زوربا
05-31-2006, 11:46 AM
رشيد خيون - الشرق الاوسط
الأعظمية حاضرة بغدادية عريقة، ارتبط اسمها بفقيه اتخذ من الرأي والسهولة مذهبا، وارتبط تاريخها بخلفية التأسيس العباسي. كثيرا ما تطاولت الفئات الحزبية على قدسيتها، وحظوتها التاريخية، حتى علت في شوارعها الهتافات وكثرت المقاتل، وهيمنت جماعات من اتجاه محدد، مقابل محلات أخرى هيمن عليها اتجاه مضاد. وهكذا كانت وما تزال تسيس وتحتكر حواضر المدن، من دون النظر في معالمها، وما حوته من ذاكرة. بعد اكتمال مدينة المنصور المدورة بالكرخ من بغداد، عبرَ ولي العهد المهدي (ت 169هـ) دجلة وبنى ما عُرف بمعسكر المهدي، حيث المقبرة الملكية حالياً. وقبل هذا، تقدس ثرى الأعظمية برفات الإمام أبي حنيفة النعمان (ت 150هـ)، ذلك قبل عمرانها العباسي، يوم كانت مقابر ساسانية مهجورة (جواد وسوسه، خارطة بغداد). ويعطيك جعل قبر الإمام أبي حنيفة بين قبور مهجورة، طوال أكثر من مائة عام، أي بعد سقوط الساسانيين (17 هـ) وحتى إعادة إعمار بغداد (145هـ)، إشارة لتأكيد ما ورد من رواية أن صاحب الضريح لم يكن على وئام مع السلطة، وانه قتيل الحبس، لأكثر من سبب.
عادت قدسية الأعظمية تُسلب من جديد، وتتحول مقبرتها، التي ضمت أجساد علماء وأئمة ومتصوفة وشعراء، وكراً للمسلحين، ومكامن لعمليات اغتيال. أحسب أن مدينة حوت ضريحاً بمنزلة صاحبه الإمام أبي حنيفة، وتاريخاً روى قصة وجود بغداد الحضاري، وما مر عليها من أحداث أن تبقى ملاذاً للخائف، ومطعماً للجائع. شاهد ابن جبير قبة ضريحها (القرن السادس الهجري): «بيضاء سامية في الهواء». وشاهدها ابن بطوطة (القرن الثامن الهجري): «قبة عظيمة، وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر» (الرحلتان). إن المدن التي نشأت واحتفظت بوجودها حول ضريح أو مزار ظاهرة معروفة بالبلاد العراقية، وأراها خالفت، بأسباب نشأتها وديمومتها، ما نقله أبو حيان التوحيدي عن بعض الحكماء: المدن «تبنى على الماء والمرعى والمحتطب والحصانة»(الإمتاع والمؤانسة). والأعظمية نشأت معسكراً على الماء، وأحالها الضريح مدينة.
أعيد شيئاً مما أوردته في «الشرق الأوسط» (29 أكتوبر 2004) تحت عنوان «البابلي .. الذي أسس مدرسة الرأي»: أن إمام الرأي، أو إمام أهل العراق، ليس فارسياً وليس عربياً أيضاً، إنما هو عراقي بابلي الأصل كوفي الولادة والنشأة. وربما صعب على الكثير استيعاب أن يكون إمام الرأي عراقياً لا عربياً ولا فارسياً ولا تركياً! والأهم من هذا جعله علمه «لا ينكر تبدل الأحكام بتبدل الأزمان». وأنه لم يجد في الدين ما يمنع من الجواز للمرأة أن تكون قاضياً (الماوردي، الأحكام السلطانية). أما سهولته مع أهل الأديان الأخرى فتنقص العديد من أهل زمانه وزماننا. ويكفيه وصيته لتلميذه لخالد السمتي، وهو من أهل البصرة بالقول: «عاشر أهل الأديان بمعاشرتهم».
