سمير
08-08-2006, 12:28 PM
زيارة صديق هاو للتصوير أدت لاعتقاله.. ولتحقيق «حزب الله» معي
مهما بلغ حذق المراقب ودقته، يبقى المربع الأمني عصياً على التقاط تفاصيله من طريق المشاهدة. وليس لأحد ان يصف الظروف التي تسوده أفضل من قاطن في هذه الناحية، فكيف وان هذا القاطن سبق نزوله في الناحية ظهور حزب الله، ومن ثم فهو على معرفة بأحوال المنطقة، قبل قدوم اصحاب المربع الأمني اليها وهو بالتالي شاهد على تحولاتها يوما بيوم انتهاء بصيرورة المربع الأمني كيانا ناجزاً.واذ نسرد هذه الرواية بصيغة ضمير المتكلم فلكي نكون امينين إلى أبعد حد لما رواه لنا. نعرضها كما جاءت على لسانه.
حين اختار أبي الإقامة في حارة حريك في الناحية التي ضمها حزب الله لاحقاً إلى نطاق مربعه الأمني وعرضها لسيطرته الأمنية المشددة، رجح اختياره هذا عوامل عدة، من بينها ما كانت عليه أبنية هذه الناحية يومها من حداثة وفخامة امتازت بهما عن سائر مناطق الضاحية الجنوبية، التي ما لبثت أن تحولت أبنيتها بفعل الحرب ونزول المهجرين فيها إلى ما يشبه مستوعبات بشرية تفتقر إلى أدنى شروط السكن اللائق والسوي. والعامل الآخر كان استجابة منطقة كحارة حريك إلى متطلبات السكن الآمن، كونها أكثر مناطق الضاحية بعداً عن خطوط التماس.
كان ذلك في عام 1978، وقتها كانت حارة حريك أقرب في بيئتها العمرانية إلى الريف منها إلى نمط الاكتظاظ العمراني، الذي بدأ بالزحف على المنطقة منذ ذلك الحين ولم يتوقف، حتى استحوذ على كل فسحة خضراء. وكان المبنى الذي ابتاع أبي شقة للعائلة فيه واحدا من مبان قليلة عرفتها المنطقة آنذاك، في وسط منازل متباعدة تحوطها الحدائق كان أكثرها علواً لا يزيد على الطوابق الثلاثة.
كانت المرة الأولى التي شاهدت فيها طفلة محجبة، حين قدم شيخ إلى الشارع الذي نقيم فيه في حارة حريك، واتخذ من شقة في البناء المقابل لبنايتنا بيتا له ولعائلته. حينها، على ما تسعفني ذاكرتي، لم يتحول الشيخ إلى محور اهتمام أهل الحي والجيران، بالنظر إلى ما يمكن أن يحدثه اليوم نزول شيخ في شارع من الشوارع والإقامة فيه، بل ان هذا الشيخ كان يبدو على هامش نسيج العلاقات التي كانت تسود الحي، وكانت النظرة إليه من قبل سكان الحي تغلب عليها الدهشة والاستغراب. فلم يحدث نزوله في الحي أثراً يذكر ولم يتنكب أهل الحي عناء اصطناع أوضاع جديدة مسايرة لورعه وورع عائلته، بل انني في مرات كثيرة سمعت أمي وبعض جاراتها يعلقن على حجاب الطفلة (طفلة الشيخ) بما يقرب من ندبهن حظها العاثر وسؤالهن عن قدرتها على تحمل هذا الحجاب في حر الصيف. ما هي إلا سنوات قليلة حتى انقلبت الأمور رأساً على عقب، فاستحال ما كان موضع استغراب واستهجان إلى مثال ونموذج، راح الكثيرون في الحي يحذون حذوه ويجهدون في تمثله، فانقلبت وحشة فرادة الطفلة المحجبة وأمها زوجة الشيخ إلى ألفة وريادة في وسط راح عدد السافرات فيه يتضاءل وتزداد فيه المحجبات. لا أعرف على وجه التحديد ما الذي أطلق ظاهرة التحجب والورع الزائد، لكن ما أذكره هو أن التحجب وقتها ارتدى شكل العدوى، التي لم تنج من تأثيرها سوى قلة من النسوة كانت من بينهن أمي التي عادت وتحجبت في وقت لاحق. الرجال أيضاً كان لهم نصيبهم من هذه الظاهرة، فشاع في أوساطهم إرخاء اللحى، واستحال الدين وما يتفرع عنه من تحليل وتحريم إلى محور أحاديثهم ومركز عنايتهم واهتمامهم. وبسبب ذلك أيضاً استحال ما كان على هامش اجتماعهم إلى مركزه فغدا الشيخ قبلة أهل الحي يست فتونه في ما استغلق عليهم من أمور الدين، ويشهدونه على صحة نطق أحدهم حكماً في أمور الدين، فان صادق عليه الشيخ صادقوا على صحته وإن أنكر صحته الشيخ أنكروه هم أيضاً.
