لمياء
09-03-2006, 07:28 AM
الزميل أحمد ناصر وكريمته يحاوران صبية قست عليها الحياة
تحقيق: أحمد ناصر
http://www.alqabas.com.kw/Final/NewspaperWebsite/NewspaperBackOffice/ArticlesPictures/3-9-2006//199037_190004.jpg
الزميل أحمد ناصر وكريمته يحاوران صبية قست عليها الحياة
تتعاظم امامي الأمور احيانا حتى انني لا استطيع ان اصفها او اتحدث عنها، لانها أكبر في رأيي من الوصف والكلام، وتصغر في عيني الدنيا حينها لتصبح أصغر من بيضة الفري الصغيرة، لا تكاد ترى فيها شيئا فلا تعيرها أي أهمية. ليس الأمر انني أمر في أزمة او مشكلة، فهذه أشياء عادية في حياة كل إنسان، ولكن لأنها تحتوي على اشياء تجعل الإنسان يشعر بالخجل، وهذا التحقيق احدها.
الساعة الثانية والنصف منتصف الليل، كنت برفقة زوجتي في احد مطاعم الوجبات السريعة. اقتربت مني فتاة صغيرة عمرها 16 عاما، جميلة ورقيقة تشبه النسمة الهادئة، وقالت لي: 'عمي ممكن دينار ونص علشان اشتري عشاء؟'.
سألتها: 'ليش وين اهلك؟'، فقالت بلهجة يائسة: 'تبي تعطيني او لا، خلصني'، فقلت لها: 'اجلسي ولك ما تريدين'.
لحظتها تحرك فضولي الصحافي، وقلت لابد ان وراء هذه الفتاة الصغيرة قصة. وبعد ان تناولت وجبة عشائها معنا، سألتها عن قصتها واهلها، فقالت: 'إذا وصلتني البيت اقول لك القصة في الطريق'.
تسكن هذه الفتاة، واسمها منال، في إحدى المناطق الداخلية. قالت لي عندما سألتها اين أهلها:
أبي وأمي منفصلان منذ اكثر من ست سنوات، كان عمري يومها تسع سنين، وكان عمر أخي الاصغر ثلاث سنين. تزوج والدي فورا ثم تزوجت والدتي بعده باربعة أشهر. وعشنا عند جدتي والدة أبي إلى اليوم، هذه قصتي بالكامل.. هل هناك سؤال آخر؟ (قالتها بيأس).
لا، ولكن هل تسمحين لي ان ادخل معك البيت؟
كان المنزل الذي تسكن فيه من المنازل الكبيرة القديمة، ومتهالكا من القدم وقذرا إلى درجة غير طبيعية، كأنه مهجور بالكامل. في الحوش كان المنظر مرعبا لمن لم يعتد عليه، اما منال فكانت الامور بالنسبة إليها عادية، لا يظهر في الظلمة سوى عيون 'العتاوية والقطاوة' واعتقد الفئران ايضا، واوراق الاشجار القديمة المتساقطة على سيارتين كانتا في البيت تقول إن هذه الارض لم يجرعليها الماء منذ سنين طويلة.
فتحت منال الباب الحديدي ذا الزجاج المهشم، ودخلنا الصالة التي كان يرقد فيها امام التلفزيون صبي في الثامنة من عمره، إنه محمد أخو منال. لم يعرنا اهتماما ولم ينظر إلينا إلا بقدر من يريد ان يتأكد من ان أحدا دخل البيت، ثم صعدنا إلى غرفتها. وسألتها:
هل هذا بيتك الدائم؟
نعم، هل تظن أني أخذتك إلى منزل آخر؟ تأكد انه بيتي والصبي الصغير ذاك أخي محمد، والغرفة المقابلة لي هي غرفة جدتي العجوز التي لا تعرف أي شيء عنا.
انتم الثلاثة فقط في هذا المنزل الكبير؟
معنا الخادمة السيلانية، ولكننا لا نراها منذ المغرب. شخصيا اعرف انها تذهب لتنام في احد المنازل القريبة لانها متزوجة من سائق.
كانت الامور غير طبيعية ابدا، فتاة صغيرة في عمرالمراهقة الحرجة، تعيش مع جدتها واخيها الصغير وتدير امورها بنفسها، الجدة تنام مبكرا كما قالت (الساعة 7 مساء) ولا تستيقظ إلا متأخرا (الساعة 12 ظهرا). ما هذه الحياة؟ كيف يعيش هذان الصغيران ومن المسؤول عنهما؟
التفت إلى منال التي استلقت على الفراش وكادت تبدل ثيابها لولا ان رمقتها زوجتي بنظرة مرعبة.
سألتها عن والدها ووالدتها متى رأتهما آخر مرة، فقالت:
منذ اللحظة التي جاء فيها جدي واخوالي واخذوا والدتي لم ارها إلى اليوم. ومنذ اللحظة التي أوصلنا فيها والدي إلى منزل جدتي لم أره إلى اليوم.
الا يأتي لزيارة والدته؟
لا وهو اصلا ليس في الكويت، تزوج وهاجر مع زوجته إلى الخارج ولا اعرف عنه شيئا. كانت جدتي في الايام الاولى تسألنا عنه وتطلب منا ان نتصل به، فأقول لها إنه غير رقم هاتفه ولا اعرف رقمه الجديد.
ووالدتك الم تأت لرؤيتكما ابدا؟ ما هذه الأم القاسية! (وتداركت انني ربما اجرحها بهذا الكلام فقررت ان اكتفي بالسؤال فقط دون التعليق).
