فاطمي
06-27-2006, 10:48 AM
http://www.aawsat.com/2006/06/23/images/hassad.369607.jpg
الشرق الاوسط في الحي الذي أرعب المغرب.. وجسد التناقضات
الدار البيضاء: عبد الله الدامون
لم يكن أحد يتوقع أن يأتي يوم يقوم فيه مسؤول أميركي رفيع المستوى بزيارة «حارات الصفيح» في منطقة «سيدي مؤمن»، هذه المدينة الصغيرة الغارقة في تناقضاتها مع الفقر والتشدد في ضواحي منطقة «عين السبع» شمال الدار البيضاء بسكانها الذين يفوقون المائة ألف، وينتمي اغلبهم الى الطبقة الدنيا وحواف الطبقة الوسطى، مع مستويات تعليم متوسطة في الاغلب، ومستويات اجتماعية بسيطة، لكن ايضا مع قدرة على تحمل الصعاب الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي يعيشون في ظلها، لكن في الأيام القليلة الماضية جاءت كارين هيوز، نائبة وزيرة الخارجية الأميركية، بنفسها إلى هذه المنطقة التي خرج منها قبل نحو ثلاث سنوات انتحاريون فجروا أنفسهم في عدد من مناطق الدار البيضاء مخلفين أكثر من 40 قتيلا، في أسوأ موجة تفجيرات في تاريخ المغرب بعد الاستقلال. المسؤولة الأميركية دشنت قاعة رياضية في المنطقة. والتقت في المركز اللغوي الأميركي بطلبة مغاربة فازوا بمنح للدراسة في الولايات المتحدة، وذلك في مسعى لتطبيق «افكار» اميركية حول مكافحة التطرف والتصدي له، علي اساس ان الفقر هو السبب الاول وراء هذا.
وللمفارقة، فإن أسماء الأشياء في حي «سيدي مؤمن» الهامشي تدل كلها على البهجة. فهذه المنطقة التي خرجت غالبية انتحاريي تفجيرات 16 مايو (ايار) والتي تتكون في الغالب من مباني الصفيح الموجودة بالآلاف، تعيش حياة عادية؛ الأطفال يلعبون بين كتل الغبار حول مجاري الفضلات التي تجري بين الأكواخ، والنساء يعلقن الغسيل على حبال واطئة مرفوعة بأعمدة من خشب حتى تكون عرضة لأشعة الشمس قليلا، والعربات التي تجرها الحمير والبغال تقف حول الأكواخ تعرض الخضر والفواكه، وهنا وهناك وقفت سيارات بأرقام أجنبية عاد أصحابها من أوروبا بعد أن تركوا هذه المدن الصفيحية، ومتاجر صغيرة على حواف الأرصفة تبيع آخر أفلام هوليوود التي قرصنتها السواعد النشيطة لشباب منطقة «درب غلف» في الدار البيضاء، والشيوخ يحتمون من الشمس تحت أي شيء في مناطق بلا أشجار، ونساء هدهن البكاء والحزن وهن يسألن عن مصير أبنائهن المعتقلين الذين حكم على الكثير منهم بالإعدام أو السجن المؤبد أو أكثر من 30 عاما، بعد تفجيرات الدار البيضاء.
ومع كل هذا، فإن الأسماء في المنطقة تبحث لنفسها عن شيء آخر غير الحزن والكمد. النادل في «مقهى المتعة» بوسط حي «سيدي مؤمن»، يحمل ابتسامته على وجهه ويخدم الزبائن بنشاط ظاهر. في ساحة المقهى الأنيق جهاز تلفزيون عملاق لمتابعة مباريات مونديال ألمانيا.