وبموازاة ذلك وقبل أن يبدأ الشيخ الصدارة كان عدد من أتراب الشيخ وإخوانه في الالتزام الديني قد بدأوا يتوافدون إلى المنطقة للإقامة فيها، سواء في الأبنية المشيدة حديثاً أو في بيوت تركها أصحابها وفضلوا بيعها لعجزهم عن التأقلم مع الأجواء المستجدة، فشكل القادمون الجدد مع الشيخ اجتماعهم الخاص، الذي راح يتسع من طريقين. الطريق الأول استمرار قدوم أتراب الشيخ إلى المنطقة والنزول فيها سكناً وإقامة، أما الطريق الثاني فكان تفضيل من لم ترق لهم الأجواء المستجدة الرحيل على البقاء والمواجهة.
كل هذا حدث ولم يكن لا الشيخ ولا أترابه من الملتزمين قد أشهروا بعد هويتهم الحزبية، وما كانوا بعد قد جمعوا الى تشددهم الديني لا السياسة ولا السلاح، ولا ما يتصل بهاتين المفردتين من إجراءات أمنية راحت تشتد شيئاً فشيئاً. إلى حد غدت معه الإقامة في المكان لغير محازبي حزب الله ومناصريه لا تحتمل ولا تطاق. وهكذا فبعد أن أضيف التشدد الأمني إلى التشدد الديني، واختلط واحدهم بالآخر، جاء دور رحيل مجموعة جديدة من فئة السكان القدامى عن الحي، بعدما استحال مكان أقامتهم، بحكم الحراسة الأمنية المشددة التي تحف به، إلى مكان مغلق على زيارة الغرباء، إلا ضمن شروط محددة ليس أقلها سؤال القادم إلى المحلة عن وجهته (اسم أصحاب المنزل الذين يود زيارتهم) وصلته بأهل البيت القادم لزيارتهم، وطبيعة علاقته بهم، إلى أسئلة عنه هو نفسه وعن مكان اقامته، كل هذا قبل خضوع السيارة إلى تفتيش دقيق (هذا إذا ما كانت وجهة القاصد إلى محلة يسمح بإدخال السيارات إليها). بكلام آخر ساهمت هذه الظروف المحيطة بالمحلة التي أسكن فيها على جعل الكثيرين من غير سكانها يتهيبون قصدها أو حتى العبور فيها، واستحالت بيوتها، ومنها بيتنا، إلى مكان اقتصرت وظيفته على المبيت والمنام لا محل فيه لعلاقات اجتماعية، حيث كثير من أصدقاء العائلة وأصدقائي راحوا تباعاً يخففون من زيارتنا في المنزل، خاصة بعد أكثر من حادث حصل مع قادمين لزيارتنا.
في أحدى المرات جاء لزيارتي في البيت صديق وكان من هواة التصوير، وقد سببت ممارسته لهوايته في محيط بيتي زيارة احد سجون حزب الله ليومين أفرج عنه لاحقاً.
