yasmeen
06-14-2006, 11:31 AM
محمد سيد رصاص الحياة - 10/06/06//
مثّل أحمد بن حنبل (164 - 241هـ) المقاومة الجدية الوحيدة لسيطرة المعتزلة السياسية التي امتدت بين عامي (202 – 233 ﻫـ)، والتي بدأت بعد عزل المأمون لعلي الرضا (153 – 202 ﻫـ)، ولي عهده، وتخليه عن عملية إنشاء مصالحة بين العباسيين والحسينيين (أئمة الشيعة).
أدرك ابن حنبل مخاطر الهوة التي تضعها عقيدة «خلق القرآن»، وحذر من نتائج العملية التأويلية لنصوص القرآن التي انفلتت من عقالها على أيدي مفكري المعتزلة مما أدى للوصول إلى فوضى، الأمر الذي هدد مصير الإسلام برمته.
لهذا، فإن «حرفية» و «تشدد» ابن حنبل، هما دفاعيان ووقائيان، كما يمثلان نوعا من الإدراك لمخاطر الطريقة التي تعامل بها المعتزلة، ما أدى الى إنشاء محاذير تتمثل في تصدير الهشاشة، التي تتميز بها الأساليب والوسائل المعرفية المستخدمة، إلى الموضوع أثناء عملية التـعامل معـه، الأمر الذي جـعل الهـدف الذي أعلنه المعتـزلة لأنـفـسهم، وهو الدفـاع عن الإسلام في وجه المانوية، ينقلب إلى نقيضه.
من هنا، يجب فهم إصرار ابن حنبل المتمثل في نظريته حول أن العقل البشري هو ذو طابع حسي وأنه لا يستطيع إثبات أو نفي المواضيع غير المحسوسة التي تتجاوز نطاق العالم الطبيعي، وبالتالي فإن مجال الإنسان الوحيد هو الإيمان القلبي التام بما جاء به «الوحي» وبما قام به أو قاله النبي (صلى الله عليه وسلّم): و «التصديق» هو لبُّ الإيمان، وتحوله إلى عمل يتم عبر «التمثل» و «التقيد» بأطر وتعاليم الشريعة التي قدمها الكتاب والسنّة.
لهذا نجده، أثناء التعذيب الذي تعرض له في السجن زمني المأمون والمعتصم (218- 227 ﻫـ)، يرفض قبول أو نفي مسألة «خلق القرآن»، معتبراً إياها غير قائمة ما دام الكتاب والسنّة لم يتطرقا إليها. كما نجده يخاصم (يحيى بن معين) لأنه حاول الرد على المعتزلة، الشيء الذي فعله، أيضاً، مع الحارث المحاسبي (167- 243 ﻫـ) الذي وضع رسالة في نقض عقيدة «خلق القرآن».
لقد اعتبر ابن حنبل أن هذا هو برنامجه لاستعادة «الوحدة المفقودة» إلى الإسلام. تلك الوحدة التي تبين آراء المحاسبي حول انقسام «الأنا» مقدار الإلحاح عليها في ذلك العصر المضطرب: انقسامها وتشطرها بين الروح والجسد، وبين «الماضي الزاهي» و «الحاضر النقيض».
مع وضع الحصون التي تحمي القرآن، نرى ابن حنبل يتجه إلى تدوين الحديث النبوي ويضع قواعد صارمة لتمييز الصادق منه ودرجاته، مما يقدمه الرواة. الشيء الذي يفسر ذلك الجهد الكبير الذي استغرق منه ثلاثون عاماً، من أجل وضع كتابه «المُسْنَد» والذي لم يستطع، على رغم ذلك، أن ينجزه، حيث تركه كمسودة شبه مكتملة.
