جمال
08-19-2006, 04:34 PM
http://www.alqabas.com.kw/Final/NewspaperWebsite/NewspaperBackOffice/ArticlesPictures/19-8-2006//195469_390005.jpg
البطالة والبؤس وراء ارتفاع نسب الجريمة وانتشار الأمراض.
الترقب والانتظار على امل ان تتحسن الأحوال
تحقيق: سليمة لبال - الجزائر
رغم أن الجزائر تعيش بحبوحة مالية لم تعرفها قبل عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بعد أن بلغت احتياطيات الصرف في خزينة الدولة اكثر من 61 مليار دولار، فإن ذلك لم ينعكس مباشرة على حياة المواطنين الذين يعد منهم آخر تقرير جزائري يستند إلى معطيات برنامج الأمم المتحدة، أزيد من 10 ملايين يعيشون دون أدنى مستويات الفقر وبدخل يقل عن دولار واحد يوميا، في وقت تسجل فيها المصالح الصحية عودة لأمراض الفقر المتمثلة في الليشمانيا الجلدية أو ما يعرف بالمناطق العربية بحبة حلب أو حبة بغداد بالإضافة إلى التهاب الكبد الفيروسي وغيرها من الأمراض التي تنتقل عن طريق المياه.
انعكاسات الفقر لم تتوقف عند هذا الحد وإنما تعدته لتظهر جلية من خلال الارتفاع الرهيب لنسب الجريمة في الجزائر وتفشي السرقات والاعتداءات في الليل كما النهار،ليس هذا فقط بل أصبح الاختطاف على الطريقة الأميركية ظاهرة تشغل بال رجال الشرطة بعد أن تمكنت في نهاية مايو عصابة أشرار من الفوز بفدية ب25 مليار سنتيم، نظير إطلاقها سراح احد رجال الأعمال بمنطقة القبائل شرق العاصمة الجزائر.
أرقام متضاربة
تتضارب التصاريح الرسمية وواقع الحياة بخصوص نسبة الفقر والفقراء بينما ينفي وزير التشغيل والتضامن الوطني جمال ولد عباس في خرجاته الإعلامية وجود فقراء في الجزائر مفضلا إطلاق تسمية المحتاجين على هذه الفئة، تشير الإحصائيات غير الحكومية إلى غير ذلك، بل وتؤكد أن الأمر أصبح كارثيا ويستدعي تدخل الدولة بإنقاذ أفراد هذه الشريحة من الموت البطيء بالنظر إلى تنامي فئة من الأغنياء لم تكن معروفة،على الأقل، بتوفير مناصب شغل دائمة تضمن لهم صفة المواطنة والعيش مرفوعي الرأس .
ودون اللجوء إلى الإحصائيات الرسمية أو غيرها، فان جولة بسيطة لأحياء العاصمة الشعبية تكشف وجود طبقة محرومة، تواجه الأمرين لضمان قوت أولادها وفي كثير من الأحيان تسترزق من العطايا والهبات التي تكون يوما ولا تكون أياما كثيرة. بقلب العاصمة تجولت 'القبس' ورصدت صورا أكثر من معبرة،لما يواجهه أناس لا يستطيعون سد رمق أطفالهم.
ودون أن أفصح عن هويتي تقدمت إلى محمد، يظهر من ملامح وجهه انه تجاوز العقد الخامس، سألته عن حاله وقد كان يستجدي رحمة التجار بسوق الحراش ليشتروا الأكياس البلاستيكية من بين يديه، قال لي 'أترين كيف هي حالتي، ما أتحصل عليه بعد يوم من الدوران وبيع الأكياس لا يكفي حتى لشراء خبز أولادي الذين انقطعوا عن الدراسة بسبب حاجتي إلى أن يساعدوني في تغطية مصاريف الأكل، والحمد لله أننا نسكن بيتا قصديريا ولا ندفع إيجاره وإلا لكان مصيرنا مجهولا'.
حلم محمد بسيط جدا،هو أن يعثر على عمل قار يكفيه شر السؤال كل مرة ويحميه من ضربات الشمس صيفا وتساقط الأمطار واشتداد البرد شتاء،وإن كان محمد أحسن وضعا ومحظوظا فإن قصة مريم ذات الحادية عشرة أشد وقعا على القلوب.
