على
07-08-2006, 01:10 AM
مدينة بمتناقضات صارخة بين عربات الحمير والسيارات الفارهة.. ولوبيات المال وأحزمة الفقر
الدار البيضاء: عبد الله الدامون
العيش في الدار البيضاء ليس مثل العيش في مدينة مغربية أخرى. في هذه المدينة تتآلف الألوان أو تتنافر في نصف متر مربع، ويتنابز الناس بالألقاب والأنساب مثل قبائل عصور الظلام، ويتسابق الناس والسيارات نحو أي مكان ويعبر الناس الشوارع من أي نقطة ويخرق السائقون الأضواء الحمراء كما لو أنهم يشربون الماء، وتتعايش سيارات الجاغوار الفارهة مع عربات تجرها الحمير في قلب المدينة.
في هذه المدينة يتعايش أزيد من ستة ملايين نسمة، غالبيتهم الساحقة جاؤوا إليها من مدن وقرى بعيدة، ومن بلدان قصية أيضا، لكي يكتشفوا معنى تعايش صعب.
الدار البيضاء ذات مزاج صعب، والداخل إليها يحس بالرهبة من شتاتها الكبير. وفي كثير من الأحيان تفرض المدينة مزاجها الصعب على سكانها، فيصبحون أكثر هشاشة أمام أي استفزاز، أو يعودون إلى الالتصاق بجذورهم البعيدة عند أول امتحان. في شارع مزدحم بحركة السيارات في قلب الدار البيضاء في عز الظهيرة كانت سيارتان تقفان وتعرقلان مرور مئات السيارات الأخرى بعد حادث بسيط. كان رجل شاب في السيارة الخلفية يرفع يديه محتجا بقوة على سائقين آخرين يطلقون منبهات سياراتهم مثل ديناصورات تريد الهروب من القفص، بينما امرأة شابة تجلس وحيدة في السيارة الأمامية بعدما أصيبت سيارتها برضوض طفيفة.
كان النقاش بين المرأة والرجل عاديا في بدايته حول تحمل مسؤولية الحادث، لكنه تطور بسرعة لينهل لنفسه شتائم من قواميس بذيئة. تحدث الرجل مفتخرا عن أصله الفاسي (من مدينة فاس)، محذرا المرأة بأن تنتبه إلى أنها لا تتكلم مع شخص عادي. المرأة من جانبها قالت له «طز فيك» وتحدثت بإباء عن أصلها الكازاوي (نسبة للدار البيضاء). ثم تطورت الشتائم بسرعة الضوء وتجمع خلق كثير يتفرجون على صراع الجذور في مدينة لا تعترف بجذور غير جذور المال والسرعة والنباهة المطلقة.
حكايات مثل هذه تتكرر في هذه المدينة مئات المرات يوميا. ففي 100 عام فقط أصبحت هذه المدينة الأكبر في المغرب على الإطلاق، وجاء إليها مئات الآلاف من كل مناطق المغرب واستقروا فيها. وعلى الرغم من أن المدينة لم تنشأ إلا قبل أقل من مائة عام، بعد بداية التوسع الكولونيالي الفرنسي في المغرب، إلا أن الكثير من سكانها يقولون إنهم سكان المدينة الأصليون، وهم يقصدون بالطبع أنهم سكنوها قبل غيرهم. ويعبر هؤلاء غالبا عن انزعاجهم من سكان المدن والمناطق الأخرى الذين استوطنوا المدينة، وعلى الخصوص آلاف الفاسيين الذين تحولوا إلى قوة اقتصادية كبيرة في المدينة، وأصبحوا يشكلون لوبيا حقيقيا في دواليب الإدارة والاقتصاد والسياسة.