هناك صيدلية تحمل اسم «مفتاح الخير» ومصبنة اسمها «إحسان»، ومدرسة تحمل اسم «الانفتاح»، وحمام اسمه «الفضل»، ومتجر زجاج يحمل اسم «البهجة»، وفي شارع فسيح هناك صالون حلاقة يحمل اسم «تيتانيك»، ربما يتوقع صاحبه أن الأشياء إذا استمرت علي ما هي عليه، فلن تكون عاقبة المنطقة أحسن حظا من تلك السفينة الشهيرة. ويتساءل عدد من السكان إن كانت زيارة هيوز ستضيف شيئا إلي المنطقة. «لا شيء تغير عندنا. قبل ثلاث سنوات قالوا لنا إنهم سيبنون لنا سكنا لائقا وستختفي دور الصفيح، لكن ما زلنا ننتظر»، تقول فتاة من منطقة «كاريان طوما» اعتقل أحد أقربائها في التفجيرات الانتحارية، وتضيف «لم نسمع شيئا عن زيارة مسؤولين أميركيين، ولا عن استثمارات أميركية. انظروا وستعرفون». في هذا الحي الهامشي، الذي صار اليوم رمزا لمعاقل المتشددين الدينيين، وخصوصا بعدما أصبحت السلطات المغربية تطلق عليه تيار «السلفية الجهادية»، تتعايش الكثير من المتناقضات.
نساء منقبات يسرن جنبا إلى جنب مع فتيات سافرات. سيارات أنيقة على أبواب بيوت صفيح بائسة، حافلات نقل اسمها «الراحة» تجوب منطقة لا راحة فيها. أسر المعتقلين المتهمين بالتورط في التفجيرات يشتكون مما يسمونه «إرهابا آخر» يمارس في حقهم بعد أن أصبحت جدران سكن بعضهم مليئة بعبارات مهينة مثل «هذا منزل الإرهابي..»، هذا ما تقوله امرأة في أواخر العقد الخامس من عمرها، وهي تبكي ابنها المعتقل الذي فقد بصره من البكاء والمعاناة بعد أن حكم عليه بالسجن مدة 30 عاما بعد تفجيرات الدار البيضاء.
في منزل متواضع بـ «كاريان طوما» اجتمعت «الشرق الأوسط» مع عدد من سكان المنطقة، أغلبهم لهم أفراد معتقلون في عدد من سجون البلاد بتهم تورطهم في تفجيرات الدار البيضاء. غير أن عائلاتهم تنفي بشدة أي تورط لهم وتصر علي براءتهم. في ركن من المنزل ـ الكوخ تطهو المرأة وجبة الغداء في مقلاة وتعلق بمرارة ساخرة علي الذين اتهموا ابنها بتدبير انفجارات الدار البيضاء «قالوا لنا إنهم مولونا بمئات الملايين، انظر إلى حالنا وستعرف الحقيقة، هل هذا حال من يتلقى مئات الملايين؟». وتقول زوجة المعتقل أحمد العسال، الذي اعتقل عقب التفجيرات إنها لا تملك ثمن تذكرة الذهاب إلي القنيطرة (40 كلم شمال الرباط) لزيارة زوجها في السجن وتتهم الآخرين بترويج الأكاذيب وافتقارهم إلي دليل يؤكد أن زوجها، ومعتقلين آخرين تورطوا بالفعل في التفجيرات، مضيفة «لقد احتقرونا كثيرا وظلمونا أكثر وأقصونا من بلادنا. أنا لم أكن أفكر من قبل في الهجرة، لكني أفكر في ذلك بجدية لأني أبحث عن مكان أحس فيه ببعض الراحة.
الناس هنا لا ينظرون إلي سوي كوني زوجة إرهابي، وأطفالي ما ذنبهم في ذلك؟ لماذا يعيرونهم في المدرسة كونهم أبناء إرهابيين. وهناك زوجات لمعتقلين صرن يعملن في المنازل، وأخريات يتسولن، وهناك زوجة معتقل انتحرت، وأخريات يهددن بذلك». وتحكي بهيجة، زوجة العسال، أنه حتى المعتقلين الذين أفرج عنهم اضطر بعضهم إلي الرحيل نحو مدن أخرى. وتقول «لقد رحل المعتقل أمرين الذي كان محكوما بالسجن مدة 30 عاما، من الدار البيضاء إلي مدينة آسفي بالجنوب لأنه لم يجد الجو المناسب للحياة بعد إطلاق سراحه. والناس صاروا يخافون منه ومن السلام عليه حتى لا تلتصق بهم صفة إرهابيين، هذا أسوأ ما يمكن أن يحدث. وما حدث فعلا هو أن أحد أصدقاء أمرين تم اعتقاله لأنه التقى به بعد الإفراج عنه، والغريب أنه تم إطلاق سراح المعتقل بدليل انه بريء، لكن اعتقل شخص التقى به.
