل الشيرازي الكربلائيين، ولكن العائلات الثلاث الأخيرة بالتحديد كان لها دور سياسي واضح في العقود الثلاثة الأخيرة. ومع قيام ثورة الخميني الأصولية تطلعت كل عائلة إلى أخذ نصيبها من المبادئ الثورية الجديدة، والتي تهبهم بوصفهم عائلات فقهية متصدرة حق الولاية السياسية. لقد تسبب حزب البعث في تصفية وجوه عديدة وطنية داخل الطائفة الشيعية، واستطاع حزب البعث قتل وطرد العائلات الشيعية المتعلمة والتي تمثل قيادات علمانية ليبرالية تؤمن بالوطنية وديمقراطية العراق، وبحلول نهاية السبعينيات اختفى الثقل السياسي الشيعي الليبرالي ليحل مكانه المراجع الدينيون، ومؤسساتهم الدينية.

عائلة الصدر كانت من أوائل العائلات التي اتجهت للاهتمام بهذا الفراغ السياسي داخل الطائفة الشيعية، ومثّل محمد باقر الصدر - الشهير بالشهيد الأول - أبرز هؤلاء العلماء، وقد أبدى اهتماماً مبكراً بالحركات الإسلامية السنّية، وفكرة الدولة الإسلامية التي تبشر بها التيارات الأصولية، ولهذا عمل على تقديم فكر الحركة الإسلامية إلى داخل الحوزة التقليدية، وقد واجه محمد باقر الصدر معارضة من المراجع، ولكن رغم ذلك استطاع التأثير على قطاع واسع من أبناء الطائفة وطلبة الحوزة الدينية، ولكن حين توفي المرجع الأعلى محسن الحكيم كان محمد باقر الصدر يأمل في أن يخلف الأخير، بيد أن الحوزة حسمت المرجعية في السيد أبو القاسم الخوئي الذي كان يمثل خط المدرسة التقليدية، ولم يتوان محمد باقر الصدر عن انتقاد المرجعية التقليدية بسبب من أفكاره، وبسبب من تجاوز أحقيته كمرجع، وصعّد محمد باقر الصدر من خطابه وصدامه بعد قيام الثورة الإيرانية وأعلن ولاءه لها وعمل على إنشاء «حزب الدعوة» الإسلامي - وهو حزب تورط في أعمال مسلحة وتعاون مع الثورة الإيرانية الصاعدة - ، ولهذا تولى حزب البعث تصفيته في أبريل 1980. محمد صادق الصدر - وهو ابن عم باقر ويسمى الشهيد الثاني - كان أبرز تلاميذ محمد باقر الصدر بيد أنه كان أكثر تطرفاً، وأقل درجة علمية، وإذا كان محمد باقر الصدر يمثل تيار الإسلام السياسي الشيعي في صيغة شبيهة بجماعة الإخوان المسلمين المصرية، فإن محمد صادق الصدر هو أقرب إلى الصورة الراديكالية التي تمثلها جماعة «الجهاد» المصرية. حين قتل محمد باقر الصدر كان ابن عمه رهن الإقامة الجبرية، ولم يطلق سراحه حتى وفاة المرجع أبو القاسم الخوئي (1992)، هنا قاد التدخل السياسي إلى أسوأ ما نشهده في العراق اليوم، فقد عمد صدام حسين إلى إطلاق سراح الزعيم الديني المتطرف محمد صادق الصدر لاعتقاده بأن الأخير سيكون بوسعه مواجهة الحوزة الدينية في النجف والتي بدأت تتعاطف مع شبابها الذين قادوا محاولة الانقلاب الشيعية على نظام صدام حسين بعد حرب الخليج (1991). لم يكن أحد بالكاد يعرف محمد صادق الصدر لا في الحوزة ولا في خارجها، وإذا كانت أفكاره راديكالية ومعارضة للحوزة فإن نظام صدام كان يأمل في أن يتسبب دعمه غير المباشر في تقويض قوة الحوزة الدينية، والاعتراض على أحقية آية الله علي السيستاني - وهو إيراني - بالمرجعية بوصفه فارسيا محتمل الولاء لثورة الخميني، ولهذا انطلق محمد صادق الصدر في مشروع معارضة للحوزة التقليدية، والتي بات يسميها «الحوزة الصامتة»، وأعلن من جانبه تأسيس «الحوزة الناطقة» والتي تعني الحوزة التي لا تقتصر على فتاوى العبادات فقط بل تتدخل في السياسة والشؤون الاجتماعية ويكون لها دور أكبر في قيادة الطائفة، مع مرور الوقت بدأ محمد صادق الصدر في مهاجمة المراجع التقليديين مثل آية الله علي السيستاني. لم يكن صادق الصدر ليستطيع التأثير على الحوزة العلمية في النجف، ولا أتباع المراجع التقليديين، ولهذا توجه بخطابه نحو الفقراء والمهمشين في الجنوب العراقي، وبات يوثق علاقاته بالقبائل المعدمة، بل ومد يده نحو العراقيين من أصول غير عربية ممن يحسّون بالتمّييز، وعبر استخدام خطاب طبقي وثوري ضد أمريكا والغرب، وضد نظام البعث، بل وضد الحوزة النجفية والعائلات المتعلمة الغنية استطاع محمد صادق الصدر صناعة جمهور جديد من المهمشين والفقراء، وأصبحت خطبه النارية وانتقاداته اللاذعة، وفتاواه المتطرفة منفرة للجميع، ولكنه في ظرف ست سنوات بات الزعيم الشيعي بلا منازع، وأصبح لوحده المرجعية العراقية. ولشرح الوضع الذي أحدثه صعود محمد صادق الصدر نسوق طرفة وقصة كانتا رائجتين في العراق وقتها، أما القصة فتقول ان رجلاً ذهب ليستفتي من السيد محمد صادق الصدر فسأله عن سعر الطمام؟ .. فأجابه صادق الصدر بتفصيل يكشف عن متابعته الدقيقة لهموم الناس المعيشية، وهذه القصة كانت تروى لدلالة على الارتباط الشعبي بالطبقة الشيعية الكادحة الذي أحدثته حركة الصدر. أما الطرفة فكانت تقول ان شخصاً أهدى ل آية الله السيستاني وسادة نوم كتب عليها «تصبح على خير» للدلالة على بعده عن حياة أبناء الطائفة واعتزاله عنها.