مريم وجدتها في ثياب رثة جدا تسأل عطف المارين،علها تظفر بشيء من المال يساعد عائلتها المكونة من سبعة أفراد على شراء خبز اليوم،مريم أسرت لي وبصوت خافت أن والدها اضطر إلى إخراجها من المدرسة بعد وفاة والدتها وهي تزود زوجة والدها بكل ما تتحصل عليه بعد يوم كامل وشاق من التسول.
ظاهرة التسول عرفت هي الأخرى انتشارا رهيبا خلال السنوات الأخيرة في العاصمة الجزائر وهو ما جعل العديد من المختصين يدقون ناقوس الخطر وإن شيدت الدولة بنايات لهؤلاء ووفرت لهم وجبات دافئة بداخلها إلا أن الظاهرة لم تجد لها حلا نهائيا ولو بإصرار مختلف بلديات العاصمة على المضي في تنفيذ مخططاتها،خصوصا أن الأمر يتعلق بصورة واحدة من أكبر حواضر البحر الأبيض المتوسط.
رسميا نسبة البطالة انخفضت
تشير الإحصائيات الرسمية التي أنجزها الديوان الوطني للإحصائيات التابع لإدارة الجمارك الجزائرية،إلى انخفاض نسبة البطالة من 30 في المائة سنة 1998 إلى حوالي 15 في المائة هذه السنة وهو انجاز كبير، حسب المتتبعين، لكن في المقابل كل الجهود المبذولة لم تحل الإشكال ولا يزال الكثير من الجامعيين يشتكون بسبب عدم توافر مناصب الشغل وان توافرت فهي عقود لفترات محددة ومقابلها زهيد جدا لا يكفي مصاريف فرد واحد طيلة أيام معدودة حيث تعتبر البطالة من أهم الأسباب التي تقف وراء تنامي ظاهرة الفقر في كل دول العالم الثالث وليس الجزائر حصرا.
ارتفاع نسب الاعتداءات والسرقة
لا يمكن الحديث عن الفقر في الأوساط الشعبية دون التعرض للجريمة، وقد أكد العديد من المختصين وجود تناسب طردي بين الظاهرتين، فكلما زادت نسبة الفقراء تفشت الجريمة بكل أشكالها،في غياب تدخل عناصر الشرطة الذين لا يستطيعون وفق القانون الجزائري استباق الأمر والتدخل دون وجود دليل مادي وهو ما شجع هذه الظاهرة التي أخذت لها أبعادا أخرى باعتمادها على تكنولوجية الهاتف النقال في رصد تحركات الشرطة وبدل أن يحاصر الشرطي المجرم، أصبح الشرطي هو المحاصر والمقيد.
تقول نعيمة وهي اختصاصية نفسانية أن الفقر والحاجة يدفعان المراهق والشاب إلى ارتكاب شتى أنواع الجريمة للحصول على مبلغ مالي ولو كان بسيطا،كما أنها ترى بأن انتشار تناول المخدرات في أوساط الشباب ساعد في ذلك بصورة رهيبة جدا، خصوصا في المناطق الشعبية بالعاصمة الجزائرية.
وتحكي خديجة وهي طبيبة بمستشفى الأمراض المعدية المسمى 'الأستاذ الهادي بلخنشير'، والواقع بأعالي العاصمة كيف انتشل منها أحد المراهقين حقيبة يدها وكيف عانت لإعادة استخراج وثائقها الشخصية بعد هذا الحادث، الذي دفعها إلى تفادي مغامرة المشي وحيدة في بعض الطرقات التي أصبحت مرتعا للصوص.
ولا يخلو يوم واحد من دون أن تسجل فيه مخافر الشرطة الجزائرية حالات سرقة سواء للهواتف النقالة أو الحقائب اليدوية أو حتى أجهزة الراديو الموصولة بالسيارات،فكل ما خف حمله معرض للسرقة وفي ثوان معدودة، وبالرغم من الانتشار الرهيب لأفراد الشرطة على مستوى العاصمة الجزائر، إلا أن الصعوبة تكمن في استحالة تحين الفرصة المناسبة المتزامنة مع حالة التلبس، مما يحول دون القضاء على هذه الظاهرة التي تفشت وعادت تقلق السلطات العمومية حتى أنها حلت محل ظاهرة الإرهاب التي تمكنت الجزائر من إطفاء نارها والقضاء على خلاياها النائمة بفضل سياسة المصالحة الوطنية.