هل يستطيع أحد أن يفسر معني هذا؟». لكن برغم المرارة يحاول ابناء المنطقة ان يعيشوا بقدر ما بطريقة طبيعية. فعلى «أسطح» الأكواخ القصديرية غابة من الصحون المقعرة (بارابول) تمكِّن ساكنيها من رؤية عالم بالألوان. لا أحد يفرط في التلفزيون الملون حتى لو كان المقابل هو النوم على الحصير. سكان الأحياء القصديرية في الدار البيضاء لا تبدو على محياهم علامات بؤس طافح. ملابس الكثيرين منهم نظيفة، وأطفالهم يلعبون الكرة أو يلهون بأية لعبة وهم يتطلعون بين الفينة والأخرى على أوجه العابرين الغرباء لمنطقتهم. لا عدوانية تبدو في هذه الأكواخ. امرأة في مقتبل العمر تسأل بلطف عابرين للممرات الضيقة للأكواخ وتخبرهم أن الزقاق لا يؤدي إلى أي مكان. ترشدهم إلى زقاق آخر وتحذرهم من الاقتراب من مكان قريب بسبب الكلاب. وهذه الكلاب نادرا ما يسمع نباحها. لقد تآلفت بشكل غريب مع البشر وأصبحت تقضي سحابة يومها في التمدد على الأرصفة، وهي تتطلع إلى وجوه وحركات البشر.
وعلى أطراف حارات الصفيح مخادع هاتفية كثيرة. الكلام عبر الهواتف صار اليوم صناعة حقيقية في المغرب، وشركة «اتصالات المغرب» التي تجني كل عام أرباحا خيالية لا تنظر إلى سكان هذه المناطق سوى كونهم أفواها تتكلم، والناس يقولون إنه لا يوجد أي مشروع رعته هذه الشركة في هذه المناطق، «إنها شركة لجمع المال وليس لتوزيعهى يقول أحد سكان المنطقة. وبسبب الاحداث التي مرت على المنطقة، تعود سكانها على زيارات الصحافيين وتعلموا ترديد بعض الأجوبة عن ظهر قلب، «لا علاقة لنا بالإرهاب، نحن أناس بسطاء نريد العيش في سلام»، تقول امرأة كانت منشغلة بمسح وجه طفلها بقطعة ثوب مبللة بالماء. وحين سألتها «الشرق الاوسط» هل سمعت بزيارة قامت بها مسؤولة أميركية إلى منطقة «سيدي مؤمن» أخيرا، ترسم على وجهها علامة استغراب وكأنها سئلت عن سكان من كواكب أخرى نزلوا علي «سيدي مؤمن». وقبل فترة انشئت في المنطقة «جمعية النصير»، تؤطر أنشطة عائلات المعتقلين الإسلاميين التي تطالب بإعادة التحقيق في قضايا المتهمين في تفجيرات 16 مايو، أو أغلبهم في الأقل. لكن وزارة العدل المغربية ترى إن إعادة محاكمة
معتقلي «السلفية الجهادية» لا يمكن أن تتم خارج الاجراءات القانونية المعمول بها. وقال مصدر من وزارة العدل، فضل عدم الكشف عن اسمه، لـ«الشرق الأوسط»، إن من حق هؤلاء أن يتقدموا بطعون في هذا الشأن، لأن إعادة المحاكمة أو التحقيق في قضاياهم يجب أن تكون منسجمة مع القانون ووفق الإجراءات المعمول بها عادة في هذا المجال». وأضاف «المؤهل الوحيد للبحث في هذه القضية هو المحكمة، وكان من الممكن أن يتم إجراء خبرة أو بحث في هذا المجال». وحول الاتهامات بتعرض المعتقلين للتعذيب ولمعاملة سيئة، نفى المصدر أن يكون معتقلو ما يسمى «السلفية الجهادية» يتعرضون للتعذيب أو لمعاملة اقل قيمة من السجناء الآخرين.
