على
07-05-2006, 05:05 PM
بغداد - مشرق عباس
الحياة - 05/07/06//
يخفض أوس (لم يكمل العاشرة) رأسه حزيناً، وهو يتذكر مدرسته وحرصه على أداء فروضه، قبل أن يصبح بائعاً متجولاً في أكثر أحياء بغداد خطراً. على أوس الآن تجنب مضايقات المنحرفين والمجرمين، ومواجهة شوارع بغداد التي يقيم الموت على أرصفتها.
لم تبارح ملامح الطفولة وجه أوس الذي يروي حكايته، ولا ينسى أنه سيأخذ خمسة آلاف دينار (حوالي خمسة دولارات) مقابل ذلك، إذ أنه سيترك «عمله» في التقاطع المروري للحديث مع صحافي متطفل ظنه في البداية أحد المتاجرين بالأطفال الذين كثيراً ما يحاولون التحرش بهم.
يقول أوس: «تركت منزل عمي في الناصرية، وكنت انتقلت إليه بعد مقتل والدي ووالدتي في حادث تفجير في بغداد. وهربت مع احد أصدقائي الى منطقة البتاويين وسط بغداد حيث بيوت تؤوي الأطفال من سني وتوفر لهم العمل في الشوارع». ويتابع: «في البداية كانت الحياة مريحة افعل ما يحلو لي، لكن سرعان ما عرفت ان عصابات تستخدم الأطفال للمتاجرة بهم وهي تغزو هذا البيت بشكل دوري وتختطف أطفالاً لا يعرف مصيرهم... هربت مرة أخرى وأصبحت برعاية رجل يوفر العمل للأطفال في التقاطعات المرورية».
بصرف النظر عن دقة حديث الصبي، فإن «منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة» (يونيسيف) أكدت في تقريرها السنوي وجود 1.3 مليون طفل عراقي في الشوارع يعيش بعضهم في حي «السنك» شمال بغداد حيث تكثر النفايات، وحذرت من الأخطار التي يواجهها الأطفال في أجواء الاضطراب الأمني والفقر. ويشير التقرير الى مئات النماذج التي تدق ناقوس الخطر، محذراً من أن الأيتام وتاركي المدرسة عرضة للأذى وتصعب حمايتهم.
وترى «يونيسيف» أن المتاجرة بالأطفال رائجة جداً، فهم يستخدمون في العبودية المنزلية، ويتم دفعهم الى الشوارع للعمل في مهن لا تمت إلى الطفولة بصلة. وتؤكد أن 21 في المئة من الفتيات العراقيات لم يلتحقن بالمدرسة، خصوصاً في المناطق الريفية، فيما يعاني ربع الأطفال من سوء التغذية، ويعيش عُشرهم شكلاً من أشكال الجوع.
وعلى رغم أن القوانين العراقية النافذة تمنع تشغيل الأطفال دون الخامسة عشرة، إلا أن أعدداً متزايدة منهم يتدفقون يومياً الى الشارع لكسب قوتهم في غياب معيلي العائلة، إما لأنهم قتلوا أو لأن الأب لا يعمل. وتهمل المؤسسات الإنسانية والحكومية عائلات ضحايا العنف فلا تجد حلاً سوى دفع الأطفال للعمل.
زينب (12 سنة) فتاة تبيع المناديل الورقية في الشارع، تقول: «والدي معاق وأمي مريضة وعمتي تعمل بائعة خضار، لكنها تجبرني على العمل لكسب قوت العائلة».
الظروف القاسية التي يمر بها العراق ليست وحدها المسؤولة عن مأساة الأطفال، فبعض أرباب العائلات يغلب عليهم الجشع. يؤكد محمد (13 سنة) الذي يعمل في جمع قناني الكولا والأجهزة الكهربائية المعطلة والملابس القديمة من أكوام القمامة، أن والده يجبر كل فرد في العائلة على العمل لجمع هذه الأشياء التي تعد تجارة مربحة. وانه وأخوته الأربعة (أكبرهم عمره 16 سنة) لم يدخلوا المدرسة، فـ «الحياة صعبة ويجب ان يعملوا ليأكلوا!».
وزارة التربية العراقية أصدرت تقريراً قبل أسابيع حذرت فيه من خطر زيادة عدد المتسربين من مقاعد الدراسة في غياب تطبيق قانون التعليم الاجباري. وفي حين ان القانون الـ19 الصادر عام 1978 وما زال سارياً، يحدد المهن التي لا يجوز تشغيل الأطفال فيها، إلا أن محلات خراطة الحديد والعمل في البناء وحفر المجاري تستقطب، باستمرار، المزيد من الصبيان المتسربين من مقاعد الدراسة الذين يدرجون ضمن الأيدي العاملة الرخيصة.
