سمير
08-16-2006, 09:03 AM
http://www.aawsat.com/01common/teamimages/348-AbdlMonim-Saeed.gif
عبد المنعم سعيد - الشرق الاوسط
كان وليام هوايت هو أول من أشار عام 1952 إلى «ضحايا التفكير الجماعي» في مقال في مجلة « فورشن Fortune » الأميركية حينما قال بالنتائج الوخيمة لسيادة نمط من التفكير لدى الجماعة يقوم على فلسفة تقضي بأن قيم الجماعة ليست مفيدة فقط وإنما أيضا صحيحة أخلاقيا. ولكن أرفينج جانيس كان هو الذي حول هذا المفهوم لكي يصبح نظرية كاملة في فهم فشل جماعة اتخاذ القرار في الولايات المتحدة عند التعامل مع أزمات ضرب بيرل هاربر وفيتنام وخليج الخنازير. وفي دراسته للأزمة الأخيرة توصل إلى تعريف المفهوم على أنه «نمط من التفكير يستخدمه الناس عندما يكونون مشتركين في جماعة مترابطة حيث يكون سعي أفرادها للإجماع متفوقا على دافع التقدير الواقعي لبدائل مختلفة للعمل».
وكان السؤال الأساسي الذي طرحه جانيس على نفسه وظل ملحا على دراساته، وينبغي أن يظل ملحا علينا في العالم العربي هو كيف تفشل جماعات عاقلة ومتعلمة ولديها إمكانيات بحثية في اتخاذ القرارات المناسبة في الأزمات الدولية المختلفة. وكان باحثنا مذهولا من أداء إدارة كنيدي في مطلع الستينيات حينما مولت المخابرات المركزية الأميركية عملية غزو يقوم به كوبيون منفيون لكوبا من أجل الإطاحة بثورة فيديل كاسترو من خلال ساحل خليج الخنازير. لقد فشلت عملية الغزو فشلا كبيرا، وأعطى هذا الفشل دفعة كبرى للثورة الكوبية وأخل كثيرا بقدرة ومصداقية الولايات المتحدة، وبقي السؤال ملحا «لماذا جرى ما جرى؟»؛ وكانت الإجابة لأن جماعة اتخاذ القرار الأميركية بقيادة جون كنيدي وجماعته من المستشارين المشهود لهم وقعوا جميعا ضحايا التفكير الجماعي.
وقد توصل أريفنج جانيس إلى ثمانية أعراض لضحايا التفكير الجماعي. أولا وجود وهم بالمناعة الكاملة من الخطأ يشارك فيه جميع أفراد الجماعة بحيث تخلق شعورا زائدا بالتفاؤل ويشجع على اتباع المخاطر. وثانيا وجود جهد جماعي للعقلنة بحيث يتم التقليل من قدر التحذيرات التي من الممكن أن تؤدي إلى إعادة النظر في البديهيات التي تستند إليها سياسات سبق التوصل لها. وثالثا الاعتقاد الجازم بالأخلاقية الذاتية للجماعة يدفع أفراده إلى تجاهل النتائج الأخلاقية لقراراتهم. ورابعا وجود معتقدات نمطية في قادة العدو باعتبارهم أشرارا وبالتالي لا يصح التفاوض معهم، أو باعتبارهم ضعفاء أو أغبياء لا يستطيعون التعامل مع محاولات هزيمتهم. وخامسا الضغط المباشر على أي عضو في الجماعة يذكر حججا قوية ضد الأنماط والأوهام والالتزامات السائدة في الجماعة، على أساس أن ذلك يعد خروجا على الولاء المتوقع من كل فرد. وسادسا الرقابة الذاتية على أي خروج أو انحراف عما هو واضح كإجماع في الجماعة، وهو ما يؤدي إلى ميل كل فرد للتقليل من الشكوك والحجج المضادة التي تنتابه. وسابعا الوهم المشترك بالإجماع على التقديرات المختلفة المتوافق عليها من قبل الأغلبية بحيث أن الصمت يعتبر موافقة على وجهة النظر السائدة.
وثامنا ظهور أفراد يعتبرون أنفسهم نوعا من «حراس العقول» الذين يحمون الجماعة من المعلومات المعاكسة التي قد تقوض التواطؤ المشترك حول كفاءة وأخلاقية القرارات.