بعدها تسبب لي هذا الحادث بالكثير من المتاعب مع الجهاز الأمني المولج بأمن المربع الأمني، خاصة بعد أن وجدوا في هذا الحادث ما يسوغ طلبهم المتكرر للسكان بالتعاون. هكذا، وبذريعة عدم إزعاجي وأصدقائي وتفادياً (بحسبهم) لتكرار حوادث مماثلة، كان لزاما علي إفادة الجهاز الأمني بمعلومات تفصيلية عن حياتي الشخصية وحياة من تربطني بهم صلة قرابة أو صداقة أو زمالة دراسية. أما حصيلة ذلك فكانت حصول الجهاز الأمني على الكثير من المعلومات عن حياتي الشخصية، تبدأ بأتفه التفاصيل وأدناها أهمية، ولا تنتهي بتفاصيل حميمية يجهلها حتى أهلي ولا يستفسرون الكثير عنها، من قبيل أين أمضي لياليّ حين آتي في وقت متأخر إلى بيتنا، وعدد أصدقائي ونسبهم الطائفي والمناطقي وتفاصيل عن عائلاتهم (عدد أفراد العائلة، اصهارها، تحصيلهم العلمي وأرقام هواتفهم وعناوين بيوتهم). بعد ذلك أمست حياتي وحياة من تصلني بهم صلة، عصية على الغفلة والكتمان، ولا محل فيها لحرية شخصية وخصوصيات.
ما جرى معي جرى بطريقة أو بأخرى مع كل الجيران، غير أن أكثر هؤلاء لا يحسبون ان ما يفعله جهاز الأمن من قبيل التدخل في حياتهم الخاصة، أو انه تجاوز لحقوق لا يملكها، بل أنهم على العكس من ذلك تراهم مندمجين في آلته الأمنية، حتى ان بعضهم، وقد حفظ عن ظهر قلب الممنوع والمباح في المنطقة تجده يتولى بنفسه في بعض الأحيان فعل ما قد يفعله عنصر الأمن إزاء موضوع شبهة ان فاتت هذا الأخير فيعترض مصورا ويطلب إليه موافاته إلى مركز الأمن ويسأل غريبا قادما عن ظروف قدومه وغايته من ذلك. لم تقف الأمور عند هذا الحد، بل تعدت ذلك إلى ما هو أبعد، لا سيما بعد دخولي الجامعة. هناك وبعد ان عرف جهاز الأمن من محازبين لحزب الله زملاء لي في الجامعة بأنني في الجامعة على علاقة وطيدة مع بعض أبناء الطائفة الدرزية القادمين من منطقة حاصبيا في الشريط الحدودي المحتل آنذاك، جاءني إلى المنزل احد أعضاء جهاز الأمن عارضا عليّ تزويدهم بمعلومات عن منطقة حاصبيا تردني من خلال رفقتي في الجامعة، وأشار عليّ بإمكانية صعودي معهم إلى حاصبيا ان دعاني أحدهم، إذا ما كنت أرغب بذلك، لكن كل ذلك شريطة تقديم معلومات عن رحلتي من غير ان يشير إلى شرطه هذا بصيغة مباشرة، بل عن طريق الإيحاء. في البدء تمنعت بذريعة ان لا معلومات لدي ذات قيمة، لكن بعد طول تفكير وكثير طلب منه شعرت بمسؤولية كبيرة وراحت خشية تزداد من كون أحد هؤلاء الأصدقاء الدروز متورطا فعلاً بعلاقة مع الإسرائيليين أو عملائهم فينكشف أمره، وأغدو بنتيجة امتناعي عن التعاون أنا أيضاً متهما فعدت وأعطيته معلومات عنهم وأخبرته ما أعرفه من يومياتهم في قراهم خلال الأيام التي يقصدونها فيها في العطل، لكني شيئاً فشيئاً وبعد ان شعرت باني جاسوس ومخبر على أصدقائي، رحت أبتعد عنهم رويداً رويدا حتى فترت علاقتي بهم ومن ثم انقطعت نهائياً.
