فاطمي
08-21-2006, 03:15 PM
الكلّ ينتظر موعد أول أيلول (سبتمبر) ...
مصطفى اللباد الحياة - 21/08/06//
خبير في الشؤون الإيرانية والتركية - القاهرة.
سكتت المدافع وانقشع غبار المعارك لتبدو صورة المشهد اللبناني والإقليمي مختلفة إلى حد كبير عن حالها قبل العدوان الإسرائيلي، إذ تغيرت التوازنات والأوزان الإقليمية واختلطت الأوراق والحسابات المحلية في شكل يضع منطقتنا أمام حقائق جديدة وبما يتجاوز الحدود السياسية لمسرح العمليات العسكرية لبنان. هندسة الخراب الإسرائيلية المرسومة بطائراتها المغيرة والموزعة على مناطق لبنان لم تستطع أن تطمس محدودية القوة الإسرائيلية الشاملة، بعد أن فقدت آلتها العسكرية هيبتها في المنطقة.
خرج «حزب الله» من المعركة ونفوذه المعنوي يتعزز بعد أن أفشل العدوان وبقي سلاحه وترسخت تحالفاته الإقليمية. نجحت واشنطن بنفوذها الطاغي على النظام الدولي في الخروج بقرار مجلس الأمن الرقم 1701، الذي لم يعكس الواقع العسكري على الأرض، ما ساهم في تعديل النتيجة استراتيجياً لتصبح نصف انتصار فقط لمصلحة «حزب الله» بدلاً من إخفاق إسرائيلي كامل. أما الأوزان الإقليمية المترتبة على نتائج الحرب فلا يمكن ضبطها بقرار دولي يحدد الرابحين والخاسرين بقدر ما تترجم وفقاً لموازين القوى على الأرض. ولما كانت الحال كذلك يبدو واضحاً أن النفوذ الإقليمي الإيراني، الذي استهدفته واشنطن بالحرب التي جرت على أرض لبنان، قد زاد حضوراً على حضوره.
وإذ أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس أثناء القصف الجوي المتواصل للأهداف المدنية اللبنانية أن الحرب هي «ميلاد» لشرق أوسط جديد، فإن رياح المعركة جاءت بصورة جديدة للشرق الأوسط لا تطابق ما اشتهته. حيث أثبتت الحرب، في ظل عجز إسرائيلي عن حسمها عسكرياً طوال أكثر من شهر وبتغطية أميركية عسكرية وديبلوماسية كاملة، أن هناك توزيعاً جديداً للأوزان الاستراتيجية بدأ في فرض نفسه على الخريطة الإقليمية، وهو التوزيع الذي يعكس بدقة اللحظة التاريخية الراهنة. ولأن التغيرات الكمية تحدث تغيرات نوعية، مثلما أثبت هيغل في ديالكتيكه الشهير، فقد أحدثت التغيرات السياسية والاستراتيجية الكمية في منطقتنا منذ احتلال أفغانستان 2001 والعراق 2003 وأخيراً حرب لبنان 2006 تغيرات نوعية عميقة الأثر، تمثلت في بروز نفوذ إقليمي إيراني قل نظيره في تاريخ إيران والمنطقة. ويعود هذا النفوذ إلى جملة من العوامل والأسباب يأتي في مقدمها الاخفاقات السياسية المتوالية لإدارة المحافظين الجدد الحاكمة في واشنطن. صحيح أن إيران نسجت بدأب وصبر «سجادتها الإقليمية» الممتدة من حدودها الغربية مروراً بالعراق وسورية وجنوب لبنان، حتى صارت «الحدود الإيرانية - الإسرائيلية» أمراً واقعاً في جنوب لبنان، إلا أن الآلة العسكرية الأميركية المنفلتة من عقالها في منطقتنا، قدمت أثمن الهدايا لإيران كي تمدد نفوذها الإقليمي في عموم المنطقة كما لم تفعل من قبل في تاريخها. والاخفاقات السياسية الأميركية في العراق تحديداً سمحت ببروز إيران كلاعب أساسي في بلاد الرافدين المحتلة أميركياً، وهي مفارقة تتكرر يومياً منذ احتلال بغداد وحتى كتابة هذه السطور. ولأن المرجعية الدينية والسياسية لـ «حزب الله» هي إيران، الداعم الحصري للحزب، فمن الطبيعي أن تكون نتيجة حرب لبنان 2006 عاكسة لنفوذ الأطراف المتحاربة ومن وراءها تحالفاتها الإقليمية. وهكذا يصب الانتصار المعنوي والعسكري لـ «حزب الله» في نهر المصالح الإقليمية لإيران، التي خرجت من هذه الحرب وهي في حال إقليمي أفضل مما كانت عليه قبل اندلاعها.