هناك لوبي اقتصادي آخر قوي في المدينة. إنهم أبناء سوس، الذين نزحوا على مدى فترات من جنوب البلاد إلى الدار البيضاء واشتغلوا في ميادين التجارة والأنشطة الاقتصادية البسيطة قبل أن يتحول الكثيرون منهم إلى أغنياء كبار. وبعكس أبناء فاس الذين يميلون إلى البهرجة، فإن السوسيين أكثر كتمانا وأشد حرصا على عدم إظهار غناهم، ربما مخافة العين. الدار البيضاء تحولت إلى مدينة معولمة بامتياز. في شاطئ «عين الذياب» يعرف أبناء الطبقات الموسرة وأغنياء الغموض كيف يرمون أموالهم في الفراغ وكيف يحولون ظلمة الليالي إلى حمرة قانية. وفي مدن الصفيح على أطراف المدينة تتحول نهارات السكان المشمسة إلى ظلام مفجع، ومنها تخرج شبان تحولوا إلى قنابل ضد كل شيء.
في هذه المدينة دور موضة عالمية يقف على أعتابها متسولون يطلبون صدقة، وقريبا من أبواب الأبناك متسكعون يترصدون أي شيء يتحرك.
المتناقضات في هذه المدينة تصل أوجها بين الغنى الفاحش والفقر المدقع. في حي راق بالمدينة حلاق يختص في تقليم زغب كلاب «الكانيش» المدللة. إنها صيحات مستوردة من كبرى مدن العالم مثل نيويورك وباريس ولندن. لكن الدار البيضاء لا تشبه مدن العالم الكبيرة. إن أهم عيوبها أنها كبيرة، ففي باريس ونيويورك وواشنطن لا توجد دور صفيح، ولا تسير عربات تجرها الحمير جنبا إلى جنب مع سيارات المائتي ألف دولار.
الدار البيضاء تحولت أيضا إلى مادة رئيسية في السينما المغربية. وكثيرة هي الأفلام التي تناولت هذه المدينة كما لو أنها بلد داخل بلد. المخرج مصطفى الدرقاوي تحدث عنها في فيلم «كازابلانكا باي نايت» (الدار البيضاء ليلا) في قصة رديئة، قبل أن يرفع المخرج محمد العسلي أسهم المدينة في المهرجانات السينمائية الدولية عبر فيلمه «الملائكة لا تحلق فوق الدار البيضاء»، في قصة إنسانية جميلة تعكس معاناة تلك الأفواج من المهاجرين الذين يأتون المدينة من كل صوب، فتبتلعهم قبل أن يرتد إليهم طرفهم. وبعده أخرجت ليلى المراكشي فيلم «ماروك» لتعكس ذلك التناقض الصارخ بين طبقة الأغنياء المستلبين والمصابين بالدوار الحضاري والثقافي والذين يتحدثون الفرنسية حتى في أحلامهم، وبين بسطاء الناس الذين ألصقت بهم المخرجة كل ما هو تافه إلى حد جعل الكثيرين يتهمونها بأنها أخرجت «فيلما عنصريا مقيتا». الدار البيضاء لا تشبه في شيء جارتها الرباط، وجمهور كرة القدم في المدينتين الذي يتشابك مع بعضه البعض بالأيدي والشعارات في المباريات بين فرق المدينتين، يعبر بتطرف عن ذلك التنافر بين مدينتين لا يفصل بينهما أزيد من 100 كيلومتر. الرباط تحتمي بربطات عنقها الفاقعة والمثيرة للسخرية، والدار البيضاء تفخر بانطلاقتها وبساطتها وسمائها المفتوحة. لكن هذه الأحكام ليست مطلقة. في الدار البيضاء هناك أيضا الكثير من ربطات العنق الفاقعة، وفي الرباط سماء زرقاء مبتهجة. سكان الرباط الذين يزورون الدار البيضاء يصفونها بالغول، وسكان الدار البيضاء يصفون الرباط كونها مدينة كئيبة تنام قبل أن ينام الديك.
وحده الصيف قادر على قهر عجرفة هذه المدينة المتحركة دوما. موظفوها وسكانها المؤقتون والدائمون يفضلون تركها صيفا ليرحلوا نحو أمكنة يكتشفون فيها معنى أن يكون المرء وحيدا في صباح جميل على شاطئ معزول، وأن يتطلع إلى السماء ليلا ويكتشف أن الله خلق السماء وزيّنها بمصابيح وجعلها رجوما للشياطين.