لم ار والدتي منذ اللحظة التي خرجت فيها من البيت، بصراحة نسيت ملامحها.
الم تحاولي الوصول إلى احدهما؟
بلى حاولت كثيرا لانني واخي نعيش لوحدنا، جدتي لا تستطيع ان تهتم بنا، تخيل انني اظل ابكي في بعض الليالي ساعات طويلة من القهر، لماذا ليس لدي من يهتم بي او يرعاني؟ انا صغيرة واخي اصغر مني ونحن بحاجة إلى من يهتم بنا. ولكن ماذا تفيد الدموع، احس اننا نعيش كالغرباء هنا.
فوجئت بان زوجتي غرقت بدموعها، فالقصة التي ترويها لنا منال ليست طبيعية. لأول مرة اسمع مثل هذه الحكاية، وفوجئت أكثر بان منال لم تتأثر ابدا بالكلمات التي قالتها، بل إنها أضافت: 'شرايك تعطيني خمسة دنانير ابي اروح السينما باكر'. سألتها:
كيف تديرين أمورك؟
(ابتسمت) تريد الحقيقة ام أن اجاملك؟ لا اريد ان اتحدث عن معاناتي، اموري لن تسعدك، اعطني خمسة دنانير لو سمحت. خرجت منها كلمة 'لو سمحت' كأنها بلسم شاف، الفتاة إذن فيها خير ولكنها بحاجة بالفعل إلى من يرعاها. فقلت لها:
اريد ان اتحدث مع محمد واعطيكما ما تريدان.
اذهب إليه إنه في الاسفل طوال الوقت.
ذهبت إلى محمد الصغير وهو ممدد امام الشاشة يلعب بإحدى الالعاب الإلكترونية. اقتربت منه وسألته ان يعطيني شيئا من وقته، فرد علي بكلمة قبيحة لم اشأ ان تسمعها زوجتي، ولكنني تداركت الموضوع معه، وقلت له:
هل تذهب معنا إلى السينما غدا؟ماذا تريد؟ هل هناك شيء ضروري؟ ألم تشتق إلى والدك يا محمد؟
لا اعرف في هذه الدنيا سوى جدتي واختي فقط.
وقام إلى الحمام.
أنت تعيش في الأوهام
خرجت من دون ان اعلق بكلمة واحدة، ولكنني ظللت ابحث عن خيط آخر يقودني إلى حالات اخرى مثل منال ومحمد. سألت بعض من اعرف من الاطباء النفسانيين وفي وزارة الشؤون والمخافر، فلم أصل إلى شيء، كان الجميع يقولون إن الامور كلها تمام وعال العال.
ومضت الايام وصدفة قالت لي ابنتي إن زميلة لها تريد ان تبات الليلة عندنا. رفضت طلبها، فقالت لي إن هذه الفتاة ستنام في الشارع إذا لم نسمح لها بالمبيت عندنا (!). سألت الفتاة الصغيرة - عمرها 17 عاما - عن أهلها فقالت إنها تعيش لوحدها. عاد بي الفضول مرة أخرى إلى منال واخيها، فسمحت لها ان تظل عندنا وانا اخطط لاعرف قصتها. سألتها:
كيف تعيش فتاة صغيرة مثلك لوحدها، اين أهلك يا ابنتي؟
غمزتني ابنتي وكأنها تقول لي 'لا تحرجها يا أبي'، ولكن الفتاة واسمها دلال ابتسمت وقالت إنها تعيش مع عمها بعد ان انفصل والداها وتزوج كل منهما.
كيف تقولين إذن انك تعيشين لوحدك، إنك مع عمك، والعم مثل الوالد.. اليس كذلك؟
انت يا عمي تعيش في الاوهام. أنا أعيش في غرفة الملحق الخلفي لوحدي، وعمي لا يعرف عني اي شيء، ولا اراه إلا عندما يأتي ليعطي الخادمة راتبها. أغيب عن البيت احيانا بالايام والليالي ولا يسأل اين انا، او مع من كنت او اين ذهبت. فوجئت ذات يوم بأن كل من في البيت سافر منذ اربعة ايام، قال لي ذلك المحاسب في فرع الجمعية القريب من منزلنا، وساومني على شرفي مقابل ان يعطيني 10 دنانير. رفضت وقررت ان لا اذهب إلى هذا الفرع مرة اخرى، واضطررت ان اسير مسافة طويلة إلى الفرع الثاني إذا اردت ان اشتري شيئا.
وماذا عن الدراسة، هل تذهبين إلى المدرسة؟
نعم انا مع ابنتك في فصل واحد!
هذا جيد ويعني انك محافظة على دروسك!
أيام الدراسة أفضل بالنسبة إلي لان هناك من يهتم بي، الإخصائية الاجتماعية تتابعني دائما وتسأل عني وتأخذني معها إلى السينما والمجمعات، وتأتي معي لاشتري ملابس العيد، وتأخذني معها إلى الاعراس. وعلى فكرة شاهدت والدتي صدفة ذات يوم في احد الاعراس، فأشرت للاخصائية إليها وقلت لها: 'تلك المراة ذات الرداء الاحمر والدتي'. أخذتني إليها، فضمتني والدتي بشدة وسألتني عن حالتي، ولكنها تجاهلتني بعد ذلك وكأنني غير موجودة، ورفضت ان تعطي الاخصائية رقم هاتفها. ولكن هذه الاخصائية الطيبة تسافر طوال ايام العطلة فأعود إلى وحدتي من جديد.. أشعر كثيرا انني غريبة هنا.