إن الحنبلية ليست نوعاً من المذهب الفقهي، بالمعنى الذي تقدمه المذاهب الثلاث الأخرى، وإنما هي نوع من السيرة الذاتية لشخص حاول تأكيد ما هو رئيس، من وجهة نظره، في الإسلام، وإطراح ما هو ثانوي، مشيراً إلى المنزلقات التي يقود الهوى الإنساني المسلح بالعقل إليها أثناء محاولته إخضاع الله والكتاب، وبالتالي الزمن، لأدواته، وتحويلهم إلى مواضيع له: إنها محاولة لتحديد الحدود البشرية أمام التخوم الإلهية. فهي تحاول تحديد المساحة التي هي للشريعة في حياة الإنسان، وترك الباقي خالياً أمام حرية وعقل وقلب الإنسان، ولكن من خلال اعتبار الجهة الأولى كنوع من المنارة التي يجب أن توجه الثانية روحياً ومعنوياً، من دون أن تملي وتحدد محتوياتها ومساراتها.
هل هذا، بالقياس إلى ذاك العصر، تقييد للعقل والإنسان؟... إننا إذا أخذناها في إطار أن ما يحدد تقويمنا للفكر هو الأدوات المستعملة وليس المنحى العام والنتيجة العملية، فسنحكم على الحنبلية بأنها لا عقلانية، وسنعطي الاعتزال والأشعرية طابعاً عقلانياً باعتبار استخدام هذه المذاهب الفكرية للعقل والمنطق في تأسيس دعاواها وبناها المعتقدية.
ولكننا بذلك، لن نستطيع فهم كيف أن العقل المستخدم، هنا عندهما، قد أدى إلى التأطير النظري لانعدام حرية الإنسان، وكيف أن المنطق والعقل قد أديا إلى البرهنة على اللاعقل واللاحرية، كما نرى ذلك في نظرية «التجويز» المعتزلية و «الكسب» الأشعرية. حيث أدى هذا عند المعتزلة والأشاعرة إلى إغلاق الدائرة أمام العقل، الذي وضع في الوسط بعد تحديد مداراته ومساراته في هذه الدائرة المفرغة، والتي لا منفذ أو امتداد فيها.
لهذا فالحنبلية هي نظرية في الامتداد: نظر يستمد من (الماضي – الحاضر) مخزوناته الممثلة في الكتاب والسنّة ليمد العمل الراهن المتجه إلى مجالات الطبيعة والمجتمع والفرد التي تحكمها أو تمتد إليها تعاليم الشريعة، وإذا لم تكن محاطة ومقيدة بالتشريع وفق الوحي وسلوك وأقوال النبي (صلى الله عليه وسلّم)، فللإنسان مجال لكي يملأ ذاك الفراغ وفق فعاليته الذاتية واجتهاداته العقلية والسلوكية.
فهي تعتبر الدين مُنجزاً ومُعطى، وإن ما حاوله المعتزلة (وبعدهم الأشاعرة)، وأيضاً الشافعي في نظريته حول «القيـاس»، هو منطلق يقوم على عكس ذلك وهو - وفق الحنابلة - تحويل وإقحام للاجتهادات البشرية في صلب البنية الداخلية المكتملة للدين، مما يؤدي إلى جعلها - أي تلك الاجتهادات - على قدم المساواة مع الوحي، بل إلى جعلها هي الواسطة الوحيدة لفهمه، الأمر الذي يجعله مختلطاً بالهوى والقصور والميول البشرية، وفـي الوقــت نفـسه، هي تـقـوم بإقـحـام الديـن في مجالات يجـب أن تـتـرك للبـشر، ولا يجـوز إنـزال الشـريعة وتهميـشها في منـزلقـات كهذه.
إنها - أي الحنبلية - محاولة لتحديد الحدود بين البشري والإلهي، وتعيين الاختصاصات. فهي تقيم الفواصل وتمنع الاختلاجات التي ترى ضرورة الوقاية والحذر من حصولها: إن حذرها من «التأويل» للنصوص القرآنية وللسنّة، هو قائم على ذلك. فهي تريد تقديمهما كما هما. من هنا، يأتي رفضها للتفسير وينبع اتجاهها إلى التدوين الصارم الحدود، والقائم على حذر نقدي شديد يحكم عملية التدوين، لسيرة وأحاديث النبي (صلى الله عليه وسلّم).