استيقظ نظام صدام حسين في وقت متأخر، صحيح أن محمد صادق الصدر قد قضى على قوة الحوزة النجفية، ولكنه بات يشكل تهديداً أكبر مما كان الوضع عليه عام 1991. أحد الأمثلة التي تشرح التطرف الذي لجأ إليه والد مقتدى الصدر هو دعوته إلى اعتبار نفسه «ولي أمر المسلمين» وهو إعلان فتح عليه ثلاث جبهات معارضة وهي: حزب البعث، والمرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي الذي اعتبر ذلك خروجاً على سلطته السياسية والدينية، وكذلك مراجع الحوزة الذين اعتبروه اغتصاباً للولاية من دونهم. قرر صدام اغتيال صادق الصدر وولديه (1999)، وعلى إثر ذلك قامت ثورة شعبية حقيقية أوقفها النظام لبعض الوقت بالقمع العسكري وإغلاق مكاتب الصدر.

بسقوط نظام صدام حسين عبرت عناصر «فيلق بدر» - 2000 مقاتل - من إيران إلى العراق وأعاد آل الحكيم فتح مكاتبهم في المدينة المقدسة، وشهدت الحوزة العلمية بالنجف حيث مرقد الإمام علي صراعاً حول الزعامة، فقد عاد إليها عبدالمجيد الخوئي ابن المرجع السابق - وهو شيخ ديني موال للغرب - وأعاد مقتدى الصدر فتح مكاتب والده هناك، وفي ظرف أسابيع بدأت العائلات الثلاث تصفية الحسابات فيما بينها واتهام بعضها بالخيانة والعمالة إما لإيران، أو للنظام السابق. أوعز مقتدى الصدر لأتباعه فاقتحموا مرقد الإمام علي واغتالوا عبدالمجيد الخوئي العائد لتوه من لندن، وأخرج المظاهرات التي وصفت محمد سعيد الحكيم بأنه موال لطهران وعميل جديد للأمريكيين، وعند احتدام الجدل بين أنصار التيار الصدري وأنصار تيار الحكيم - المجلس الأعلى للثورة - خطب محمد سعيد الحكيم خطبة وصف فيها مقتدى الصدر بأنه «زعطوط» - وهي كلمة تحقير شعبية - . وأمام كل هذا كان آية الله السيستاني (إيراني)، ومعه مراجع وفقهاء كبار من أمثال بشير النجفي (باكستاني) والشيخ إسحاق الفياض (أفغاني) قلقين من زوال سلطتهم الدينية لصالح هذه العائلات التي لا يتوفر فيها حالياً مراجع معتمدون. السيستاني أدرك فداحة ما يجري حوله من محاولة للسيطرة على المدينة دينياً وسياسياً، ولهذا بادر بالتدخل بشكل سلمي وتوفيقي وانحاز إليه ممثلو حزب الدعوة، وبقية المنفيين السياسيين العراقيين، وبعد اغتيال محمد باقر الحكيم اضطر أخوه عبد العزيز الحكيم إلى الانحياز كذلك للسيستاني، وكان مقتدى الصدر قد أصدر قائمة ضمت 124 عراقياً هم أعداء وخونة، وفي الحقيقة كانت قائمة أعدها أنصاره الذين كانوا يشكلون أنصار أبيه للتخلص من منافسيهم. أخطأت كل من أمريكا وإيران في تقدير أهمية التيار الصدري الذي أنشأه والد مقتدى، وغاب عن تقديرهم أن ذلك التيار هو الأقوى، والأكثر تنظيما داخل العراق خلال العقد الماضي فيما كانت بقية الوجوه السياسية الشيعية هائمة في المنفى.