وللأسف الشديد فإنه لا يوجد في العالم العربي من المعلومات داخل دائرة اتخاذ القرارات في الأزمات الكبرى ما يؤيد أو ينفي وجود هذه الأعراض، ولكن نتائج معالجة الأزمات تشهد بأنها على الأغلب متفشية. وهناك بعض الدراسات الأولية التي تؤكد على أن هذه الأعراض كانت متوطنة في دائرة القرار المصرية والتي أدت إلى إغلاق خليج العقبة ومن ثم إلى حرب يونيو الكارثية عام 1967. كما كان قرار الرئيس صدام حسين بغزو الكويت في الثاني من أغسطس 1990 على الأرجح عاكسا لحالة مزمنة مما هو أخطر من ضحايا التفكير الجماعي حيث كانت دائرة القرار لا تستطيع مناقشة ما يقوله الرئيس.
ومع ذلك تظل المعرفة شحيحة، ومن المؤكد أننا لا نعرف الكثير عن الكيفية التي اتخذ بها السيد حسن نصر الله ورفاقه القرار الخاص باختطاف الجنديين الإسرائيليين، ولكن ما نعرفه من كلماته شخصيا أنه لم يتوقع رد الفعل الإسرائيلي، ولا المواقف العربية الناقدة، وكان تقديره للموقف الدولي نوعا من تحصيل الحاصل.
ولكن ربما لم يكن القادة العرب وجماعتهم هم وحدهم من ضحايا التفكير الجماعي وإنما الرأي العام العربي كله، وفي مقدمته النخبة السياسية التي أصبحت تتداول مجموعة من الأفكار الأساسية وتكررها فيما بينها حتى باتت نوعا من الحكم الذائعة التي لا يمكن الخروج عنها. وما أن تبدأ معركة من المعارك حتى تجد تفاؤلا واثقا بالنتيجة مقرونا بثقة لا نهاية لها في سلامة الموقف الأخلاقي؛ وفي هذه الحالة يتم الاستبعاد الفوري لأية معلومات تخص قوة الخصم باعتبارها نوعا من «التثبيط» وبثا لروح الهزيمة أو حتى العمالة المباشرة لأفكار العدو. ومهما استشهدت بوقائع منافية لنية إسرائيل بغزو لبنان أقلها اشتباكها في حرب فعلية في غزة، فإن الإجابة النموذجية من الجماعة المؤثرة في الرأي العام هو وجود خطط إسرائيلية للغزو. وخلال هذه العملية يتم تكوين أنماط ليست فقط عن العدو وإنما عن الشعب الإسرائيلي كله باعتباره مجموعة من الجبناء الذين سيتركون فلسطين بعد أول زخة من الصواريخ. ولا يزعج الرأي العام أمر قدر من يتساءل عن تعريف للنصر والهزيمة أو الأهداف الإستراتيجية للحرب أو الاستدعاء للتجارب السابقة وما جرى فيها، فما هو متوقع لا يزيد عن حالة من الدروشة إيمانا بقدرة القيادة ـ هذه المرة السيد حسن نصر الله والسيد خالد مشعل ـ على اتخاذ القرارات الصائبة التي طالما أنها تحقق نوعا من الإيذاء أو الانتقام من الإسرائيليين فلا بد أن الحكمة فيها فائقة. وفي مثل هذه الأجواء تجري عملية جراحية لاختزال أكثر الأمور تعقيدا، فتصبح الأمور كلها انعكاسا للصراع بين الحق والباطل، وبين الظلم والعدل، وهي مقابلات حادة تجعل إمكانية التفاوض أو التوصل إلى حلول للأزمة شبه معدومة. وطالما أصبحت المسألة كلها أخلاقية فإن الحلول العسكرية تصبح هي الفيصل، والهدنة هي وحدها التسويات المؤقتة التي تنهي جولة، ولكنها لا تنهي الحرب.
ومن يراقب القنوات الفضائية العربية سوف يجد فيها عددا من حراس العقول الذين يقولون بإجابات نمطية على أسئلة نمطية، وفي نفس الوقت يتولون الهجوم والاتهام بعدم الولاء لكل من يتحدى البديهيات المتفق عليها. ولا يختلف الأمر بالنسبة للصحافة المكتوبة كثيرا فهناك مجموعة من الكتاب المرموقين الذين نصبوا أنفسهم للقيام بنفس المهمة المانعة للتساؤل وطرح الأسئلة، فمن وجهة نظرهم أن وظيفة الفكر لا تزيد عن التعبئة المعنوية وبث الحماس وتوحيد الصفوف بنفس الطريقة التي كان يقوم بها شعراء الحماسة في معارك العرب التاريخية. أما من يخرج على ذلك فإن حسابه يكون حساب الخوارج والخونة.
نتائج كل ذلك معروفة، فالنظرة الواقعية للأزمات أصبحت مرفوضة، بل أصبح الحديث عن «العقلانية» نوعا من الانحراف السياسي، وبقيت إدارة الأزمات ربطا ـ على عكس العالم كله ـ بين قدرات محدودة وأهداف غير محدودة. ومن يعش لن يرى كثيرا في العالم العربي، وإنما سوف يرى ما رآه دائما!!
