المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جهاز يخدمه خمسة ملايين نسمة! ... كيف زرع «الموساد» عناصره في لبنان والمنطقة؟



قمبيز
06-24-2006, 03:59 PM
سليم نصار الحياة - 24/06/06//



تعرضت بيروت في صيف 1956 لسلسلة عمليات إرهابية كان مفتعلوها يركزون على ضرب الجوامع والكنائس.

ومع أن الدولة في حينه حذرت من خطر السقوط في فخ الفتنة الطائفية، إلا أن النقمة الشعبية لم تغفر للمسؤولين قصورهم وعجزهم عن اكتشاف الفاعلين. ولما اشتكى مدير الشرطة صلاح لبابيدي من ضآلة عدد العناصر التابعة لإمرته، فصلت له قيادة الجيش مئة جندياً وزعهم باللباس المدني على شاطئ الاوزاعي. وبعد مرور أسبوعين تقريباً، تلقى لبابيدي اتصالاً هاتفياً من أحد العناصر يخبره أنه رأى زورقاً مطاطياً يقترب من مسبح «سان سيمون» وينزل منه رجلان توجها سيراً على الأقدام نحو منطقة الشياح. وقال الجندي إنه تعقبهما مع ثلاثة من رفاقه، وأن الأربعة ينتظرون الأوامر لمداهمة المنزل الذي تسللا إليه.

واجرى لبابيدي على الفور اتصالاً بالرئيس كميل شمعون ليضعه في صورة التطورات، نظراً لاهتمامه الخاص بمتابعة تفاصيل الخطة الأمنية. ولما تمت عملية الاقتحام عثر قائد الشرطة على حقيبة ملآنة بالمتفجرات، وعلى خريطة تبين الأماكن المستهدفة. وأثناء التحقيق، اعترف العميلان بأن «الموساد» دربهما على استخدام المتفجرات، وأن عناصر لبنانية كانت تساعدهما على تنفيذ المهمة.

مطلع الأسبوع الماضي اعتقلت مديرية المخابرات في الجيش اللبناني أفراد شبكة إرهابية إسرائيلية تضم محمود رافع من حاصبيا وعميلاً آخر تمكن من الفرار إلى إسرائيل يدعى حسين خطاب. وأكد جهاز التحقيق أن رافع اعترف بتنفيذ خمس عمليات اغتيال كان من ضحاياها: علي ديب وعلي صالح من «حزب الله» وجهاد نجل أحمد جبريل، والشقيقان محمود ونضال المجذوب من «حركة الجهاد الإسلامي».

ويُستدل من طبيعة هاتين الواقعتين أن أهداف إسرائيل في لبنان لم تتبدل منذ نصف قرن. والسبب أنها أهداف سياسية ثابتة ترمي إلى زعزعة الاستقرار، والى دفع البلاد نحو حروب طائفية تؤدي في نهاية الأمر الى التقسيم أو الاقتسام.

ويعترف المؤرخون الإسرائيليون أن مؤسسي الدولة العبرية توقعوا أن يكون لبنان جبهة هادئة مسالمة على الحدود الشمالية، الأمر الذي شجعهم على بناء المطارات الحربية ومصانع السلاح في منطقة الجليل الأعلى. ولما تبين لهم العكس، قرروا تصدير عوامل التوتر والتشويش والقلق بطريقة منهجية متواصلة، ولقد استخدموا من أجل تحقيق هذه الغايات جهاز «الموساد» الذي أُنشئ سنة 1951.

صباح الأول من أيلول (سبتمبر) 1951، أعلن رئيس وزراء إسرائيل ديفيد بن غوريون عن انشاء جهاز «الموساد» بحضور كبار القادة السياسيين والعسكريين. وقال في كلمة الافتتاح إن الدولة الجديدة تحتاج الى هذه المؤسسة المستقلة عن وزارة الخارجية، من أجل حماية أمنها القومي. وقال أيضاً إن إسرائيل ستعجز في المستقبل عن مجاراة أعدائها العرب في موضوع الكثرة البشرية المتنامية، لذلك تمنى أن تعوض أعمال الاستخبارات الناجحة عن انشاء جيش ضخم لا تستطيع الدولة الفتية تحمل أعبائه الاقتصادية.