في أبريل 2004 لم يتبق على الساحة إلا ثلاث جهات شيعية قادرة على قيادة الطائفة، كان هناك السيستاني، ومقتدى الصدر، وعبدالعزيز الحكيم .. ولهذا شهد النجف مواجهات دامية بين قوات مقتدى «جيش المهدي» وقوات الحكيم «جيش العراق» - حيث يشكل عناصر فيلق بدر عصبه الأساسي - ، وحسمت القضية لصالح مقتدى الذي تم الاعتراف به رسمياً كطرف أساسي في الحكم، وفي الاتلاف الشيعي. وقد كشف بول بريمر - رئيس سلطة الائتلاف السابق - في مذكراته التي نشرت مطلع هذا العام بعنوان «عامي في العراق» تفاصيل تلك الأحداث، حيث يقول بريمر بأن السيستاني والحكيم والجعفري طالبوا بول بريمر بالقبض على مقتدى الصدر، ونبّه بريمر إلى أن السيستاني صرح بشكل غير مباشر في أنه لا يمانع في تصفية (قتل) مقتدى الصدر. إيران انتبهت لأهمية الصدر ولذلك بدأت في استمالته، ودعته إلى طهران حيث رحب به على أعلى مستوى كفاتح ومنتصر، وواصل الإيرانيون دعمه مادياً، وقام الحرس الثوري الإيراني بتدريب 2000 من عناصر جيش المهدي.

اليوم يوجد في العراق ما يقارب 80 - 120 ألف مسلح يتبعون للمليشيات الدينية الشيعية، «جيش المهدي» لوحده لديه ما يقارب من 35 ألف مسلح، هذه الأعداد الكبيرة مسؤولة عن توتر الأوضاع في العراق، وإذا ما استثنينا عمليات القاعدة الإرهابية، ونشاطات الجماعات السنية المسلحة، فإن بوادر الحرب الأهلية قد تنشأ بين الجماعات الشيعية فيما بينها، واليوم هناك جدل حول زعامة البيت الشيعي، فزعيم متطرف مثل مقتدى الصدر لم يكن بوسعه الوصول إلى تسوية سياسية لأنه تياره الشعبي المتعصب يدفعه دوماً إلى المزيد من العنف، وهذا ما حدث في الديوانية مؤخراً حيث اضطر مقتدى الصدر إلى التصعيد لأنه كان يخشى أن يفقد أتباعه إن هو لجأ إلى التسوية السياسية، حتى الآن انشقت عنه أربع مجموعات في مدينة الصدر لوحدها، أما تلميذ أبيه البار محمود عبد الرضا الحسني فانشق هو الآخر وأسس تنظيم «الولاء الإسلامي» وهو تنظيم مسلح يسيطر على كربلاء، وهناك تنظيم آخر باسم «الفضيلة» يسيطر على البصرة. وكلا التنظيمين يزعمان تمثيل الشيعة العرب في العراق بمقابل تنظيمات مثل المجلس الأعلى وحزب الدعوة الموالية لإيران.

لا شك، أن مستقبل العراق سيكون مرتهنا بنتيجة الصراع بين التنظيمات الأصولية الشيعية، الأكراد يتحينون الفرصة للاستقلال ولكنهم ينتظرون نقطة الصفر التي سيسمح لهم الأمريكيون حينها بالتقسيم، وهو حل قد تلجأ له أميركا تحت طائلة حرب أهلية مفتوحة بين السنة والشيعة والأكراد.

*نقلا عن جريدة "الرياض" السعودية