فاطمة
08-31-2006, 04:52 PM
هاني فحص - السفير اللبنانية
أول وصولنا الى العراق طلابا في الحوزة شرع بعض أساتذتنا في تعبئة ذاكرتنا بمثالات للقيم التي علينا أن نعتني بها.. حكوا لنا عن السيد محمد سعيد الحبوبي الشاعر الغزل، شاعر الموشحات والخمريات... أستاذ الأخلاق، المرجع، أستاذ المجتهدين، قائد ثورة العشرين وعن أخلاقه وتواضعه ونكرانه لذاته، وتوقفه عن كتابة الشعر فترة طويلة من الزمن وتعويضه عن ذلك بالإصغاء الى شعر الشعراء من تلامذته.. حتى ان أحدهم قرأ له قصيدة غزلية فأعجبته كثيرا، وسأل الذي قرأها: لمن هذه القصيدة؟ فقال: إنها لكم يا سيدي... هذا من آخر..
هذا نكران للذات يجعلها أعمق حضوراً وأشد سطوعاً في الآخر... وحدثونا عن مرجع آخر حاز قصب السبق، الى الفقه والأدب، في التواضع واعتماد البساطة، لا عن بساطة، بل توارياً خلف المشهد ليصبح المتواري مصدر الإشعاع في هذا المشهد.. قالوا: كان الشيخ علي القمي المرجع يؤم صلاة المغرب والعشاء جمعا في الساحة المحيطة بمرقد الإمام علي بن أبي طالب وسط مدينة النجف.. وبعد صلاة المغرب جلس للتسبيح، وتقدم أحدهم وهمس في أذنه كلاما، تغير وجهه قليلا، ظهرت عليه علامات الحزن، ولكنه ما لبث أن نادى مكلمه وهمس في أذنه كلاما، سمع جوابه ثم قام سريعا الى إمامته للمصلين، فصلى بهم العشاء من دون أدنى تغيير في الأداء..
وعندما انتهت الصلاة والتعقيب عليها، تقدم منه بعض المقربين من تلامذته الكبار، وسألوه عما جرى... فقال لهم ان الرجل أخبره بأن ولده الوحيد قد لاقى حتفه على يد قطاع الطريق في طريقه الى كربلاء لزيارة الحسين في الأربعين مشيا على الأقدام على جاري عادة أهل العراق، فاغتم لذلك، وفي المرة الثانية سأل المخبر: وهل علمتم أنه قاوم قاتليه قبل موته، فأكد له ذلك، عندئذ تراجعت علامات الحزن من وجهه بإملاء من عقله وقلبه واستأنف عبادته، وحمد الله على الشهادة <من مات عن شبر من أرضه فهو شهيد ومن مات عن عقال بعيره فهو شهيد.. الخ> (مأثور نبوي) ودعا الى تجهيز الجنازة والقبر.. ويقال بأنه تزوج بعد هذه الحادثة وأنجب بدل وحيده، لأن زوجته أم الشهيد كانت قد تجاوزت سن الحمل والإنجاب.
هذه تحية الى المجاهدين أريد بها تغليب مكوناتي التي دخلت في جيناتي على حساباتي، من دون إلغاء هذه الحسابات، بل مع تأجيل بعضها من غير الضروري أو الملح، وتنقيح بعضها مما لا يجوز كتمانه أو تأجيله، غاية الأمر ان الحسابات في زمن السلم لا بد ان تكون باردة وفي زمن الحرب لا بد ان تكون دافئة، وإلا أصبح حساب المحاسب عند الله والتاريخ عسيرا... والأحمق الأحمق، وان يكن بريئا، هو من يبدأ الحساب مع ذاته أو الآخر، مع شريكه أو زميله أو تلميذه أو ولده، من السلبي الى الايجابي، لأن البدء من السلبي يلغي المفعول الصحيح للحساب، يحول المحاسبة الى مكايدة، بينما البدء من الايجابي يسهل التفاهم والتعاون على تفادي السلبي في الحسابات التالية... وما من نجاح مطلق ولا رسوب مطلق في القضايا المركبة كقضية لبنان، كيانا ودولة وحكومة واجتماعا أهليا وسياسيا... ومقاومة، وظروفا محلية واقليمية ودولية... وأعود على بدء...