ولمح بن غوريون في كلمته الى الدور التاريخي الذي قام به اثنا عشر جاسوساً ارسلهم النبي موسى الى أرض كنعان بهدف الاستطلاع والاستكشاف. وكان بهذا التلميح يريد الاشارة الى أن عمليات التجسس رافقت الشعب اليهودي منذ بداية التيه في صحراء سيناء، وأن أهم انتصاراته تحققت بواسطة الجواسيس.

وكان موشي دايان يفخر بأن يشوع بن نون استخدم جاسوسين من أجل استكشاف المنافذ السرية المؤدية الى قلعة أريحا. وتذكر المصادر اليهودية أن «رحاب» العاهرة هي التي أرشدتهما الى المنافذ، وأنها اخفتهما في منزلها.

أول مدير اختارته حكومة بن غوريون لتنظيم جهاز «الموساد» وانتقاء عناصره، كان أيسر هاريل الذي استمر في هذا المنصب حتى آخر سنة 1961. و «موساد» كلمة تختصر الأحرف الأولى «للمنظمة المركزية للأمن والاستخبارات». ويعتبرها خبراء هذا الميدان في مستوى الـ «سي أي اي» والـ «كي جي بي» من حيث التنظيم والأداء ودقة المعلومات، والسبب أن «الوكالة اليهودية» فرضت على كل يهودي في العالم، لا فرق أكان موظفاً في البنتاغون مثل الجاسوس بولارد... أم طبيباً في الكرملين، لا بد له أن يؤمن وصول معلوماته السرية الى مركز الوكالة في نيويورك. ولما انشئ جهاز «الموساد» انتقلت هذه المهمة الى عهدته، الأمر الذي وفر له تقارير أكثر من خمسة ملايين متطوع يخدمونه مجاناً. ويروي العاهل الأردني الراحل حسين أن طبيبه البريطاني - اليهودي كان ينقل الى الإسرائيليين أسرار مرضه وخلاصة أحاديثه السياسية.

بعد انقضاء عشر سنوات تقريباً على تأسيس جهاز «الموساد»، انشأت إسرائيل ثلاث منظمات أخرى تُعنى بشؤون الأمن وسلامة الدولة، هي: «الشاباك و «أمان» و «شعبة الاستخبارات العسكرية». ومن المفروض أن تعمل الأجهزة الأربعة بتنسيق تام، خصوصاً في العمليات التي تستهدف الفلسطينيين. مثال ذلك أن عملية «ربيع الصبا» التي قادها ايهود باراك أثناء اغتيال كمال عدوان وأبو يوسف النجار وكمال ناصر في بيروت... هذه العملية تعاونت على إعدادها وتنفيذها أجهزة «الموساد» و «الشاباك». وهذا ما حدث أثناء تصفية أبو جهاد في تونس، عندما تعاون الجيش مع «الموساد» على تحقيقها. ويروي غوردون توماس في كتابه «جواسيس جدعون» كيف اشترك وزير الدفاع في حينه اسحق رابين يوم 16 نيسان (ابريل) سنة 1988، في تصفية خليل الوزير (أبو جهاد)، فيقول: «بعد التأكد من الدور القيادي الذي يلعبه أبو جهاد في اضرام نار الانتفاضة الفلسطينية، قرر رئيس «الموساد» تصفيته بالتعاون مع الاستخبارات العسكرية. وقبل ثلاثة أشهر من موعد التنفيذ، التقطت صور عدة للمنزل الذي يقطنه بواسطة عميل مدرب، وكان الغرض من ذلك نقل الشكل الهندسي الى مكان قريب من حيفا، حيث تم تركيب منزل خشبي مشابه. وهكذا استخدم المنزل البديل من أجل أداء تدريبات يومية قامت بها العناصر المكلفة بعملية التصفية. ولقد اطلق جهاز «الموساد» على العملية اسماً شفرياً هو «سيف»، نظراً الى أهمية المواجهة المتوقعة».