ربما استهدف القرار 1701 في المقام الأول إلغاء «الحدود الإيرانية - الإسرائيلية» عبر دفع قوات «حزب الله» إلى ما وراء نهر الليطاني، وهي نتيجة لم يستطع الجيش الإسرائيلي تحقيقها على أرض المعركة، ولكن الحدود السياسية للدول ليست سوى متخيل نظري لا وجود فيزيقياً له إلا على الخرائط، الأمر الذي يجعلها بالنهاية ترجمة للتوازن القائم إقليمياً ودولياً.
ولئن ارتبط تاريخ لبنان منذ استقلاله في العام 1943 بالتوازنات الإقليمية التي جعلته بؤرة للصراع الإقليمي وترمومتراً لا يخيب في قياس حرارة الأوزان الإقليمية المختلفة، إلا أن الجديد هذه المرة هو اعتراف القوة العظمى الوحيدة بقواعد اللعبة هذه ومحاولتها التأثير سلباً في نفوذ إيران الإقليمي من الباب اللبناني عبر نزع سلاح «حزب الله». كان التصور الأميركي الحاكم قبل الحرب يستند الى القدرة الإسرائيلية على إنجاز مهمة نزع سلاح الحزب في فترة زمنية لا تتجاوز أسبوعين، مع مراعاة توفير الغطاء الدولي اللازم، وحصر العمليات العسكرية في مناطق وجود الشيعة في لبنان (الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية) واستثناء العاصمة بيروت من القصف الجوي لضمان تحييد الألوان الطائفية اللبنانية الأخرى في المعركة. أما الحسابات الإيرانية فانطلقت من فرضية أن المعارك العسكرية بين حزب الله وإسرائيل، ستضغط على النظام العربي الرسمي في شكل غير مسبوق، خصوصاً في ظل فشل عملية السلام والعربدة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما يتيح لإيران أحسن الفرص في ترجمة هذا الضغط لمصلحة تمددها المعنوي في المنطقة، وهو ما أثبتته الحرب بالفعل. كما بنيت الحسابات الإيرانية على معرفة الصلابة العقائدية والقتالية لمقاتلي «حزب الله»، وفرضية أن هذه الصلابة ستمنح إيران فرصة توجيه الرسائل، العسكرية منها والسياسية، إلى القوى الإقليمية والدولية.
وتطابقت الحسابات السياسية لكل من واشنطن وطهران من زاوية أن المعركة التي دارت على أرض لبنان هي «بروفة» لمعارك عسكرية مقبلة. وفي حين استعرض الطيران الإسرائيلي قدراته التقنية الأميركية وقنابله «الذكية» القادرة على اختراق التحصينات تحت الأرض في إشارة إلى المنشآت النووية الإيرانية وإمكان استهدافها، أبلى مقاتلو «حزب الله» أحسن البلاء في منع تقدم القوات الإسرائيلية وفي حصد الآليات والمدرعات الإسرائيلية بالمضادات الإيرانية المعدلة. وزاد «حزب الله» من جرعة الرسائل باستهدافه المدن الإسرائيلية بالصواريخ الإيرانية، حتى طاولت هذه الصواريخ تدريجاً حيفا وما بعد حيفا، تاركاً رسالة لواشنطن هي أن طهران تستطيع بالفعل استهداف تل أبيب المكتظة بالسكان بصواريخها من طراز شهاب - 3 في حال تعرضها لهجوم أميركي.