أرى لو يبقى مذهب أبي حنيفة مستقلاً، ولا تخالطه مقالات مذهب آخر، فربما تأثرت خصوصيته وابتعد فقهاؤه عن ترجيح الرأي، وتقلص انفتاحه المعروف. فما يجري اليوم بالعراق على وجه التحديد بين السُنَّة العرب هو تداخل بين المذهبين، أرجو ألا يأتي على حساب إرث أبي حنيفة. فعلى حد عبارة الشاعر صالح الجعفري (ت 1979): أن التعايش بين البشر «لا دَخل للسان كلا ولا.. يلزم أن نوحَّد المذهبا». ليس في ما أقوله رغبة بإحياء مشادات ولت واندثرت بين شافعيين وأحناف، أشعريين وحنابلة، وإنما الرغبة بإبقاء الآراء نقية، فلدى أبي حنيفة ما يُسهل التعايش بين الأديان والمذاهب، في بلد مثل العراق لا تُمنع نساؤه من ولاية القضاء، ولا تحرم المساجد والمراقد على غير المسلمين، عموماً، انها تلين القلوب وتبسط السرائر.
من حق الإمام أبي حنيفة على الأعظمية، وقد انتحلت اسمه في العصر العباسي « محلة أبي حنيفة» أن تتقيد بمقالاته، وبما قدمته مدرسته، التي ما زالت مفتوحة الأبواب، للعلم والفقه من أئمة وأساطين في القضاء، ناهيك من المؤرخين والأدباء. فالأعظمية كما هو معلوم على مذهبه الفقهي، وعرفت بهذا الاسم نسبة لأحد ألقابه، منذ العهد العثماني، «الإمام الأعظم». بعد اختفاء اسم الخيزران، زوجة المهدي، ووالدة الهادي والرشيد، حيث كانت المحلة تسمى بالخيزرانية أو المقبرة بمقبرة الخيزران. شُيد المرقد والمدرسة بتوجيه من السلطان السلجوقي ألب أرسلان السنة 459هـ، وعمّره سليمان القانوني السنة 941هـ، بعد إيذائه من قبل إسماعيل الصفوي، بتبادل عنف بين الدولتين، وكانت الساحة بغداد. ولم يبتعد الشاعر الذي شهد افتتاح البناء الأول عن الحق، عندما قال: «ألم ترَ أن العلم كان مُبدداً.. فجمَّعه هذا المغيَّب في اللحد» (وفيات الأعيان).
شهد مرقد الإمام أبي حنيفة، محاولات وئام طائفي بين الشيعة والسُنَّة، فحصل أن جمع المصلين من المذهبين بصلاة واحدة. وكثيراً ما عبَر وجهاء الكاظمية دجلة لأداء الصلاة الجامعة أمام محرابه. ليس لأبي حنيفة ولا لحارته الأعظمية دور في تأسيس الكراهية الطائفية، وليس له ولها شأن في العصاب القومي الذي حل عليها. ولو كان حياً ما وافق تلامذته أن يكونوا قضاة في الدولة، وأن يأخذ مذهبه صفة الرسمية، ومن بعد قام السلطان العثماني سليم الأول بتعميمه بالقوة على الآفاق، وكان الضرر في ذلك جسيماً. ما أشد الرغبة في قراءة ما أمر به الملك عيسى بن العادل(ت 624هـ) الفقهاء «أن يجردوا له مذهب أبي حنيفة، دون صاحبيه (أبو يوسف وابن فرقد)، فجردوا له المذهب في عشرة مجلدات، وسماه التذكرة، فكان لا يفارقه سفراً» (سبط ابن الجوزي، مرآة الزمان).
لكل ما تقدم، ما حصل ويحصل بمحلة أبي حنيفة، الأعظمية اليوم، من غارات ومطاردات واغتيالات ومحاولة جماعة من فرض هيمنتها على هذا الإرث التاريخي، والكيان المقدس، ينافي انتساب المكان لإمام السهولة، وإمام الرأي. يحتضن دجلة المكان، الذي استضاف أول برلمان عراقي، من الجهات الثلاث، حتى تبدو الأعظمية وكأنها جزيرة بمحلاتها الأربع، وواحدة منها عُرفت بمحلة السفينة، وكانت مرسىً لسفن الخلافة العباسية. واحتضنت محلة الحارة منها مرقد المتصوف بشر الحافي (ت 226هـ) ومسجده الجامع.
أقول: لو تُرك هذا المكان بسلام، لمنزلة دفينه، وظلت آراؤه نقية من المخالطة، ففيها ما ينفع التعايش بين العراقيين.