ويشعر كثير من اهالي المعتقلين ان محاكمة اولادهم تمت بسرعة، وهذا ما يشعرهم بعدم الثقة بالاحكام. وتقول والدة المعتقل إدريس الناجي المحكوم بالسجن المؤبد، إنه تم اعتقال ابنها وترك ولدين، وآخر في بطن أمه عمره الآن ثلاث سنوات، أي مدة إقامة والده في السجن. وتتابع «اضطررت أن أبيع سكني في حارة الحرية في سيدي مؤمن لأن الآخرين صاروا ينعتوننا بالإرهابيين، وجدران منزلي كان يكتب عليها عبارات مثل (إدريس الناجي إرهابي)، وما زالت مكتوبة إلى اليوم. كيف يمكن لأطفال ولدي المعتقل أن يكبروا وسط هذا الجو الذي لا ذنب لهم فيه. لا معيل لنا سوى المجهود الذي أقوم به لأني أطبخ الأكل في الأعراس والحفلات. أما والدهم فأصبح يمشي على عكازين في السجن ويكاد يفقد بصره بشكل كامل». ترفع والدة الناجي يديها لتبرز كيف لفحتهما النار من فرط العمل المستمر في الطبخ والجلوس أمام مواقد النار.
وقد ألقي القبض علي الناجي بعد مرور 16 يوما على التفجيرات، وسلمته الأم بنفسها للشرطة. وتقول الأم إن التهم التي وجهت لابنها تقول إنه كان انتحاريا احتياطيا، وأنه حلق لحيته وذهب إلي مدينة الصويرة، بينما تقول أمه إنها هي من سلمته من منزلها للشرطة. وتضيف أن ابنها تعرض للتعذيب وحرقت لحيته بالنار، وأنه يعاني الآن من مشاكل نفسية وجسدية خطيرة.
تخرج الأم رسالة تقول إن ولدها بعث بها إليها من السجن. في تلك الرسالة يطالب ولدها «من كل الشرفاء ومنظمات حقوق الإنسان التدخل لإنصافه والبحث في ظروف التعذيب وانعكاساتها على صحته» حسبما تقول الرسالة. اما والدة عبد الرزاق المتيوي، فتقول إن ابنها اعتقل وترك سبعة أبناء، واتهم كونه أمير جماعة متشددة، وحشد أفراد الجماعة، لأنه أكبرهم سنا (47 عاما). وتتساءل الأم كيف يكون ابنها أميرا لجماعة متشددة بينما أخته متزوجة من إيطالي. وتحكي الأم كيف اعتقل ابنها من المنزل، وكيف وجهت له تهم تلقي الأموال من الخارج بمئات الملايين، وتقسم أنها لو كان لديها المال الكافي لهاجرت.
منذ تلك التفجيرات الدامية التي اعتقل على إثرها الآلاف، لا شيء تغير حسبما يقول الكثير من السكان، «انظروا، إذا كنتم ترون شيئا ما تغير واحكموا بأنفسكم»، يقول أحد سكان المنطقة بنبرة غاضبة. لكن بعض الأشياء تغيرت بالفعل. هناك عمارات ومبان سكنية صغيرة نبتت جنبا إلى جنب مع حارات ومدن الصفيح، والكثير من هذه العمارات علقت على أبوابها لوحات تحمل عبارة «شقق للبيع»، لكن لا أحد يبدو أنه يغتر بشراء شقق في هذه المنطقة.
«إذا كنت لا تنوي الاستقرار في هذا المكان أكثر من عام فمن الأفضل لك أن تؤجر منزلا أو شقة عوض أن تشتريها»، يقول سائق سيارة أجرة كان ينهب الطريق نحو «كاريان طوما» حيث تسكن أغلبية أسر معتقلي تفجيرات 16 مايو. ويضيف «الكراء هنا أرخص مقارنة مع باقي مناطق الدار البيضاء، يمكنك أن تؤجر شقة من غرفتين بأقل من 120 يورو، وهذا لن تحلم به في منطقة أخرى من المدينة». والان أصبح السكن في «سيدي مؤمن» أرخص لأن المكان. كما ان المساجد الموجودة بين أكواخ الصفيح لم تعد تثير اهتمام أحد. يؤمها شيوخ قليلون في أوقات الصلاة ولا يبدون مستعدين للكلام. هي ليست مساجد، بل أشبه بأكواخ صغيرة أعدت للصلاة. قليل من الشباب والمراهقين يمكن رؤيتهم نهارا بين الأكواخ، أغلبهم عاطلون يبحثون عن فرص عمل في الدار البيضاء القريبة. آخرون يبيعون الخضر والفواكه على عربات مجرورة، وبعضهم ذهبوا إلى شمال البلاد في انتظار فرصة للعبور سرا إلى أوروبا.