طورت إيران أوراقها الإقليمية ببراعة، وإضافة إلى تحالفها الإقليمي وموقعها الجغرافي المطل على الخليج وقدرتها على تعطيل مرور النفط منه إلى الأسواق الدولية، فقد عمدت إلى ترقية وضعها الأيديولوجي تجاه العرب الشيعة ليصبح في وضعية يمكن مقارنتها بوضعية الاتحاد السوفياتي السابق إزاء الشيوعيين في بلدان العالم المختلفة. ووفقاً لهذا التطوير صارت إيران بعد ربع قرن من ثورتها الإسلامية بمثابة المرجعية السياسية للشيعة في العالم، وعلى هذا المقتضى صبت نضالات الشيعة في لبنان وقضاياهم العادلة من أجل تحرير مزارع شبعا - احتسبوا أم لم يحتسبوا - في مصالح إيران الإقليمية، تماماً كما استثمر الاتحاد السوفياتي السابق نضالات الشيوعيين في بلدانهم المختلفة لتصب في مصالحه الدولية.
وبسبب غياب «المشروع العربي»، لم يتبق في المنطقة من مشاريع إقليمية سوى مشروعين: الأول من إعداد المحافظين الجدد يهدف إلى فرض شرق أوسط جديد منزوع الهوية وبقيادة إسرائيلية، والثاني في المقلب الأخر يرمي إلى الهدف ذاته، أي إلى قيام شرق أوسط جديد، ولكن بقيادة «الأممية الشيعية» أو «الكومنترن الإيراني» وتحالفاته الإقليمية. وفيما «السياسة العربية» متشككة حيال المشروعين وفاقدة القدرة على فرض مشروع مغاير، تمضي المنطقة في طريقها إلى تصعيد جديد حول الملف النووي الإيراني. فقد ضغطت واشنطن – المفلسة سياسياً واستراتيجياً أمام المناورات والمداورات الإيرانية - على دول مجلس الأمن لتمرير القرار الدولي 1696 أثناء العدوان على لبنان، والذي يمهل إيران حتى نهاية الشهر الجاري لإيقاف تخصيب اليورانيوم، وإلا ستواجه بعقوبات بحسب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. لكن العقوبات الدولية المتوقعة على إيران لن تسهم في تحييد طموحاتها الإقليمية، بل سيتم تنفيسها – في ضوء خبرة المنطقة في السنوات الثلاث الماضية - احتقاناً إقليمياً إضافياً في جوارها الجغرافي، وبما يجعل بداية الشهر المقبل مرحلة جديدة من التصعيد النوعي في المنطقة.
أثبت «العقل السياسي» الإيراني، في غير مناسبة، حضوره كقوة إقليمية نافذة في المنطقة، وباستخدام إمكانات أقل بما لا يقاس من إمكانات واشنطن وتحالفاتها في المنطقة، وفي المقابل ما زالت إدارة المحافظين الجدد تتخبط من ورطة إلى أخرى وتهرب إلى الأمام بحل أزماتها بالقوة العسكرية المجردة من تصورات سياسية تأخذ في الاعتبار مصالحها من ناحية، ومصالح حلفائها في المنطقة من ناحية أخرى. ما لم تدركه الإدارة الأميركية حتى الآن، أن التناقض الأساسي في منطقتنا يقوم من زاوية النظر العربية على الصراع العربي - الإسرائيلي، في حين يبقى التنافس الإقليمي مع إيران في مرتبة التناقض الثانوي. ما زال للدول العربية بعض القدرة على الإيذاء والعرقلة، وإن فقدت القدرة على المشاركة في فرض الإيقاع في المنطقة بسبب سياسة المحافظين الجدد، التي تضعف قدرة الدول العربية على القيام بأدوارها الإقليمية في شكل يحفظ الحد الأدنى من مصالحها ويضع الطموح الإقليمي الإيراني في حجمه الطبيعي. ولئن ساهمت إيران في سعيها الحثيث إلى القيام بدورها الإقليمي على حساب الأدوار العربية في طمس ترتيب التناقضات السالفة، إلا أن استمرار التعنت الأميركي في الاستجابة إلى الحد الأدنى من المطالب العربية لحل الصراع مع إسرائيل من شأنه أن يسوق المنطقة في طريق إجباري بقيادة «الكومنترن الإيراني».