*نقلا عن جريدة "الشرق الأوسط" اللندنية
الأعظمية حاضرة بغدادية عريقة، ارتبط اسمها بفقيه اتخذ من الرأي والسهولة مذهبا، وارتبط تاريخها بخلفية التأسيس العباسي. كثيرا ما تطاولت الفئات الحزبية على قدسيتها، وحظوتها التاريخية، حتى علت في شوارعها الهتافات وكثرت المقاتل، وهيمنت جماعات من اتجاه محدد، مقابل محلات أخرى هيمن عليها اتجاه مضاد. وهكذا كانت وما تزال تسيس وتحتكر حواضر المدن، من دون النظر في معالمها، وما حوته من ذاكرة. بعد اكتمال مدينة المنصور المدورة بالكرخ من بغداد، عبرَ ولي العهد المهدي (ت 169هـ) دجلة وبنى ما عُرف بمعسكر المهدي، حيث المقبرة الملكية حالياً. وقبل هذا، تقدس ثرى الأعظمية برفات الإمام أبي حنيفة النعمان (ت 150هـ)، ذلك قبل عمرانها العباسي، يوم كانت مقابر ساسانية مهجورة (جواد وسوسه، خارطة بغداد). ويعطيك جعل قبر الإمام أبي حنيفة بين قبور مهجورة، طوال أكثر من مائة عام، أي بعد سقوط الساسانيين (17 هـ) وحتى إعادة إعمار بغداد (145هـ)، إشارة لتأكيد ما ورد من رواية أن صاحب الضريح لم يكن على وئام مع السلطة، وانه قتيل الحبس، لأكثر من سبب.
عادت قدسية الأعظمية تُسلب من جديد، وتتحول مقبرتها، التي ضمت أجساد علماء وأئمة ومتصوفة وشعراء، وكراً للمسلحين، ومكامن لعمليات اغتيال. أحسب أن مدينة حوت ضريحاً بمنزلة صاحبه الإمام أبي حنيفة، وتاريخاً روى قصة وجود بغداد الحضاري، وما مر عليها من أحداث أن تبقى ملاذاً للخائف، ومطعماً للجائع. شاهد ابن جبير قبة ضريحها (القرن السادس الهجري): «بيضاء سامية في الهواء». وشاهدها ابن بطوطة (القرن الثامن الهجري): «قبة عظيمة، وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر» (الرحلتان). إن المدن التي نشأت واحتفظت بوجودها حول ضريح أو مزار ظاهرة معروفة بالبلاد العراقية، وأراها خالفت، بأسباب نشأتها وديمومتها، ما نقله أبو حيان التوحيدي عن بعض الحكماء: المدن «تبنى على الماء والمرعى والمحتطب والحصانة»(الإمتاع والمؤانسة). والأعظمية نشأت معسكراً على الماء، وأحالها الضريح مدينة.
أعيد شيئاً مما أوردته في «الشرق الأوسط» (29 أكتوبر 2004) تحت عنوان «البابلي .. الذي أسس مدرسة الرأي»: أن إمام الرأي، أو إمام أهل العراق، ليس فارسياً وليس عربياً أيضاً، إنما هو عراقي بابلي الأصل كوفي الولادة والنشأة. وربما صعب على الكثير استيعاب أن يكون إمام الرأي عراقياً لا عربياً ولا فارسياً ولا تركياً! والأهم من هذا جعله علمه «لا ينكر تبدل الأحكام بتبدل الأزمان». وأنه لم يجد في الدين ما يمنع من الجواز للمرأة أن تكون قاضياً (الماوردي، الأحكام السلطانية). أما سهولته مع أهل الأديان الأخرى فتنقص العديد من أهل زمانه وزماننا. ويكفيه وصيته لتلميذه لخالد السمتي، وهو من أهل البصرة بالقول: «عاشر أهل الأديان بمعاشرتهم».