الشرق الاوسط في الحي الذي أرعب المغرب.. وجسد التناقضات
الدار البيضاء: عبد الله الدامون
لم يكن أحد يتوقع أن يأتي يوم يقوم فيه مسؤول أميركي رفيع المستوى بزيارة «حارات الصفيح» في منطقة «سيدي مؤمن»، هذه المدينة الصغيرة الغارقة في تناقضاتها مع الفقر والتشدد في ضواحي منطقة «عين السبع» شمال الدار البيضاء بسكانها الذين يفوقون المائة ألف، وينتمي اغلبهم الى الطبقة الدنيا وحواف الطبقة الوسطى، مع مستويات تعليم متوسطة في الاغلب، ومستويات اجتماعية بسيطة، لكن ايضا مع قدرة على تحمل الصعاب الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي يعيشون في ظلها، لكن في الأيام القليلة الماضية جاءت كارين هيوز، نائبة وزيرة الخارجية الأميركية، بنفسها إلى هذه المنطقة التي خرج منها قبل نحو ثلاث سنوات انتحاريون فجروا أنفسهم في عدد من مناطق الدار البيضاء مخلفين أكثر من 40 قتيلا، في أسوأ موجة تفجيرات في تاريخ المغرب بعد الاستقلال. المسؤولة الأميركية دشنت قاعة رياضية في المنطقة. والتقت في المركز اللغوي الأميركي بطلبة مغاربة فازوا بمنح للدراسة في الولايات المتحدة، وذلك في مسعى لتطبيق «افكار» اميركية حول مكافحة التطرف والتصدي له، علي اساس ان الفقر هو السبب الاول وراء هذا.
وللمفارقة، فإن أسماء الأشياء في حي «سيدي مؤمن» الهامشي تدل كلها على البهجة. فهذه المنطقة التي خرجت غالبية انتحاريي تفجيرات 16 مايو (ايار) والتي تتكون في الغالب من مباني الصفيح الموجودة بالآلاف، تعيش حياة عادية؛ الأطفال يلعبون بين كتل الغبار حول مجاري الفضلات التي تجري بين الأكواخ، والنساء يعلقن الغسيل على حبال واطئة مرفوعة بأعمدة من خشب حتى تكون عرضة لأشعة الشمس قليلا، والعربات التي تجرها الحمير والبغال تقف حول الأكواخ تعرض الخضر والفواكه، وهنا وهناك وقفت سيارات بأرقام أجنبية عاد أصحابها من أوروبا بعد أن تركوا هذه المدن الصفيحية، ومتاجر صغيرة على حواف الأرصفة تبيع آخر أفلام هوليوود التي قرصنتها السواعد النشيطة لشباب منطقة «درب غلف» في الدار البيضاء، والشيوخ يحتمون من الشمس تحت أي شيء في مناطق بلا أشجار، ونساء هدهن البكاء والحزن وهن يسألن عن مصير أبنائهن المعتقلين الذين حكم على الكثير منهم بالإعدام أو السجن المؤبد أو أكثر من 30 عاما، بعد تفجيرات الدار البيضاء.
ومع كل هذا، فإن الأسماء في المنطقة تبحث لنفسها عن شيء آخر غير الحزن والكمد. النادل في «مقهى المتعة» بوسط حي «سيدي مؤمن»، يحمل ابتسامته على وجهه ويخدم الزبائن بنشاط ظاهر. في ساحة المقهى الأنيق جهاز تلفزيون عملاق لمتابعة مباريات مونديال ألمانيا.
هناك صيدلية تحمل اسم «مفتاح الخير» ومصبنة اسمها «إحسان»، ومدرسة تحمل اسم «الانفتاح»، وحمام اسمه «الفضل»، ومتجر زجاج يحمل اسم «البهجة»، وفي شارع فسيح هناك صالون حلاقة يحمل اسم «تيتانيك»، ربما يتوقع صاحبه أن الأشياء إذا استمرت علي ما هي عليه، فلن تكون عاقبة المنطقة أحسن حظا من تلك السفينة الشهيرة. ويتساءل عدد من السكان إن كانت زيارة هيوز ستضيف شيئا إلي المنطقة. «لا شيء تغير عندنا. قبل ثلاث سنوات قالوا لنا إنهم سيبنون لنا سكنا لائقا وستختفي دور الصفيح، لكن ما زلنا ننتظر»، تقول فتاة من منطقة «كاريان طوما» اعتقل أحد أقربائها في التفجيرات الانتحارية، وتضيف «لم نسمع شيئا عن زيارة مسؤولين أميركيين، ولا عن استثمارات أميركية. انظروا وستعرفون». في هذا الحي الهامشي، الذي صار اليوم رمزا لمعاقل المتشددين الدينيين، وخصوصا بعدما أصبحت السلطات المغربية تطلق عليه تيار «السلفية الجهادية»، تتعايش الكثير من المتناقضات.