هذه تحية للمجاهدين الذين مرّغوا جبهة الصهيونية بالوحل اللبناني، فلا الجبهة أصبحت طاهرة بطهارة التراب، ولا التراب أصبح نجسا بنجاستها، وهو في الأصل طاهر وبما خامره من عرقهم ودمهم النادر والخصب، أصبح طهورا، أي طاهرا بذاته مطهرا لغيره، إذا كان هذا الغير قابلا للطهارة، اي إذا لم يكن خنزيرا، لأن الخنزير لا يطهره شيء، وهذا الدم الذي خامر وخالط التراب، او خالطه التراب، له ميزة لا بد من التنبيه إليها، وهي أنه لا يُشرب، لا يشربه شيء، لا تشربه الأرض.. ويمكن ان يشربه البشر، يمكن ان يشربه صاحبه اذا لم يحسن استخدامه وتثميره وتحويله الى إكسير للحياة الوطنية، ويمكن ان يشربه من رباه وعلمه الحب والفداء حبا، رغبا ورهبا، رغبا في الكرامة ورهبا من سؤال الرب والضمير، يشربه من رباهم إذا لم يتم له كل الظروف وكل الشروط لكي يربو، ينمو حلالا، ولن يكون حلالا إلا بمدى سعته واتساعه للوطن كله، واذا ما أصبح بمساحة الوطن فإنه يصبح واجبا على كل الوطن وجميع المواطنين، كالعلم والعمل والصلاة والحوار الدائم من أجل لبنان الرسالة.. أما كارهو هذا الدم البهي، وهم في لبنان شواذ وأنا لا أعرفهم، فإنهم هم الخاسرون، وحدهم، هم الفقراء، وهم القاصرون المقصرون عن وظيفتهم الوطنية، أي المساعدة والتعاون من أجل تحويل قيم المقاومة ومعانيها الى رافعة لاستقلال لبنان وسيادته. حذار إذن أن يحاول ساذج ان يشرب هذا الدم... وحتى لا يفكر مغرور او مغامر بذلك، علينا ان نهيئ كل الظروف من أجل ان يصبح هذا الدم أكثر اعتصاما بذاته وبنا من التدنيس.
وفي شرعنا الاسلامي ان القلة تعتصم بالكثرة، ومن هنا يصبح الماء القليل، في الإبريق أو الكأس، أكثر عرضة للنجاسة، من الماء في مكان واسع (له تحرير فقهي لحجمه).. وكلما كثر الماء اشتد اعتصامه، ومن هنا فإن المحيط أشد اعتصاما من البحر، والبحر من البحيرة، والنهر من الساقية، والأصل من الفرع، ومجموع الفروع من أحدها.. وقل الوطن والأمة والشعب والطوائف والمناطق والأحزاب والمقاومة والدولة والسياسة والحكومة والدين والمدينة. كل طرف من هؤلاء لا يعصم ويعتصم إلا بالطرف الآخر. وإذا ما اعتصم وحده مكتفيا بذاته لأنه كثير وقوي فإنه يعرّض نفسه للنجاسة في آخر المطاف، وفي شرعنا ان الماء اذا ما كان كثيرا، كالبركة الواسعة، كلبنان الوطن والشعب والكيان، فإنه لا يتنجس الا إذا تغير لونه او طعمه او رائحته بفعل النجاسة، اي أصبح فاسدا لا يصلح للشرب والوضوء، ويمكن تطهيره بوصله بماء كثير معتصم بذاته لكثرته او جريانه كالنهر الى ان يعود الى لونه ورائحته وطعمه السائغ.. هذا إذا كان الماء الكثير أو القليل المعرض للنجاسة ماء قراحا، أما إذا كان ماء مضافا، ماء ورد أو زهر أو عصير تفاح أو دماً أحمر حلو المذاق كدم الشهداء، فإنه لا يطهر إذا ما تنجس أبدا ولا بد من إهراقه...
والماء المضاف كهذا لا جدال في أهميته وضرورته الغذائية ولذلك يجب الحفاظ عليه والحذر الشديد من تنجيسه لأن ذلك يعني الحرمان منه.. هذا معنى التعدد والتركيب الوطني، هذا معنى لبنان المركب، فإذا ما كانت كل طائفة من طوائفه ماء قراحا طائفيا، تتعرض للدنس ويمكن علاجها على المستوى الطائفي وان بصعوبة أحيانا، فإن المركب اللبناني اذا فسد وتنجس بنجاسة أميركية أو إسرائيلية أو غيرها... فإن ذلك يعني نهاية وجوده ومفعوله. واضطرار العطاشى الى الوطن والكرامة ان يبحثوا لهم عن وطن آخر... ولن يجدوه.