«وفي الموعد المحدد لتنفيذ العملية اقلعت طائرة مدنية (بوينغ 707) من مطار حربي قرب «تل أبيب» وعلى متنها وزير الدفاع اسحق رابين وجنرالات عدة. في حين تسللت العناصر الضاربة قبل يوم واحد عن طريق البحر واختبأت في ضاحية تونس العاصمة». واستناداً الى مصادر إسرائيلية مطلعة يقول غوردون في كتابه: «إن الطائرة التي أقلت رابين كانت مزودة بأجهزة متطورة جداً، بحيث أن آلات التنصت المزروعة في منزل قائد الانتفاضة، نقلت الى المراقبين من الجو صوت وقع الأقدام داخل غرف النوم. وكان رابين يراقب من الطائرة بواسطة عدسات مكبرة، كل ما يجري تحته على الأرض قرب سيارة المرسيدس التي قدمها ياسر عرفات لصديقه «أبو جهاد» في عيد ميلاده. وبعد خلع قفل البوابة الخارجية، واغتيال سائق المرسيدس بمسدس صامت، اقتحمت عناصر «الموساد» والجيش الاسرائيلي المنزل لتبدأ بقتل الحارسين، وتتوجه نحو غرفة الجلوس حيث كان أبو جهاد يشاهد برنامجاً تلفزيونياً. وقبل ان يهم بالوقوف عاجله احدهم برصاصتين في صدره، ثم أجهز عليه برصاصتين اضافيتين دخلتا في صدغه. ولما هرعت زوجته من غرفتها صارخة مولولة، فوجئت برجل مسلح ينهرها بالعربية ويهددها بالقتل».

في اليوم التالي زعمت الصحف الاسرائيلية ان العملية استغرقت ثلاث عشرة ثانية فقط.

والملفت ان غالبية زعماء الدولة العبرية شاركت في عمليات خارجية لاثبات الكفاءة العسكرية قبل الكفاءة السياسية. مثال ذلك ان ايهود باراك تقمص دور غانية شقراء أثناء اقتحام منازل قادة المقاومة في رأس بيروت. وربما نفذ اسحق رابين عمليات عدة مشابهة لعملية تصفية «أبو جهاد» في تونس. وهذا ما شجع بنيامين نتانياهو على الاعتراف بأن «الموساد» نقله الى بيروت على رأس فرقة نسفت طائرات الـ «ميدل ايست» الرابضة في المطار، علماً ن نتانياهو سنة 1997 عرض مهمته للانتقاد اللاذع بسبب فشل عميلي «الموساد» في قتل خالد مشعل. وارسلت اسرائيل يومها ارييل شارون الى عمان بهدف التوسط مع الملك حسين من أجل انقاذ العلاقات، وكان الافراج عن الشيخ احمد ياسين هو الثمن الذي دفعه نتانياهو لإرضاء العاهل الأردني.

ويتبجح أول مدير لجهاز «الموساد» ايسر هاريل بأنه نجح في زرع عملائه داخل الدول العربية وخارجها. واعترف انه تعقب فلول النازيين الذين هربوا الى اميركا الجنوبية، وانه نظم عملية خطف ادولف ايخجمان من الارجنتين سنة 1960. كذلك يروي خلفه داني ياتوم ان عناصر جهازه تعقبت وانتقمت لمقتل 11 لاعباً اسرائيلياً في دورة ميونيخ للألعاب الأولمبية سنة 1972. وكانت الحصيلة اغتيال 13 قائداً فلسطينياً اتهموا بالوقوف وراء عملية ميونيخ. وبعد أربع سنوات قام أفراد «الفرقة الضاربة» في «الموساد» بانقاذ رهائن اسرائيليين احتجزهم فدائيون فلسطينيون في مطار عنتيبي (اوغندا).