نساء منقبات يسرن جنبا إلى جنب مع فتيات سافرات. سيارات أنيقة على أبواب بيوت صفيح بائسة، حافلات نقل اسمها «الراحة» تجوب منطقة لا راحة فيها. أسر المعتقلين المتهمين بالتورط في التفجيرات يشتكون مما يسمونه «إرهابا آخر» يمارس في حقهم بعد أن أصبحت جدران سكن بعضهم مليئة بعبارات مهينة مثل «هذا منزل الإرهابي..»، هذا ما تقوله امرأة في أواخر العقد الخامس من عمرها، وهي تبكي ابنها المعتقل الذي فقد بصره من البكاء والمعاناة بعد أن حكم عليه بالسجن مدة 30 عاما بعد تفجيرات الدار البيضاء.
في منزل متواضع بـ «كاريان طوما» اجتمعت «الشرق الأوسط» مع عدد من سكان المنطقة، أغلبهم لهم أفراد معتقلون في عدد من سجون البلاد بتهم تورطهم في تفجيرات الدار البيضاء. غير أن عائلاتهم تنفي بشدة أي تورط لهم وتصر علي براءتهم. في ركن من المنزل ـ الكوخ تطهو المرأة وجبة الغداء في مقلاة وتعلق بمرارة ساخرة علي الذين اتهموا ابنها بتدبير انفجارات الدار البيضاء «قالوا لنا إنهم مولونا بمئات الملايين، انظر إلى حالنا وستعرف الحقيقة، هل هذا حال من يتلقى مئات الملايين؟». وتقول زوجة المعتقل أحمد العسال، الذي اعتقل عقب التفجيرات إنها لا تملك ثمن تذكرة الذهاب إلي القنيطرة (40 كلم شمال الرباط) لزيارة زوجها في السجن وتتهم الآخرين بترويج الأكاذيب وافتقارهم إلي دليل يؤكد أن زوجها، ومعتقلين آخرين تورطوا بالفعل في التفجيرات، مضيفة «لقد احتقرونا كثيرا وظلمونا أكثر وأقصونا من بلادنا. أنا لم أكن أفكر من قبل في الهجرة، لكني أفكر في ذلك بجدية لأني أبحث عن مكان أحس فيه ببعض الراحة.
الناس هنا لا ينظرون إلي سوي كوني زوجة إرهابي، وأطفالي ما ذنبهم في ذلك؟ لماذا يعيرونهم في المدرسة كونهم أبناء إرهابيين. وهناك زوجات لمعتقلين صرن يعملن في المنازل، وأخريات يتسولن، وهناك زوجة معتقل انتحرت، وأخريات يهددن بذلك». وتحكي بهيجة، زوجة العسال، أنه حتى المعتقلين الذين أفرج عنهم اضطر بعضهم إلي الرحيل نحو مدن أخرى. وتقول «لقد رحل المعتقل أمرين الذي كان محكوما بالسجن مدة 30 عاما، من الدار البيضاء إلي مدينة آسفي بالجنوب لأنه لم يجد الجو المناسب للحياة بعد إطلاق سراحه. والناس صاروا يخافون منه ومن السلام عليه حتى لا تلتصق بهم صفة إرهابيين، هذا أسوأ ما يمكن أن يحدث. وما حدث فعلا هو أن أحد أصدقاء أمرين تم اعتقاله لأنه التقى به بعد الإفراج عنه، والغريب أنه تم إطلاق سراح المعتقل بدليل انه بريء، لكن اعتقل شخص التقى به.
