المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أطفال الجنوب ينزفون وجعا بعد فقدان الأهل والأمل



فاتن
08-13-2006, 06:58 AM
الدفاتر المدرسية وشظايا الأجساد النحيلة والرسائل الموجعة



13/08/2006 جنوب لبنان- موفدة القبس منى فرح


محمد علي الحسيني طفل (ثلاث سنوات) يبكي لبكاء أمه ويصرخ 'ماما قطعت قلبي'. إسراء خليل موسى (أربع سنوات) تودع والدها بكلمتين 'بحبك كتير' ثم تصمت تحت ركام ستة طوابق وتغيب إلى الأبد. محمد الحاج موسى (11 سنة) يخسر والده وقدميه الاثنتين في طريق الهروب من جحيم القصف. سمية محمد سويد (60 سنة) تشهد لحظات نزاع رفيق دربها وهي تنزف حتى آخر نقطة من دمها وتصل المستشفى في حالة يصفها الأطباء 'بموت سريري عمره أسبوع'. صحافيان من السويد جذبتهما الأحداث فتصدت لهما طائرة حربية إسرائيلية بصاروخ أدى إلى مقتل أحدهما وإصابة الآخر بجروح خطيرة. فتية تتراوح أعمارهم بين 16 و 21 سنة بينهم من يبني جسرا من تراب بيديه وآخر يحمل مؤونة من الطحين ثقلها يكاد يساوي وزنه، وينقلها من ضفة نهر إلى أخرى...

حوادث يخطها العدوان الإسرائيلي ويرسم بها يوميات الجنوب اللبناني منذ أكثر من شهر دون كلل أو رادع أو هوادة.

والأحداث التي رصدتها 'القبس' خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية تبدأ من بلدة أرزون، حيث كان فريق للدفاع المدني يتفقد بسيارته قرى القضاء فأوقفتهم فتاة تدعى دلال علي حسين (23 سنة) لتخبرهم أنها وأهلها وآخرين يحتمون في احد البيوت وبحاجة ماسة لإجلائهم عن البلدة 'لان الوضع الأمني لم يعد باستطاعتهم تحمله'.

نزوح لا يهدأ

ذهب المسعفون إلى حيث دلتهم دلال على ثلاثة وعشرين مدنيا كانوا في حالة يرثى لها. عيونهم لم تذق طعم النوم منذ عشرة أيام. وبطونهم لم يدخلها طعام صحي منذ أكثر من شهر. ثيابهم متسخة من كثرة الانتقال من سرداب إلى آخر وسط أدخنة القذائف والحرائق. وجوههم صفراء من الخوف والهلع. نظراتهم تائهة في السماء حيث تهدر طائرات القتل والموت والتلال حيث ترابط المدفعيات القناصة. أفواههم مطبقة وأياديهم ممدودة تسأل الإنقاذ.

لم يكن باستطاعة الدفاع المدني إجلاء هؤلاء المساكين في الساعة نفسها. لا بد من تأمين الطريق عبر دعم ما لا يوجد من يوفره في هذه الأوضاع غير لجنة الصليب الأحمر الدولي التي أجرت اتصالاتها اللازمة وعملت بمساعدة الدفاع المدني على نقلهم من أرزون إلى صور حيث ستنقلهم مؤسسة الحريري إلى مكان آمن في بيروت أو الشمال.

في أحضان لجنة الإنقاذ

بين هؤلاء المنكوبين الجدد عائلة علي الحسيني (45 عاما). زينب، زوجة علي الحسيني، لم تصدق نفسها عندما رأت مندوبة الصليب الأحمر الدولي ماغي ديامس وفريقها المخلص، فارتمت بدون وعي في أحضان لجنة الإنقاذ وراحت تبكي بصوت عال، الأمر الذي أخاف طفلها محمد (3 سنوات)، معتقدا أن مكروها أصاب أمه.

راح محمد يبكي بدوره بكاء مرا جعل كل الموجودين يذرفون دموعا وحزنا وتأثرا. وكان يصرخ بحرقة لا تتناسب وطفولته الغضة ويقول 'ماما لا تبكي.. حرقت قلبي يا ماما.. دخلك يا الله ساعد ماما.. خذيني لعندك يا ماما..'.