وقد ساعد انقلاب الخليفة المتوكل (233- 247 ﻫـ) على المعتزلة، في فتح المجال للحنابلة لتحقيق ذلك. حيث نرى تلك العملية المنهجية لـ «استدعاء» النبي (صلى الله عليه وسلّم) إلى الحاضر، عبر تدوين أقواله، قد تمت عقب ذلك، في الفترة الممتدة بين عامي (240 – 300 ﻫـ)، من خلال كتب الحديث الستة.
وقد نجحت هذه الإستراتيجية المعرفية في تحقيق أهدافها العملية، تلك، على رغم أن بروز أبو الحسن الأشعري (260- 324 ﻫـ/ 873 – 935 م)، الذي حاول تقديم الإطار النظري لذلك الانقلاب، قد نقل محاور الصراع إلى نطاق الخلاف الأشعري – الحنبلي.
أكد الأشعري، لتفادي «التعطيل»، على فصل «الذات» عن «الصفات»، معتبراً الأخيرة معنوية وأنها معنى قديم في الذات الإلهية، إلا أنها - أي الصفات - مخلوقة، وهي - وفقاً للأشعري - جسر تواصل الله مع الكون وموجوداته، رافضاً نظرية المعتزلة حول كون الله «يقدر ولا يفعل»، أو الفلاسفة حول «الإيجاد والترك»، كما تفادى، من خلال ذلك، الوقوع في مشكلة «تعدد القديم».
على أساس هذا الإسباغ للفعالية المستمرة والمتحركة على الذات الإلهية، الذي تعبر عنه الصفات، رفض الأشعري عقيدة «خلق القرآن»، باعتبار ان هناك تناقضاً بين هذه الفعالية ووجود «التوسط». فهناك علاقة مباشرة، ولا وجود للتنائي أو للتباعد الإلهي عن الإنسان، والقرآن هو ممثل لحضور الله وقربه الذي يضع كتابه واجباً أمام الإنسان هو التمسك والاعتصام به.
وقد استند الأشعري في عملية بناء نظريته حول امتلاك الله الوحيد الطرف للفعالية، وفقدانها لدى الإنسان إلى مفهوم المعتزلي «أبو الهذيل العلاف» عن «الجزء الذي لا يتجزأ». حيث إن مقولة الأخير حول الجسم، كجوهر منقسم، أدت به إلى نفي الإمداد والروابط في الوجود الطبيعي، إلا تلك التي يخلقها الله في ما بينها، أي في محل وزمن محددين، باعتبار أن الأعراض لا تبقى زمانين. مما يعني أن الله في حالة مستمرة من التدخل والتأثير والخلق والتحريك للعالم الطبيعي، الشيء الذي لا يمكن فصمه عن امتلاكه لـ (الصفات ) (بحسب الأشعري)، مما أوصل الأشعري، إلى نفي (السببية) و (الطباع) عن الموجودات، حيث مدَّ نظرية (التجويز) المعتزلية إلى أبعادها القصوى. ولكن عاقبة ذلك كان نفي حرية ووجود الإرادة الإنسانية: ﻓـ «مذهب الأشعري أن المؤثر هو قدرة الله ولا تأثير لقدرة العبد في مقدوره أصلا، بل إن المقدور والقدرة كلاهما واقع بقدرة الله، كونه متعلق القدرة الحادثة هو الكسب. فالأفعال مستندة إلى الله تعالى خلقاً وإلى العبد كسباً بإثبات قدرة مقارنة للفعل»، (أبو البقاء الكفوي 1619 – 1683 م): «الكليات»، القسم الأول، وزارة الثقافة، دمشق 1981، ص 265).
