المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الضاحية الجنوبية في بيروت بين مرحلتين



مرتاح
08-06-2006, 06:49 AM
ظلت المنطقة التي تسمى اليوم «الضاحية»، حتى الحرب العالمية الاولى منطقة زراعية، يعيش أهاليها من العمل في الزراعة وتربية دود القز، شأنها في هذا شأن غيرها من المناطق اللبنانية، قبل الأزمة التي أصابت سوق الحرير في أعقاب الحرب العالمية الأولى، فاتجه بعض أهاليها إلى العمل في التجارة، ومنهم من اتجه إلى العمل في الصناعة، بينما أهّل التعليم العالي قلة منهم إلى الوظائف والعمل الإداري. في الثلاثينات من القرن الماضي، بدأت بالتشكل نواة وجاهة شيعية جديدة، عمادها حسين عمار1 الذي كان تاجر مواد غذائية.

فبحكم عمله هذا، وما نجم عنه من ثراء نسبي، تيسّر له التعرف إلى نافذين وإقامة صلات وعلاقات بهم، كانت أوثقها صلته بكل من المير حارث شهاب ونمر شمعون، والد الرئيس كميل شمعون. بيد انه وحتى ذلك التاريخ، لم يكن التنافس على الوجاهة والتصدر السياسيين قد ظهر بعد بين العائلات المحلية الشيعية في المنطقة، إذ أن التمثيل السياسي، النيابي وغير النيابي، كان لا يزال شأنا جديدا في فكرته وفي الحيز الإجرائي في الحياة العامة. ومع إنشاء المجالس البلدية في المجتمع المحلي في برج البراجنة وغيرها من المحال التي كانت تسمى ضياعا (جمع ضيعة) كالشياح وحارة حريك والغبيري، بدأ التنافس الفعلي بين العائلات المحلية بالظهور.

وفي الأربعينات برزت في برج البراجنة عائلة الحركة التي أخذت تنافس عائلة عمار على الوجاهة. لكن ذلك التنافس ـ وإن عرف شيئا من الحدة في بعض الأحيان ـ ظل في حدود وأطر مقبولة، إذ لم يظهر بين العائلات المحلية فريق ينادي بالخروج على أعراف السياسة المحلية وتقاليدها وإجماعاتها. فظل الأقطاب والزعماء المسيحيون في دائرة بعبدا الانتخابية مرجع التنافس وفيصله بين العائلات المسلمة في ضياعنا. إلا أن هذا لم يحل قط دون أن تشكل هذه العائلات، رغم جدة وجاهتها وهشاشتها، عنصرا حاسما في ترجيح كفة المتنافسين على النيابة، رغم قلة عدد أصواتها في دائرتنا الانتخابية المتنوعة الانتماء الطائفي. فمنذ عهد الانتداب الفرنسي وصولاً إلى الحقبة الاستقلالية، ظل المسلمون في المنطقة على علاقة طيبة مع المسيحيين. آنذاك لم يكن المسلمون يشعرون بأي تمييز أو غبن يلحقه بهم المسيحيون.

لكن الوئام الاجتماعي لم يكن يحول دون بروز الانقسامات السياسية المحلية التي لم تتعدَ الحدود الداخلية اللبنانية. وكان الانقسام والتنافس السياسي الأبرز بين التيار الدستوري وتيار الكتلة الوطنية في أواخر أيام الانتداب وبدايات الاستقلال. إلا أن الانقسام والتنافس كانا يقسمان المسيحيين كما يقسمان المسلمين على نحو أفقي. فكما كان بين المسيحيين دستوريون وكتلويون، كان للتياران حضورهما بين المسلمين أيضاً. فلم يظهر بين العائلات المحلية فريق ينادي بالخروج على أعراف السياسة المحلية وتقاليدها وإجماعاتها.
لكن التأييد والحماسة اللذان لقيهما بين المسلمين في لبنان عبد الناصر في أعقاب حرب 1956 في السويس، أخذا يخيفان أقرانهم المسيحيين الذين رأوا فيهما تباشير خروج المسلمين على بنود الميثاق الوطني، وعلى أعراف السياسة المحلية وحدود انقساماتها التقليدية المتعارفة. وهكذا تسلل القلق والشك، للمرة الأولى، إلى العلاقات السياسية والأهلية بين أبناء المنطقة.

إذ قبل بروز الموجة الناصرية لم يكن شيعة الضاحية من سكانها الأصليين يمتلكون أدنى حساسية قومية وعروبية، تلك الموجة التي راحت تؤسس، للمرة الأولى، انقساماً عمودياً بين مسلميها ومسيحييها، وتضع البعض من كل منهما في مواجهة الآخر. وقد تواكب ذلك وتزامن مع تزايد أعداد الوافدين الشيعة إلى المنطقة من الجنوب والبقاع. ومع تزايد أعداد الوافدين بدأ يبرز الكلام عن الغبن والحرمان اللاحقين بالطائفة الشيعية، واللذين تزامنت بداية الكلام عنهما مع بدء غياب الأسماء المختلفة لكل ضيعة ـ محلة في المنطقة التي راحت تُسمّى باسم واحد موحد: الضاحية الجنوبية.

في هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن ميل الشيعة من أهل الضاحية الأصليين إلى الانخراط في الأحزاب العقائدية، كان ضئيلاً، وظل محصوراً في فئة ضيقة من الشبان المتعلمين الذين لم يتجاوز عددهم العشرات، فالاطمئنان الاجتماعي والاقتصادي إلى ملكية الأرض التي غدت رأسمالاً مالياً مع زحف موجة العمران في الخمسينات، حال دون انخراط السكان المحليين في بعض وجوه الحياة الحديثة المحمومة والتي يشكل الانتماء الحزبي صورة من صورها. وشأنهم مع التحزب وعلى خلاف حالهم مع التعليم الحديث لم يُقبل الشيعة من أهالي المنطقة على التعليم الديني، ولم تبرز بينهم عائلات دينية كتلك التي كانت معروفة في الجنوب اللبناني. فجميع المشايخ الذين كانوا يؤمّون المصلين في مساجد المنطقة كانوا يأتون إليها من خارجها.

ثم أنهم كانوا أصحاب تقوى ورسالة، ويؤثرون البساطة في حياتهم على المظاهر، ولم يكن أي منهم يشبه مشايخ اليوم في جبروتهم الذي يظهرونه في الحياة العامة وفي السيارات الفارهة التي يتنقلون فيها مدججين بالمرافقين. والفرق بين مشايخ الأمس واليوم ينسحب على الاحتفالات في ذكرى عاشوراء. فالاحتفال في هذه الذكرى كان يقتصر على تلاوة القرآن الكريم وسرد محطات من السيرة الحسينية الكربلائية، تليها عظات للمشايخ لم تكن تتجاوز في موضوعاتها الحدود الدينية والاجتماعية إلى الإسقاطات السياسية الشائعة اليوم في أدوار رجال الدين وخطبهم وجميع أنواع نشاطهم. وما خلا البكاء تأثرا بالسيرة الحسينية الكربلائية، لم تعرف المنطقة المظاهر التي شاعت لاحقا، كاللطم والضرب بالجنازير وشجّ الرؤوس وغيرها. وما يحدث اليوم في المنطقة على هذا الصعيد لم يصدر عن اجتماعها التقليدي الذي كان التدين فيه تدينا عاديا وتقليديا، لا تترتب عليه التزامات من شأنها إرباك علاقة الأهالي المسلمين بأقرانهم وجيرانهم المسيحيين. فشيعة جبل لبنان عموما، وليس فقط شيعة الضاحية، كانوا يتأثرون إلى حد بعيد بنمط حياة جيرانهم المسيحيين، نتيجة اختلاطهم بهم في الحياة اليومية. ومن العلامات الواضحة لهذا التأثر تدني نسبة الطلاق، وندرة حالات الزواج من أكثر من امرأة واحدة، بين شيعة جبل لبنان. وندرة الزواج المختلط بين المسلمين والمسيحيين في المنطقة لم تكن عائقاً في وجه متانة الصلات الاجتماعية بينهما، ما دامت نابعة من حسن الجوار ومشاعر الود المتبادل.

لمياء
08-07-2006, 07:24 AM
الضاحية بين «أمل» و«حزب الله»


«حزب الله» استفاد من تجارب الأحزاب التي تناوبت السيطرة على الضاحية فتبنى برنامجا للمعونات ورفع شعار «جهاد البناء»


بيروت: فادي توفيق *

في هذه الحلقة نعرض للاختلاف بين طريقة إدارة حركة أمل لشؤون الضاحية بعد أن آلت اليها السيطرة عليها خلال الحرب، وبين طريقة إدارة «حزب الله» للمنطقة فيما بعد، كما نتناول الظروف التي جرى في ظلها الشقاق بين أهالي الضاحية مع أمل وانحيازهم إلى «حزب الله».

اقتصر الانكفاء وتسوير المعقل في الضاحية الجنوبية على يد حركة أمل على حدود السطوة العسكرية العارية من كل اشكال الادارة البديلة، لا سيما الرعائية منها والتي كان الناس في اشد الحاجة اليها، فضلاً عن أن السطوة هذه ما لبثت أن تحولت سيفاً مسلطاً على رقاب الأهالي. فمحازبو أمل وهم ممن نشأوا على مثال المحازبين الفلسطينيين مسلكاً وقيافة، لم يحيدوا عن المثال هذا قيد أنملة، ولم يفترقوا عنه في شيء يذكر: من الألقاب التي تبدأ بـ«أبو الموت» ولا تنتهي بـ«أبو الغضب»، إلى محاكاتهم في سلوكياتهم سلوكيات المسلحين الفلسطينيين وتجاوزاتهم، مع فارق جوهري هو ضعف الموارد المادية لديهم قياساً بما كان متوافرا للفلسطينيين.

وهي الموارد التي راحوا يستعيضون عنها بتوجيه سطوتهم وجهة الأهالي، جمهورهم المفترض، فشاعت في الأثناء تلك أعمال السطو المسلح من قبلهم، إلى فرضهم للخوات المركزية اي تلك الصادرة عن القيادة، وخوات أخرى بمبادرة ذاتية من بعض النافذين منهم، الذين كانوا يقومون بطباعة دفاتر «تبرعات» وهمية يوزعونها على الأزلام كبدلات عن أجورهم. هذا إلى جانب شيوع عمليات إرغام اصحاب محال تجارية على تسديد بدلات حراسة على محالهم بعد تعرضها للسرقة التي يكون قد قام بها بعض فارضي الحراسة. فأقامت امل، من طريق تلك التصرفات، حاجزاً بينها وبين الأهالي. وبعيداً من الحيثيات الإقليمية لمعارك أمل و«حزب الله» فإن الاخير لقي تعاطفاً وانحيازاً من الأهالي في الضاحية أثناء المعارك، التي ومنذ يومها الأول لم يدع «حزب الله» فرصة تفوته لبعث الدلالات على انحراف أمل عن نهج قائده السيد موسى الصدر. وليس من غير دلالة آنذاك إشاعة «حزب الله» خبر ابتداء المعارك كرد منه على مقتل شابين من عناصره على أيدي عناصر مسلحة من حركة أمل «فجراً اثناء قيامهما بواجبهما الديني خلال شهر رمضان في ايقاظ الناس على السحور». هذا إضافة إلى تكرار بلاغات عديدة في الأيام الأولى للمعارك عن إهانات يتعرض لها رجال الدين الشيعة على حواجز أمل.