كم كبر محمد أثناء أيام العدوان؟! ما حجم بشاعة الهموم التي اغتصبت طفولته الهانئة؟! إلى أي عالم قذف به العدوان بعيدا عن حديقة البيت وملاعب المدرسة وسريره الهزاز؟! أي نوع هي القنابل تلك التي زرعت في عيونه البريئة دموعا ساخنة مثل تلك التي ذرفها وزادت من سخونة الأحداث من حولنا.
محمد ووالداه وشقيقته سهيلة (7 سنوات) والباقون قضوا ليلتهم الأولى أمس في استراحة صور، أول استراحة للنازحين من قرى وبلدات الجنوب، بانتظار تأمين الطريق إلى مكان آخر بعيدا ولو نسبيا عن جحيم العدوان.

البحث عن أمل مفقود

بالقرب من أرزون، وتحديدا في معروب، لا يزال خليل موسى يقف عند أطلال مبنى أطبق قبل أربعة أيام فوق رؤوس أفراد عائلته (زوجة و3 أطفال). خليل، وبالرغم من القصف الشديد الذي يطال المنطقة يبقى ينتظر عند ركام المبنى ساعات طويلة في النهار على أمل أن يسمع من احدهم كلمة تطمئنه بأنهم لا يزالون أحياء يرزقون، رغم أن فرق الإنقاذ أمضت طوال يوم الجمعة يحاولون الحصول على بصيص أمل ولم ينجحوا.

بين الركام كراس دراسي نصف أوراقه محترقة كتب على صفحته الأولى اسم التلميذ 'علي فوزي' والصف 'السابع فرنسي' والمادة 'قواعد عربي'. والى جانب الدفتر تختلط قطع الشظايا بأحجامها المتعددة مع بقايا أغطية وفرش وكتب دينية وأخرى لعلوم الحساب ومعجم للغة الإنكليزية، ودفتر لعلامات الامتحانات النهائية وقصص من مجموعة 'ليدي بيرد'.

سأدفن في المدرسة مع تلامذتي

ينظر خليل إلى بنطلون جينز قياس صغير جدا. أسأله إذا كان لأحد أولاده فيجيب 'لست متأكدا.. كل أطفال الميتم كانوا يلبسون مثل بعضهم تقريبا وأنا ربيت أطفالي في هذه المدرسة التي توليت مهمة الحراسة فيها منذ خمس سنوات ولم اتركها.. لكنني لم أتصور يوما أنني سأدفن فيها عائلتي'.
وبعد صمت عميق يستغرق دقائق قليلة يستدرك خليل ويقول 'إذا كتبت لهم الحياة فسأشكر نعمة الله ورحمته وإذا استشهدوا فلا حول لي إلا الترحم على أرواحهم'.

وأسأل خليل مرة ثانية كيف يجازف بحياته ويبقى في مكان مكشوف ومستهدف فيقول 'لا يزال عندي إحساس بانني سأسمع صوت طفلتي إسراء (4 سنوات) مرة ثانية. كانت آخر من كلمني من بين عائلتي. سألتني وين رايح يا بابا خذني معك. وقلت لها إلى المنزل حتى استحم وأغير ثيابي وأنت ابقي مع أمك وخلي أختك زهراء ترسم لك وأنت لوني الصور. فحضنتني وكأنها لم تحضني من قبل وقبلتني بقوة وقالت لي بحبك يا بابا كتير كتير، الله معك..'.

بدا خليل يبكي وأخفى وجهه بين يديه وقال بصوت مخنوق وكأنه يكلم أحدا ما 'الله معك يا إسراء ويا حيدر ويا زهراء ويا خديجة..'.

العمامة المدماة

والفصل المأساوي أضيف إليه مشهد آخر كان عند مقربة من المبنى المدمر، وتحديدا عند مفرق دردغيا- معروب حيث كان عناصر الدفاع المدني ينشرون سيارة محترقة بمنشار حديدي وينتشلون بقايا أشلاء الشيخ حسين الخليل من بلدة دردغيا كان قتل داخل سيارته قبل 15 يوما بقذيفة إسرائيلية ولم يتمكن المسعفون من انتشال جثته من قبل. ومع الجثة رفع المسعفون عمامة بيضاء ملطخة بالدماء وكتاب القرآن الكريم ومسبحة حباتها سوداء اللون.