عبد المنعم سعيد - الشرق الاوسط
كان وليام هوايت هو أول من أشار عام 1952 إلى «ضحايا التفكير الجماعي» في مقال في مجلة « فورشن Fortune » الأميركية حينما قال بالنتائج الوخيمة لسيادة نمط من التفكير لدى الجماعة يقوم على فلسفة تقضي بأن قيم الجماعة ليست مفيدة فقط وإنما أيضا صحيحة أخلاقيا. ولكن أرفينج جانيس كان هو الذي حول هذا المفهوم لكي يصبح نظرية كاملة في فهم فشل جماعة اتخاذ القرار في الولايات المتحدة عند التعامل مع أزمات ضرب بيرل هاربر وفيتنام وخليج الخنازير. وفي دراسته للأزمة الأخيرة توصل إلى تعريف المفهوم على أنه «نمط من التفكير يستخدمه الناس عندما يكونون مشتركين في جماعة مترابطة حيث يكون سعي أفرادها للإجماع متفوقا على دافع التقدير الواقعي لبدائل مختلفة للعمل».
وكان السؤال الأساسي الذي طرحه جانيس على نفسه وظل ملحا على دراساته، وينبغي أن يظل ملحا علينا في العالم العربي هو كيف تفشل جماعات عاقلة ومتعلمة ولديها إمكانيات بحثية في اتخاذ القرارات المناسبة في الأزمات الدولية المختلفة. وكان باحثنا مذهولا من أداء إدارة كنيدي في مطلع الستينيات حينما مولت المخابرات المركزية الأميركية عملية غزو يقوم به كوبيون منفيون لكوبا من أجل الإطاحة بثورة فيديل كاسترو من خلال ساحل خليج الخنازير. لقد فشلت عملية الغزو فشلا كبيرا، وأعطى هذا الفشل دفعة كبرى للثورة الكوبية وأخل كثيرا بقدرة ومصداقية الولايات المتحدة، وبقي السؤال ملحا «لماذا جرى ما جرى؟»؛ وكانت الإجابة لأن جماعة اتخاذ القرار الأميركية بقيادة جون كنيدي وجماعته من المستشارين المشهود لهم وقعوا جميعا ضحايا التفكير الجماعي.
وقد توصل أريفنج جانيس إلى ثمانية أعراض لضحايا التفكير الجماعي. أولا وجود وهم بالمناعة الكاملة من الخطأ يشارك فيه جميع أفراد الجماعة بحيث تخلق شعورا زائدا بالتفاؤل ويشجع على اتباع المخاطر. وثانيا وجود جهد جماعي للعقلنة بحيث يتم التقليل من قدر التحذيرات التي من الممكن أن تؤدي إلى إعادة النظر في البديهيات التي تستند إليها سياسات سبق التوصل لها. وثالثا الاعتقاد الجازم بالأخلاقية الذاتية للجماعة يدفع أفراده إلى تجاهل النتائج الأخلاقية لقراراتهم. ورابعا وجود معتقدات نمطية في قادة العدو باعتبارهم أشرارا وبالتالي لا يصح التفاوض معهم، أو باعتبارهم ضعفاء أو أغبياء لا يستطيعون التعامل مع محاولات هزيمتهم. وخامسا الضغط المباشر على أي عضو في الجماعة يذكر حججا قوية ضد الأنماط والأوهام والالتزامات السائدة في الجماعة، على أساس أن ذلك يعد خروجا على الولاء المتوقع من كل فرد. وسادسا الرقابة الذاتية على أي خروج أو انحراف عما هو واضح كإجماع في الجماعة، وهو ما يؤدي إلى ميل كل فرد للتقليل من الشكوك والحجج المضادة التي تنتابه. وسابعا الوهم المشترك بالإجماع على التقديرات المختلفة المتوافق عليها من قبل الأغلبية بحيث أن الصمت يعتبر موافقة على وجهة النظر السائدة.
وثامنا ظهور أفراد يعتبرون أنفسهم نوعا من «حراس العقول» الذين يحمون الجماعة من المعلومات المعاكسة التي قد تقوض التواطؤ المشترك حول كفاءة وأخلاقية القرارات.
وللأسف الشديد فإنه لا يوجد في العالم العربي من المعلومات داخل دائرة اتخاذ القرارات في الأزمات الكبرى ما يؤيد أو ينفي وجود هذه الأعراض، ولكن نتائج معالجة الأزمات تشهد بأنها على الأغلب متفشية. وهناك بعض الدراسات الأولية التي تؤكد على أن هذه الأعراض كانت متوطنة في دائرة القرار المصرية والتي أدت إلى إغلاق خليج العقبة ومن ثم إلى حرب يونيو الكارثية عام 1967. كما كان قرار الرئيس صدام حسين بغزو الكويت في الثاني من أغسطس 1990 على الأرجح عاكسا لحالة مزمنة مما هو أخطر من ضحايا التفكير الجماعي حيث كانت دائرة القرار لا تستطيع مناقشة ما يقوله الرئيس.