مصطفى اللباد الحياة - 21/08/06//
خبير في الشؤون الإيرانية والتركية - القاهرة.
سكتت المدافع وانقشع غبار المعارك لتبدو صورة المشهد اللبناني والإقليمي مختلفة إلى حد كبير عن حالها قبل العدوان الإسرائيلي، إذ تغيرت التوازنات والأوزان الإقليمية واختلطت الأوراق والحسابات المحلية في شكل يضع منطقتنا أمام حقائق جديدة وبما يتجاوز الحدود السياسية لمسرح العمليات العسكرية لبنان. هندسة الخراب الإسرائيلية المرسومة بطائراتها المغيرة والموزعة على مناطق لبنان لم تستطع أن تطمس محدودية القوة الإسرائيلية الشاملة، بعد أن فقدت آلتها العسكرية هيبتها في المنطقة.
خرج «حزب الله» من المعركة ونفوذه المعنوي يتعزز بعد أن أفشل العدوان وبقي سلاحه وترسخت تحالفاته الإقليمية. نجحت واشنطن بنفوذها الطاغي على النظام الدولي في الخروج بقرار مجلس الأمن الرقم 1701، الذي لم يعكس الواقع العسكري على الأرض، ما ساهم في تعديل النتيجة استراتيجياً لتصبح نصف انتصار فقط لمصلحة «حزب الله» بدلاً من إخفاق إسرائيلي كامل. أما الأوزان الإقليمية المترتبة على نتائج الحرب فلا يمكن ضبطها بقرار دولي يحدد الرابحين والخاسرين بقدر ما تترجم وفقاً لموازين القوى على الأرض. ولما كانت الحال كذلك يبدو واضحاً أن النفوذ الإقليمي الإيراني، الذي استهدفته واشنطن بالحرب التي جرت على أرض لبنان، قد زاد حضوراً على حضوره.
وإذ أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس أثناء القصف الجوي المتواصل للأهداف المدنية اللبنانية أن الحرب هي «ميلاد» لشرق أوسط جديد، فإن رياح المعركة جاءت بصورة جديدة للشرق الأوسط لا تطابق ما اشتهته. حيث أثبتت الحرب، في ظل عجز إسرائيلي عن حسمها عسكرياً طوال أكثر من شهر وبتغطية أميركية عسكرية وديبلوماسية كاملة، أن هناك توزيعاً جديداً للأوزان الاستراتيجية بدأ في فرض نفسه على الخريطة الإقليمية، وهو التوزيع الذي يعكس بدقة اللحظة التاريخية الراهنة. ولأن التغيرات الكمية تحدث تغيرات نوعية، مثلما أثبت هيغل في ديالكتيكه الشهير، فقد أحدثت التغيرات السياسية والاستراتيجية الكمية في منطقتنا منذ احتلال أفغانستان 2001 والعراق 2003 وأخيراً حرب لبنان 2006 تغيرات نوعية عميقة الأثر، تمثلت في بروز نفوذ إقليمي إيراني قل نظيره في تاريخ إيران والمنطقة. ويعود هذا النفوذ إلى جملة من العوامل والأسباب يأتي في مقدمها الاخفاقات السياسية المتوالية لإدارة المحافظين الجدد الحاكمة في واشنطن. صحيح أن إيران نسجت بدأب وصبر «سجادتها الإقليمية» الممتدة من حدودها الغربية مروراً بالعراق وسورية وجنوب لبنان، حتى صارت «الحدود الإيرانية - الإسرائيلية» أمراً واقعاً في جنوب لبنان، إلا أن الآلة العسكرية الأميركية المنفلتة من عقالها في منطقتنا، قدمت أثمن الهدايا لإيران كي تمدد نفوذها الإقليمي في عموم المنطقة كما لم تفعل من قبل في تاريخها. والاخفاقات السياسية الأميركية في العراق تحديداً سمحت ببروز إيران كلاعب أساسي في بلاد الرافدين المحتلة أميركياً، وهي مفارقة تتكرر يومياً منذ احتلال بغداد وحتى كتابة هذه السطور. ولأن المرجعية الدينية والسياسية لـ «حزب الله» هي إيران، الداعم الحصري للحزب، فمن الطبيعي أن تكون نتيجة حرب لبنان 2006 عاكسة لنفوذ الأطراف المتحاربة ومن وراءها تحالفاتها الإقليمية. وهكذا يصب الانتصار المعنوي والعسكري لـ «حزب الله» في نهر المصالح الإقليمية لإيران، التي خرجت من هذه الحرب وهي في حال إقليمي أفضل مما كانت عليه قبل اندلاعها.