في وقت كان قد غدا الخطاب الديني يلقى صدىً وتجاوباً من الناس لكثرة ما اشتغل عليه في التعبئة والتحريض ضد الشيوعيين. أما الانحراف عن نهج القائد الذي كان أحد أبرز الشعارات في المعركة، فلم يعدم «حزب الله» دليلاً عليه في لحية السيد نبيه بري الحليقة بالشفرة، وحرمة هذا الفعل دينياً، حتى غدا الامتناع يومها عن حلق اللحية بالشفرة شارة انتماء الى «حزب الله» وكانت قد انتشرت في موازاة ذلك ظاهرة «طريفة» في الضاحية بعيد إخراج حركة أمل منها تمثلت في قيام حلاقين كثر بتعليق لافتات على واجهات محالهم تفيد بتمنعهم عن حلق الذقن بالشفرة.

أفضت معارك حركة امل و«حزب الله» التي انتهت بهزيمة الحركة في الضاحية الى تسييد نموذج حزبي أوحد على المنطقة. غير أن «حزب الله» أفاد من تجارب الاحزاب التي تناوبت السيطرة على الضاحية، فتوسل الى سطوته من طريق الزود عن المنطقة واهلها، وقصر استعمال سطوته العسكرية في بادئ الامر على إنفاذ المسائل الشرعية وحماية اماكن سكن قادته ومراكزه الحزبية، وتوسل بالمعونات المادية وتوزيع المنح المدرسية طريقاً الى «الجماهير»، وقام بإنشاء إدارات بديلة من تلك التي فقدها الاهالي. فباشر «جهاد البناء» وهو فرع من مؤسسة مركزها إيران إنجاز أعمال الأشغال العامة وتأمين مياه الشرب، إلى تسوية بعض الطرق وإنشاء مدارس ومؤسسات تجارية وظف فيها الاتباع والأنصار. وأجاد الخلط بين الديني والسياسي في جدارة لافتة. فمن يفلح، على سبيل المثال، في تجنب حضور مناسبة حزبية لا يسعه وهو الذاهب الى الجامع للصلاة الإفلات من الاستماع الى التقرير السياسي الذي يتلوه الشيخ في الجامع والمسؤول الحزبي في آن واحد، وتوسل «الحزب» ايضاً بالمناسبات الدينية التي أكثر منها طريقاً الى تكثير الحشد.

لكن «حزب الله» ما لبث في السنوات الثلاث الاخيرة من الثمانينات ان شرع في استحداث فرق الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وكانت هذه الفرق تجوب الشوارع، تبحث عن المخالفين لأحكام الحشمة من الرجال والنساء. وأشاعت هذه الفرق اجواءً من الضبط والمنع حملت من ليس لهم قدرة على احتمالها على الرحيل عن المنطقة فيسر له (للحزب) هذا أن يعدم أي ممانعة. ولم يعترف لجمهوره بصفاء انتمائهم الطائفي من طريق سجلات القيد، فلم يكفه انهم شيعة مولدين من أبويين شيعيين، بل نظر في طرائق عباداتهم.

ومن طريق هذا الأمر وغيره وضع «حزب الله» جمهوره بين حدّي البدعة والاصيل، فوصم ما لم يوافق هواه بوصفه بدعة، وأرسى ما أراد إرساءه بوصفه الأصيل، وجعل يماهي بين ما كانوا عليه من تقليدية وبساطة في عباداتهم وحال الضعف والتشتت التي كانت تسودهم.

وجمع «حزب الله» اليه جماهير غفيرة وغفورة في آن كان تولى رعايتها التامة منذ الاجتياح الإسرائيلي. فكانت نواته الأولى من تلك الفئات التي طاولتها أعمال التهديد الجدي بالاقتلاع والتهجير أثناء قيام الدولة بإجراءاتها السالفة الذكر. وهي الفئة التي تشكل الغلبة العددية من مجموع سكان الضاحية وتدين بحياتها واستقرارها في سكنها غير الشرعي الى «حزب الله» حتى الآن.

وهؤلاء المهجرون المقتلعون الذين فقدوا معظم الأبنية الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تنظم حياتهم السابقة على الحرب، كانوا يحتاجون إلى من يضطلع بإنشاء بدائل من أبنيتهم المتداعية، المادية منها والمعنوية. فوجدوا ضالتهم في ما أقامه «حزب الله» الذي أرسى لهم نظام مراتب جديداً يقوم على العطاء والبذل والتضحية، نقلهم عبره من نظام مراتب عام كان على الدوام يمتحنهم في دونيتهم تبعاً لوضعهم الاجتماعي وحداثة عهدهم بالمدينة وضعف إقبالهم على التعليم الحديث. فلم يحوجهم عناءً كبيراً لتقبل هذه المراتب المحدثة، التي منحت الشهداء وأهلهم هالة كبيرة، وجعلوا من علية القوم، يتصدرهم القادة، علماء الدين. فأرسى بذلك هوية للشيعة من طريق المقاومة وانتصاراتها، أتاحت له توسيع حلقة انصاره خارج اطار محازبيه لتعم غالبية الجمهور الشيعي، وهو الذي استلمهم «مستضعفين» على ما كان ينعتهم في بداياته، فحّولهم الى «أصحاب انتصارات».