منذ زمن بعيد اعتادت أمي تمضية فصل الصيف في قريتنا التي كانت واقعة ضمن الشريط المحتل قبل التحرير، لكن وفي النصف الأخير من ثمانينات القرن المنصرم طرأ شيء على حياة أمي جعلها تنقطع عن زيارة بلدتها نهائياً.
بدأ الأمر في صباح أحد الأيام بعد عودتها مباشرة في الليلة الفائتة من القرية. بأن صعد إلى منزلنا أحد عناصر الأمن في الحزب وسأل عن أمي، ولما أتته سألها معتذراً ان تفيده ببعض المعلومات وترد على أسئلة بحوزته انصبت جميعها على أشخاص يقطنون قريتها، بعضهم من أقاربها وبعضهم الآخر من غير الأقارب، لم تنته الجلسة سوى بعد ساعتين كانت أمي في خلالها قد أخبرته ما عرفته وشاهدته ورأته وسمعته في القرية خلال الشهر الذي أمضته فيها. في الصيف الذي تلا جلسة التحقيق اللطيفة والمهذبة التي خضعت لها أمي كان رعبها مما حدث معها السنة الفائتة قد زال، خاصة بعد ان عرفت ان ما خضعت له أجراء «عادي» يخضع له غالبية المترددين على قرى الجنوب المحتل من أهل الضاحية، وعلى الأخص القاطنين منهم في المربع الأمني. إزاء ذلك وجدت من الطبيعي الاستمرار في ممارسة ما ألفته سنوياً، فتوجهت إلى قريتها وهناك أحست برعب حقيقي على نفسها من تهمة العمل والتجسس لصالح المقاومة، لا سيما بعد ان سمعت خبرية اعتقال الإسرائيليين لامرأة قادمة من الضاحية الجنوبية بتهمة إفشائها معلومات عن المنطقة الحدودية لحزب الله. وفي اليوم التالي غادرت القرية. وحين وصلت إلى البيت جاءها في اليوم التالي عنصر الامن فأعطته ما أراد من تفاصيل رحلتها القصيرة وامتنعت نهائياً عن زيارة الضيعة التي لم ترجع إلى زيارتها سوى بعد التحرير في 25 مايو (أيار) عام 2000.
مهما بلغ حذق المراقب ودقته، يبقى المربع الأمني عصياً على التقاط تفاصيله من طريق المشاهدة. وليس لأحد ان يصف الظروف التي تسوده أفضل من قاطن في هذه الناحية، فكيف وان هذا القاطن سبق نزوله في الناحية ظهور حزب الله، ومن ثم فهو على معرفة بأحوال المنطقة، قبل قدوم اصحاب المربع الأمني اليها وهو بالتالي شاهد على تحولاتها يوما بيوم انتهاء بصيرورة المربع الأمني كيانا ناجزاً.واذ نسرد هذه الرواية بصيغة ضمير المتكلم فلكي نكون امينين إلى أبعد حد لما رواه لنا. نعرضها كما جاءت على لسانه.
حين اختار أبي الإقامة في حارة حريك في الناحية التي ضمها حزب الله لاحقاً إلى نطاق مربعه الأمني وعرضها لسيطرته الأمنية المشددة، رجح اختياره هذا عوامل عدة، من بينها ما كانت عليه أبنية هذه الناحية يومها من حداثة وفخامة امتازت بهما عن سائر مناطق الضاحية الجنوبية، التي ما لبثت أن تحولت أبنيتها بفعل الحرب ونزول المهجرين فيها إلى ما يشبه مستوعبات بشرية تفتقر إلى أدنى شروط السكن اللائق والسوي. والعامل الآخر كان استجابة منطقة كحارة حريك إلى متطلبات السكن الآمن، كونها أكثر مناطق الضاحية بعداً عن خطوط التماس.
كان ذلك في عام 1978، وقتها كانت حارة حريك أقرب في بيئتها العمرانية إلى الريف منها إلى نمط الاكتظاظ العمراني، الذي بدأ بالزحف على المنطقة منذ ذلك الحين ولم يتوقف، حتى استحوذ على كل فسحة خضراء. وكان المبنى الذي ابتاع أبي شقة للعائلة فيه واحدا من مبان قليلة عرفتها المنطقة آنذاك، في وسط منازل متباعدة تحوطها الحدائق كان أكثرها علواً لا يزيد على الطوابق الثلاثة.