فلنسيّج إذن لبنان... والحرب دلتنا على الطريقة، هذه المرة صنعنا مجدنا وحدنا، والمخلصون أضافوا ما عندهم الى ما عندنا، ولو لم يكن عندنا شيء، لما نفعت إضافة العرب الى المخزون اللبناني شيئا.. مبروك.. للدولة، للحكومة التي أنجزت ذاتها في التحدي، وحدها، ومبروك للمقاومة التي أنجزت ذاتها وحدها.. وحدها، الدولة والمقاومة؟ أبدا.. هناك مليون مهجر وعشرات الآلاف من المنازل المهدمة والمئات من الشهداء والمئات من الأطفال الشهداء وغيره وغيره الى آخر المشهد الدامي والخراب الجميل اذا ما كان اللبنانيون مصرين على الجمال.. هذا المشهد أمانة في أعناقنا، ولن نمحو صورته إلا بتحويله الى مشهد وطني بالعمارة وأهلها.. إذن نستطيع ان نصنع دولة مع المقاومة ونستطيع ان ننجز المقاومة والصمود مع الدولة... إذن استشهد المدنيون ومنازلهم واستشهد المجاهدون.. إذن فلبنان شهيد، فليكن شاهدا وفاء لأهل الشهداء.. لوطن الشهداء.. ولتكن الوحدة جسرا بدل الجسر المقطوع.. عندئذ تبنى الجسور وتعمر بالتواصل بين عكار والجنوب.. ويصيح الجنوب جنوب الوطن لا جهة ضائعة في الجهات.
نجحنا إذن، وعندما شرع كل منا ينكر ذاته من دون أن يلغيها، لأن إلغاءها لا يفيد أحدا بل يضر الجميع، عند ذلك أصبح لنا دولة، وبالاستمرار في إنكار الذات من أجل الوطن، تبقى لنا دولة تنجزها دائما بالشراكة وتنجزنا دائما، ويخيب ظن الذين قالوا لنا إنهم يريدون لنا دولة، ولكنها دولة على مقاييسهم، أي لا دولة.. لأن الحرية هي شرط الدولة، والعبد لا يبدع ولا ينتج... الحرية شرط كل شيء. ونحن كما كان يكرر حميد فرنجية <أحرار بمقدار ما نكون عبيدا للقانون> أي ان الدولة التي تحكمنا هي التي تحررنا وتحررنا بمقدار ما نحررها بالوحدة والحوار والتكامل وترتيب الأولويات والتسويات الشريفة المشرفة.
أول وصولنا الى العراق طلابا في الحوزة شرع بعض أساتذتنا في تعبئة ذاكرتنا بمثالات للقيم التي علينا أن نعتني بها.. حكوا لنا عن السيد محمد سعيد الحبوبي الشاعر الغزل، شاعر الموشحات والخمريات... أستاذ الأخلاق، المرجع، أستاذ المجتهدين، قائد ثورة العشرين وعن أخلاقه وتواضعه ونكرانه لذاته، وتوقفه عن كتابة الشعر فترة طويلة من الزمن وتعويضه عن ذلك بالإصغاء الى شعر الشعراء من تلامذته.. حتى ان أحدهم قرأ له قصيدة غزلية فأعجبته كثيرا، وسأل الذي قرأها: لمن هذه القصيدة؟ فقال: إنها لكم يا سيدي... هذا من آخر..
هذا نكران للذات يجعلها أعمق حضوراً وأشد سطوعاً في الآخر... وحدثونا عن مرجع آخر حاز قصب السبق، الى الفقه والأدب، في التواضع واعتماد البساطة، لا عن بساطة، بل توارياً خلف المشهد ليصبح المتواري مصدر الإشعاع في هذا المشهد.. قالوا: كان الشيخ علي القمي المرجع يؤم صلاة المغرب والعشاء جمعا في الساحة المحيطة بمرقد الإمام علي بن أبي طالب وسط مدينة النجف.. وبعد صلاة المغرب جلس للتسبيح، وتقدم أحدهم وهمس في أذنه كلاما، تغير وجهه قليلا، ظهرت عليه علامات الحزن، ولكنه ما لبث أن نادى مكلمه وهمس في أذنه كلاما، سمع جوابه ثم قام سريعا الى إمامته للمصلين، فصلى بهم العشاء من دون أدنى تغيير في الأداء..