هل يستطيع أحد أن يفسر معني هذا؟». لكن برغم المرارة يحاول ابناء المنطقة ان يعيشوا بقدر ما بطريقة طبيعية. فعلى «أسطح» الأكواخ القصديرية غابة من الصحون المقعرة (بارابول) تمكِّن ساكنيها من رؤية عالم بالألوان. لا أحد يفرط في التلفزيون الملون حتى لو كان المقابل هو النوم على الحصير. سكان الأحياء القصديرية في الدار البيضاء لا تبدو على محياهم علامات بؤس طافح. ملابس الكثيرين منهم نظيفة، وأطفالهم يلعبون الكرة أو يلهون بأية لعبة وهم يتطلعون بين الفينة والأخرى على أوجه العابرين الغرباء لمنطقتهم. لا عدوانية تبدو في هذه الأكواخ. امرأة في مقتبل العمر تسأل بلطف عابرين للممرات الضيقة للأكواخ وتخبرهم أن الزقاق لا يؤدي إلى أي مكان. ترشدهم إلى زقاق آخر وتحذرهم من الاقتراب من مكان قريب بسبب الكلاب. وهذه الكلاب نادرا ما يسمع نباحها. لقد تآلفت بشكل غريب مع البشر وأصبحت تقضي سحابة يومها في التمدد على الأرصفة، وهي تتطلع إلى وجوه وحركات البشر.
وعلى أطراف حارات الصفيح مخادع هاتفية كثيرة. الكلام عبر الهواتف صار اليوم صناعة حقيقية في المغرب، وشركة «اتصالات المغرب» التي تجني كل عام أرباحا خيالية لا تنظر إلى سكان هذه المناطق سوى كونهم أفواها تتكلم، والناس يقولون إنه لا يوجد أي مشروع رعته هذه الشركة في هذه المناطق، «إنها شركة لجمع المال وليس لتوزيعهى يقول أحد سكان المنطقة. وبسبب الاحداث التي مرت على المنطقة، تعود سكانها على زيارات الصحافيين وتعلموا ترديد بعض الأجوبة عن ظهر قلب، «لا علاقة لنا بالإرهاب، نحن أناس بسطاء نريد العيش في سلام»، تقول امرأة كانت منشغلة بمسح وجه طفلها بقطعة ثوب مبللة بالماء. وحين سألتها «الشرق الاوسط» هل سمعت بزيارة قامت بها مسؤولة أميركية إلى منطقة «سيدي مؤمن» أخيرا، ترسم على وجهها علامة استغراب وكأنها سئلت عن سكان من كواكب أخرى نزلوا علي «سيدي مؤمن». وقبل فترة انشئت في المنطقة «جمعية النصير»، تؤطر أنشطة عائلات المعتقلين الإسلاميين التي تطالب بإعادة التحقيق في قضايا المتهمين في تفجيرات 16 مايو، أو أغلبهم في الأقل. لكن وزارة العدل المغربية ترى إن إعادة محاكمة
معتقلي «السلفية الجهادية» لا يمكن أن تتم خارج الاجراءات القانونية المعمول بها. وقال مصدر من وزارة العدل، فضل عدم الكشف عن اسمه، لـ«الشرق الأوسط»، إن من حق هؤلاء أن يتقدموا بطعون في هذا الشأن، لأن إعادة المحاكمة أو التحقيق في قضاياهم يجب أن تكون منسجمة مع القانون ووفق الإجراءات المعمول بها عادة في هذا المجال». وأضاف «المؤهل الوحيد للبحث في هذه القضية هو المحكمة، وكان من الممكن أن يتم إجراء خبرة أو بحث في هذا المجال». وحول الاتهامات بتعرض المعتقلين للتعذيب ولمعاملة سيئة، نفى المصدر أن يكون معتقلو ما يسمى «السلفية الجهادية» يتعرضون للتعذيب أو لمعاملة اقل قيمة من السجناء الآخرين.