كانت المرة الأولى التي شاهدت فيها طفلة محجبة، حين قدم شيخ إلى الشارع الذي نقيم فيه في حارة حريك، واتخذ من شقة في البناء المقابل لبنايتنا بيتا له ولعائلته. حينها، على ما تسعفني ذاكرتي، لم يتحول الشيخ إلى محور اهتمام أهل الحي والجيران، بالنظر إلى ما يمكن أن يحدثه اليوم نزول شيخ في شارع من الشوارع والإقامة فيه، بل ان هذا الشيخ كان يبدو على هامش نسيج العلاقات التي كانت تسود الحي، وكانت النظرة إليه من قبل سكان الحي تغلب عليها الدهشة والاستغراب. فلم يحدث نزوله في الحي أثراً يذكر ولم يتنكب أهل الحي عناء اصطناع أوضاع جديدة مسايرة لورعه وورع عائلته، بل انني في مرات كثيرة سمعت أمي وبعض جاراتها يعلقن على حجاب الطفلة (طفلة الشيخ) بما يقرب من ندبهن حظها العاثر وسؤالهن عن قدرتها على تحمل هذا الحجاب في حر الصيف. ما هي إلا سنوات قليلة حتى انقلبت الأمور رأساً على عقب، فاستحال ما كان موضع استغراب واستهجان إلى مثال ونموذج، راح الكثيرون في الحي يحذون حذوه ويجهدون في تمثله، فانقلبت وحشة فرادة الطفلة المحجبة وأمها زوجة الشيخ إلى ألفة وريادة في وسط راح عدد السافرات فيه يتضاءل وتزداد فيه المحجبات. لا أعرف على وجه التحديد ما الذي أطلق ظاهرة التحجب والورع الزائد، لكن ما أذكره هو أن التحجب وقتها ارتدى شكل العدوى، التي لم تنج من تأثيرها سوى قلة من النسوة كانت من بينهن أمي التي عادت وتحجبت في وقت لاحق. الرجال أيضاً كان لهم نصيبهم من هذه الظاهرة، فشاع في أوساطهم إرخاء اللحى، واستحال الدين وما يتفرع عنه من تحليل وتحريم إلى محور أحاديثهم ومركز عنايتهم واهتمامهم. وبسبب ذلك أيضاً استحال ما كان على هامش اجتماعهم إلى مركزه فغدا الشيخ قبلة أهل الحي يست فتونه في ما استغلق عليهم من أمور الدين، ويشهدونه على صحة نطق أحدهم حكماً في أمور الدين، فان صادق عليه الشيخ صادقوا على صحته وإن أنكر صحته الشيخ أنكروه هم أيضاً.
وبموازاة ذلك وقبل أن يبدأ الشيخ الصدارة كان عدد من أتراب الشيخ وإخوانه في الالتزام الديني قد بدأوا يتوافدون إلى المنطقة للإقامة فيها، سواء في الأبنية المشيدة حديثاً أو في بيوت تركها أصحابها وفضلوا بيعها لعجزهم عن التأقلم مع الأجواء المستجدة، فشكل القادمون الجدد مع الشيخ اجتماعهم الخاص، الذي راح يتسع من طريقين. الطريق الأول استمرار قدوم أتراب الشيخ إلى المنطقة والنزول فيها سكناً وإقامة، أما الطريق الثاني فكان تفضيل من لم ترق لهم الأجواء المستجدة الرحيل على البقاء والمواجهة.