وقد أدى هذا المفهوم، بالأشعري، إلى نفي العمل كأساس للإيمان، بخلاف الحنبلية وعموم (أهل الحديث) الذين يعتبرون أن العمل والإيمان لا يتبعضان، أي أنهما غير منفصلين، وبالتالي فلا وجود عندهم لذلك الفصل الذي أقيم في ما بعد، بين الإسلام والإيمان. حيث اعتبر الأشـعري أنهما متـبـاينان. كما اعـتـبـر أن التصديق والإذعان بالقلب، بعد الإقرار باللسان، كافيان للوصول إلى الإيمان، رافضاً اعتـبار العمل أسـاساً للإيمان، الشيء الذي نرى عكسه عند الحنابلة، وقبلهم عند المحكّمة.
فالجبرية والحتمية التي تحكم الكون وأفعال الإنسان، تجعل كل الأمور والأفعال، بخيرها وشرها، مرتبة ومقدرة مسبقاً: فكل شيء محدد سلفاً، ومرسوم سلفاً، وهذا ينطبق على العمل انطباقه على المعرفة. لذلك نرى توحد جبريـة الأشعـري ونفيـه لحرية الإرادة مع رؤيته لنخبـويـة المعـرفـة، الأمـر الذي جـعـله يقول بـ (معرفة الخاصة) و (معرفة العامة)، أو بوجود (باطن) في الدين يعطى للفئة الأولى فيما يترك (الظاهر) للعامة، الشيء الذي نرى حصوله لدى المانوية التي مزجت الجبرية والنخبوية والمراتبية مع الزهدية ورفض العمل والدنيا واحتقار المادة والجسد.
فالله هو المحدد لكل شيء والأمر متعلق بالكشف والإلهام، والتوفيق المحدد وفقاً للمقدور الإلهي . لذلك، فلا أمل في العمل، والأفضل هو القبول بالمرسوم.
هل كان التوحد العضوي اللاحق للأشعرية مع الصوفية، كما تجسد عند الغزالي (450 - 505هـ/ 1058 - 1111م)، نذيراً بمصير بغداد في عام 1258م على يد هولاكو شبيهاً بما حصل لروما على يد البرابرة في عام 476م.
مثّل أحمد بن حنبل (164 - 241هـ) المقاومة الجدية الوحيدة لسيطرة المعتزلة السياسية التي امتدت بين عامي (202 – 233 ﻫـ)، والتي بدأت بعد عزل المأمون لعلي الرضا (153 – 202 ﻫـ)، ولي عهده، وتخليه عن عملية إنشاء مصالحة بين العباسيين والحسينيين (أئمة الشيعة).
أدرك ابن حنبل مخاطر الهوة التي تضعها عقيدة «خلق القرآن»، وحذر من نتائج العملية التأويلية لنصوص القرآن التي انفلتت من عقالها على أيدي مفكري المعتزلة مما أدى للوصول إلى فوضى، الأمر الذي هدد مصير الإسلام برمته.
لهذا، فإن «حرفية» و «تشدد» ابن حنبل، هما دفاعيان ووقائيان، كما يمثلان نوعا من الإدراك لمخاطر الطريقة التي تعامل بها المعتزلة، ما أدى الى إنشاء محاذير تتمثل في تصدير الهشاشة، التي تتميز بها الأساليب والوسائل المعرفية المستخدمة، إلى الموضوع أثناء عملية التـعامل معـه، الأمر الذي جـعل الهـدف الذي أعلنه المعتـزلة لأنـفـسهم، وهو الدفـاع عن الإسلام في وجه المانوية، ينقلب إلى نقيضه.
من هنا، يجب فهم إصرار ابن حنبل المتمثل في نظريته حول أن العقل البشري هو ذو طابع حسي وأنه لا يستطيع إثبات أو نفي المواضيع غير المحسوسة التي تتجاوز نطاق العالم الطبيعي، وبالتالي فإن مجال الإنسان الوحيد هو الإيمان القلبي التام بما جاء به «الوحي» وبما قام به أو قاله النبي (صلى الله عليه وسلّم): و «التصديق» هو لبُّ الإيمان، وتحوله إلى عمل يتم عبر «التمثل» و «التقيد» بأطر وتعاليم الشريعة التي قدمها الكتاب والسنّة.