ويشعر كثير من اهالي المعتقلين ان محاكمة اولادهم تمت بسرعة، وهذا ما يشعرهم بعدم الثقة بالاحكام. وتقول والدة المعتقل إدريس الناجي المحكوم بالسجن المؤبد، إنه تم اعتقال ابنها وترك ولدين، وآخر في بطن أمه عمره الآن ثلاث سنوات، أي مدة إقامة والده في السجن. وتتابع «اضطررت أن أبيع سكني في حارة الحرية في سيدي مؤمن لأن الآخرين صاروا ينعتوننا بالإرهابيين، وجدران منزلي كان يكتب عليها عبارات مثل (إدريس الناجي إرهابي)، وما زالت مكتوبة إلى اليوم. كيف يمكن لأطفال ولدي المعتقل أن يكبروا وسط هذا الجو الذي لا ذنب لهم فيه. لا معيل لنا سوى المجهود الذي أقوم به لأني أطبخ الأكل في الأعراس والحفلات. أما والدهم فأصبح يمشي على عكازين في السجن ويكاد يفقد بصره بشكل كامل». ترفع والدة الناجي يديها لتبرز كيف لفحتهما النار من فرط العمل المستمر في الطبخ والجلوس أمام مواقد النار.
وقد ألقي القبض علي الناجي بعد مرور 16 يوما على التفجيرات، وسلمته الأم بنفسها للشرطة. وتقول الأم إن التهم التي وجهت لابنها تقول إنه كان انتحاريا احتياطيا، وأنه حلق لحيته وذهب إلي مدينة الصويرة، بينما تقول أمه إنها هي من سلمته من منزلها للشرطة. وتضيف أن ابنها تعرض للتعذيب وحرقت لحيته بالنار، وأنه يعاني الآن من مشاكل نفسية وجسدية خطيرة.
تخرج الأم رسالة تقول إن ولدها بعث بها إليها من السجن. في تلك الرسالة يطالب ولدها «من كل الشرفاء ومنظمات حقوق الإنسان التدخل لإنصافه والبحث في ظروف التعذيب وانعكاساتها على صحته» حسبما تقول الرسالة. اما والدة عبد الرزاق المتيوي، فتقول إن ابنها اعتقل وترك سبعة أبناء، واتهم كونه أمير جماعة متشددة، وحشد أفراد الجماعة، لأنه أكبرهم سنا (47 عاما). وتتساءل الأم كيف يكون ابنها أميرا لجماعة متشددة بينما أخته متزوجة من إيطالي. وتحكي الأم كيف اعتقل ابنها من المنزل، وكيف وجهت له تهم تلقي الأموال من الخارج بمئات الملايين، وتقسم أنها لو كان لديها المال الكافي لهاجرت.
منذ تلك التفجيرات الدامية التي اعتقل على إثرها الآلاف، لا شيء تغير حسبما يقول الكثير من السكان، «انظروا، إذا كنتم ترون شيئا ما تغير واحكموا بأنفسكم»، يقول أحد سكان المنطقة بنبرة غاضبة. لكن بعض الأشياء تغيرت بالفعل. هناك عمارات ومبان سكنية صغيرة نبتت جنبا إلى جنب مع حارات ومدن الصفيح، والكثير من هذه العمارات علقت على أبوابها لوحات تحمل عبارة «شقق للبيع»، لكن لا أحد يبدو أنه يغتر بشراء شقق في هذه المنطقة.
«إذا كنت لا تنوي الاستقرار في هذا المكان أكثر من عام فمن الأفضل لك أن تؤجر منزلا أو شقة عوض أن تشتريها»، يقول سائق سيارة أجرة كان ينهب الطريق نحو «كاريان طوما» حيث تسكن أغلبية أسر معتقلي تفجيرات 16 مايو. ويضيف «الكراء هنا أرخص مقارنة مع باقي مناطق الدار البيضاء، يمكنك أن تؤجر شقة من غرفتين بأقل من 120 يورو، وهذا لن تحلم به في منطقة أخرى من المدينة». والان أصبح السكن في «سيدي مؤمن» أرخص لأن المكان. كما ان المساجد الموجودة بين أكواخ الصفيح لم تعد تثير اهتمام أحد. يؤمها شيوخ قليلون في أوقات الصلاة ولا يبدون مستعدين للكلام. هي ليست مساجد، بل أشبه بأكواخ صغيرة أعدت للصلاة. قليل من الشباب والمراهقين يمكن رؤيتهم نهارا بين الأكواخ، أغلبهم عاطلون يبحثون عن فرص عمل في الدار البيضاء القريبة. آخرون يبيعون الخضر والفواكه على عربات مجرورة، وبعضهم ذهبوا إلى شمال البلاد في انتظار فرصة للعبور سرا إلى أوروبا.