كل هذا حدث ولم يكن لا الشيخ ولا أترابه من الملتزمين قد أشهروا بعد هويتهم الحزبية، وما كانوا بعد قد جمعوا الى تشددهم الديني لا السياسة ولا السلاح، ولا ما يتصل بهاتين المفردتين من إجراءات أمنية راحت تشتد شيئاً فشيئاً. إلى حد غدت معه الإقامة في المكان لغير محازبي حزب الله ومناصريه لا تحتمل ولا تطاق. وهكذا فبعد أن أضيف التشدد الأمني إلى التشدد الديني، واختلط واحدهم بالآخر، جاء دور رحيل مجموعة جديدة من فئة السكان القدامى عن الحي، بعدما استحال مكان أقامتهم، بحكم الحراسة الأمنية المشددة التي تحف به، إلى مكان مغلق على زيارة الغرباء، إلا ضمن شروط محددة ليس أقلها سؤال القادم إلى المحلة عن وجهته (اسم أصحاب المنزل الذين يود زيارتهم) وصلته بأهل البيت القادم لزيارتهم، وطبيعة علاقته بهم، إلى أسئلة عنه هو نفسه وعن مكان اقامته، كل هذا قبل خضوع السيارة إلى تفتيش دقيق (هذا إذا ما كانت وجهة القاصد إلى محلة يسمح بإدخال السيارات إليها). بكلام آخر ساهمت هذه الظروف المحيطة بالمحلة التي أسكن فيها على جعل الكثيرين من غير سكانها يتهيبون قصدها أو حتى العبور فيها، واستحالت بيوتها، ومنها بيتنا، إلى مكان اقتصرت وظيفته على المبيت والمنام لا محل فيه لعلاقات اجتماعية، حيث كثير من أصدقاء العائلة وأصدقائي راحوا تباعاً يخففون من زيارتنا في المنزل، خاصة بعد أكثر من حادث حصل مع قادمين لزيارتنا.
في أحدى المرات جاء لزيارتي في البيت صديق وكان من هواة التصوير، وقد سببت ممارسته لهوايته في محيط بيتي زيارة احد سجون حزب الله ليومين أفرج عنه لاحقاً.
بعدها تسبب لي هذا الحادث بالكثير من المتاعب مع الجهاز الأمني المولج بأمن المربع الأمني، خاصة بعد أن وجدوا في هذا الحادث ما يسوغ طلبهم المتكرر للسكان بالتعاون. هكذا، وبذريعة عدم إزعاجي وأصدقائي وتفادياً (بحسبهم) لتكرار حوادث مماثلة، كان لزاما علي إفادة الجهاز الأمني بمعلومات تفصيلية عن حياتي الشخصية وحياة من تربطني بهم صلة قرابة أو صداقة أو زمالة دراسية. أما حصيلة ذلك فكانت حصول الجهاز الأمني على الكثير من المعلومات عن حياتي الشخصية، تبدأ بأتفه التفاصيل وأدناها أهمية، ولا تنتهي بتفاصيل حميمية يجهلها حتى أهلي ولا يستفسرون الكثير عنها، من قبيل أين أمضي لياليّ حين آتي في وقت متأخر إلى بيتنا، وعدد أصدقائي ونسبهم الطائفي والمناطقي وتفاصيل عن عائلاتهم (عدد أفراد العائلة، اصهارها، تحصيلهم العلمي وأرقام هواتفهم وعناوين بيوتهم). بعد ذلك أمست حياتي وحياة من تصلني بهم صلة، عصية على الغفلة والكتمان، ولا محل فيها لحرية شخصية وخصوصيات.