الوضع هذا استدعى انتباه الرئيس الجزائري الذي شدد في احد خطاباته على ضرورة أن يتخلص المجتمع من سطوة اللصوص بعد أن استطاع الجيش من إحكام قبضته على المتطرفين.
عودة الأمراض
لقد أثر تردي الأوضاع المعيشية للسكان في الوضع الصحي العام، فالجزائر لا تزال تسجل أرقاما مخيفة تدل على خطورة الأوضاع فبعد أن أحصت 3.9 حالات تيفوئيد عام 2000، من بين 100 ألف شخص،أصبحت الليشمانيا وداء السل والتهاب السحايا من بين الأمراض المألوفة في بعض المحافظات الداخلية، والتي ترتبط دوما بتدهور الإطار المعيشي للسكان، حيث تؤكد الإحصائيات المقدمة من طرف وزارة الصحة والسكان أن 8125 شخصا في الجزائر أصيبوا بالأمراض المتنقلة عن طريق المياه السنة الفارطة علما بأن أكبر نسبة سجلتها الوزارة كانت في محافظة تيارت في الغرب و التي احتلت الصدارة لمدة تفوق 10 سنوات متتالية لإحصائها ل3.10 حالات من بين 100 ألف شخص، في الوقت الذي صرح فيه مكتب البرنامج الوطني لمكافحة السل في السنة نفسها عن إصابة 18294 شخصا بالمرض، أي ما يمثل 7.60 حالة من بين 100 ألف شخص.
وعلاوة على ذلك فالتسممات الغذائية والحمى المالطية وجميع الأمراض المنتقلة عن طريق الحيوان تقع ضمن الأمراض المرتبطة بنقص النظافة وقلة المياه. وما يزيد من خطورة انتقال كل هذه الأمراض هو غياب ثقافة الكشف الطبي عند الجزائريين الذين لا يعرضون أنفسهم على الأطباء إلا بعد المرض، مما يزيد في انتشار المرض، خاصة في ظل محدودية الموارد المائية التي ستعرف نقصا كبيرا مع مطلع عام 2020 حسب العديد من الدراسات التي أعدها خبراء في الميدان.
ويعود انتشار هذه الأمراض حسب الأطباء إلى تدهور الوضع البيئي وانعدام النظافة. ومثال ذلك الارتفاع الصارخ الذي سجل أخيرا بمنطقة الشهبونية بمحافظة المدية حوالي 200 كلم جنوب العاصمة بسبب تشكلها من أحياء قصديرية تنعدم فيها النظافة ومرافق الحياة المحترمة.
الوضع نفسه تعرفه مناطق أخرى من الجزائر، الأمر الذي تسبب في تسجيل رقم مرتفع لحالات الليشمانيا تبلغ 30227 حالة، وهو عدد كبير مقارنة مع العدد الذي سجل خلال سنة 2004 والبالغ 16828 حالة، في الوقت الذي أحصت فيه سنة 1997 عدد 8000 حالة.
580 مليون دولار لمواجهة الفقر في 16 محافظة
لقد دفعت الوضعية التي آلت إليها الكثير من المحافظات،الحكومية الجزائرية إلى اتخاذ قرار يرمي إلى تحسين ظروف عيش المواطنين وتمكينهم من المرافق العمومية قصد إبقائهم في أماكنهم والقضاء على النزوح الريفي الذي احدث اختلالا ديموغرافيا كبيرا بين المناطق الحضرية وشبه الحضرية والريفية منها،من فرط ما سببه الإرهاب من دمار وتخريب للمناطق النائية.
وينطوي برنامج تنمية محافظات الهضاب العليا الذي سيمتد على مدى فترة 2006 الى 2009 ويشمل 407 بلديات عبر 16 محافظة بالهضاب العليا، على 'ترقية الشغل والتضامن الوطني وتعزيز برامج التنمية على مستوى البلديات، وهي المحاور الكبرى للبرنامج التكميلي لدعم التنمية والتي هي تحديات سيتم رفعها'.
