yasmeen
05-27-2006, 10:01 AM
«سرقة/ قصة حب» للاسترالي العالمي بيتر كاري ...
جاد الحاج الحياة - 27/05/06//
اعتمد بيتر كاري منذ بداياته في القصة القصيرة ثم في الرواية تحطيم الواقعية الحكائية قاصداً إعادة ترتيب حطامها في كيان ابداعي تأرجح بين الواقعية الجديدة وما بعد الحداثة. الكذب عنده منتهى الصدق، بل مقصد روائي معلن. والغاية تبرر كل الوسائل المتاحة بلا حدود.
بعد مجموعتين قصصيتين: «الرجل السمين في التاريخ» عام 1974 و «جرائم حرب» عام 1979 صدرت له رواية بعنوان «نعمة» عبارة عن فكاهة سوداء تناولت حياة موظف في شركة اعلانات يصحو من البنج إثر جراحة خطرة ليكتشف أن حياته هي الجحيم بعينه: زوجته على علاقة بشريكه، زبائنه يلوثون البيئة، ابنته مدمنة مخدرات، ابنه شيوعي يسافح شقيقته... والحل أن يموت من جديد كي يتحرر من العالم الذي يكرهه.
ومع أن بيتر كاري ولد وترعرع في ولاية فيكتوريا (1943) فإن معظم أعماله الاسترالية تدور احداثها في شمال ولاية نيو ساوث ويلز الاكثر دفئاً وتنوعاً، خصوصاً منطقة بيللينجن التي اشتهرت في الستينات والسبعينات باجتذاب الفنانين والهامشيين وأصبحت اليوم من أغلى البقع السياحية على شواطئ المحيط الهادئ. وهناك تجري فصول روايته الثانية «ايلليواكر» صدرت عام 1985 واستمد مادتها من تجارب جده أحد أوائل موزعي البريد في استراليا. عنوان الرواية مستعار من تعبير استرالي محلي جداً يمكن ترجمته بـ «الفشار» أو المبالغ النصّاب الذي يستعمل ذكاءه للايقاع بالابرياء: معمّر عاش 139 سنة يعترف منذ بداية القصة بأنه كذّاب، مع ذلك يروي تاريخ استراليا القرن العشرين من خلال مغامراته الطريفة، ويبدو تيار ما بعد الحداثة بتأثيره الملتبس على «الحقيقة» واضحاً في هذه الرواية، ذلك أن المعمّر المذكور، هربرت بادجيري، يسأل نفسه ويغاير حكاياته محاذياً من بعيد الروايات الرسمية، ناقضاً إياها، ثم ناقضاً نقضه، تاركاً للقارئ ان يتبحّر في ما عساها تكون في الواقع تلك «الحقيقة».
ويعود وادي بيللينجن الى الصورة من جديد في رواية «اوسكار ولوسنيدا» عام 1988. عنها نال كاري جائزة بوكر وتحولت الى فيلم سينمائي من بطولة رالف فينز وكيت بلانشيت واخراج جيليان آرمسترونغ. فيها عودة الى القرن التاسع عشر وتصوير كاريكاتوري للارساليات المسيحية والصرامة الانجيلية، فأوسكار مقامر بلا أمل في الشفاء من ادمانه المقامرة، لكنه يخضع لارادة والده ويصبح قساً انكليكانياً ثم يبحر الى استراليا «لتتميم ميشئة الله». على الباخرة يلتقي لوسنيدا، الوارثة الثرية الجميلة والمقامرة، مثله، بامتياز. تملك لوسنيدا معملاً للزجاج وتراهن بكل ثروتها على استحالة بناء الكنيسة التي يتخيلها اوسكار في الوقت والمكان المختارين على ضفاف نهر بيللينجر... كنيسة من زجاج يجلس في ارجائها الخالية قس عاشق ومقامر. ينام جالساً والكنيسة تغرق في هدوء: «وحين تلامس أصابع الماء البيض شفتي اوسكار يرحّب بها كالعادة في صرخة مذعورة مثل صبي معتقل في لفائف كابوس».
في «مفتش الضرائب» عام 1991 وفي «الحياة الغريبة لتريسنان سميث» كما في «جاك ماغس» عام 1997 يستعير كاري شخصيات متداولة أدبياً ويعيد «تجديد شبابها» اذ يقحمها في العالم المعاصر أو عوالم متخيلة يتصدى من خلالها بالنقد اللاذع للمظاهر التقنية المبالغة في الحضارة الغربية، لا سيما آثار التطور العمراني السريع على المدن الاسترالية، خصوصاً سيدني. ويذكر ان «ماغس» حازت جائزة الكومنولث وان كاري اعتذر، لاسباب عائلية، عن لقاء الملكة اليزابيث لتسلم الجائزة.