ومع ذلك تظل المعرفة شحيحة، ومن المؤكد أننا لا نعرف الكثير عن الكيفية التي اتخذ بها السيد حسن نصر الله ورفاقه القرار الخاص باختطاف الجنديين الإسرائيليين، ولكن ما نعرفه من كلماته شخصيا أنه لم يتوقع رد الفعل الإسرائيلي، ولا المواقف العربية الناقدة، وكان تقديره للموقف الدولي نوعا من تحصيل الحاصل.
ولكن ربما لم يكن القادة العرب وجماعتهم هم وحدهم من ضحايا التفكير الجماعي وإنما الرأي العام العربي كله، وفي مقدمته النخبة السياسية التي أصبحت تتداول مجموعة من الأفكار الأساسية وتكررها فيما بينها حتى باتت نوعا من الحكم الذائعة التي لا يمكن الخروج عنها. وما أن تبدأ معركة من المعارك حتى تجد تفاؤلا واثقا بالنتيجة مقرونا بثقة لا نهاية لها في سلامة الموقف الأخلاقي؛ وفي هذه الحالة يتم الاستبعاد الفوري لأية معلومات تخص قوة الخصم باعتبارها نوعا من «التثبيط» وبثا لروح الهزيمة أو حتى العمالة المباشرة لأفكار العدو. ومهما استشهدت بوقائع منافية لنية إسرائيل بغزو لبنان أقلها اشتباكها في حرب فعلية في غزة، فإن الإجابة النموذجية من الجماعة المؤثرة في الرأي العام هو وجود خطط إسرائيلية للغزو. وخلال هذه العملية يتم تكوين أنماط ليست فقط عن العدو وإنما عن الشعب الإسرائيلي كله باعتباره مجموعة من الجبناء الذين سيتركون فلسطين بعد أول زخة من الصواريخ. ولا يزعج الرأي العام أمر قدر من يتساءل عن تعريف للنصر والهزيمة أو الأهداف الإستراتيجية للحرب أو الاستدعاء للتجارب السابقة وما جرى فيها، فما هو متوقع لا يزيد عن حالة من الدروشة إيمانا بقدرة القيادة ـ هذه المرة السيد حسن نصر الله والسيد خالد مشعل ـ على اتخاذ القرارات الصائبة التي طالما أنها تحقق نوعا من الإيذاء أو الانتقام من الإسرائيليين فلا بد أن الحكمة فيها فائقة. وفي مثل هذه الأجواء تجري عملية جراحية لاختزال أكثر الأمور تعقيدا، فتصبح الأمور كلها انعكاسا للصراع بين الحق والباطل، وبين الظلم والعدل، وهي مقابلات حادة تجعل إمكانية التفاوض أو التوصل إلى حلول للأزمة شبه معدومة. وطالما أصبحت المسألة كلها أخلاقية فإن الحلول العسكرية تصبح هي الفيصل، والهدنة هي وحدها التسويات المؤقتة التي تنهي جولة، ولكنها لا تنهي الحرب.
ومن يراقب القنوات الفضائية العربية سوف يجد فيها عددا من حراس العقول الذين يقولون بإجابات نمطية على أسئلة نمطية، وفي نفس الوقت يتولون الهجوم والاتهام بعدم الولاء لكل من يتحدى البديهيات المتفق عليها. ولا يختلف الأمر بالنسبة للصحافة المكتوبة كثيرا فهناك مجموعة من الكتاب المرموقين الذين نصبوا أنفسهم للقيام بنفس المهمة المانعة للتساؤل وطرح الأسئلة، فمن وجهة نظرهم أن وظيفة الفكر لا تزيد عن التعبئة المعنوية وبث الحماس وتوحيد الصفوف بنفس الطريقة التي كان يقوم بها شعراء الحماسة في معارك العرب التاريخية. أما من يخرج على ذلك فإن حسابه يكون حساب الخوارج والخونة.
نتائج كل ذلك معروفة، فالنظرة الواقعية للأزمات أصبحت مرفوضة، بل أصبح الحديث عن «العقلانية» نوعا من الانحراف السياسي، وبقيت إدارة الأزمات ربطا ـ على عكس العالم كله ـ بين قدرات محدودة وأهداف غير محدودة. ومن يعش لن يرى كثيرا في العالم العربي، وإنما سوف يرى ما رآه دائما!!