كنت اضع يدي على خدي عجبا مما اسمع هل هذا يحدث حقيقة.. عندنا في الكويت؟ هل هذه قصة حقيقية ام انها من اكاذيب المراهقات ليبررن حياتهن التي يعشنها، لكن ما شاهدته في المنزلين لم يكن هراء او اكاذيب، بل حقيقة وواقع علينا ان نعترف به رضينا ام ابينا. ولم اشأ ان احرج الصغيرة أكثر وهي في بيتي فتركتها مع ابنتي وخرجت.
ميت منذ سنين
في صباح اليوم الثاني ذكرت القصة لإمام المسجد كنوع من الفضول، فقال لي إن احد الاطفال يأتي إليه بين فترة واخرى ويتعشى معه ويطلب منه ان ينام في المسجد. وقال إنه كان يسأله عن اهله فيقول إنهم مسافرون. رجوته ان يعلمني إذا جاء إليه مرة أخرى، وبالفعل اتصل بي بعد بضعة ايام وقال لي إن الطفل في المسجد في هذه اللحظة.
أقبلت إليه وجلست معه. كان صبيا جميلا تبدو عليه علامات الذكاء والفطنة، ولكنه كان مهملا بصورة واضحة لا تخفى على من يشاهده. سألته:
لماذا تنام في المسجد يا بني، اين أهلك وأين منزلكم؟
نظر إلي بشيء من الريبة كأنه كان يسأل نفسه ما دخل هذا الرجل الغريب بي؟ ولكنه اجابني بثقة:
ـ ليس لي منزل وليس لي أهل!
اين تعيش إذن واين تذهب في الايام الاخرى؟
فقال له إمام المسجد:
اجب الرجل يا بني إنه رجل فاضل ومحترم ويريد ان يساعدك.
ابتسمت لكلمات الإمام واعجبتني كلمات الإطراء، وسألت الصبي مرة أخرى:
ما اسمك، ومع من تعيش؟ ليس من المعقول ان تعيش لوحدك!
ـ اسمي منصور ولي اهل ولكنني اعيش لوحدي، منزلنا في القطعة الاخرى، اعيش مع جدي وجدتي ولكنهما لا يعلمان عني اي شيء، إنهما كبيران في السن، ووالداي انفصلا منذ اكثر من سبع سنوات وعمري الآن 11 سنة، لا اراهما ابدا ولا يأتيان لزيارتي ابدا.
الا تأتي والدتك لتزور والديها، الا تحن عليهما؟
لا اعلم، لا اراها تأتي إلى منزلنا إلا في بعض الاعياد وليس كل عيد. آخر مرة رأيتها فيها كانت قبل سنتين، طلبت من جدتي يومها ان تشتري لي دشداشة جديدة، ثم ذهبت من دون ان تعطيني عيدية، لا اعلم لماذا لا تحبني والدتي!!
ووالدك.. اين هو؟ ولماذا لا يسأل عنك؟
لا اعلم، لم أر والدي منذ الطلاق، لا اعرف حتى ملامحه الآن، سألني احد ابناء الجيران ذات يوم عن والدي فأجبته إنه ميت منذ سنين.
كيف تعيش ومن الذي يصرف عليك؟
بيتنا فيه طعام لجدي وجدتي، ولكنهم لا يسألون عني إذا كنت موجودا ام لا، جدي لا يحبني لانه يصفني ب'ولد ابوه' او بابن ال (...) اما جدتي فتقول لي إنه ليس لديها استعداد لتربي ابن الغرباء.
انا لا افهم ما يقولانه، ولكنني في النهاية لا أجد اي مكان آخر اذهب إليه سوى المنزل القديم الذي يعيشان فيه، وعلمت ان والدتي تغضب كثيرا إذا علمت ان جدي طردني من البيت.
قاطعته: إذن هي تحبك!!
لا طبعا، لانني علمت بعد ذلك انها تحرص على ذلك من اجل ان تأخذ جزءا من النفقة التي يدفعها والدي لها من أجلي.. هي تأخذ نصفها وتعطي جدي النصف الثاني، اما انا فيعطيني جدي 10 دنانير في الشهر.. تصور!!
هل حاولت ان تذهب إلى ابيك او امك او تتصل بهما، هل حاولت ذلك مرة واحدة على الاقل؟
حاولت كثيرا، إنني اعيش لوحدي وانا بحاجة إليهما. أمر بالعديد من الظروف، ولا أعرف كيف أتصرف. ذات مرة عدت من مجمع المهلب بالتاكسي وعندما وصلت البيت قلت له إنني لا املك النقود، فأخذني إلى المخفر. هناك دفع له الشرطي المال لانني صغير وادخلني عند الضابط فسألني عن أهلي، ولم يصدق انني لا اعرف عنهم شيئا، إلا عندما ذهب معي إلى بيتنا، وصادفنا هناك جارنا وسأله عن الوضع فأجابه، فتركني ورحل.
المواقف التي أمر بها كثيرة جدا، ولكن ماذا افعل؟ أشعر كأنني غريب هنا ولا يحبني احد.
جوع وعطش
حدثت أحد الإخوة الذين اثق بهم بموضوع التحقيق، فجاءني بعد عدة ايام وقال: صديقة زوجتي ترعى حالة شبيهة بالحالات التي تبحث عنها.
وذهبنا إليها بعد ان اقتنعت زوجته بالموضوع، ووقفنا امام البيت الذي تقيم فيه سهى وسجى.. ما اجمل هذين الاسمين. إنهما فتاتان بعمر الزهور المتفتحة المشرقة التي تشع نضارة وحيوية (هكذا قالت صديقة الزوجة عنهما) ولكن وصفها لم يصدق بالضبط عندما التقيناهما.
