المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سرقة نزار قباني بعد رحيله !



yasmeen
08-30-2006, 07:53 AM
بقلم: جهاد فاضل


كان الناشر اللبناني الراحل بهيج عثمان يقول: 'ويل للناشر اذا فشل الكتاب الذي ينشره، وويل له أيضا إذا نجح هذا الكتاب'. وكان بهيج عثمان يقصد بهذه الكلمة رواج الكتاب أو عدم رواجه. فإذا لم يعرف الكتاب الرواج، فسيخسر الناشر بالطبع، اما اذا راج، واقبل الناس على شرائه، فسيغري ذلك مزوري الكتب بتزويره وبثه في المكتبات بسعر أدنى من سعر طبعته الأصلية، وفي هذه الحالة سيخسر الناشر أيضا.

ويبدو ان الشاعر العربي الكبير الراحل نزار قباني دفع فاتورة نجاح دواوينه الشعرية الذائعة الصيت في حياته، كما دفعها بعد رحيله

في حياته اضطر اكثر من مرة لمراجعة القضاء، أو لمراجعة السلطة الأمنية النافذة في بيروت يومها، ممثلة بقيادة قوات الردع العربية، لرد الأذى عنه، وقد نجحت قوات الردع يومها في مصادرة كميات كبيرة من دواوين الشاعر المزورة، وبالتالي اتلافها، ومعاقبة المزور، وكان عضوا في اتحاد الناشرين اللبنانيين، كما اضطر الشاعر مرة لطرد سكرتيره الذي كان يشرف على بيع مطبوعاته، اي 'مطبوعات نزار قباني' بسبب سوء أمانته.

ويبدو ان المزورين يطاردون نزار بعد رحيله، كما طاردوه في حياته، ولكن التزوير هذه المرة يتخذ صورة أخرى غير صورة تزوير الديوان، أو الدواوين، هي صورة الاعتداء على ما يسمى بحقوق الملكية الفكرية، عن طريق نشر اعماله الشعرية مجتزأة، حيث يعتمد المزور اسلوب تقديم 'مختارات' من شعره بعد وضع مقدمة هزيلة بسيطة ترتكز على سيرة الشاعر الذاتية وهي السيرة التي كتبها الشاعر نفسه، وبذلك يجد القارئ نفسه امام نزار قباني وجها لوجه: المقدمة التي كتبها 'معجب'، أو مريد للشاعر، تضم في الواقع 95 في المائة من شعر نزار ونثره، في حين ان 'المختارات' التي تلي هذه المقدمة هي بشحمها ولحمها لنزار قباني، اما الذي ليس لنزار أو لورثته من بعده، فهو الربح الذي يحققه ناشرو هذه الدواوين و'المعجبون' بصاحبها عن طريق بيعها الى جمهور متعطش لقراءة شعر دافئ عن المرأة بقلم 'شاعر المرأة'. ويزيد في اقبال الجمهور على قراءة هذه الكتب أثمانها الرخيصة نسبيا، وعناوينها المغرية مثل:

'نزار قباني شهريار هذا الزمان'، وصور لنزار، مفبركة بالطبع، يبدو فيها فاتحا ذراعيه وكأنه يدعو لنمط من الحياة إباحي متفلت من أي رادع أو ضابط، وهو ما لم يكنه أو يدعو إليه الشاعر يوما، فعلى الرغم من ان نزار تخصص بشعر المرأة، وصور في هذا الشعر جوانب حميمة شتى من علاقتها بالرجل مما لم يكن يعرف قبل نزار طريقه الى الشعر العربي المعاصر أو الحديث بهذه الشفافية، الا ان من غير الممكن نعت نزار بانه متهتكا أو إباحيا، أو حتى 'خياميا' يدعو الى طريقة عمر الخيام الى اقتناص اللذة والانصراف الى الخمرة، أو الى الحاضر، دون سواه، أو دون سواهما، ذلك ان لشعر نزار في المرأة جوانب حضارية أو ايجابية معروفة، والكثيرون من الباحثين يضعونه في مصاف المحررين والمنوروين.