ربما استهدف القرار 1701 في المقام الأول إلغاء «الحدود الإيرانية - الإسرائيلية» عبر دفع قوات «حزب الله» إلى ما وراء نهر الليطاني، وهي نتيجة لم يستطع الجيش الإسرائيلي تحقيقها على أرض المعركة، ولكن الحدود السياسية للدول ليست سوى متخيل نظري لا وجود فيزيقياً له إلا على الخرائط، الأمر الذي يجعلها بالنهاية ترجمة للتوازن القائم إقليمياً ودولياً.
ولئن ارتبط تاريخ لبنان منذ استقلاله في العام 1943 بالتوازنات الإقليمية التي جعلته بؤرة للصراع الإقليمي وترمومتراً لا يخيب في قياس حرارة الأوزان الإقليمية المختلفة، إلا أن الجديد هذه المرة هو اعتراف القوة العظمى الوحيدة بقواعد اللعبة هذه ومحاولتها التأثير سلباً في نفوذ إيران الإقليمي من الباب اللبناني عبر نزع سلاح «حزب الله». كان التصور الأميركي الحاكم قبل الحرب يستند الى القدرة الإسرائيلية على إنجاز مهمة نزع سلاح الحزب في فترة زمنية لا تتجاوز أسبوعين، مع مراعاة توفير الغطاء الدولي اللازم، وحصر العمليات العسكرية في مناطق وجود الشيعة في لبنان (الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية) واستثناء العاصمة بيروت من القصف الجوي لضمان تحييد الألوان الطائفية اللبنانية الأخرى في المعركة. أما الحسابات الإيرانية فانطلقت من فرضية أن المعارك العسكرية بين حزب الله وإسرائيل، ستضغط على النظام العربي الرسمي في شكل غير مسبوق، خصوصاً في ظل فشل عملية السلام والعربدة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما يتيح لإيران أحسن الفرص في ترجمة هذا الضغط لمصلحة تمددها المعنوي في المنطقة، وهو ما أثبتته الحرب بالفعل. كما بنيت الحسابات الإيرانية على معرفة الصلابة العقائدية والقتالية لمقاتلي «حزب الله»، وفرضية أن هذه الصلابة ستمنح إيران فرصة توجيه الرسائل، العسكرية منها والسياسية، إلى القوى الإقليمية والدولية.
وتطابقت الحسابات السياسية لكل من واشنطن وطهران من زاوية أن المعركة التي دارت على أرض لبنان هي «بروفة» لمعارك عسكرية مقبلة. وفي حين استعرض الطيران الإسرائيلي قدراته التقنية الأميركية وقنابله «الذكية» القادرة على اختراق التحصينات تحت الأرض في إشارة إلى المنشآت النووية الإيرانية وإمكان استهدافها، أبلى مقاتلو «حزب الله» أحسن البلاء في منع تقدم القوات الإسرائيلية وفي حصد الآليات والمدرعات الإسرائيلية بالمضادات الإيرانية المعدلة. وزاد «حزب الله» من جرعة الرسائل باستهدافه المدن الإسرائيلية بالصواريخ الإيرانية، حتى طاولت هذه الصواريخ تدريجاً حيفا وما بعد حيفا، تاركاً رسالة لواشنطن هي أن طهران تستطيع بالفعل استهداف تل أبيب المكتظة بالسكان بصواريخها من طراز شهاب - 3 في حال تعرضها لهجوم أميركي.