مدخل المنزل وحده يصيب الإنسان بالكآبة شهرا كاملا، فما بالك بمن يعيش في هذا البيت؟ والفتاتان لا تعيشان فيه بل في ملحقه مع جدتهما العجوز جدا، واعتقد انها وصلت إلى الخرف.
جلست معهما واعطيتهما بعض الهدايا التي سهل الله لي ان اجلبها معي، فقالتا لي بصوت واحد: 'عندك اكل!!' كانت هذه الكلمة كافية لأعرف مستوى المعيشة والحاجة والحالة التي تعيشانها، سألتهما:
كم اعماركما يا بنات؟
اجابت سهى:
انا 18 عاما واختي سجى 13 عاما. انا شخصيا مسؤولة عن الاسرة، يعطينا والدي 170 دينارا شهريا تشمل الإيجار والمأكل والمشرب والملبس والخدامة.
قاطعتها: واين والدك الآن؟
الآن؟! اين هو منذ 10 سنوات؟ اذكر انني رأيته منذ ذلك الوقت عندما ضربته والدتي بالمقلاة وهربت من البيت. كان الدم يسيل على وجهه، فغسلته عن وجهه وأجلسته. كان عمري آنذاك 8 سنوات، فطلب مني ان اجهز ملابسي واختي الصغيرة، واخذنا إلى جدتي التي كانت تسكن في هذا البيت، واخبرني بانه سيمر علينا بعد عدة ايام إلى ان تهدأ الامور.
'عدة أيام' هذه صارت 10 سنين، أجر خلالها عمي منزل جدي الكبير هذا، ووضع جدتي ونحن معها في هذا الملحق.
اين عمك.. هل يمر عليكما؟
لا نعلم عنه شيئا، لدي اربعة اعمام وعمتان، تأتي عمتاي لزيارة جدتي، ولكنهما لا تلتفتان إلينا ابدا، وكأننا عدوتان لهما لا اعلم لماذا؟
هل سألت جدتك عن السبب؟
كثيرا.. كنت استغرب هذه المعاملة القاسية منهما وجفاء اعمامي تجاهنا، ولكن جدتي كانت تقول: انتما ابنتاي انا، لا تسألا عن احد غيري.
وإذا توفاها الله (ادركت انني اخطأت في سؤالي هذا فحاولت تغيير الموضوع)، وماذا عن اخوالك؟
والدتي من إحدى الدول العربية، علمت انها سافرت إلى بلدها بعد الحادثة بثلاثة ايام وتركتنا في هذه الحال.
التفت إلى سجى وسألتها:
هل انت مشتاقة إلى والديك؟
رمقتني بنظرة لو اطالت بها قليلا لتكسر جسدي كما يتكسر الزجاج من شدة غضبها على الدنيا، والغريب انها لم تبك على الرغم من شدة الموقف وأثره الشديد، وقالت لي:
لا اعرف في هذه الدنيا سوى اختي وجدتي الله يطول بعمرها.
فسألت سهى التي كانت اكثر مرونة معي:
كيف تسيران اموركما؟
لا اخفي عليك اننا نواجه مصاعب ومواقف نحن في غنى عنها، كل الناس حولنا يعلمون اننا نعيش لوحدنا. المشكلة بدأت الآن عندما بدأت جدتي تفقد قوتها وحيويتها. في السابق كنا نعتمد عليها كثيرا، اما اليوم فنحن مضطرتان إلى أن نعتمد على انفسنا.. والحياة صعبة لا تنس نحن بنات.
بصراحة افكر بالزواج حاليا لكي نجد من يرعانا، اختي بحاجة إلى ان تكمل دراستها، انا فشلت لانني لم اجد من يهتم بي، كنت اعيش حياتي من دون هدف، بنات صغيرات ليس لديهن من يهتم بهن. حتى جدتي لم تكن تحرص على معرفة اين نذهب ومع من نجلس، إننا نعيش حياة الغرباء بين الناس.
لم أحب ان أكمل لقاءاتي مع هذه الحالات الإنسانية او اللاإنسانية، ليسمها كل حسب ما يرى، لانني ظللت ابحث عن جانب آخر في حياة هؤلاء 'الغرباء من أبناء الوطن'، وتوصلت إلى قضية مهمة للغاية تتعلق بهذا التحقيق، وهي 'ام حمد' التي تستغل هؤلاء استغلالا سيئا، فانتظروا قصة 'اوليفر تويست' القادمة، ولكن ليس بقلم تشارلز ديكنز وليست من لندن.. ولكن بقلم احمد ناصر ومن الكويت.
عشاء في المخفر
قال منصور:
ذهبت ذات مرة إلى المخفر لعلني اجد هناك من اتعشى معه، ولكن الشرطي قال لي إنه لا يستطيع ان يدخلني المخفر لعدم وجود شكوى لي ولا علي، ولست متهما بشيء، وعندما قلت له إنني اريد ان اتعشى معه اعطاني دينارين وقال لي إذهب إلى احد المطاعم.. المخافر يا بني لاصحاب المشاكل والمتهمين واللصوص فقط.
أين وزارة الشؤون؟
قالت إحدى الفتيات:
وزارة الشؤون لا تستقبل مثل حالتنا لانها ليست مستوفية لشروط الإيواء في الوزارة، ولذلك لا نستطيع ان نذهب إلى الوزارة لان لدينا اهلا ومنزلا وحاضنة رسمية، ولا تنفق علينا الوزارة لان لدينا نفقة موثقة في وزارة العدل.. المشكلة إذن ليست في الحكومة بل في اهلنا الكرام.