على انه أيا كان الرأي الغالب في هذه المسألة، فلا شك ان هذه الكتب تسيء الى إرث نزار الشعري ولا تحسن اليه، فإذا كانت توصف، من الناحية القانونية، بانها عبارة عن سرقة، فهي توصف، ومن الناحية الادبية والمعنوية، بانها تشويه لتركته الشعرية التي تركها الشاعر، ذلك ان هذه 'المختارات' من شعره، يختارها اشخاص هم في غالبيتهم المطلقة، ان لم يكونوا كلهم، غرباء عن النادي الأدبي، والنقدي خصوصا، فهي غير مرفقة بمقدمة أو مقدمات تؤلف دراسة أو دراسات جدية رصينة تقدم اضاءات ما لسيرة الشاعر وشعره، والقصائد مملوءة بالاخطاء المطبعية.والمقدمة التي تتصدر هذه المختارات كثيرا ما تكون عبارة عن اعجاب سطحي أو غث بالشاعر، لأن التركيز فيها يكون على ابيات أو

قصائد 'معينة' للشاعر، مثل:
فصلت من جلد انساء عباءة
وبنيت أهراما من الحلمات
وكتبت شعرا لا يشابه سحره
إلا كلام الله في التوراة
جربت ألف عبادة وعبادة
فوجدت أفضلها عبادة ذاتي
أو:
زيديني عشقا زيديني
يا أحلى نوبات جنوني
يا سفر الخنجر في ذاكرتي
يا غلغلة السكين
زيديني غرقا يا سيدتي
إن البحر يناديني

في حين أن نزار قباني اذا كان يسكن بصورة من الصورة مثل هذه الابيات والقصائد، فهو يسكن ايضا في سواها، وفي سواها ربما اكثر، هذه الكتب هي كتب 'شعبوية' رخيصة لا في ثمنها وحده، بل قبل كل شيء في مقاصدها ومراميها، واقل ما يقال فيها انها لا تحيط على الاطلاق لا بهذا الجانب ولا بسواه من الشخصية السوية للشاعر، بل هي تقف على باب هذه الشخصية، ولا تتمكن من الدخول اليها، انها في القشور من 'النزارية' لا في الجوهر.

ويزيد في الطين بلة، كما يقال، لا النوعية الرديئة لهذه الكتب، بل الكمية ايضا، فلسنا ازاء كتاب واحد عن نزار ينهج النهج نفسه الذي اشرنا اليه، بل ازاء كمية من الكتب، ثمة هجوم على نزار يحتاج الى جهاز امني كامل لضبطه ومعاقبة اصحابه.

وقد تسنى لي وأنا انتقل بين اجنحة معرض القاهرة الدولي الاخير للكتاب، ان اعثر على عناوين بلا حصر لمثل هذه الكتب، مما يدل لا على الشراهة في الربح السريع لدى هؤلاء الناشرين والمؤلفين (ان صح ان يدعى اصحاب هذه الكتب بالمؤلفين)، بل وقبل كل شيء على 'ظاهرة' عرف هؤلاء، ان نزار 'يبيع'، فاقبلوا على استثماره، وبالطبع باسم 'الاعجاب' بالشاعر، وقد لحظ مثل هذا الاعجاب المثل القديم السائد الذي يقول: اللهم نجني من اصدقائي، أما اعدائي فأنا كفيل بهم.

أغلفة سوقية

ويزيد في غثاثة هذه الكتب وبشاعتها، اغلفتها، لم ار في حياتي اغلفة كتب سوقية بشعة، كهذه الاغلفة الرديئة التي رسمها او صنعها فنانون بمثل هذه البدائية الفنية.