وعندما انتهت الصلاة والتعقيب عليها، تقدم منه بعض المقربين من تلامذته الكبار، وسألوه عما جرى... فقال لهم ان الرجل أخبره بأن ولده الوحيد قد لاقى حتفه على يد قطاع الطريق في طريقه الى كربلاء لزيارة الحسين في الأربعين مشيا على الأقدام على جاري عادة أهل العراق، فاغتم لذلك، وفي المرة الثانية سأل المخبر: وهل علمتم أنه قاوم قاتليه قبل موته، فأكد له ذلك، عندئذ تراجعت علامات الحزن من وجهه بإملاء من عقله وقلبه واستأنف عبادته، وحمد الله على الشهادة <من مات عن شبر من أرضه فهو شهيد ومن مات عن عقال بعيره فهو شهيد.. الخ> (مأثور نبوي) ودعا الى تجهيز الجنازة والقبر.. ويقال بأنه تزوج بعد هذه الحادثة وأنجب بدل وحيده، لأن زوجته أم الشهيد كانت قد تجاوزت سن الحمل والإنجاب.
هذه تحية الى المجاهدين أريد بها تغليب مكوناتي التي دخلت في جيناتي على حساباتي، من دون إلغاء هذه الحسابات، بل مع تأجيل بعضها من غير الضروري أو الملح، وتنقيح بعضها مما لا يجوز كتمانه أو تأجيله، غاية الأمر ان الحسابات في زمن السلم لا بد ان تكون باردة وفي زمن الحرب لا بد ان تكون دافئة، وإلا أصبح حساب المحاسب عند الله والتاريخ عسيرا... والأحمق الأحمق، وان يكن بريئا، هو من يبدأ الحساب مع ذاته أو الآخر، مع شريكه أو زميله أو تلميذه أو ولده، من السلبي الى الايجابي، لأن البدء من السلبي يلغي المفعول الصحيح للحساب، يحول المحاسبة الى مكايدة، بينما البدء من الايجابي يسهل التفاهم والتعاون على تفادي السلبي في الحسابات التالية... وما من نجاح مطلق ولا رسوب مطلق في القضايا المركبة كقضية لبنان، كيانا ودولة وحكومة واجتماعا أهليا وسياسيا... ومقاومة، وظروفا محلية واقليمية ودولية... وأعود على بدء...
هذه تحية للمجاهدين الذين مرّغوا جبهة الصهيونية بالوحل اللبناني، فلا الجبهة أصبحت طاهرة بطهارة التراب، ولا التراب أصبح نجسا بنجاستها، وهو في الأصل طاهر وبما خامره من عرقهم ودمهم النادر والخصب، أصبح طهورا، أي طاهرا بذاته مطهرا لغيره، إذا كان هذا الغير قابلا للطهارة، اي إذا لم يكن خنزيرا، لأن الخنزير لا يطهره شيء، وهذا الدم الذي خامر وخالط التراب، او خالطه التراب، له ميزة لا بد من التنبيه إليها، وهي أنه لا يُشرب، لا يشربه شيء، لا تشربه الأرض.. ويمكن ان يشربه البشر، يمكن ان يشربه صاحبه اذا لم يحسن استخدامه وتثميره وتحويله الى إكسير للحياة الوطنية، ويمكن ان يشربه من رباه وعلمه الحب والفداء حبا، رغبا ورهبا، رغبا في الكرامة ورهبا من سؤال الرب والضمير، يشربه من رباهم إذا لم يتم له كل الظروف وكل الشروط لكي يربو، ينمو حلالا، ولن يكون حلالا إلا بمدى سعته واتساعه للوطن كله، واذا ما أصبح بمساحة الوطن فإنه يصبح واجبا على كل الوطن وجميع المواطنين، كالعلم والعمل والصلاة والحوار الدائم من أجل لبنان الرسالة.. أما كارهو هذا الدم البهي، وهم في لبنان شواذ وأنا لا أعرفهم، فإنهم هم الخاسرون، وحدهم، هم الفقراء، وهم القاصرون المقصرون عن وظيفتهم الوطنية، أي المساعدة والتعاون من أجل تحويل قيم المقاومة ومعانيها الى رافعة لاستقلال لبنان وسيادته. حذار إذن أن يحاول ساذج ان يشرب هذا الدم... وحتى لا يفكر مغرور او مغامر بذلك، علينا ان نهيئ كل الظروف من أجل ان يصبح هذا الدم أكثر اعتصاما بذاته وبنا من التدنيس.