تحقيق: أحمد ناصر
http://www.alqabas.com.kw/Final/NewspaperWebsite/NewspaperBackOffice/ArticlesPictures/3-9-2006//199037_190004.jpg
الزميل أحمد ناصر وكريمته يحاوران صبية قست عليها الحياة
تتعاظم امامي الأمور احيانا حتى انني لا استطيع ان اصفها او اتحدث عنها، لانها أكبر في رأيي من الوصف والكلام، وتصغر في عيني الدنيا حينها لتصبح أصغر من بيضة الفري الصغيرة، لا تكاد ترى فيها شيئا فلا تعيرها أي أهمية. ليس الأمر انني أمر في أزمة او مشكلة، فهذه أشياء عادية في حياة كل إنسان، ولكن لأنها تحتوي على اشياء تجعل الإنسان يشعر بالخجل، وهذا التحقيق احدها.
الساعة الثانية والنصف منتصف الليل، كنت برفقة زوجتي في احد مطاعم الوجبات السريعة. اقتربت مني فتاة صغيرة عمرها 16 عاما، جميلة ورقيقة تشبه النسمة الهادئة، وقالت لي: 'عمي ممكن دينار ونص علشان اشتري عشاء؟'.
سألتها: 'ليش وين اهلك؟'، فقالت بلهجة يائسة: 'تبي تعطيني او لا، خلصني'، فقلت لها: 'اجلسي ولك ما تريدين'.
لحظتها تحرك فضولي الصحافي، وقلت لابد ان وراء هذه الفتاة الصغيرة قصة. وبعد ان تناولت وجبة عشائها معنا، سألتها عن قصتها واهلها، فقالت: 'إذا وصلتني البيت اقول لك القصة في الطريق'.
تسكن هذه الفتاة، واسمها منال، في إحدى المناطق الداخلية. قالت لي عندما سألتها اين أهلها:
أبي وأمي منفصلان منذ اكثر من ست سنوات، كان عمري يومها تسع سنين، وكان عمر أخي الاصغر ثلاث سنين. تزوج والدي فورا ثم تزوجت والدتي بعده باربعة أشهر. وعشنا عند جدتي والدة أبي إلى اليوم، هذه قصتي بالكامل.. هل هناك سؤال آخر؟ (قالتها بيأس).
لا، ولكن هل تسمحين لي ان ادخل معك البيت؟
كان المنزل الذي تسكن فيه من المنازل الكبيرة القديمة، ومتهالكا من القدم وقذرا إلى درجة غير طبيعية، كأنه مهجور بالكامل. في الحوش كان المنظر مرعبا لمن لم يعتد عليه، اما منال فكانت الامور بالنسبة إليها عادية، لا يظهر في الظلمة سوى عيون 'العتاوية والقطاوة' واعتقد الفئران ايضا، واوراق الاشجار القديمة المتساقطة على سيارتين كانتا في البيت تقول إن هذه الارض لم يجرعليها الماء منذ سنين طويلة.
فتحت منال الباب الحديدي ذا الزجاج المهشم، ودخلنا الصالة التي كان يرقد فيها امام التلفزيون صبي في الثامنة من عمره، إنه محمد أخو منال. لم يعرنا اهتماما ولم ينظر إلينا إلا بقدر من يريد ان يتأكد من ان أحدا دخل البيت، ثم صعدنا إلى غرفتها. وسألتها:
هل هذا بيتك الدائم؟
نعم، هل تظن أني أخذتك إلى منزل آخر؟ تأكد انه بيتي والصبي الصغير ذاك أخي محمد، والغرفة المقابلة لي هي غرفة جدتي العجوز التي لا تعرف أي شيء عنا.
انتم الثلاثة فقط في هذا المنزل الكبير؟
معنا الخادمة السيلانية، ولكننا لا نراها منذ المغرب. شخصيا اعرف انها تذهب لتنام في احد المنازل القريبة لانها متزوجة من سائق.
كانت الامور غير طبيعية ابدا، فتاة صغيرة في عمرالمراهقة الحرجة، تعيش مع جدتها واخيها الصغير وتدير امورها بنفسها، الجدة تنام مبكرا كما قالت (الساعة 7 مساء) ولا تستيقظ إلا متأخرا (الساعة 12 ظهرا). ما هذه الحياة؟ كيف يعيش هذان الصغيران ومن المسؤول عنهما؟
التفت إلى منال التي استلقت على الفراش وكادت تبدل ثيابها لولا ان رمقتها زوجتي بنظرة مرعبة.
سألتها عن والدها ووالدتها متى رأتهما آخر مرة، فقالت:
منذ اللحظة التي جاء فيها جدي واخوالي واخذوا والدتي لم ارها إلى اليوم. ومنذ اللحظة التي أوصلنا فيها والدي إلى منزل جدتي لم أره إلى اليوم.
الا يأتي لزيارة والدته؟
لا وهو اصلا ليس في الكويت، تزوج وهاجر مع زوجته إلى الخارج ولا اعرف عنه شيئا. كانت جدتي في الايام الاولى تسألنا عنه وتطلب منا ان نتصل به، فأقول لها إنه غير رقم هاتفه ولا اعرف رقمه الجديد.
ووالدتك الم تأت لرؤيتكما ابدا؟ ما هذه الأم القاسية! (وتداركت انني ربما اجرحها بهذا الكلام فقررت ان اكتفي بالسؤال فقط دون التعليق).
لم ار والدتي منذ اللحظة التي خرجت فيها من البيت، بصراحة نسيت ملامحها.