ويؤكد الباحث في شؤون الطفولة عبدالعزيز الغراوي ان «التغاضي عن أزمات الطفولة العراقية سيقود الى خلق مجتمع تعاني أجياله المقبلة من عاهات اجتماعية خطيرة».
وتواجه الأطفال في العراق، بالإضافة الى خطر العنف المسلح والعمليات العسكرية التي يذهب ضحيتها المئات شهرياً، أزمات. ويقول الطبيب النفسي محمد علي مرتضى ان «الفوبيا بمختلف أشكالها أصبحت من أمراض الطفولة الشائعة»، وانه يواجه يومياً «حالات أطفال يعانون أمراضاً لا تناسب أعمارهم كالفصام والهستيريا والكآبة، فيما تغدو حالات التوحد، عارضاً مستمراً مع فقدان احد افراد العائلة او مشاهدة حدث دموي مرعب».
وتصبح المشكلة اكثر تعقيداً، إذ تستقطب الميليشيات والجماعات المسلحة صبية يفقدون آباءهم ويدفعونهم الى الانتقام والثأر. وبعض التنظيمات المسلحة استحدث شُعباً خاصة لتدريب الصبية وغسل أدمغتهم وإعدادهم نفسياً وجسدياً لتنفيذ هجمات، بعضها انتحاري، فيما يؤكد بعض الشهود في بغداد أن فرقاً مسلحة تمارس عمليات القتل عناصرها صبية تراوح أعمارهم بين الـ15 والـ17.
أوس، الذي تجاوز ذكرياته الحزينة حين لمس الورقة النقدية، ضرب أحد زملائه الذين تجمعوا للحصول مثله على خمسة آلاف دينار مقابل سرد حكايته. حتى أن بعضهم أعرب عن استعداده لذلك مقابل ربع المبلغ. لكن رجلاً بملامح أخفتها شمس بغداد الحارقة كان يتابع المشهد من بعيد، اقترب من الأطفال المنهمكين بالطارئ الجديد على حياتهم في صيف لاهب، وانهال على أوس لكماً، مهدداً بقتله إذا استمر في الثرثرة، ثم صرخ متوعداً: «اخي نحن على باب الله ماذا تريد من الأطفال؟ دعهم لرزقهم واذا كنت تبحث عن قصة فاذهب الى قاطع آخر! الساحة ملكي ولا اسمح لأحد بالتعرض لصبياني».
الحياة - 05/07/06//
يخفض أوس (لم يكمل العاشرة) رأسه حزيناً، وهو يتذكر مدرسته وحرصه على أداء فروضه، قبل أن يصبح بائعاً متجولاً في أكثر أحياء بغداد خطراً. على أوس الآن تجنب مضايقات المنحرفين والمجرمين، ومواجهة شوارع بغداد التي يقيم الموت على أرصفتها.
لم تبارح ملامح الطفولة وجه أوس الذي يروي حكايته، ولا ينسى أنه سيأخذ خمسة آلاف دينار (حوالي خمسة دولارات) مقابل ذلك، إذ أنه سيترك «عمله» في التقاطع المروري للحديث مع صحافي متطفل ظنه في البداية أحد المتاجرين بالأطفال الذين كثيراً ما يحاولون التحرش بهم.
يقول أوس: «تركت منزل عمي في الناصرية، وكنت انتقلت إليه بعد مقتل والدي ووالدتي في حادث تفجير في بغداد. وهربت مع احد أصدقائي الى منطقة البتاويين وسط بغداد حيث بيوت تؤوي الأطفال من سني وتوفر لهم العمل في الشوارع». ويتابع: «في البداية كانت الحياة مريحة افعل ما يحلو لي، لكن سرعان ما عرفت ان عصابات تستخدم الأطفال للمتاجرة بهم وهي تغزو هذا البيت بشكل دوري وتختطف أطفالاً لا يعرف مصيرهم... هربت مرة أخرى وأصبحت برعاية رجل يوفر العمل للأطفال في التقاطعات المرورية».
بصرف النظر عن دقة حديث الصبي، فإن «منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة» (يونيسيف) أكدت في تقريرها السنوي وجود 1.3 مليون طفل عراقي في الشوارع يعيش بعضهم في حي «السنك» شمال بغداد حيث تكثر النفايات، وحذرت من الأخطار التي يواجهها الأطفال في أجواء الاضطراب الأمني والفقر. ويشير التقرير الى مئات النماذج التي تدق ناقوس الخطر، محذراً من أن الأيتام وتاركي المدرسة عرضة للأذى وتصعب حمايتهم.