عن طريق الجموع الغفيرة التي شدها «حزب الله» إليه وتعهد إنشاءها إنشاءً إسلامياً وخلف لديها حساسية إزاء كل ما يحلله ويحرمه الدين، تمكن من جعل ضروب المنع التي يمارسها في الضاحية كما لو انها مؤسسة لرغبات الجموع هذه من طريق اضطلاعه بإنفاذ شروط جمهور غدا يتوجس من الإقبال على اي وجبة غذائية، من دون التيقن أنها متممة للشروط الشرعية ويحل اكلها. وهذا ما جعل من شهادات «الحلال» التي يصدرها خامنئي عبر وكلائه في لبنان، ضرورية لمطاعم الضاحية التي تسعى للحصول عليها قبل حصولها على تراخيص من وزارة الصحة. وكثير من هذه المطاعم تكتفي بالشهادة الشرعية فحسب من غير رخصة وزارة الصحة. وقد أمست هذه الشهادات جالبة للزبائن وشرطاً من شروط إقبالهم على الشراء، إلى حد لم يعد بالامكان اعتبار فرضها من قبيل أفعال التسلط. ذلك انها استدخلت ثنائية العرض والطلب التي يقوم عليها البيع. فمجرد إثارة شبهة حول لا شرعية مأكولات مطعم ما تكون كفيلة بان تودي بصاحبه حتما الى الإقفال الطوعي نظراً الى امتناع كثيرين عن الاقبال عليه بسبب شبهة اللاشرعية. على هذا لا يمكن لمطعم شهير كـ«كنتاكي» ان يحمل شرط تمتعه بشهادة شرعية قبل السماح له بافتتاح فرعه في سوق معوض التجاري على محمل الفرض والتسلط. وان كانت الشهادة الشرعية التي منحت له استثنت وجبات عدة حُظر عليه بيعها في معوض، يبيعها في فروعها الاخرى في لبنان.

أضف الى هذا كله ان الشيعة بعد الصحوة الدينية التي ألمت بهم، غدوا قطاعا استهلاكيا كبيرا تتبارى على مرضاتهم وجذبهم أهم الشركات الغذائية من طريق تشديدها في إعلاناتها على وجود شيخ شيعي في مسالخها يشرف على شرعية الذبح.

وتسود في الضاحي حالة تسليم تامة بسلطة «حزب الله» على المنطقة فحين أفتتح في العام 1999 ناديا رياضيا على طريق المطار، كان قد باشر اعماله على قاعدة الخلط بين الجنسين، لم يمر أسبوع حتى عاد وأعتمد الفصل بين الجنسين في مواعيد متفاوتة بطلب مباشر من «حزب الله». على أن علامات السطوة تظهر اكثر ما تظهر في انعدام مظاهر الاعتراض او الضجة التي تعقب تنفيذ الطلب او تسبقه. فالناس في الضاحية يتلقون طلبات «حزب الله» وينفذونها كما لو أنهم ينفذون قوانين عامة ويمتثلون لأوامر سلطات عامة. وبعيداً عن مدى مقدرة «حزب الله» على إرغام ادارة النادي المذكور على الامتثال إلى طلبه، فإن الحزب يستند في ذلك الى شريحة اجتماعية اهلية ومحافظة لا تستسيغ هذه الضروب من الاختلاط بين الجنسين. ويعود صمت أصحاب الشأن وتنفيذهم الأمر من دون حتى تأفف إلى توجسهم من إثارة الشبهات حول اعمالهم. فما يبدأ في وسط اهلي محافظ باختلاط لا يبعد ان ينتهي بروايات عن دعارة أو ما شابه، تمارس في المكان.

وليس أدل من حال التسليم بالشرع والركون إليه سوى تلك الاعداد الغفيرة التي تقبل على المشايخ تستفتيهم في امور وقضايا يعود الاختصاص فيها للقضاء المدني. كحوادث السير او النزاع على ملكية وما شابه. ويأتي المتاقضون إلى الشيخ يستفتونه، وواحد منهم على الأقل يعرف أن أحكام القضاء المدني قد تنصفه أكثر، لكنه يقبل حكم الشيخ مهما كان وينفذه، رغم ان التنفيذ في أحيان كثيرة يكون طوعي.

* مؤلف كتاب «بلاد الله الضيقة.. الضاحية أهلا وحزبا» ـ دار الجديد ـ بيروت.

دشتى
08-09-2006, 03:54 PM
المحظور والمسموح في الضاحية

إنشاء معقل حصين يفترض انقطاع المنطقة بحواجز نفسية وأمنية تجعل الغرباء يتهيبون الإقامة فيها

http://www.aawsat.com/2006/08/09/images/news.377146.jpg


بيروت: فادي توفيق *

لا تختلف منطقة عين الرمانة الواقعة في الضاحية الشرقية لمدينة بيروت عن مناطق الضاحية الجنوبية في شيء يذكر، إن من حيث الغلبة الطائفية أو من حيث النسيج الاجتماعي، المكون بغالبيته من فئات شعبية ومتوسطة الدخل، غير أن التشابه في المقدمات لا يفضي بالضرورة إلى تماثل في النتائج. فليست الغلبة الطائفية هي التي تجعل من الضاحية منطقة مغلقة على نفسها من الخارج، بل هامشيتها إزاء الخارج، مقارنة بمناطق هي الأخرى تسودها غلبة طائفية ـ وعين الرمانة واحدة منها وكذا الأشرفية أيضاً ـ من غير أن تحولها الغلبة هذه إلى مناطق مغلقة. الهامشية التي تحتلها الضاحية تتبدى في نواح عديدة، منها أن في وسع اللبناني أن يمضي حياته كلها متنقلاً بين مناطقه من غير حاجته إلى زيارتها أو حتى العبور بها للوصول إلى مناطق أخرى، ذلك أن الضاحية لا تمتاز بخاصية تجعل من زيارتها موضوعاً لرغبة أو ضرورة ولا هي تقع على تقاطع طرق مواصلات بين المناطق اللبنانية تجعل العبور فيها اضطرارياً للوصول إلى بعض المناطق.