وحسب وزير قطاع التشغيل جمال ولد عباس،فان البرنامج سيتكرس بالاستماع للمواطنين والتقرب منهم قصد رصد ومعرفة الاحتياجات والأشخاص الذين سيتم التكفل بهم، على أن تكون الأولوية في هذه العملية، هي تقديم تسهيلات للحصول على مناصب شغل خاصة للبطالين الذين يتكفلون بإعالة عائلات بأكملها، مرورا بإعطاء اهتمام خاص لفئات المعوقين والمعوزين. ورصد لتطبيق هذا البرنامج 580 مليون دولار، تعود الحصة الكبرى لهذا الغلاف المالي إلى ترقية الشغل والبرامج الموجهة للدعم الاجتماعي الخاصة بالفئات المحرومة ثم شراء التجهيزات الخاصة بالشغل، وتتمثل العملية التضامنية في هذا البرنامج في دعم المنحة الجزائية ودعم مشاريع التنمية الاجتماعية كتشجيع الخلايا الجوارية والمراكز المخصصة للفئات ذات الاحتياجات الخاصة (المسنين، المعوقين، الطفولة المسعفة).
ولتفعيل البرنامج وجهت وزارة التشغيل تعليمات للمديرين العامين ومديري التشغيل الولائيين والمسؤولين عن النشاط الاجتماعي وإطارات الإدارة المركزية لضمان سير العملية في إطار الصرامة وتحمل المسؤولية وتشديد الرقابة على تسيير الموارد المالية المخصصة للبرنامج على مستوى هذه المحافظات التي تمثل 44 في المائة من المواطنين في الجزائر، تستفيد منه 9 محافظات عبر كامل بلدياتها، فيما ستستفيد البلديات عبر المحافظات السبع الأخرى على مراحل،ومن غير المستبعد أن تستفيد 38 بلدية في إطار توسيع البرنامج عبر 4 محافظات بمنحها قروضا وهي البويرة، المدية، ميلة وسوق أهراس وهي الأكثر تضررا من ظاهرة الإرهاب خلال العشرية الفارطة.
ويعد هذا البرنامج امتدادا للبرنامج الخاص بتنمية ولايات الجنوب الذي يشمل 10 ولايات، منها أضرار، تندوف، غرداية ورقلة، إليزي وتمنراست، ورصدت له 121 مليون دولار.
رغم البرامج.. الشكوك متزايدة
رغم البرنامج الطموح الذي أقرته الحكومة لدفع وتيرة التنمية، فإن العديد من المواطنين الذين سألتهم 'القبس' يتخوفون من أن يقع بين أيدي غير أمينة،فالفساد الذي استشرى في المجتمع يخيف هذه الفئات التي تتوق إلى غد أفضل بعد أن أنهكت كاهلها سنوات الإرهاب الأعمى.
لقد ارتبط الفساد ارتباطا وثيقا بعالم المال والمشاريع التي تخصص للمواطنين، لكنها تجد طريقا آمنا نحو جيوب المسؤولين بدل المحتاجين إليها وهو ما يقلق سعيد، ذلك الكهل الذي وجدته ببوغزول، تلك المدينة النائية التي تفتقر لكل متطلبات الحياة وتبعد عن العاصمة جنوبا بنحو 200 كلم، لقد قال لي 'أخاف أن تنتهي برامج الحكومة إلى لا شيء، مثلما انتهى مشروع العاصمة الجديدة ببوغزول،لقد عشنا طويلا بحلم تحويل العاصمة الجزائرية إلى بوغزول لكنه حلم لم ولن يتحقق بعد أن عدلت السلطات عليه ،فمن غير المعقول أن نستمر طوال سنوات عمرنا في انتظار سراب وأحلام تدغدغنا كلما غفونا '.
سعيد وأمثاله كثيرون ممن يعلقون أمالا كبيرة على التنمية وعلى رفع التحدي لدفع السكان على الاستقرار بأراضيهم دون اللجوء إلى الترحال بغية كسب العيش،هم أناس بسطاء رأس مالهم عفتهم وأياديهم لا تكل من الارتفاع لوجه الله بكرة وأصيلا لأن يرفع عنهم الغبن وتحيطهم الدولة بعنايتها لمواجهة الفقر الذي مكن للجريمة في أوساط المجتمع وساعد على تفشي الأمراض التي ما عادت تعرفها الإنسانية منذ سنوات.