لهذا نجده، أثناء التعذيب الذي تعرض له في السجن زمني المأمون والمعتصم (218- 227 ﻫـ)، يرفض قبول أو نفي مسألة «خلق القرآن»، معتبراً إياها غير قائمة ما دام الكتاب والسنّة لم يتطرقا إليها. كما نجده يخاصم (يحيى بن معين) لأنه حاول الرد على المعتزلة، الشيء الذي فعله، أيضاً، مع الحارث المحاسبي (167- 243 ﻫـ) الذي وضع رسالة في نقض عقيدة «خلق القرآن».
لقد اعتبر ابن حنبل أن هذا هو برنامجه لاستعادة «الوحدة المفقودة» إلى الإسلام. تلك الوحدة التي تبين آراء المحاسبي حول انقسام «الأنا» مقدار الإلحاح عليها في ذلك العصر المضطرب: انقسامها وتشطرها بين الروح والجسد، وبين «الماضي الزاهي» و «الحاضر النقيض».
مع وضع الحصون التي تحمي القرآن، نرى ابن حنبل يتجه إلى تدوين الحديث النبوي ويضع قواعد صارمة لتمييز الصادق منه ودرجاته، مما يقدمه الرواة. الشيء الذي يفسر ذلك الجهد الكبير الذي استغرق منه ثلاثون عاماً، من أجل وضع كتابه «المُسْنَد» والذي لم يستطع، على رغم ذلك، أن ينجزه، حيث تركه كمسودة شبه مكتملة.
إن الحنبلية ليست نوعاً من المذهب الفقهي، بالمعنى الذي تقدمه المذاهب الثلاث الأخرى، وإنما هي نوع من السيرة الذاتية لشخص حاول تأكيد ما هو رئيس، من وجهة نظره، في الإسلام، وإطراح ما هو ثانوي، مشيراً إلى المنزلقات التي يقود الهوى الإنساني المسلح بالعقل إليها أثناء محاولته إخضاع الله والكتاب، وبالتالي الزمن، لأدواته، وتحويلهم إلى مواضيع له: إنها محاولة لتحديد الحدود البشرية أمام التخوم الإلهية. فهي تحاول تحديد المساحة التي هي للشريعة في حياة الإنسان، وترك الباقي خالياً أمام حرية وعقل وقلب الإنسان، ولكن من خلال اعتبار الجهة الأولى كنوع من المنارة التي يجب أن توجه الثانية روحياً ومعنوياً، من دون أن تملي وتحدد محتوياتها ومساراتها.
هل هذا، بالقياس إلى ذاك العصر، تقييد للعقل والإنسان؟... إننا إذا أخذناها في إطار أن ما يحدد تقويمنا للفكر هو الأدوات المستعملة وليس المنحى العام والنتيجة العملية، فسنحكم على الحنبلية بأنها لا عقلانية، وسنعطي الاعتزال والأشعرية طابعاً عقلانياً باعتبار استخدام هذه المذاهب الفكرية للعقل والمنطق في تأسيس دعاواها وبناها المعتقدية.
ولكننا بذلك، لن نستطيع فهم كيف أن العقل المستخدم، هنا عندهما، قد أدى إلى التأطير النظري لانعدام حرية الإنسان، وكيف أن المنطق والعقل قد أديا إلى البرهنة على اللاعقل واللاحرية، كما نرى ذلك في نظرية «التجويز» المعتزلية و «الكسب» الأشعرية. حيث أدى هذا عند المعتزلة والأشاعرة إلى إغلاق الدائرة أمام العقل، الذي وضع في الوسط بعد تحديد مداراته ومساراته في هذه الدائرة المفرغة، والتي لا منفذ أو امتداد فيها.