ما جرى معي جرى بطريقة أو بأخرى مع كل الجيران، غير أن أكثر هؤلاء لا يحسبون ان ما يفعله جهاز الأمن من قبيل التدخل في حياتهم الخاصة، أو انه تجاوز لحقوق لا يملكها، بل أنهم على العكس من ذلك تراهم مندمجين في آلته الأمنية، حتى ان بعضهم، وقد حفظ عن ظهر قلب الممنوع والمباح في المنطقة تجده يتولى بنفسه في بعض الأحيان فعل ما قد يفعله عنصر الأمن إزاء موضوع شبهة ان فاتت هذا الأخير فيعترض مصورا ويطلب إليه موافاته إلى مركز الأمن ويسأل غريبا قادما عن ظروف قدومه وغايته من ذلك. لم تقف الأمور عند هذا الحد، بل تعدت ذلك إلى ما هو أبعد، لا سيما بعد دخولي الجامعة. هناك وبعد ان عرف جهاز الأمن من محازبين لحزب الله زملاء لي في الجامعة بأنني في الجامعة على علاقة وطيدة مع بعض أبناء الطائفة الدرزية القادمين من منطقة حاصبيا في الشريط الحدودي المحتل آنذاك، جاءني إلى المنزل احد أعضاء جهاز الأمن عارضا عليّ تزويدهم بمعلومات عن منطقة حاصبيا تردني من خلال رفقتي في الجامعة، وأشار عليّ بإمكانية صعودي معهم إلى حاصبيا ان دعاني أحدهم، إذا ما كنت أرغب بذلك، لكن كل ذلك شريطة تقديم معلومات عن رحلتي من غير ان يشير إلى شرطه هذا بصيغة مباشرة، بل عن طريق الإيحاء. في البدء تمنعت بذريعة ان لا معلومات لدي ذات قيمة، لكن بعد طول تفكير وكثير طلب منه شعرت بمسؤولية كبيرة وراحت خشية تزداد من كون أحد هؤلاء الأصدقاء الدروز متورطا فعلاً بعلاقة مع الإسرائيليين أو عملائهم فينكشف أمره، وأغدو بنتيجة امتناعي عن التعاون أنا أيضاً متهما فعدت وأعطيته معلومات عنهم وأخبرته ما أعرفه من يومياتهم في قراهم خلال الأيام التي يقصدونها فيها في العطل، لكني شيئاً فشيئاً وبعد ان شعرت باني جاسوس ومخبر على أصدقائي، رحت أبتعد عنهم رويداً رويدا حتى فترت علاقتي بهم ومن ثم انقطعت نهائياً.
منذ زمن بعيد اعتادت أمي تمضية فصل الصيف في قريتنا التي كانت واقعة ضمن الشريط المحتل قبل التحرير، لكن وفي النصف الأخير من ثمانينات القرن المنصرم طرأ شيء على حياة أمي جعلها تنقطع عن زيارة بلدتها نهائياً.
بدأ الأمر في صباح أحد الأيام بعد عودتها مباشرة في الليلة الفائتة من القرية. بأن صعد إلى منزلنا أحد عناصر الأمن في الحزب وسأل عن أمي، ولما أتته سألها معتذراً ان تفيده ببعض المعلومات وترد على أسئلة بحوزته انصبت جميعها على أشخاص يقطنون قريتها، بعضهم من أقاربها وبعضهم الآخر من غير الأقارب، لم تنته الجلسة سوى بعد ساعتين كانت أمي في خلالها قد أخبرته ما عرفته وشاهدته ورأته وسمعته في القرية خلال الشهر الذي أمضته فيها. في الصيف الذي تلا جلسة التحقيق اللطيفة والمهذبة التي خضعت لها أمي كان رعبها مما حدث معها السنة الفائتة قد زال، خاصة بعد ان عرفت ان ما خضعت له أجراء «عادي» يخضع له غالبية المترددين على قرى الجنوب المحتل من أهل الضاحية، وعلى الأخص القاطنين منهم في المربع الأمني. إزاء ذلك وجدت من الطبيعي الاستمرار في ممارسة ما ألفته سنوياً، فتوجهت إلى قريتها وهناك أحست برعب حقيقي على نفسها من تهمة العمل والتجسس لصالح المقاومة، لا سيما بعد ان سمعت خبرية اعتقال الإسرائيليين لامرأة قادمة من الضاحية الجنوبية بتهمة إفشائها معلومات عن المنطقة الحدودية لحزب الله. وفي اليوم التالي غادرت القرية. وحين وصلت إلى البيت جاءها في اليوم التالي عنصر الامن فأعطته ما أراد من تفاصيل رحلتها القصيرة وامتنعت نهائياً عن زيارة الضيعة التي لم ترجع إلى زيارتها سوى بعد التحرير في 25 مايو (أيار) عام 2000.