البطالة والبؤس وراء ارتفاع نسب الجريمة وانتشار الأمراض.
الترقب والانتظار على امل ان تتحسن الأحوال
تحقيق: سليمة لبال - الجزائر
رغم أن الجزائر تعيش بحبوحة مالية لم تعرفها قبل عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بعد أن بلغت احتياطيات الصرف في خزينة الدولة اكثر من 61 مليار دولار، فإن ذلك لم ينعكس مباشرة على حياة المواطنين الذين يعد منهم آخر تقرير جزائري يستند إلى معطيات برنامج الأمم المتحدة، أزيد من 10 ملايين يعيشون دون أدنى مستويات الفقر وبدخل يقل عن دولار واحد يوميا، في وقت تسجل فيها المصالح الصحية عودة لأمراض الفقر المتمثلة في الليشمانيا الجلدية أو ما يعرف بالمناطق العربية بحبة حلب أو حبة بغداد بالإضافة إلى التهاب الكبد الفيروسي وغيرها من الأمراض التي تنتقل عن طريق المياه.
انعكاسات الفقر لم تتوقف عند هذا الحد وإنما تعدته لتظهر جلية من خلال الارتفاع الرهيب لنسب الجريمة في الجزائر وتفشي السرقات والاعتداءات في الليل كما النهار،ليس هذا فقط بل أصبح الاختطاف على الطريقة الأميركية ظاهرة تشغل بال رجال الشرطة بعد أن تمكنت في نهاية مايو عصابة أشرار من الفوز بفدية ب25 مليار سنتيم، نظير إطلاقها سراح احد رجال الأعمال بمنطقة القبائل شرق العاصمة الجزائر.
أرقام متضاربة
تتضارب التصاريح الرسمية وواقع الحياة بخصوص نسبة الفقر والفقراء بينما ينفي وزير التشغيل والتضامن الوطني جمال ولد عباس في خرجاته الإعلامية وجود فقراء في الجزائر مفضلا إطلاق تسمية المحتاجين على هذه الفئة، تشير الإحصائيات غير الحكومية إلى غير ذلك، بل وتؤكد أن الأمر أصبح كارثيا ويستدعي تدخل الدولة بإنقاذ أفراد هذه الشريحة من الموت البطيء بالنظر إلى تنامي فئة من الأغنياء لم تكن معروفة،على الأقل، بتوفير مناصب شغل دائمة تضمن لهم صفة المواطنة والعيش مرفوعي الرأس .
ودون اللجوء إلى الإحصائيات الرسمية أو غيرها، فان جولة بسيطة لأحياء العاصمة الشعبية تكشف وجود طبقة محرومة، تواجه الأمرين لضمان قوت أولادها وفي كثير من الأحيان تسترزق من العطايا والهبات التي تكون يوما ولا تكون أياما كثيرة. بقلب العاصمة تجولت 'القبس' ورصدت صورا أكثر من معبرة،لما يواجهه أناس لا يستطيعون سد رمق أطفالهم.
ودون أن أفصح عن هويتي تقدمت إلى محمد، يظهر من ملامح وجهه انه تجاوز العقد الخامس، سألته عن حاله وقد كان يستجدي رحمة التجار بسوق الحراش ليشتروا الأكياس البلاستيكية من بين يديه، قال لي 'أترين كيف هي حالتي، ما أتحصل عليه بعد يوم من الدوران وبيع الأكياس لا يكفي حتى لشراء خبز أولادي الذين انقطعوا عن الدراسة بسبب حاجتي إلى أن يساعدوني في تغطية مصاريف الأكل، والحمد لله أننا نسكن بيتا قصديريا ولا ندفع إيجاره وإلا لكان مصيرنا مجهولا'.
حلم محمد بسيط جدا،هو أن يعثر على عمل قار يكفيه شر السؤال كل مرة ويحميه من ضربات الشمس صيفا وتساقط الأمطار واشتداد البرد شتاء،وإن كان محمد أحسن وضعا ومحظوظا فإن قصة مريم ذات الحادية عشرة أشد وقعا على القلوب.