الدار البيضاء: عبد الله الدامون
العيش في الدار البيضاء ليس مثل العيش في مدينة مغربية أخرى. في هذه المدينة تتآلف الألوان أو تتنافر في نصف متر مربع، ويتنابز الناس بالألقاب والأنساب مثل قبائل عصور الظلام، ويتسابق الناس والسيارات نحو أي مكان ويعبر الناس الشوارع من أي نقطة ويخرق السائقون الأضواء الحمراء كما لو أنهم يشربون الماء، وتتعايش سيارات الجاغوار الفارهة مع عربات تجرها الحمير في قلب المدينة.
في هذه المدينة يتعايش أزيد من ستة ملايين نسمة، غالبيتهم الساحقة جاؤوا إليها من مدن وقرى بعيدة، ومن بلدان قصية أيضا، لكي يكتشفوا معنى تعايش صعب.
الدار البيضاء ذات مزاج صعب، والداخل إليها يحس بالرهبة من شتاتها الكبير. وفي كثير من الأحيان تفرض المدينة مزاجها الصعب على سكانها، فيصبحون أكثر هشاشة أمام أي استفزاز، أو يعودون إلى الالتصاق بجذورهم البعيدة عند أول امتحان. في شارع مزدحم بحركة السيارات في قلب الدار البيضاء في عز الظهيرة كانت سيارتان تقفان وتعرقلان مرور مئات السيارات الأخرى بعد حادث بسيط. كان رجل شاب في السيارة الخلفية يرفع يديه محتجا بقوة على سائقين آخرين يطلقون منبهات سياراتهم مثل ديناصورات تريد الهروب من القفص، بينما امرأة شابة تجلس وحيدة في السيارة الأمامية بعدما أصيبت سيارتها برضوض طفيفة.
كان النقاش بين المرأة والرجل عاديا في بدايته حول تحمل مسؤولية الحادث، لكنه تطور بسرعة لينهل لنفسه شتائم من قواميس بذيئة. تحدث الرجل مفتخرا عن أصله الفاسي (من مدينة فاس)، محذرا المرأة بأن تنتبه إلى أنها لا تتكلم مع شخص عادي. المرأة من جانبها قالت له «طز فيك» وتحدثت بإباء عن أصلها الكازاوي (نسبة للدار البيضاء). ثم تطورت الشتائم بسرعة الضوء وتجمع خلق كثير يتفرجون على صراع الجذور في مدينة لا تعترف بجذور غير جذور المال والسرعة والنباهة المطلقة.
حكايات مثل هذه تتكرر في هذه المدينة مئات المرات يوميا. ففي 100 عام فقط أصبحت هذه المدينة الأكبر في المغرب على الإطلاق، وجاء إليها مئات الآلاف من كل مناطق المغرب واستقروا فيها. وعلى الرغم من أن المدينة لم تنشأ إلا قبل أقل من مائة عام، بعد بداية التوسع الكولونيالي الفرنسي في المغرب، إلا أن الكثير من سكانها يقولون إنهم سكان المدينة الأصليون، وهم يقصدون بالطبع أنهم سكنوها قبل غيرهم. ويعبر هؤلاء غالبا عن انزعاجهم من سكان المدن والمناطق الأخرى الذين استوطنوا المدينة، وعلى الخصوص آلاف الفاسيين الذين تحولوا إلى قوة اقتصادية كبيرة في المدينة، وأصبحوا يشكلون لوبيا حقيقيا في دواليب الإدارة والاقتصاد والسياسة.