على حين أن المناطق الأخرى، باقتصارها على جماعة طائفية واحدة، تتصف بأمور وتتسع لوظائف وأدوار (صالات سينما، أسواق تجارية، مرابع ليلية، مستشفيات)، هي موضوع رغبة وطلب عند فئات عديدة من اللبنانيين ومن غير اللبنانيين يضعف قدومهم إليها من صفائها الأهلي. هذا فيما يحول عيش أبنائها من مهن تتوسل بداهة الاختلاط واستقبال أي وافد إليها على سبيل الظن بأنه زبون محتمل ـ يحول بينها وبين جنوحها إلى الانغلاق على نفسها على الرغم من صفائها الأهلي والطائفي. الأمر نفسه مع فرن الشباك المنطقة الأخرى الواقعة في ضاحية بيروت الشرقية بحيث لا تختلف الفضاءات العمرانية، وكذلك الكثافة السكانية عنها في الضاحية. غير ان خروج فرن الشباك من هامشية نسبية، بسبب من وظائف عامة عديدة تضطلع بها وناتجة من اتساعها لدور سينما، وجامعة (كلية الفنون) وسوق تجاري وإدارة رسمية، وكلها وظائف تساهم من خلال الأجواء التي تشيعها بتفتيت السطوة الأهلية، هذه (الوظائف) تساهم من طريق الاجواء التي تشيعها بتفتيت السطوة الاهلية، فيما هامشية الضاحية تفسح المجال واسعاً أمام إغلاق محكم على الأهل وسطوتهم التامة.

على أن الهامشية عينها هي ما تتيح لـ«حزب الله» إنشاء معقله وتسوير دارته وإنفاذ سننه وأحكامه ومحظوراته في الضاحية واجتماعها من غير جلبة او ضجة، لطالما صاحبت جنوح حركات الاسلام السياسي الاخرى في لبنان الى تسوير معاقلها واملاء رؤيتها الخاصة املاءً عاماً. ذلك أن مصدر الجلبة التي صاحبت مسعى الحركات الاسلامية الاخرى مرده الى تنكب هذه الحركات الاضطلاع بتسوير نواح لا تطيق أدوارها الحيوية (صيدا، طرابلس) مثل هذا الأمر.

فإنشاء معقل حصين يفترض أولاً، انقطاع المنطقة موضوع التسوير عن غيرها من المناطق بحواجز نفسية وامنية تجعل الغرباء يتهيبون ولوجها والاقامة فيها، وهذا عين ما يسود الضاحية، كما تشترط انكفاء الجماعة بنفسها واستقلالها من غير اتصال بالجماعات الاخرى، وهذا ما لم يتأمن في هاتين المنطقتين (صيدا، طرابلس) أقله في الشوارع الرئيسية منها فيما تأمن في الضاحية بفعل عوامل عديدة، فنجح «حزب الله» على حين فشلت هذه الحركات في مسعاها الغيتوي، وان لم تعدم نجاحا جزئيا أيضا أحرزته في النواحي الداخلية لهاتين المنطقتين(صيدا وطرابلس).

بيد أن مقاربة موضوع الضاحية من زاوية نأيها من سلطة الدولة الفعلية، ورجوع السلطة فيها الى طرف حزبي أهلي يضطلع بتسيير شؤونها، يبقيان مقتصرين على تناول جانب واحد من المسألة، إذ إن ما يجري في الضاحية يتعدى ذلك الى سيرورة الضاحية بشكل من الأشكال كيانا مفارقاً وموازياً في آن، يقوم الطرف المسيطر عليها بإنفاذ قوانينه وأحكامه الخاصة به.

ففي الضاحية الكثير من المحظورات التي يبيحها القانون اللبناني والكثير من المباحات التي يحظرها القانون اللبناني. يعرف ذلك راكبو الدراجات النارية في الضاحية الذين لا يسري عليهم ما يسري على اقرانهم في المناطق اللبنانية الأخرى حيث يخضعون لإجراءات عديدة تبدأ بإلزامية غطاء الرأس وتصل الى منع تجول الدراجات بعد ساعة معينة، إلى ما هناك من إجراءات تسجيل وضرورة حيازة رخص قيادة إلخ...

وكذلك سنترالات الاتصالات الدولية الخاصة التي منعت في عموم لبنان إلا في الضاحية. هذا فضلاً غن استمرار التعليم الديني في مدارس الضاحية، الرسمية منها والخاصة، على الرغم من صدور قرار حكومي عام 1998 قضى بايقافه لسنة واحدة. فوق ذلك فانه وحتى المدارس الرسمية في الضاحية تخضع لسلطة «حزب الله» المباشرة، من خلال ما يتمتع به من سلطة فيما يتصل بتسمية مديري هذه المدارس من الأشخاص الموالين له ويؤمن هذا الأمر إفراغ المدرسة الرسمية من عموميتها ليعيد إدراجها في خاصه عبر السيطرة عليها وعلى الأنشطة التي تجري فيها، والتي لا تمت بصلة إلى المشترك اللبناني بل إلى مجتمع «حزب الله» ومناسباته السياسية والدينية. أما سلطة «حزب الله» على المدارس الخاصة في الضاحية فتتأمن، فضلاً عن امتلاكه العديد من هذه المدارس، من طريق المنح المدرسية التي يوزعها على الآلاف من مناصريه وما تخوله عطاياه من سلطة على هؤلاء التلامذة تمكنه من اختيار المدرسة التي يود إدخالهم إليها، الأمر الذي يمكنه من حجب هؤلاء التلامذة عن المدارس المغضوب عليها ومكافأة المدارس التي تساير إملاءاته الحزبية والسياسية والدينية.