طورت إيران أوراقها الإقليمية ببراعة، وإضافة إلى تحالفها الإقليمي وموقعها الجغرافي المطل على الخليج وقدرتها على تعطيل مرور النفط منه إلى الأسواق الدولية، فقد عمدت إلى ترقية وضعها الأيديولوجي تجاه العرب الشيعة ليصبح في وضعية يمكن مقارنتها بوضعية الاتحاد السوفياتي السابق إزاء الشيوعيين في بلدان العالم المختلفة. ووفقاً لهذا التطوير صارت إيران بعد ربع قرن من ثورتها الإسلامية بمثابة المرجعية السياسية للشيعة في العالم، وعلى هذا المقتضى صبت نضالات الشيعة في لبنان وقضاياهم العادلة من أجل تحرير مزارع شبعا - احتسبوا أم لم يحتسبوا - في مصالح إيران الإقليمية، تماماً كما استثمر الاتحاد السوفياتي السابق نضالات الشيوعيين في بلدانهم المختلفة لتصب في مصالحه الدولية.
وبسبب غياب «المشروع العربي»، لم يتبق في المنطقة من مشاريع إقليمية سوى مشروعين: الأول من إعداد المحافظين الجدد يهدف إلى فرض شرق أوسط جديد منزوع الهوية وبقيادة إسرائيلية، والثاني في المقلب الأخر يرمي إلى الهدف ذاته، أي إلى قيام شرق أوسط جديد، ولكن بقيادة «الأممية الشيعية» أو «الكومنترن الإيراني» وتحالفاته الإقليمية. وفيما «السياسة العربية» متشككة حيال المشروعين وفاقدة القدرة على فرض مشروع مغاير، تمضي المنطقة في طريقها إلى تصعيد جديد حول الملف النووي الإيراني. فقد ضغطت واشنطن – المفلسة سياسياً واستراتيجياً أمام المناورات والمداورات الإيرانية - على دول مجلس الأمن لتمرير القرار الدولي 1696 أثناء العدوان على لبنان، والذي يمهل إيران حتى نهاية الشهر الجاري لإيقاف تخصيب اليورانيوم، وإلا ستواجه بعقوبات بحسب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. لكن العقوبات الدولية المتوقعة على إيران لن تسهم في تحييد طموحاتها الإقليمية، بل سيتم تنفيسها – في ضوء خبرة المنطقة في السنوات الثلاث الماضية - احتقاناً إقليمياً إضافياً في جوارها الجغرافي، وبما يجعل بداية الشهر المقبل مرحلة جديدة من التصعيد النوعي في المنطقة.
أثبت «العقل السياسي» الإيراني، في غير مناسبة، حضوره كقوة إقليمية نافذة في المنطقة، وباستخدام إمكانات أقل بما لا يقاس من إمكانات واشنطن وتحالفاتها في المنطقة، وفي المقابل ما زالت إدارة المحافظين الجدد تتخبط من ورطة إلى أخرى وتهرب إلى الأمام بحل أزماتها بالقوة العسكرية المجردة من تصورات سياسية تأخذ في الاعتبار مصالحها من ناحية، ومصالح حلفائها في المنطقة من ناحية أخرى. ما لم تدركه الإدارة الأميركية حتى الآن، أن التناقض الأساسي في منطقتنا يقوم من زاوية النظر العربية على الصراع العربي - الإسرائيلي، في حين يبقى التنافس الإقليمي مع إيران في مرتبة التناقض الثانوي. ما زال للدول العربية بعض القدرة على الإيذاء والعرقلة، وإن فقدت القدرة على المشاركة في فرض الإيقاع في المنطقة بسبب سياسة المحافظين الجدد، التي تضعف قدرة الدول العربية على القيام بأدوارها الإقليمية في شكل يحفظ الحد الأدنى من مصالحها ويضع الطموح الإقليمي الإيراني في حجمه الطبيعي. ولئن ساهمت إيران في سعيها الحثيث إلى القيام بدورها الإقليمي على حساب الأدوار العربية في طمس ترتيب التناقضات السالفة، إلا أن استمرار التعنت الأميركي في الاستجابة إلى الحد الأدنى من المطالب العربية لحل الصراع مع إسرائيل من شأنه أن يسوق المنطقة في طريق إجباري بقيادة «الكومنترن الإيراني».