الم تحاولي الوصول إلى احدهما؟
بلى حاولت كثيرا لانني واخي نعيش لوحدنا، جدتي لا تستطيع ان تهتم بنا، تخيل انني اظل ابكي في بعض الليالي ساعات طويلة من القهر، لماذا ليس لدي من يهتم بي او يرعاني؟ انا صغيرة واخي اصغر مني ونحن بحاجة إلى من يهتم بنا. ولكن ماذا تفيد الدموع، احس اننا نعيش كالغرباء هنا.
فوجئت بان زوجتي غرقت بدموعها، فالقصة التي ترويها لنا منال ليست طبيعية. لأول مرة اسمع مثل هذه الحكاية، وفوجئت أكثر بان منال لم تتأثر ابدا بالكلمات التي قالتها، بل إنها أضافت: 'شرايك تعطيني خمسة دنانير ابي اروح السينما باكر'. سألتها:
كيف تديرين أمورك؟
(ابتسمت) تريد الحقيقة ام أن اجاملك؟ لا اريد ان اتحدث عن معاناتي، اموري لن تسعدك، اعطني خمسة دنانير لو سمحت. خرجت منها كلمة 'لو سمحت' كأنها بلسم شاف، الفتاة إذن فيها خير ولكنها بحاجة بالفعل إلى من يرعاها. فقلت لها:
اريد ان اتحدث مع محمد واعطيكما ما تريدان.
اذهب إليه إنه في الاسفل طوال الوقت.
ذهبت إلى محمد الصغير وهو ممدد امام الشاشة يلعب بإحدى الالعاب الإلكترونية. اقتربت منه وسألته ان يعطيني شيئا من وقته، فرد علي بكلمة قبيحة لم اشأ ان تسمعها زوجتي، ولكنني تداركت الموضوع معه، وقلت له:
هل تذهب معنا إلى السينما غدا؟ماذا تريد؟ هل هناك شيء ضروري؟ ألم تشتق إلى والدك يا محمد؟
لا اعرف في هذه الدنيا سوى جدتي واختي فقط.
وقام إلى الحمام.
أنت تعيش في الأوهام
خرجت من دون ان اعلق بكلمة واحدة، ولكنني ظللت ابحث عن خيط آخر يقودني إلى حالات اخرى مثل منال ومحمد. سألت بعض من اعرف من الاطباء النفسانيين وفي وزارة الشؤون والمخافر، فلم أصل إلى شيء، كان الجميع يقولون إن الامور كلها تمام وعال العال.
ومضت الايام وصدفة قالت لي ابنتي إن زميلة لها تريد ان تبات الليلة عندنا. رفضت طلبها، فقالت لي إن هذه الفتاة ستنام في الشارع إذا لم نسمح لها بالمبيت عندنا (!). سألت الفتاة الصغيرة - عمرها 17 عاما - عن أهلها فقالت إنها تعيش لوحدها. عاد بي الفضول مرة أخرى إلى منال واخيها، فسمحت لها ان تظل عندنا وانا اخطط لاعرف قصتها. سألتها:
كيف تعيش فتاة صغيرة مثلك لوحدها، اين أهلك يا ابنتي؟
غمزتني ابنتي وكأنها تقول لي 'لا تحرجها يا أبي'، ولكن الفتاة واسمها دلال ابتسمت وقالت إنها تعيش مع عمها بعد ان انفصل والداها وتزوج كل منهما.
كيف تقولين إذن انك تعيشين لوحدك، إنك مع عمك، والعم مثل الوالد.. اليس كذلك؟
انت يا عمي تعيش في الاوهام. أنا أعيش في غرفة الملحق الخلفي لوحدي، وعمي لا يعرف عني اي شيء، ولا اراه إلا عندما يأتي ليعطي الخادمة راتبها. أغيب عن البيت احيانا بالايام والليالي ولا يسأل اين انا، او مع من كنت او اين ذهبت. فوجئت ذات يوم بأن كل من في البيت سافر منذ اربعة ايام، قال لي ذلك المحاسب في فرع الجمعية القريب من منزلنا، وساومني على شرفي مقابل ان يعطيني 10 دنانير. رفضت وقررت ان لا اذهب إلى هذا الفرع مرة اخرى، واضطررت ان اسير مسافة طويلة إلى الفرع الثاني إذا اردت ان اشتري شيئا.
وماذا عن الدراسة، هل تذهبين إلى المدرسة؟
نعم انا مع ابنتك في فصل واحد!
هذا جيد ويعني انك محافظة على دروسك!
أيام الدراسة أفضل بالنسبة إلي لان هناك من يهتم بي، الإخصائية الاجتماعية تتابعني دائما وتسأل عني وتأخذني معها إلى السينما والمجمعات، وتأتي معي لاشتري ملابس العيد، وتأخذني معها إلى الاعراس. وعلى فكرة شاهدت والدتي صدفة ذات يوم في احد الاعراس، فأشرت للاخصائية إليها وقلت لها: 'تلك المراة ذات الرداء الاحمر والدتي'. أخذتني إليها، فضمتني والدتي بشدة وسألتني عن حالتي، ولكنها تجاهلتني بعد ذلك وكأنني غير موجودة، ورفضت ان تعطي الاخصائية رقم هاتفها. ولكن هذه الاخصائية الطيبة تسافر طوال ايام العطلة فأعود إلى وحدتي من جديد.. أشعر كثيرا انني غريبة هنا.