الإعلان والسطوة

* تلقى اللوحات الاعلانية في مناطق لبنانية عديدة، اعتراضات أكثر من طرف أهلي وديني، غير أنها اعتراضات تبقى على حدود الطلب والتمني على المؤسسات الإعلانية التوقف عن نشر مثل هذه المواد علانية وإشاعتها، وإن تجاوز الاعتراض ذلك فليس إلى أكثر من التعرض لبعض هذه اللوحات تسويداً وتمزيقاً. وحتى الآن فشلت هذه المجموعات، مؤتلفة ومتفرقة، في حمل المؤسسات الإعلانية على الرضوخ لمطالبها، يستثنى من ذلك «حزب الله» الذي يتخذ تعاطيه مع المؤسسات الاعلانية شكلاً هو أقرب إلى تعاملها مع الدولة وأجهزتها الرقابية منها الى تعاملها مع جماعة حزبية أهلية، ففي الضاحية تلتزم الشركات المولجة لصق الإعلانات تمام الالتزام بتطبيق اشتراطات «حزب الله» عليها، وهي الاشتراطات التي كان يمليها، في وقت سابق، مباشرة، وتتولى الآن بلديات الضاحية التي آلت سلطتها إليه في الانتخابات الأخيرة السهر على الالتزام بها.

لما كان «حزب الله» يصمت على حدود النواحي التي يتخذها معاقل يتسيد عليها ويجري على المقيمين فيها أحكامه وسننه، فإن من شأن من يبغي ترسيم حدود هذه الدولة ومعرفة أين تبدأ وأين تنتهي، ـ من شأنه تبين ذلك من خلال ملاحظة ما يطرأ على اللوحات الإعلانية من إضافات وتعديلات في طريقه من أي منطقة لبنانية متجهاً إلى الضاحية. فحيث يشاهد لوحة إعلانية تعرضت لتعديل يكون ساعتئذ قد ولج المناطق التي يتسيد عليها «حزب الله». يبقى ان السمة المؤسساتية التي يتسم بها عمل «حزب الله» في إدارة شؤون المناطق التي يقتطعها من سيادة الدولة ويحل سيادته الحزبية عليها ترجع، فضلاً عن الهامشية والغلبة الطائفية، إلى الحصانة السياسية وتسليم الدولة المضمر والمعلن بسلطته على الضاحية. وهذا عين ما قدر على الفوز به «حزب الله» وعجزت عن الفوز بمثله الحركات الإسلامية الأخرى. كما ترجع الى التزامه هو حدود المناطق التي له ملء السطوة عليها، فلا يتعداها الى الاعتراض على محال المشروبات الكحولية المتناثرة على أطراف الضاحية، من جهة عين الرمانة والحدث والشويفات، ما دامت هذه المحال تقع خارج حدود معقله.

المعقل أولاً وأخيراً

* منذ البدايات الأولى، فطن ملالي «حزب الله» إلى ان المعقل، مهما بلغت قوة المتحصنين فيه، يحتاج فوق ذلك إلى الاندراج في سياسات إقليمية تعود عليه بالقوة وتسمح له بجبه قوة الدولة وتعطيلها. وهذا عين ما افتقدته حركة التوحيد والجماعات الاسلامية الاخرى في النواحي التي اقطتعتها معاقل لها، حين فشلت في تجديد اندراجها في سياسات إقليمية تستقوي بها على الدولة اللبنانية والمواطنين اللبنانيين، بعدما فقدت راعيها الفلسطيني إثر الهزيمة التي مني بها غداة الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وما تبع ذلك من حرب سورية مباشرة أو بالواسطة، على ما بقي من مراكز نفوذ فلسطينية في لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي، تمثلت بشكل رئيسي في حرب المخيمات ومعركة طرابلس الدامية التي انتهت بتصفية حركة التوحيد وبحل إماراتها الطرابلسية1. على النقيض من مثال عادة ما يساق للتدليل على المولودين في وسط عائلة ثرية، لم تولد الحركة الخمينية في لبنان وفي فمها ملعقة ذهب، ففي ما خلا الرعاية الإيرانية الثابتة والأكيدة، ترددت السياسة السورية، أقله في السنوات الأولى، بين التضييق على الحركة الخمينية ورعايتها. وبسبب من ذلك وجدت الحركة نفسها أكثر من مرة عرضة للتضحية بها على مذبح المساومات السورية.