أرى لو يبقى مذهب أبي حنيفة مستقلاً، ولا تخالطه مقالات مذهب آخر، فربما تأثرت خصوصيته وابتعد فقهاؤه عن ترجيح الرأي، وتقلص انفتاحه المعروف. فما يجري اليوم بالعراق على وجه التحديد بين السُنَّة العرب هو تداخل بين المذهبين، أرجو ألا يأتي على حساب إرث أبي حنيفة. فعلى حد عبارة الشاعر صالح الجعفري (ت 1979): أن التعايش بين البشر «لا دَخل للسان كلا ولا.. يلزم أن نوحَّد المذهبا». ليس في ما أقوله رغبة بإحياء مشادات ولت واندثرت بين شافعيين وأحناف، أشعريين وحنابلة، وإنما الرغبة بإبقاء الآراء نقية، فلدى أبي حنيفة ما يُسهل التعايش بين الأديان والمذاهب، في بلد مثل العراق لا تُمنع نساؤه من ولاية القضاء، ولا تحرم المساجد والمراقد على غير المسلمين، عموماً، انها تلين القلوب وتبسط السرائر.
من حق الإمام أبي حنيفة على الأعظمية، وقد انتحلت اسمه في العصر العباسي « محلة أبي حنيفة» أن تتقيد بمقالاته، وبما قدمته مدرسته، التي ما زالت مفتوحة الأبواب، للعلم والفقه من أئمة وأساطين في القضاء، ناهيك من المؤرخين والأدباء. فالأعظمية كما هو معلوم على مذهبه الفقهي، وعرفت بهذا الاسم نسبة لأحد ألقابه، منذ العهد العثماني، «الإمام الأعظم». بعد اختفاء اسم الخيزران، زوجة المهدي، ووالدة الهادي والرشيد، حيث كانت المحلة تسمى بالخيزرانية أو المقبرة بمقبرة الخيزران. شُيد المرقد والمدرسة بتوجيه من السلطان السلجوقي ألب أرسلان السنة 459هـ، وعمّره سليمان القانوني السنة 941هـ، بعد إيذائه من قبل إسماعيل الصفوي، بتبادل عنف بين الدولتين، وكانت الساحة بغداد. ولم يبتعد الشاعر الذي شهد افتتاح البناء الأول عن الحق، عندما قال: «ألم ترَ أن العلم كان مُبدداً.. فجمَّعه هذا المغيَّب في اللحد» (وفيات الأعيان).
شهد مرقد الإمام أبي حنيفة، محاولات وئام طائفي بين الشيعة والسُنَّة، فحصل أن جمع المصلين من المذهبين بصلاة واحدة. وكثيراً ما عبَر وجهاء الكاظمية دجلة لأداء الصلاة الجامعة أمام محرابه. ليس لأبي حنيفة ولا لحارته الأعظمية دور في تأسيس الكراهية الطائفية، وليس له ولها شأن في العصاب القومي الذي حل عليها. ولو كان حياً ما وافق تلامذته أن يكونوا قضاة في الدولة، وأن يأخذ مذهبه صفة الرسمية، ومن بعد قام السلطان العثماني سليم الأول بتعميمه بالقوة على الآفاق، وكان الضرر في ذلك جسيماً. ما أشد الرغبة في قراءة ما أمر به الملك عيسى بن العادل(ت 624هـ) الفقهاء «أن يجردوا له مذهب أبي حنيفة، دون صاحبيه (أبو يوسف وابن فرقد)، فجردوا له المذهب في عشرة مجلدات، وسماه التذكرة، فكان لا يفارقه سفراً» (سبط ابن الجوزي، مرآة الزمان).
لكل ما تقدم، ما حصل ويحصل بمحلة أبي حنيفة، الأعظمية اليوم، من غارات ومطاردات واغتيالات ومحاولة جماعة من فرض هيمنتها على هذا الإرث التاريخي، والكيان المقدس، ينافي انتساب المكان لإمام السهولة، وإمام الرأي. يحتضن دجلة المكان، الذي استضاف أول برلمان عراقي، من الجهات الثلاث، حتى تبدو الأعظمية وكأنها جزيرة بمحلاتها الأربع، وواحدة منها عُرفت بمحلة السفينة، وكانت مرسىً لسفن الخلافة العباسية. واحتضنت محلة الحارة منها مرقد المتصوف بشر الحافي (ت 226هـ) ومسجده الجامع.
أقول: لو تُرك هذا المكان بسلام، لمنزلة دفينه، وظلت آراؤه نقية من المخالطة، ففيها ما ينفع التعايش بين العراقيين.
*نقلا عن جريدة "الشرق الأوسط" اللندنية