كنت اضع يدي على خدي عجبا مما اسمع هل هذا يحدث حقيقة.. عندنا في الكويت؟ هل هذه قصة حقيقية ام انها من اكاذيب المراهقات ليبررن حياتهن التي يعشنها، لكن ما شاهدته في المنزلين لم يكن هراء او اكاذيب، بل حقيقة وواقع علينا ان نعترف به رضينا ام ابينا. ولم اشأ ان احرج الصغيرة أكثر وهي في بيتي فتركتها مع ابنتي وخرجت.
ميت منذ سنين
في صباح اليوم الثاني ذكرت القصة لإمام المسجد كنوع من الفضول، فقال لي إن احد الاطفال يأتي إليه بين فترة واخرى ويتعشى معه ويطلب منه ان ينام في المسجد. وقال إنه كان يسأله عن اهله فيقول إنهم مسافرون. رجوته ان يعلمني إذا جاء إليه مرة أخرى، وبالفعل اتصل بي بعد بضعة ايام وقال لي إن الطفل في المسجد في هذه اللحظة.
أقبلت إليه وجلست معه. كان صبيا جميلا تبدو عليه علامات الذكاء والفطنة، ولكنه كان مهملا بصورة واضحة لا تخفى على من يشاهده. سألته:
لماذا تنام في المسجد يا بني، اين أهلك وأين منزلكم؟
نظر إلي بشيء من الريبة كأنه كان يسأل نفسه ما دخل هذا الرجل الغريب بي؟ ولكنه اجابني بثقة:
ـ ليس لي منزل وليس لي أهل!
اين تعيش إذن واين تذهب في الايام الاخرى؟
فقال له إمام المسجد:
اجب الرجل يا بني إنه رجل فاضل ومحترم ويريد ان يساعدك.
ابتسمت لكلمات الإمام واعجبتني كلمات الإطراء، وسألت الصبي مرة أخرى:
ما اسمك، ومع من تعيش؟ ليس من المعقول ان تعيش لوحدك!
ـ اسمي منصور ولي اهل ولكنني اعيش لوحدي، منزلنا في القطعة الاخرى، اعيش مع جدي وجدتي ولكنهما لا يعلمان عني اي شيء، إنهما كبيران في السن، ووالداي انفصلا منذ اكثر من سبع سنوات وعمري الآن 11 سنة، لا اراهما ابدا ولا يأتيان لزيارتي ابدا.
الا تأتي والدتك لتزور والديها، الا تحن عليهما؟
لا اعلم، لا اراها تأتي إلى منزلنا إلا في بعض الاعياد وليس كل عيد. آخر مرة رأيتها فيها كانت قبل سنتين، طلبت من جدتي يومها ان تشتري لي دشداشة جديدة، ثم ذهبت من دون ان تعطيني عيدية، لا اعلم لماذا لا تحبني والدتي!!
ووالدك.. اين هو؟ ولماذا لا يسأل عنك؟
لا اعلم، لم أر والدي منذ الطلاق، لا اعرف حتى ملامحه الآن، سألني احد ابناء الجيران ذات يوم عن والدي فأجبته إنه ميت منذ سنين.
كيف تعيش ومن الذي يصرف عليك؟
بيتنا فيه طعام لجدي وجدتي، ولكنهم لا يسألون عني إذا كنت موجودا ام لا، جدي لا يحبني لانه يصفني ب'ولد ابوه' او بابن ال (...) اما جدتي فتقول لي إنه ليس لديها استعداد لتربي ابن الغرباء.
انا لا افهم ما يقولانه، ولكنني في النهاية لا أجد اي مكان آخر اذهب إليه سوى المنزل القديم الذي يعيشان فيه، وعلمت ان والدتي تغضب كثيرا إذا علمت ان جدي طردني من البيت.
قاطعته: إذن هي تحبك!!
لا طبعا، لانني علمت بعد ذلك انها تحرص على ذلك من اجل ان تأخذ جزءا من النفقة التي يدفعها والدي لها من أجلي.. هي تأخذ نصفها وتعطي جدي النصف الثاني، اما انا فيعطيني جدي 10 دنانير في الشهر.. تصور!!
هل حاولت ان تذهب إلى ابيك او امك او تتصل بهما، هل حاولت ذلك مرة واحدة على الاقل؟
حاولت كثيرا، إنني اعيش لوحدي وانا بحاجة إليهما. أمر بالعديد من الظروف، ولا أعرف كيف أتصرف. ذات مرة عدت من مجمع المهلب بالتاكسي وعندما وصلت البيت قلت له إنني لا املك النقود، فأخذني إلى المخفر. هناك دفع له الشرطي المال لانني صغير وادخلني عند الضابط فسألني عن أهلي، ولم يصدق انني لا اعرف عنهم شيئا، إلا عندما ذهب معي إلى بيتنا، وصادفنا هناك جارنا وسأله عن الوضع فأجابه، فتركني ورحل.
المواقف التي أمر بها كثيرة جدا، ولكن ماذا افعل؟ أشعر كأنني غريب هنا ولا يحبني احد.
جوع وعطش
حدثت أحد الإخوة الذين اثق بهم بموضوع التحقيق، فجاءني بعد عدة ايام وقال: صديقة زوجتي ترعى حالة شبيهة بالحالات التي تبحث عنها.
وذهبنا إليها بعد ان اقتنعت زوجته بالموضوع، ووقفنا امام البيت الذي تقيم فيه سهى وسجى.. ما اجمل هذين الاسمين. إنهما فتاتان بعمر الزهور المتفتحة المشرقة التي تشع نضارة وحيوية (هكذا قالت صديقة الزوجة عنهما) ولكن وصفها لم يصدق بالضبط عندما التقيناهما.