مريم وجدتها في ثياب رثة جدا تسأل عطف المارين،علها تظفر بشيء من المال يساعد عائلتها المكونة من سبعة أفراد على شراء خبز اليوم،مريم أسرت لي وبصوت خافت أن والدها اضطر إلى إخراجها من المدرسة بعد وفاة والدتها وهي تزود زوجة والدها بكل ما تتحصل عليه بعد يوم كامل وشاق من التسول.
ظاهرة التسول عرفت هي الأخرى انتشارا رهيبا خلال السنوات الأخيرة في العاصمة الجزائر وهو ما جعل العديد من المختصين يدقون ناقوس الخطر وإن شيدت الدولة بنايات لهؤلاء ووفرت لهم وجبات دافئة بداخلها إلا أن الظاهرة لم تجد لها حلا نهائيا ولو بإصرار مختلف بلديات العاصمة على المضي في تنفيذ مخططاتها،خصوصا أن الأمر يتعلق بصورة واحدة من أكبر حواضر البحر الأبيض المتوسط.
رسميا نسبة البطالة انخفضت
تشير الإحصائيات الرسمية التي أنجزها الديوان الوطني للإحصائيات التابع لإدارة الجمارك الجزائرية،إلى انخفاض نسبة البطالة من 30 في المائة سنة 1998 إلى حوالي 15 في المائة هذه السنة وهو انجاز كبير، حسب المتتبعين، لكن في المقابل كل الجهود المبذولة لم تحل الإشكال ولا يزال الكثير من الجامعيين يشتكون بسبب عدم توافر مناصب الشغل وان توافرت فهي عقود لفترات محددة ومقابلها زهيد جدا لا يكفي مصاريف فرد واحد طيلة أيام معدودة حيث تعتبر البطالة من أهم الأسباب التي تقف وراء تنامي ظاهرة الفقر في كل دول العالم الثالث وليس الجزائر حصرا.
ارتفاع نسب الاعتداءات والسرقة
لا يمكن الحديث عن الفقر في الأوساط الشعبية دون التعرض للجريمة، وقد أكد العديد من المختصين وجود تناسب طردي بين الظاهرتين، فكلما زادت نسبة الفقراء تفشت الجريمة بكل أشكالها،في غياب تدخل عناصر الشرطة الذين لا يستطيعون وفق القانون الجزائري استباق الأمر والتدخل دون وجود دليل مادي وهو ما شجع هذه الظاهرة التي أخذت لها أبعادا أخرى باعتمادها على تكنولوجية الهاتف النقال في رصد تحركات الشرطة وبدل أن يحاصر الشرطي المجرم، أصبح الشرطي هو المحاصر والمقيد.
تقول نعيمة وهي اختصاصية نفسانية أن الفقر والحاجة يدفعان المراهق والشاب إلى ارتكاب شتى أنواع الجريمة للحصول على مبلغ مالي ولو كان بسيطا،كما أنها ترى بأن انتشار تناول المخدرات في أوساط الشباب ساعد في ذلك بصورة رهيبة جدا، خصوصا في المناطق الشعبية بالعاصمة الجزائرية.
وتحكي خديجة وهي طبيبة بمستشفى الأمراض المعدية المسمى 'الأستاذ الهادي بلخنشير'، والواقع بأعالي العاصمة كيف انتشل منها أحد المراهقين حقيبة يدها وكيف عانت لإعادة استخراج وثائقها الشخصية بعد هذا الحادث، الذي دفعها إلى تفادي مغامرة المشي وحيدة في بعض الطرقات التي أصبحت مرتعا للصوص.
ولا يخلو يوم واحد من دون أن تسجل فيه مخافر الشرطة الجزائرية حالات سرقة سواء للهواتف النقالة أو الحقائب اليدوية أو حتى أجهزة الراديو الموصولة بالسيارات،فكل ما خف حمله معرض للسرقة وفي ثوان معدودة، وبالرغم من الانتشار الرهيب لأفراد الشرطة على مستوى العاصمة الجزائر، إلا أن الصعوبة تكمن في استحالة تحين الفرصة المناسبة المتزامنة مع حالة التلبس، مما يحول دون القضاء على هذه الظاهرة التي تفشت وعادت تقلق السلطات العمومية حتى أنها حلت محل ظاهرة الإرهاب التي تمكنت الجزائر من إطفاء نارها والقضاء على خلاياها النائمة بفضل سياسة المصالحة الوطنية.