الرسائل الحزينة

عبر الهاتف تتلقى رسالة حزينة تقول إن احد الزملاء الصحافيين من السويد قتل وأصيب زميله بقذيفة إسرائيلية بينما كانا في طريقهما من الزهراني إلى الجنوب. تتصل بمدير مستشفى جبل عامل في صور الدكتور احمد مروة تستفسر منه عن حالة المصاب فيخبرك عن أكثر الحالات إيلاما وقسوة واجهها المستشفى منذ اليوم الأول من العدوان وحتى الآن.

مقتل الأب وبتر قدمي الطفل

يقول الدكتور مروة 'خلال الأيام ال 33 الماضية استقبل مستشفانا ما لا يقل عن 600 جريح تتراوح إصاباتهم بين الخطرة والمتوسطة، لكن حالة الطفل محمد الحاج موسى (11 سنة) والحاجة سمية محمد سويد (60 سنة) هما الأكثر فظاعة وألما بين كل الذي شهدته أنا شخصيا'.

كان محمد يركب خلف والده فوق دراجة نارية هاربين من القصف الذي 'حرق الأخضر واليابس' في المالكية (قضاء صور) عندما سارعتهما قذيفة 'م ك' فقضت على الأب في لحظتها وأدت إلى بتر قدمي محمد الذي يرقد في غرفة العناية المركزة.

اما سمية فقد دمرت قذيفة من بارجة إسرائيلية منزلها في بلدة الضهيرة، قرب الناقورة، فأصيبت وزوجها موسى. لكن أحدا لم يستطع انقاذهما إلا بعد مضي 24 ساعة كان الزوج قد فارق الحياة فيما كانت سمية تنزف بشدة حتى وصلت المستشفى عند آخر رمق.

عمرها بسواعد عمرها بأيديك

تسأل لماذا لم يصل الزميلان السويديان إلى صور، فتعرف أن الجسر الرملي فوق نهر الليطاني، الذي بنته قبل يوم فقط سواعد فتية تتراوح أعمارهم بين 16 و21 سنة بدل الجسر الرئيسي الذي دمرته الطائرات الإسرائيلية، أغارت عليه الطائرات مرة ثانية وثالثة وقضت على كل معالمه التي سمحت، لساعات، بدخول سيارات المؤن الغذائية ونزوح بعض العائلات إلى خارج الجنوب.

هذا الجسر بعد تدميره عزل صور واقضيتها عن العالم الخارجي، لكن مبادرات المواطنين وهمتهم لحل مشاكلهم بأياديهم دفعهم إلى إعادة بنائه بما تيسر من بقايا أعمدة حديدية وجذوع الشجر المكسور وجرف الرمال، الأمر الذي ساعد في نقل شحنة من الطحين قدمها الصليب الأحمر الدولي يوم الجمعة كما ساعد في عبور شاحنات الخضار والفاكهة والخبز.

لكن هذا الجسر وان كان قد حل مشكلة فهو لم يكن بقوة تتحمل الشاحنات الكبيرة. فقرر المعنيون إفراغ الحمولة عند الضفة اليمنى من النهر ونقلها على اكتاف الفتية إلى الضفة الأخرى وتحميلها بشاحنة أخرى.
صواريخ على المنقذين

واللافت للنظر أن سيارات الصليب الأحمر الدولي فضلت عبور النهر واجتياز المياه على السير فوق الجسر الرملي حتى لا يسجل موقف سياسي ضد المنظمة.
في الأمس أراد عباس اخضر المجازفة وعبور الجسر الرملي إلى صيدا لإحضار شحنة من الخبز، لكن الطائرات الحربية لم تمهله وعاجلته بصاروخ قرب القاسمية أدى إلى مقتله وإصابة ابنه ومرافقيه حسن ومحمد الدر. وعندما حاول مسعفون إنقاذهم رمت الطائرة صاروخا آخر مما أدى إلى مقتل محمد اخضر وعلي الخليل وإصابة كل من عباس غازي وحسين العبد.