حدث ذلك في صيف العام 1984 حين كافأ السوريون الرئيس اللبناني أمين الجميل على بادرة إلغاءه اتفاقية 17 مايو اللبنانية ـ الإسرائيلية بسلسلة إجراءات سورية في بعلبك استهدفت الحركة الخميينية، تمثلت بإقفال مقر قيادة الحرس الثوري الإيراني في المدينة، وطردهم من مقر قيادة الدرك اللبناني في المدينة واعتراض شاحنات عسكرية محملة بالسلاح وإقفال إذاعة «صوت الإسلام» الناطقة باسم الحرس الثوري الإيراني في لبنان. بيد ان علاقة البنوة التي ربطت الحركة الخمينية في لبنان بملالي الخمينية في ايران جنّبتها، في أحيان كثيرة، غائلة التردد السوري. فلم يبخل الراعي الايراني يوما بأي جهد إلا وبذله مهما عظم شأنه ان وجد فصيله اللبناني عرضة للتضييق من لدن النظام السوري. هكذا، وبعد سلسلة الإجراءات السورية في مدينة بعلبك، شاهد العالم أجمع طائرة الرئيس الإيراني آنذاك علي خامنئي تحط في مطار دمشق، فلم يخامر الشك أحدا ممن سمعوا بنبأ الزيارة الرئاسية الإيرانية في شأن صلتها الوثيقة بتطورات الأوضاع في مدينة بعلبك. وما هي إلا فترة قصيرة حتى بدأ المراقبون السياسيون يشاهدون ثمار الزيارة الإيرانية إلى دمشق في بعلبك، حيث لوحظ عودة الحركة الخمينية في لبنان إلى النشاط العلني والظاهر، كما لوحظ عودة السوريين عمّا كانوا اتخذوه من إجراءات قبل أشهر قليلة، فاستعاد الخمينيون المواقع التي كانوا قد طردوا منها أبان الإجراءات السورية الأخيرة وأضافوا عليها مواقع جديدة.

وليس بعيدا من الرعاية الإيرانية المباشرة، كان لتمتع الموالين لإيران بالرعاية والقبول السوريين أسباب مغايرة لا أقلها استجابة الخمينيين وقتها لحاجات سورية ملحة.

وفي السياق نفسه كان لسلسلة الهجمات الأولى التي نفذتها الحركة الخمينينة، سيما تلك الانتحارية منها، والتي استهدفت القوات المتعددة الجنسية وكان من حصادها حمل هذه القوات على الرحيل تاركة بيروت لفراغ وجد فيه السوريون مدخلاً لعودتهم، ان شكلت عامل إغراء للسوريين شجعهم على المراهنة على المناصرين لايران في لبنان هذا، من غير ان نغفل عن احتساب العوائد السورية من ايران.

هكذا فبعد نجاح «حزب الله» في تقديم نفسه بصورة ما تبحث عنه السياسة السورية وما تحتاجه، مضافاً الى ذلك العلاقة العضوية بملالي ايران قيض له الفوز بصفقة رابحة قوامها مقايضة أعماله العسكرية باطلاق يده على النواحي التي تسلط عليه، وتمكينه من التسلط على نواحي جديدة بذريعة حاجة اعمال كهذه الى حصون قصية ومغلقة.

وإذ جاءت الرعاية السورية للحركة الخمينية تلبية لحاجتها إلى ما تخوف بها العالم واللبنانيون، وتقايض الاثنين المكاسب لقاء ضبطها، فان الرعاية الايرانية ايضاً وابتعاثها الحرس الثوري الى لبنان لم يخرجا أيضاً عن حاجة ايرانية للاضطلاع بأدوار قوة اقليمية تمكنها من التحايل على عزلة لازمت استيلاء الملالي على حكم ايران، وتبطل مقاطعة العالم لها ولو على نحو جزئي. وما صفقة الاسلحة الايرانية ـ الاميركية الموسومة بإيران غاية سوى دليل راجح على ذلك2.

في ما خلا العلاقة الثابتة والاكيدة بـ«الجمهورية الاسلامية في ايران» لم تكن سماء العلاقة السورية بالموالين لايران في لبنان صافية على الدوام، بل كثيراً ما شابتها الشوائب في أكثر من محطة وموقعة، لكن الحزب الخميني كان يخرج في كل مرة من أزمته أكثر تعلماً من تجاربه وأكثر تحوطاً من ارتكاب الهفوات إلى أن كانت مجزرة فتح الله3 خاتمة تطاوله على العصا السورية الغليظة.

لئن كانت محاربة إسرائيل تنتصب تعريفاً أول لـ«حزب الله»، وتبدو مستغرقة جل اهتماماته، فان هذا لا يعني على الإطلاق أن مسألة أخرى، كحرص الحزب على الانفراد بمعاقله ونأيه بها من سلطة الدولة الجامعة، تقع في المحل الثاني من اهتماماته. فالمتتبع لمسيرة الحزب، منذ انشائه حتى وقتنا هذا، له ان يلحظ كيف ان عناية «حزب الله» بهذه المسألة تكاد توازي محاربة إسرائيل مرتبة ان لم تعلُ عليها. بل إن للمرء أن يقول أكثر من ذلك في تفسير اصرار «حزب الله» على دوام المقاومة بعد الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب في العام 2000. فبعيداً من الحاجات الاقليمية الايرانية ـ السورية إلى استمرار المواجهة على الحدود الجنوبية، تبدو المقاومة حاجة عضوية لـ«حزب الله»، ليس فقط لانها باسمه تسمّت، بل لان نصره في الجنوب ما كان ليرد عنه غائلة خسارته معاقله في الضاحية ما لم يبقى ما به يسوغ اصحاب المعقل معقلهم، إلا وهو «مقاومة» يتذرع اصحابها بحاجتها الى حصن تتحصن به وتأمن اليه من عيون العدو واسماعه وأذيته.