الوضع هذا استدعى انتباه الرئيس الجزائري الذي شدد في احد خطاباته على ضرورة أن يتخلص المجتمع من سطوة اللصوص بعد أن استطاع الجيش من إحكام قبضته على المتطرفين.
عودة الأمراض
لقد أثر تردي الأوضاع المعيشية للسكان في الوضع الصحي العام، فالجزائر لا تزال تسجل أرقاما مخيفة تدل على خطورة الأوضاع فبعد أن أحصت 3.9 حالات تيفوئيد عام 2000، من بين 100 ألف شخص،أصبحت الليشمانيا وداء السل والتهاب السحايا من بين الأمراض المألوفة في بعض المحافظات الداخلية، والتي ترتبط دوما بتدهور الإطار المعيشي للسكان، حيث تؤكد الإحصائيات المقدمة من طرف وزارة الصحة والسكان أن 8125 شخصا في الجزائر أصيبوا بالأمراض المتنقلة عن طريق المياه السنة الفارطة علما بأن أكبر نسبة سجلتها الوزارة كانت في محافظة تيارت في الغرب و التي احتلت الصدارة لمدة تفوق 10 سنوات متتالية لإحصائها ل3.10 حالات من بين 100 ألف شخص، في الوقت الذي صرح فيه مكتب البرنامج الوطني لمكافحة السل في السنة نفسها عن إصابة 18294 شخصا بالمرض، أي ما يمثل 7.60 حالة من بين 100 ألف شخص.
وعلاوة على ذلك فالتسممات الغذائية والحمى المالطية وجميع الأمراض المنتقلة عن طريق الحيوان تقع ضمن الأمراض المرتبطة بنقص النظافة وقلة المياه. وما يزيد من خطورة انتقال كل هذه الأمراض هو غياب ثقافة الكشف الطبي عند الجزائريين الذين لا يعرضون أنفسهم على الأطباء إلا بعد المرض، مما يزيد في انتشار المرض، خاصة في ظل محدودية الموارد المائية التي ستعرف نقصا كبيرا مع مطلع عام 2020 حسب العديد من الدراسات التي أعدها خبراء في الميدان.
ويعود انتشار هذه الأمراض حسب الأطباء إلى تدهور الوضع البيئي وانعدام النظافة. ومثال ذلك الارتفاع الصارخ الذي سجل أخيرا بمنطقة الشهبونية بمحافظة المدية حوالي 200 كلم جنوب العاصمة بسبب تشكلها من أحياء قصديرية تنعدم فيها النظافة ومرافق الحياة المحترمة.
الوضع نفسه تعرفه مناطق أخرى من الجزائر، الأمر الذي تسبب في تسجيل رقم مرتفع لحالات الليشمانيا تبلغ 30227 حالة، وهو عدد كبير مقارنة مع العدد الذي سجل خلال سنة 2004 والبالغ 16828 حالة، في الوقت الذي أحصت فيه سنة 1997 عدد 8000 حالة.
580 مليون دولار لمواجهة الفقر في 16 محافظة
لقد دفعت الوضعية التي آلت إليها الكثير من المحافظات،الحكومية الجزائرية إلى اتخاذ قرار يرمي إلى تحسين ظروف عيش المواطنين وتمكينهم من المرافق العمومية قصد إبقائهم في أماكنهم والقضاء على النزوح الريفي الذي احدث اختلالا ديموغرافيا كبيرا بين المناطق الحضرية وشبه الحضرية والريفية منها،من فرط ما سببه الإرهاب من دمار وتخريب للمناطق النائية.
وينطوي برنامج تنمية محافظات الهضاب العليا الذي سيمتد على مدى فترة 2006 الى 2009 ويشمل 407 بلديات عبر 16 محافظة بالهضاب العليا، على 'ترقية الشغل والتضامن الوطني وتعزيز برامج التنمية على مستوى البلديات، وهي المحاور الكبرى للبرنامج التكميلي لدعم التنمية والتي هي تحديات سيتم رفعها'.