لننظر معا الى الغلاف كتاب محمد ثابت: 'قصائد لنزار قباني رفضتها الرقابة، مع مختارات من اجمل ما كتب'، لن نقف طويلا امام كلمة 'الرقابة' المكتوبة بالخط الاحمر من اجل لفت نظر القارئ واصطياده بواسطتها، فمثل هذه الاساليب معروفة عن المرتزقة، وانما نريد ان نطيل النظر الى صورة نزار نفسه، التي تشبهه ولا تشبهه، ولم يمكن ان تكون هذه الصورة هي صورة ذلك الشاعر الدمشقي ذي الملامح النبيلة، وذي الاحساس المرهف، وقد يكون بعضنا وقف من بعض شعر نزار وهو حي، موقفا متحفظا، او سلبيا حتى، ولم تعجبه هذه القصيدة السياسية أو غير السياسية من شعره، ولكنني اعتقد ان الجميع، يرفضون سوق الشاعر الى بشاعة الرسم والى رخصه في آن، لا يمكن لفنان متمكن من فنه، يعرف حرص نزار على حسن الديكور، وقواعد البروتوكول، والسلوك الراقي، ان يرسم نزار مثل هذا الرسم القبيح الذي كما يسيء الى نزار يسيء الى من رسمه، ولكن احدا لا يحاسب احدا، فلا الناشر في وارد محاسبة الرسام، ولا في وارد محاسبة من يدعى محمد ثابت، فهدف الجميع في الجنيهات والملاليم التي سيتقاسمونها.

ولعل غلاف الكتاب الآخر: 'اروع ما كتب نزار قباني 'شهريار هذا الزمان' لمحمد رضوان اكثر قبحا وبشاعة من كتاب اخيه وزميله محمد ثابت، فصورة نزار في هذا الغلاف تشبه اعلانا للدخول الى كباريه أو ناد ليلي تقدم فيه كل انواع الاستعراضات. نزا يضحك، او يقهقه، وخلفه وامامه صور لنساء شهريار شرقي قديم أو حديث الى جانب نسائه أو حريمه.

دعوة الى وجبة جنس وفحش كان الشاعر غريبا كل الغربة عنها. كان الشاعر، في الكثير من الشعر العاطفي الذي كتبه يدعو الى تحرير النساء لا الى استعباد الرجل لهن. وعلى الرغم من قصائد عديدة للشاعر يتحدث فيها عن فتوحه في عالم المرأة، فان هناك سمة بارزة في شعره النسائي تضعه في خانة محرري المرأة الشرقية لا في خانة مستعبديها. ومن حقه بالطبع ان يلقب نفسه 'بمؤسس جمهورية النساء'. فقد عمل على تحرير المرأة ودعا الى انصافها، ولم يكن يوما شهريار. ومع انني شاهدت في حياتي ما لا يحصى من اغلفة الكتب فلم اشاهد غلافا اسوأ او ابشع من هذا الغلاف، شكلا ومضمونا.

من حيث الشكل، البشاعة تسكن كل شيء في الغلاف. الا ينسحق القلب امام تصوير الشاعر مبتسما مثل هذه الابتسامة وفاتحا ذراعيه وكأنه يدعو الجمهور الى وليمة جنسية دسمة، لا تعرف شراهة الناشر احيانا التوقف امام ضوء احمر او غير احمر. ولعل الضوء الاحمر يثيرها اكثر، فيدفعها الى الامام، تماما كتلك الثيران الاسبانية التي يثيرها هذا اللون اكثر من اي لون آخر فتندفع نحوه بكامل قواها قبل ان تخور هذه القوى تباعا الى ان تلاقي حتفها في النهاية، وناشرو هذه الكتب الرخيصة عن نزار يهمهم التركيز على ما هو مثير في ملفه الشعري لهدف واحد وحيد يتعلق بشباك التذاكر لا غير.