وترى «يونيسيف» أن المتاجرة بالأطفال رائجة جداً، فهم يستخدمون في العبودية المنزلية، ويتم دفعهم الى الشوارع للعمل في مهن لا تمت إلى الطفولة بصلة. وتؤكد أن 21 في المئة من الفتيات العراقيات لم يلتحقن بالمدرسة، خصوصاً في المناطق الريفية، فيما يعاني ربع الأطفال من سوء التغذية، ويعيش عُشرهم شكلاً من أشكال الجوع.
وعلى رغم أن القوانين العراقية النافذة تمنع تشغيل الأطفال دون الخامسة عشرة، إلا أن أعدداً متزايدة منهم يتدفقون يومياً الى الشارع لكسب قوتهم في غياب معيلي العائلة، إما لأنهم قتلوا أو لأن الأب لا يعمل. وتهمل المؤسسات الإنسانية والحكومية عائلات ضحايا العنف فلا تجد حلاً سوى دفع الأطفال للعمل.
زينب (12 سنة) فتاة تبيع المناديل الورقية في الشارع، تقول: «والدي معاق وأمي مريضة وعمتي تعمل بائعة خضار، لكنها تجبرني على العمل لكسب قوت العائلة».
الظروف القاسية التي يمر بها العراق ليست وحدها المسؤولة عن مأساة الأطفال، فبعض أرباب العائلات يغلب عليهم الجشع. يؤكد محمد (13 سنة) الذي يعمل في جمع قناني الكولا والأجهزة الكهربائية المعطلة والملابس القديمة من أكوام القمامة، أن والده يجبر كل فرد في العائلة على العمل لجمع هذه الأشياء التي تعد تجارة مربحة. وانه وأخوته الأربعة (أكبرهم عمره 16 سنة) لم يدخلوا المدرسة، فـ «الحياة صعبة ويجب ان يعملوا ليأكلوا!».
وزارة التربية العراقية أصدرت تقريراً قبل أسابيع حذرت فيه من خطر زيادة عدد المتسربين من مقاعد الدراسة في غياب تطبيق قانون التعليم الاجباري. وفي حين ان القانون الـ19 الصادر عام 1978 وما زال سارياً، يحدد المهن التي لا يجوز تشغيل الأطفال فيها، إلا أن محلات خراطة الحديد والعمل في البناء وحفر المجاري تستقطب، باستمرار، المزيد من الصبيان المتسربين من مقاعد الدراسة الذين يدرجون ضمن الأيدي العاملة الرخيصة.
ويؤكد الباحث في شؤون الطفولة عبدالعزيز الغراوي ان «التغاضي عن أزمات الطفولة العراقية سيقود الى خلق مجتمع تعاني أجياله المقبلة من عاهات اجتماعية خطيرة».
وتواجه الأطفال في العراق، بالإضافة الى خطر العنف المسلح والعمليات العسكرية التي يذهب ضحيتها المئات شهرياً، أزمات. ويقول الطبيب النفسي محمد علي مرتضى ان «الفوبيا بمختلف أشكالها أصبحت من أمراض الطفولة الشائعة»، وانه يواجه يومياً «حالات أطفال يعانون أمراضاً لا تناسب أعمارهم كالفصام والهستيريا والكآبة، فيما تغدو حالات التوحد، عارضاً مستمراً مع فقدان احد افراد العائلة او مشاهدة حدث دموي مرعب».
وتصبح المشكلة اكثر تعقيداً، إذ تستقطب الميليشيات والجماعات المسلحة صبية يفقدون آباءهم ويدفعونهم الى الانتقام والثأر. وبعض التنظيمات المسلحة استحدث شُعباً خاصة لتدريب الصبية وغسل أدمغتهم وإعدادهم نفسياً وجسدياً لتنفيذ هجمات، بعضها انتحاري، فيما يؤكد بعض الشهود في بغداد أن فرقاً مسلحة تمارس عمليات القتل عناصرها صبية تراوح أعمارهم بين الـ15 والـ17.
أوس، الذي تجاوز ذكرياته الحزينة حين لمس الورقة النقدية، ضرب أحد زملائه الذين تجمعوا للحصول مثله على خمسة آلاف دينار مقابل سرد حكايته. حتى أن بعضهم أعرب عن استعداده لذلك مقابل ربع المبلغ. لكن رجلاً بملامح أخفتها شمس بغداد الحارقة كان يتابع المشهد من بعيد، اقترب من الأطفال المنهمكين بالطارئ الجديد على حياتهم في صيف لاهب، وانهال على أوس لكماً، مهدداً بقتله إذا استمر في الثرثرة، ثم صرخ متوعداً: «اخي نحن على باب الله ماذا تريد من الأطفال؟ دعهم لرزقهم واذا كنت تبحث عن قصة فاذهب الى قاطع آخر! الساحة ملكي ولا اسمح لأحد بالتعرض لصبياني».