وحسب وزير قطاع التشغيل جمال ولد عباس،فان البرنامج سيتكرس بالاستماع للمواطنين والتقرب منهم قصد رصد ومعرفة الاحتياجات والأشخاص الذين سيتم التكفل بهم، على أن تكون الأولوية في هذه العملية، هي تقديم تسهيلات للحصول على مناصب شغل خاصة للبطالين الذين يتكفلون بإعالة عائلات بأكملها، مرورا بإعطاء اهتمام خاص لفئات المعوقين والمعوزين. ورصد لتطبيق هذا البرنامج 580 مليون دولار، تعود الحصة الكبرى لهذا الغلاف المالي إلى ترقية الشغل والبرامج الموجهة للدعم الاجتماعي الخاصة بالفئات المحرومة ثم شراء التجهيزات الخاصة بالشغل، وتتمثل العملية التضامنية في هذا البرنامج في دعم المنحة الجزائية ودعم مشاريع التنمية الاجتماعية كتشجيع الخلايا الجوارية والمراكز المخصصة للفئات ذات الاحتياجات الخاصة (المسنين، المعوقين، الطفولة المسعفة).
ولتفعيل البرنامج وجهت وزارة التشغيل تعليمات للمديرين العامين ومديري التشغيل الولائيين والمسؤولين عن النشاط الاجتماعي وإطارات الإدارة المركزية لضمان سير العملية في إطار الصرامة وتحمل المسؤولية وتشديد الرقابة على تسيير الموارد المالية المخصصة للبرنامج على مستوى هذه المحافظات التي تمثل 44 في المائة من المواطنين في الجزائر، تستفيد منه 9 محافظات عبر كامل بلدياتها، فيما ستستفيد البلديات عبر المحافظات السبع الأخرى على مراحل،ومن غير المستبعد أن تستفيد 38 بلدية في إطار توسيع البرنامج عبر 4 محافظات بمنحها قروضا وهي البويرة، المدية، ميلة وسوق أهراس وهي الأكثر تضررا من ظاهرة الإرهاب خلال العشرية الفارطة.
ويعد هذا البرنامج امتدادا للبرنامج الخاص بتنمية ولايات الجنوب الذي يشمل 10 ولايات، منها أضرار، تندوف، غرداية ورقلة، إليزي وتمنراست، ورصدت له 121 مليون دولار.
رغم البرامج.. الشكوك متزايدة
رغم البرنامج الطموح الذي أقرته الحكومة لدفع وتيرة التنمية، فإن العديد من المواطنين الذين سألتهم 'القبس' يتخوفون من أن يقع بين أيدي غير أمينة،فالفساد الذي استشرى في المجتمع يخيف هذه الفئات التي تتوق إلى غد أفضل بعد أن أنهكت كاهلها سنوات الإرهاب الأعمى.
لقد ارتبط الفساد ارتباطا وثيقا بعالم المال والمشاريع التي تخصص للمواطنين، لكنها تجد طريقا آمنا نحو جيوب المسؤولين بدل المحتاجين إليها وهو ما يقلق سعيد، ذلك الكهل الذي وجدته ببوغزول، تلك المدينة النائية التي تفتقر لكل متطلبات الحياة وتبعد عن العاصمة جنوبا بنحو 200 كلم، لقد قال لي 'أخاف أن تنتهي برامج الحكومة إلى لا شيء، مثلما انتهى مشروع العاصمة الجديدة ببوغزول،لقد عشنا طويلا بحلم تحويل العاصمة الجزائرية إلى بوغزول لكنه حلم لم ولن يتحقق بعد أن عدلت السلطات عليه ،فمن غير المعقول أن نستمر طوال سنوات عمرنا في انتظار سراب وأحلام تدغدغنا كلما غفونا '.
سعيد وأمثاله كثيرون ممن يعلقون أمالا كبيرة على التنمية وعلى رفع التحدي لدفع السكان على الاستقرار بأراضيهم دون اللجوء إلى الترحال بغية كسب العيش،هم أناس بسطاء رأس مالهم عفتهم وأياديهم لا تكل من الارتفاع لوجه الله بكرة وأصيلا لأن يرفع عنهم الغبن وتحيطهم الدولة بعنايتها لمواجهة الفقر الذي مكن للجريمة في أوساط المجتمع وساعد على تفشي الأمراض التي ما عادت تعرفها الإنسانية منذ سنوات.