لهذا فالحنبلية هي نظرية في الامتداد: نظر يستمد من (الماضي – الحاضر) مخزوناته الممثلة في الكتاب والسنّة ليمد العمل الراهن المتجه إلى مجالات الطبيعة والمجتمع والفرد التي تحكمها أو تمتد إليها تعاليم الشريعة، وإذا لم تكن محاطة ومقيدة بالتشريع وفق الوحي وسلوك وأقوال النبي (صلى الله عليه وسلّم)، فللإنسان مجال لكي يملأ ذاك الفراغ وفق فعاليته الذاتية واجتهاداته العقلية والسلوكية.
فهي تعتبر الدين مُنجزاً ومُعطى، وإن ما حاوله المعتزلة (وبعدهم الأشاعرة)، وأيضاً الشافعي في نظريته حول «القيـاس»، هو منطلق يقوم على عكس ذلك وهو - وفق الحنابلة - تحويل وإقحام للاجتهادات البشرية في صلب البنية الداخلية المكتملة للدين، مما يؤدي إلى جعلها - أي تلك الاجتهادات - على قدم المساواة مع الوحي، بل إلى جعلها هي الواسطة الوحيدة لفهمه، الأمر الذي يجعله مختلطاً بالهوى والقصور والميول البشرية، وفـي الوقــت نفـسه، هي تـقـوم بإقـحـام الديـن في مجالات يجـب أن تـتـرك للبـشر، ولا يجـوز إنـزال الشـريعة وتهميـشها في منـزلقـات كهذه.
إنها - أي الحنبلية - محاولة لتحديد الحدود بين البشري والإلهي، وتعيين الاختصاصات. فهي تقيم الفواصل وتمنع الاختلاجات التي ترى ضرورة الوقاية والحذر من حصولها: إن حذرها من «التأويل» للنصوص القرآنية وللسنّة، هو قائم على ذلك. فهي تريد تقديمهما كما هما. من هنا، يأتي رفضها للتفسير وينبع اتجاهها إلى التدوين الصارم الحدود، والقائم على حذر نقدي شديد يحكم عملية التدوين، لسيرة وأحاديث النبي (صلى الله عليه وسلّم).
وقد ساعد انقلاب الخليفة المتوكل (233- 247 ﻫـ) على المعتزلة، في فتح المجال للحنابلة لتحقيق ذلك. حيث نرى تلك العملية المنهجية لـ «استدعاء» النبي (صلى الله عليه وسلّم) إلى الحاضر، عبر تدوين أقواله، قد تمت عقب ذلك، في الفترة الممتدة بين عامي (240 – 300 ﻫـ)، من خلال كتب الحديث الستة.
وقد نجحت هذه الإستراتيجية المعرفية في تحقيق أهدافها العملية، تلك، على رغم أن بروز أبو الحسن الأشعري (260- 324 ﻫـ/ 873 – 935 م)، الذي حاول تقديم الإطار النظري لذلك الانقلاب، قد نقل محاور الصراع إلى نطاق الخلاف الأشعري – الحنبلي.
أكد الأشعري، لتفادي «التعطيل»، على فصل «الذات» عن «الصفات»، معتبراً الأخيرة معنوية وأنها معنى قديم في الذات الإلهية، إلا أنها - أي الصفات - مخلوقة، وهي - وفقاً للأشعري - جسر تواصل الله مع الكون وموجوداته، رافضاً نظرية المعتزلة حول كون الله «يقدر ولا يفعل»، أو الفلاسفة حول «الإيجاد والترك»، كما تفادى، من خلال ذلك، الوقوع في مشكلة «تعدد القديم».
على أساس هذا الإسباغ للفعالية المستمرة والمتحركة على الذات الإلهية، الذي تعبر عنه الصفات، رفض الأشعري عقيدة «خلق القرآن»، باعتبار ان هناك تناقضاً بين هذه الفعالية ووجود «التوسط». فهناك علاقة مباشرة، ولا وجود للتنائي أو للتباعد الإلهي عن الإنسان، والقرآن هو ممثل لحضور الله وقربه الذي يضع كتابه واجباً أمام الإنسان هو التمسك والاعتصام به.