وفي شرعنا الاسلامي ان القلة تعتصم بالكثرة، ومن هنا يصبح الماء القليل، في الإبريق أو الكأس، أكثر عرضة للنجاسة، من الماء في مكان واسع (له تحرير فقهي لحجمه).. وكلما كثر الماء اشتد اعتصامه، ومن هنا فإن المحيط أشد اعتصاما من البحر، والبحر من البحيرة، والنهر من الساقية، والأصل من الفرع، ومجموع الفروع من أحدها.. وقل الوطن والأمة والشعب والطوائف والمناطق والأحزاب والمقاومة والدولة والسياسة والحكومة والدين والمدينة. كل طرف من هؤلاء لا يعصم ويعتصم إلا بالطرف الآخر. وإذا ما اعتصم وحده مكتفيا بذاته لأنه كثير وقوي فإنه يعرّض نفسه للنجاسة في آخر المطاف، وفي شرعنا ان الماء اذا ما كان كثيرا، كالبركة الواسعة، كلبنان الوطن والشعب والكيان، فإنه لا يتنجس الا إذا تغير لونه او طعمه او رائحته بفعل النجاسة، اي أصبح فاسدا لا يصلح للشرب والوضوء، ويمكن تطهيره بوصله بماء كثير معتصم بذاته لكثرته او جريانه كالنهر الى ان يعود الى لونه ورائحته وطعمه السائغ.. هذا إذا كان الماء الكثير أو القليل المعرض للنجاسة ماء قراحا، أما إذا كان ماء مضافا، ماء ورد أو زهر أو عصير تفاح أو دماً أحمر حلو المذاق كدم الشهداء، فإنه لا يطهر إذا ما تنجس أبدا ولا بد من إهراقه...
والماء المضاف كهذا لا جدال في أهميته وضرورته الغذائية ولذلك يجب الحفاظ عليه والحذر الشديد من تنجيسه لأن ذلك يعني الحرمان منه.. هذا معنى التعدد والتركيب الوطني، هذا معنى لبنان المركب، فإذا ما كانت كل طائفة من طوائفه ماء قراحا طائفيا، تتعرض للدنس ويمكن علاجها على المستوى الطائفي وان بصعوبة أحيانا، فإن المركب اللبناني اذا فسد وتنجس بنجاسة أميركية أو إسرائيلية أو غيرها... فإن ذلك يعني نهاية وجوده ومفعوله. واضطرار العطاشى الى الوطن والكرامة ان يبحثوا لهم عن وطن آخر... ولن يجدوه.
فلنسيّج إذن لبنان... والحرب دلتنا على الطريقة، هذه المرة صنعنا مجدنا وحدنا، والمخلصون أضافوا ما عندهم الى ما عندنا، ولو لم يكن عندنا شيء، لما نفعت إضافة العرب الى المخزون اللبناني شيئا.. مبروك.. للدولة، للحكومة التي أنجزت ذاتها في التحدي، وحدها، ومبروك للمقاومة التي أنجزت ذاتها وحدها.. وحدها، الدولة والمقاومة؟ أبدا.. هناك مليون مهجر وعشرات الآلاف من المنازل المهدمة والمئات من الشهداء والمئات من الأطفال الشهداء وغيره وغيره الى آخر المشهد الدامي والخراب الجميل اذا ما كان اللبنانيون مصرين على الجمال.. هذا المشهد أمانة في أعناقنا، ولن نمحو صورته إلا بتحويله الى مشهد وطني بالعمارة وأهلها.. إذن نستطيع ان نصنع دولة مع المقاومة ونستطيع ان ننجز المقاومة والصمود مع الدولة... إذن استشهد المدنيون ومنازلهم واستشهد المجاهدون.. إذن فلبنان شهيد، فليكن شاهدا وفاء لأهل الشهداء.. لوطن الشهداء.. ولتكن الوحدة جسرا بدل الجسر المقطوع.. عندئذ تبنى الجسور وتعمر بالتواصل بين عكار والجنوب.. ويصيح الجنوب جنوب الوطن لا جهة ضائعة في الجهات.
نجحنا إذن، وعندما شرع كل منا ينكر ذاته من دون أن يلغيها، لأن إلغاءها لا يفيد أحدا بل يضر الجميع، عند ذلك أصبح لنا دولة، وبالاستمرار في إنكار الذات من أجل الوطن، تبقى لنا دولة تنجزها دائما بالشراكة وتنجزنا دائما، ويخيب ظن الذين قالوا لنا إنهم يريدون لنا دولة، ولكنها دولة على مقاييسهم، أي لا دولة.. لأن الحرية هي شرط الدولة، والعبد لا يبدع ولا ينتج... الحرية شرط كل شيء. ونحن كما كان يكرر حميد فرنجية <أحرار بمقدار ما نكون عبيدا للقانون> أي ان الدولة التي تحكمنا هي التي تحررنا وتحررنا بمقدار ما نحررها بالوحدة والحوار والتكامل وترتيب الأولويات والتسويات الشريفة المشرفة.