ومن المؤكد ان هذا الجهاز المستقل لا يتعامل بالرحمة حتى مع أصدق أصدقائه من اليهود. وأكبر دليل على ذلك انه غدر بامبراطور الصحافة البريطانية روبرت ماكسويل عندما تحول الى عبء على اسرائيل، وماكسويل هو الرجل الذي ساوم موسكو على السماح بهجرة مليون يهودي روسي مقابل فتح علاقات حسنة مع الغرب. ولكن هذا الانجاز لم يمنع عملاء الموساد من رميه في البحر، ثم انتشال جثته وتكريمه بجنازة رسمية في تل ابيب.

وكثيراً ما يتورط هذا الجهاز في عمليات خارجية اذا تبين له ان النتائج تخدم مصلحة اسرائيل. وكان اشتراك عناصره في خطف المهدي بن بركة في باريس سنة 1965 قد تسبب في خلق أزمة بين رئيس الوزراء ليفي اشكول ورئيس الموساد مائير أميت. بعكس عملية خطف موردخاي فانونو التي كسبت تأييد اسحق شامير لأن موظف وزارة الدفاع كشف لصحيفة «صانداي تايمز» أسرار التسلح النووي في «ديمونا». وتقول جريدة «يديعوت احرونوت» في عددها (10/10/1997) ان رئيس الوزراء اسحق شامير اعترض على تكتم رئيس «موساد» داني ياتوم لأنه حجب عنه تفاصيل عملية اغتيال امين عام «حزب الله» عباس موسوي، وخطة خطف مصطفى الديراني والشيخ عبدالكريم عبيد.

ويستفاد من مراجعة الحقبة التي أعقبت الاجتياح الاسرائيلي سنة 1982، ان ديفيد كيمحي هو المسؤول الأول عن زرع عناصر «موساد» في لبنان. وكان في حينه يشغل منصب نائب رئيس هذا الجهاز، الأمر الذي ساعده على اقناع رئيسه اللواء اسحق جوفي بضرورة تسليح المجموعات المؤيدة لطرد الفلسطينيين واقامة سلام مع اسرائيل. ولقد اختار كيمحي لتوطيد هذه العلاقة رئيس «القسم المسيحي» في دائرة الشرق الأوسط، شموئيل ابيتار، ووجد هذا اليميني المتطرف كل الدعم من رئيس الوزراء مناحيم بيغن ووزير الدفاع ارييل شارون. وكان دائماً يردد في مكتبه في جونيه ان بيغن أوصاه خيراً بالمسيحيين المضطهدين لأنه يريد انقاذهم، بخلاف ما فعل زعماء أوروبا الكاثوليك اللاساميين باليهود.

عقب طرد القوات الاسرائيلية من لبنان، ركز «الموساد» اهتمامه على المقاومة اللبنانية بعدما شغلته المقاومة الفلسطينية من لبنان مدة تزيد على الخمس عشرة سنة. خصوصاً بعدما أثبت «حزب الله» قدرة فائقة على اختراق الأجهزة الاسرائيلية، بحيث تمكن مرة من خطف ضابط احتياط يدعى الحانان تننباوم، ثم فرض عملية التبادل على شارون الذي سمح باطلاق سراح الشيخ عبدالكريم عبيد ومصطفى الديراني ومعتقلين عدة.

يقول المعلق الاسرائيلي رونين برغمان، إن كيمحي استخدم قصة حيروم ملك صور الذي ساعد في بناء هيكل سليمان، كي يقنع بيغن بأهمية تجديد العلاقة التاريخية مع اللبنانيين.

ولما خرج بيغن مهزوماً من بيروت والجبل والجنوب، تذكر ان الملك سليمان عجز عن دفع المستحقات لملك صور، لذلك منحه 12 قرية في الجليل الأعلى. ويقال في اسرائيل ان بيغن أنب شارون وكيمحي وابيتار على المغامرة العسكرية الفاشلة التي زجوا الجيش في أتونها، وقال لوزير دفاعه: اهرب قبل ان يطالب أهل صور باسترجاع قرى الجليل الأعلى!

كاتب وصحافي لبناني.