وقد استند الأشعري في عملية بناء نظريته حول امتلاك الله الوحيد الطرف للفعالية، وفقدانها لدى الإنسان إلى مفهوم المعتزلي «أبو الهذيل العلاف» عن «الجزء الذي لا يتجزأ». حيث إن مقولة الأخير حول الجسم، كجوهر منقسم، أدت به إلى نفي الإمداد والروابط في الوجود الطبيعي، إلا تلك التي يخلقها الله في ما بينها، أي في محل وزمن محددين، باعتبار أن الأعراض لا تبقى زمانين. مما يعني أن الله في حالة مستمرة من التدخل والتأثير والخلق والتحريك للعالم الطبيعي، الشيء الذي لا يمكن فصمه عن امتلاكه لـ (الصفات ) (بحسب الأشعري)، مما أوصل الأشعري، إلى نفي (السببية) و (الطباع) عن الموجودات، حيث مدَّ نظرية (التجويز) المعتزلية إلى أبعادها القصوى. ولكن عاقبة ذلك كان نفي حرية ووجود الإرادة الإنسانية: ﻓـ «مذهب الأشعري أن المؤثر هو قدرة الله ولا تأثير لقدرة العبد في مقدوره أصلا، بل إن المقدور والقدرة كلاهما واقع بقدرة الله، كونه متعلق القدرة الحادثة هو الكسب. فالأفعال مستندة إلى الله تعالى خلقاً وإلى العبد كسباً بإثبات قدرة مقارنة للفعل»، (أبو البقاء الكفوي 1619 – 1683 م): «الكليات»، القسم الأول، وزارة الثقافة، دمشق 1981، ص 265).
وقد أدى هذا المفهوم، بالأشعري، إلى نفي العمل كأساس للإيمان، بخلاف الحنبلية وعموم (أهل الحديث) الذين يعتبرون أن العمل والإيمان لا يتبعضان، أي أنهما غير منفصلين، وبالتالي فلا وجود عندهم لذلك الفصل الذي أقيم في ما بعد، بين الإسلام والإيمان. حيث اعتبر الأشـعري أنهما متـبـاينان. كما اعـتـبـر أن التصديق والإذعان بالقلب، بعد الإقرار باللسان، كافيان للوصول إلى الإيمان، رافضاً اعتـبار العمل أسـاساً للإيمان، الشيء الذي نرى عكسه عند الحنابلة، وقبلهم عند المحكّمة.
فالجبرية والحتمية التي تحكم الكون وأفعال الإنسان، تجعل كل الأمور والأفعال، بخيرها وشرها، مرتبة ومقدرة مسبقاً: فكل شيء محدد سلفاً، ومرسوم سلفاً، وهذا ينطبق على العمل انطباقه على المعرفة. لذلك نرى توحد جبريـة الأشعـري ونفيـه لحرية الإرادة مع رؤيته لنخبـويـة المعـرفـة، الأمـر الذي جـعـله يقول بـ (معرفة الخاصة) و (معرفة العامة)، أو بوجود (باطن) في الدين يعطى للفئة الأولى فيما يترك (الظاهر) للعامة، الشيء الذي نرى حصوله لدى المانوية التي مزجت الجبرية والنخبوية والمراتبية مع الزهدية ورفض العمل والدنيا واحتقار المادة والجسد.
فالله هو المحدد لكل شيء والأمر متعلق بالكشف والإلهام، والتوفيق المحدد وفقاً للمقدور الإلهي . لذلك، فلا أمل في العمل، والأفضل هو القبول بالمرسوم.
هل كان التوحد العضوي اللاحق للأشعرية مع الصوفية، كما تجسد عند الغزالي (450 - 505هـ/ 1058 - 1111م)، نذيراً بمصير بغداد في عام 1258م على يد هولاكو شبيهاً بما حصل لروما على يد البرابرة في عام 476م.