اما من يطعن بصحة هذه الخلاصة، فله ان ينظر مليا في مسيرة «حزب الله» منذ ظهوره وحتى يومنا هذا ليتبين كيف ان تكيف هذا الحزب مع الاوضاع المستجدة ورضوخه لبعض المساومات كان يقف عند حدود تفريطه بمعاقله وخسارته سلطته عليها. ففي كل مرة كان اصحاب «حزب الله» يشعرون بخطر يتهدد سيادتهم على معاقلهم كانوا لا يوفرون جهدا الا ويبذلوه في سبيل الحؤول دون هذا الخطر. حصل هذا في منتصف الثمانينات غداة بدء البحث في موضوع الخطة الامنية لبيروت الغربية، يومها جعل قادة «حزب الله» من هذا المسألة موضوع خطبهم وهبوا هبة رجل واحد يدبجون الخطب والمرافعات في وجوب استثناء الضاحية من هذه الخطة ولما فشلوا في رد ذلك عاد ونجحوا حين دخل الجيش السوري الى الضاحية في افراغ هذا الدخول من محتواه، فحجزوا بينه وبين تفكيك معقلهم. وعاد الأمر وتكرر في بدايات التسعينيات حين نجحوا في تجنيب أنفسهم غائلة قرار حل الميليشيات فأستثنوا منه كما استثنت مناطق سيطرتهم من بسط سلطة الدولة عليها. وفي كل مرة كانت عين «حزب الله» على معاقله ومعقله الاساس في الضاحية، فيما كانت عيون الآخرين على المقاومة وسلاحها. وفي الأثناء وجد «حزب الله» الوقت الكافي لتدعيم عمارة معقله من الداخل غير راكن لا الى راعييه الاقليمين ولا الى السلاح، فإليهما، لم يوفر «حزب الله» عملاً إلا وأقدم عليه في سبيل صون سيادته على مناطقه واستقلالها عن جسم الدولة الجامع فأستحدث مؤسسات4 تقوم مقام تقديمات الدولة وتسد ما تتخلف عنه الأخيرة. بمعنى آخر بنى «حزب الله» في الضاحية نصاب دولة كاملاً، من مدارس، وزارة اشغال، نظام ضمان اجتماعي، مشاف، بنوك اسلامية ، هذا من غير ان يفوتنا عامل له من الأهمية في تماسك معاقل حزب الله ما لها كل مؤسساته عنيت عامل الرشوة المتمثل في أنه بسيطرته على هذه المناطق انما يحمي القاطنين فيها من غائلة القوانين وأكلافها من ضرائب، إلى شروط تسجيل المؤسسات التجارية والصناعية، وتسجيل العاملين فيها بمؤسسة الضمان الاجتماعي وسوى ذلك من فواتير الكهرباء والمياه، كما يحررهم من التقيد بمعايير أخرى من قبيل الشروط الصحية للمطاعم واسواق الخضار وبائعي اللحوم. ففي المناطق التي يسيطر عليها «حزب الله»، يكفي الإلتزام بالشروط الشرعية الدينية التي يفرضها الحزب لمباشرة العمل، أما عدا ذلك فيعد من باب النوافل التي لا يوجب الالتزام بها وان كان لا يعدم من يلتزم بها في الضاحية، وهؤلاء على الأغلب ممن لهم صلات تجارية ومهنية بمؤسسات من خارج الضاحية أو خارج لبنان تحتم عليهم علاقاتهم التجارية الالتزام بالشروط القانونية العامة للدولة اللبنانية، وسواهم من المواطنين الذين لا يروق لهم الاستفادة من الأجواء السائدة في أماكن سكنهم في سبيل الخروج على القوانين.

* الهوامش:

1 تشكلت امارات حركة التوحيد من سبع امارات هي: القبة، الزاهرية، باب التبانة، الميناء، التل، باب الرمل، أبو سمراء. لكل امارة أمير وفي قمة الهرم الشيخ سعيد شعبان بصفته أمير الحركة الأعلى.

2 إيران غيت اسم علم فضيحة أميركية مدارها صفقة أسلحة سرية بين الولايات المتحدة الأميركية وحكم الملالي في إيران كان الغرض منها إطلاق الرهائن الغربيين المحتجزين في لبنان لدى مجموعات تدور في فلك نظام الملالي الإيراني.

3 جاءت المجزرة في سياق التململ السوري من خروج حزب الله وعصيانه الإجراءات السورية الموسومة بالخطة الأمنية في النصف الثاني من ثمانينيات القرن المنصرم في غرب العاصمة بيروت. وقعت المجزرة في 26 شباط عام 1987 في اليوم المقرر لتسلم القوات السورية مركز لحزب الله كائن في منطقة فتح الله في البسطة، أسوة بسواه من المراكز الحزبية. يومها، في أثناء شروع القوات السورية بتسلم المركز، شهدت المنطقة مشادة بين عناصر الحزب والجنود السوريين تبعها اقتحام الأخيرين شقة في الطابق الأول من مبنى في المنطقة تجمع فيها عدد من عناصر حزب الله، وبحسب الروايات عمد الجنود السوريون إلى إيقاف الجميع على الحائط وأمروهم برفع أيديهم فوق رؤوسهم ثم فتحوا النار عليهم فسقط من بينهم 18 قتيلاً فيما نجا شخص واحد فقط.

4 من جهاد البناء الذي هو نظير وزارة الاشغال في الدولة اللبنانية إلى مؤسسة القرض الحسن نظير بنك الاسكان الى سلسلة التعاونيات الاستهلاكية الى مشاريع البناء التي تقوم مقام بنك الاسكان.

* مؤلف كتاب «بلاد الله الضيقة .. الضاحية أهلا وحزبا» ـ دار الجديد ـ بيروت