اما من حيث المضمون، فلم اقرأ في حياتي دراسات سخيفة عن شاعر او اديب، كمثل هذه الدراسات التي تتصدر المختارات من شعر نزار. اشخاص لا في العير ولا في النفير، لا يعرفون من شعر الشاعر سوى القشور، يتصدون لمهمة توكل في بلدان الحضارة عادة للدارسين والباحثين الاكاديميين المتخصصين. ولكنها مهمة توكل عندنا الى من لا شهادة ابتدائية احيانا لديه، والى من لا يعلم عن الشاعر سوى بضعة قصائد من نوع زيديني عشقا زيديني.

ولعل عباءة 'شهريار هذا الزمان' اكثر اثارة من الرسم القبيح لنزار على الغلاف. لم يكن يتلبس نزار قباني يوما شخصية شهريار. وقد بدا بالنسبة لكل من عرفه عن قرب، شخصية حضارية دمثة، رقيقة، حريصة على القيم والمبادئ في المجتمع وفي الاخلاق على السواء. والمعروف انه عمل سنوات طويلة في السلك الدبلوماسي، وينتمي في الاساس الى اسرة دمشقية محافظة. طبعا مر نزار بما يمر به كل فتى او رجل، فتنقل بين نساء كثيرات، ولكنه لم يكن يوما 'دون جوان' محترفا، او 'زير نساء'. وعلى مدى سنوات طويلة، كان يرفض - وعن سابق تصور وتصميم - الاستجابة لمغامرات سهلة لم يكن يرفضها سواه. وكثيراما مررت عليه في منزله بشارع مار الياس في بيروت، في ساعات المساء، ودون ان اتصل به هاتفيا، فأجده في لباس النوم، او في غرفة النوم.

وتقدم ابنته البكر هدباء صورة واقعية تؤيد هذه الصورة عندما تكتب عنه مرة:
'الذين يقرأون شعر ابي، ولا سيما دواوينه الاولى، يتصورون انه دون جوان عصره، وجامع نساء، وان حياته مبعثرة على ارصفة الليل والمقاهي والكاباريهات. انها كذبة كبيرة روجتها عنه صحافة 'التابلويد' والفضائح، حتى انني كنت امازحه دائما بقولي: سوف افضحك يوما، اذ سأقول للناس كم انت نقي، وعذري، وبيتوتي، تنام الساعة السادسة مساء وتنهض مع اذان الفجر، وكم انت نظيف ونظامي، ومعتزل ضوضاء الحياة الاجتماعية. فلا ليالي حمراء، ولا زرقاء، ولا صفراء، ولا من يسهرون، ولا تسكع ولا من يتسكعون!'.

تشويه صورة
هذه الكتب عن نزار - وهي تعد الآن بالعشرات - تخترع نزارا غير نزار الذي كان. نزار نفسه توقع في السيرة الذاتية التي كتبها قبل ان يرحل، ان يتعرض بعد رحيله لهذا التشويه الذي يحصل الآن له. في سيرته الذاتية كتب يقول: 'اريد ان اكتب قصتي مع الشعر قبل ان يكتبها احد غيري. اريد ان ارسم وجهي بيدي، اذ لا احد يستطيع ان يرسم وجهي احسن مني. اريد ان اكشف الستائر عن نفسي بنفسي، قبل ان يقصني الآخرون ويفصلوني على هواهم، قبل ان يخترعوني من جديد'.
لقد صح ما توقعه الشاعر. اكثر من نزار واحد جرى اختراعه حتى اليوم. وهناك صور اخرى للشاعر في طريقها الى الاختراع قد تتفق او تختلف مع الصور التي يجري تداولها الآن، والتي لا تمت الى حقيقة الشاعر والشعر. وسبب ذلك معروف هو غياب سلطة القانون، وعدم احترام حقوق الملكية الفكرية. ولو شاء ورثة نزار قباني الاهتمام بهذا الموضوع لاحتاجوا الى عدة محامين لا الى محام واحد لمطاردة هؤلاء المعتدين على حقوق الشاعر ومشوهي تراثه.