هناك لوبي اقتصادي آخر قوي في المدينة. إنهم أبناء سوس، الذين نزحوا على مدى فترات من جنوب البلاد إلى الدار البيضاء واشتغلوا في ميادين التجارة والأنشطة الاقتصادية البسيطة قبل أن يتحول الكثيرون منهم إلى أغنياء كبار. وبعكس أبناء فاس الذين يميلون إلى البهرجة، فإن السوسيين أكثر كتمانا وأشد حرصا على عدم إظهار غناهم، ربما مخافة العين. الدار البيضاء تحولت إلى مدينة معولمة بامتياز. في شاطئ «عين الذياب» يعرف أبناء الطبقات الموسرة وأغنياء الغموض كيف يرمون أموالهم في الفراغ وكيف يحولون ظلمة الليالي إلى حمرة قانية. وفي مدن الصفيح على أطراف المدينة تتحول نهارات السكان المشمسة إلى ظلام مفجع، ومنها تخرج شبان تحولوا إلى قنابل ضد كل شيء.
في هذه المدينة دور موضة عالمية يقف على أعتابها متسولون يطلبون صدقة، وقريبا من أبواب الأبناك متسكعون يترصدون أي شيء يتحرك.
المتناقضات في هذه المدينة تصل أوجها بين الغنى الفاحش والفقر المدقع. في حي راق بالمدينة حلاق يختص في تقليم زغب كلاب «الكانيش» المدللة. إنها صيحات مستوردة من كبرى مدن العالم مثل نيويورك وباريس ولندن. لكن الدار البيضاء لا تشبه مدن العالم الكبيرة. إن أهم عيوبها أنها كبيرة، ففي باريس ونيويورك وواشنطن لا توجد دور صفيح، ولا تسير عربات تجرها الحمير جنبا إلى جنب مع سيارات المائتي ألف دولار.
الدار البيضاء تحولت أيضا إلى مادة رئيسية في السينما المغربية. وكثيرة هي الأفلام التي تناولت هذه المدينة كما لو أنها بلد داخل بلد. المخرج مصطفى الدرقاوي تحدث عنها في فيلم «كازابلانكا باي نايت» (الدار البيضاء ليلا) في قصة رديئة، قبل أن يرفع المخرج محمد العسلي أسهم المدينة في المهرجانات السينمائية الدولية عبر فيلمه «الملائكة لا تحلق فوق الدار البيضاء»، في قصة إنسانية جميلة تعكس معاناة تلك الأفواج من المهاجرين الذين يأتون المدينة من كل صوب، فتبتلعهم قبل أن يرتد إليهم طرفهم. وبعده أخرجت ليلى المراكشي فيلم «ماروك» لتعكس ذلك التناقض الصارخ بين طبقة الأغنياء المستلبين والمصابين بالدوار الحضاري والثقافي والذين يتحدثون الفرنسية حتى في أحلامهم، وبين بسطاء الناس الذين ألصقت بهم المخرجة كل ما هو تافه إلى حد جعل الكثيرين يتهمونها بأنها أخرجت «فيلما عنصريا مقيتا». الدار البيضاء لا تشبه في شيء جارتها الرباط، وجمهور كرة القدم في المدينتين الذي يتشابك مع بعضه البعض بالأيدي والشعارات في المباريات بين فرق المدينتين، يعبر بتطرف عن ذلك التنافر بين مدينتين لا يفصل بينهما أزيد من 100 كيلومتر. الرباط تحتمي بربطات عنقها الفاقعة والمثيرة للسخرية، والدار البيضاء تفخر بانطلاقتها وبساطتها وسمائها المفتوحة. لكن هذه الأحكام ليست مطلقة. في الدار البيضاء هناك أيضا الكثير من ربطات العنق الفاقعة، وفي الرباط سماء زرقاء مبتهجة. سكان الرباط الذين يزورون الدار البيضاء يصفونها بالغول، وسكان الدار البيضاء يصفون الرباط كونها مدينة كئيبة تنام قبل أن ينام الديك.
وحده الصيف قادر على قهر عجرفة هذه المدينة المتحركة دوما. موظفوها وسكانها المؤقتون والدائمون يفضلون تركها صيفا ليرحلوا نحو أمكنة يكتشفون فيها معنى أن يكون المرء وحيدا في صباح جميل على شاطئ معزول، وأن يتطلع إلى السماء ليلا ويكتشف أن الله خلق السماء وزيّنها بمصابيح وجعلها رجوما للشياطين.