مدخل المنزل وحده يصيب الإنسان بالكآبة شهرا كاملا، فما بالك بمن يعيش في هذا البيت؟ والفتاتان لا تعيشان فيه بل في ملحقه مع جدتهما العجوز جدا، واعتقد انها وصلت إلى الخرف.
جلست معهما واعطيتهما بعض الهدايا التي سهل الله لي ان اجلبها معي، فقالتا لي بصوت واحد: 'عندك اكل!!' كانت هذه الكلمة كافية لأعرف مستوى المعيشة والحاجة والحالة التي تعيشانها، سألتهما:
كم اعماركما يا بنات؟
اجابت سهى:
انا 18 عاما واختي سجى 13 عاما. انا شخصيا مسؤولة عن الاسرة، يعطينا والدي 170 دينارا شهريا تشمل الإيجار والمأكل والمشرب والملبس والخدامة.
قاطعتها: واين والدك الآن؟
الآن؟! اين هو منذ 10 سنوات؟ اذكر انني رأيته منذ ذلك الوقت عندما ضربته والدتي بالمقلاة وهربت من البيت. كان الدم يسيل على وجهه، فغسلته عن وجهه وأجلسته. كان عمري آنذاك 8 سنوات، فطلب مني ان اجهز ملابسي واختي الصغيرة، واخذنا إلى جدتي التي كانت تسكن في هذا البيت، واخبرني بانه سيمر علينا بعد عدة ايام إلى ان تهدأ الامور.
'عدة أيام' هذه صارت 10 سنين، أجر خلالها عمي منزل جدي الكبير هذا، ووضع جدتي ونحن معها في هذا الملحق.
اين عمك.. هل يمر عليكما؟
لا نعلم عنه شيئا، لدي اربعة اعمام وعمتان، تأتي عمتاي لزيارة جدتي، ولكنهما لا تلتفتان إلينا ابدا، وكأننا عدوتان لهما لا اعلم لماذا؟
هل سألت جدتك عن السبب؟
كثيرا.. كنت استغرب هذه المعاملة القاسية منهما وجفاء اعمامي تجاهنا، ولكن جدتي كانت تقول: انتما ابنتاي انا، لا تسألا عن احد غيري.
وإذا توفاها الله (ادركت انني اخطأت في سؤالي هذا فحاولت تغيير الموضوع)، وماذا عن اخوالك؟
والدتي من إحدى الدول العربية، علمت انها سافرت إلى بلدها بعد الحادثة بثلاثة ايام وتركتنا في هذه الحال.
التفت إلى سجى وسألتها:
هل انت مشتاقة إلى والديك؟
رمقتني بنظرة لو اطالت بها قليلا لتكسر جسدي كما يتكسر الزجاج من شدة غضبها على الدنيا، والغريب انها لم تبك على الرغم من شدة الموقف وأثره الشديد، وقالت لي:
لا اعرف في هذه الدنيا سوى اختي وجدتي الله يطول بعمرها.
فسألت سهى التي كانت اكثر مرونة معي:
كيف تسيران اموركما؟
لا اخفي عليك اننا نواجه مصاعب ومواقف نحن في غنى عنها، كل الناس حولنا يعلمون اننا نعيش لوحدنا. المشكلة بدأت الآن عندما بدأت جدتي تفقد قوتها وحيويتها. في السابق كنا نعتمد عليها كثيرا، اما اليوم فنحن مضطرتان إلى أن نعتمد على انفسنا.. والحياة صعبة لا تنس نحن بنات.
بصراحة افكر بالزواج حاليا لكي نجد من يرعانا، اختي بحاجة إلى ان تكمل دراستها، انا فشلت لانني لم اجد من يهتم بي، كنت اعيش حياتي من دون هدف، بنات صغيرات ليس لديهن من يهتم بهن. حتى جدتي لم تكن تحرص على معرفة اين نذهب ومع من نجلس، إننا نعيش حياة الغرباء بين الناس.
لم أحب ان أكمل لقاءاتي مع هذه الحالات الإنسانية او اللاإنسانية، ليسمها كل حسب ما يرى، لانني ظللت ابحث عن جانب آخر في حياة هؤلاء 'الغرباء من أبناء الوطن'، وتوصلت إلى قضية مهمة للغاية تتعلق بهذا التحقيق، وهي 'ام حمد' التي تستغل هؤلاء استغلالا سيئا، فانتظروا قصة 'اوليفر تويست' القادمة، ولكن ليس بقلم تشارلز ديكنز وليست من لندن.. ولكن بقلم احمد ناصر ومن الكويت.
عشاء في المخفر
قال منصور:
ذهبت ذات مرة إلى المخفر لعلني اجد هناك من اتعشى معه، ولكن الشرطي قال لي إنه لا يستطيع ان يدخلني المخفر لعدم وجود شكوى لي ولا علي، ولست متهما بشيء، وعندما قلت له إنني اريد ان اتعشى معه اعطاني دينارين وقال لي إذهب إلى احد المطاعم.. المخافر يا بني لاصحاب المشاكل والمتهمين واللصوص فقط.
أين وزارة الشؤون؟
قالت إحدى الفتيات:
وزارة الشؤون لا تستقبل مثل حالتنا لانها ليست مستوفية لشروط الإيواء في الوزارة، ولذلك لا نستطيع ان نذهب إلى الوزارة لان لدينا اهلا ومنزلا وحاضنة رسمية، ولا تنفق علينا الوزارة لان لدينا نفقة موثقة في وزارة العدل.. المشكلة إذن ليست في الحكومة بل في اهلنا الكرام.