عام 2001 حاز بيتر كاري جائزة بوكر للمرة الثانية، وطوّبه النقاد افضل كاتب استرالي معاصر، وجاءت روايته الفائزة «القصة الحقيقية لعصابة كيلي» تتويجاً أدبياً وتأريخياً لشخصية اسطورية في سيرة ولادة استراليا: المجرم الشاهد والشهيد نيدكيلي، الايرلندي الاصل، النابت على الحفافي الفقيرة للريف الاوسط في قلب القارة الجديدة، يجابه واقعه بالتحدي والبسالة العارية حتى الموت. كتب كيري هذه القصة على هيئة رسالة طويلة يوجهها نيد كيلي من سجنه الى ابنته معترفاً لها باخطائه، راوياً حكايته في لغة جمعت بقايا اللهجة الايرلندية لدى المهاجرين باللكنة الاسترالية الوليدة. والواقع ان الابتكار اللغوي لعب دوراً اساسياً في حصول بيتر كاري على «بوكر»، مرة ثانية.
في العام نفسه نشر كاري كتاباً عن رحلته الى سيدني، ثم بعد سنتين صدرت روايته ما قبل الاخيرة بعنوان «حياتي كمخادع» فضح فيها ملابسات التدليس والانتحال في الوسط الادبي مما ألحق العار بأحد الناشرين وهرّب شاعرين خارج البلاد. أما آخر أعماله «سرقة/ قصة حب» فتعالج من الداخل السيكولوجي والوجداني احباطات الفنان على الصعيدين الشخصي والابداعي من خلال حكاية تشكيلي استرالي حط به الدهر بعد نجاح كبير فخسر صدقيته ومركزه الصداري في لعبة المعارض وبورصة اللوحات العالمية، وأجبر على ترك سيدني وبهرجتها المتماهية مع نيويورك وباريس الى بيت ريفي يسكنه شقيقه الساذج، السمين، المتفوه احياناً بحكم افلاطونية. هناك قرب المستنقعات والغابات والصمت الشاسع تسقط كما في مظلة امرأة اميركية جامعة لوحات، جاءت تبحث عن شخص آخر لديه لوحة لفنان مشهور يريد بيعها... الشهرة الفنية والمال وبريق التداول في مقدمة المعروفين مقابل ضياع الألهام الابداعي وتدهور الاسس الاخلاقية في العلاقات المعاصرة، كلها محاور يلهو بها كاري مثل مهرج وبهلوان في آن واحد، في هذه الرواية.
وتذكر «غارديان» البريطانية في موقعها الالكتروني عن الكتب الجديدة ان بيتر كاري تسلل الى هامش «سرقة/ قصة حب» منتقماً من زوجته السابقة أليسون سامر التي كانت رفيقة دربه طوال عشرين سنة، وكان انفصالهما مريراً وشرساً للغاية (على الطريقة الاميركية كونهما يعيشان في نيويورك منذ سنوات) وأكدت هذا «الانتقام» أليسون التي دعاها كاري في الكتاب بـ «النائحة» و «الجشعة» وقالت: «حولني الى شخصية خيالية، ولكنه ارتكب بذلك ارهاباً عاطفياً ضدي، فلو أراد أن يلجأ الى تجربته القاسية معي ليستعمل عناصرها في أدبه كان في امكانه ان يصبها في قالب شخصية اخرى، لا تشبهني في الشكل والانفعال الى حد ان يكتشفها كل من يحيط بي، حتى جعلني منبوذة في محيطي».
وبالطبع ينكر كاري انه نوى الانتقام من المرأة التي اهداها اثنين من رواياته وقال انه يدين لها بنجاحه اكثر من مرة. في هذه الاثناء تنكب أليسون على كتابة رواية بعنوان «مستر جيكل» وتؤكد هي الاخرى انها لا تنوي الرد انتقاماً... معاذ الله!
جاد الحاج الحياة - 27/05/06//
اعتمد بيتر كاري منذ بداياته في القصة القصيرة ثم في الرواية تحطيم الواقعية الحكائية قاصداً إعادة ترتيب حطامها في كيان ابداعي تأرجح بين الواقعية الجديدة وما بعد الحداثة. الكذب عنده منتهى الصدق، بل مقصد روائي معلن. والغاية تبرر كل الوسائل المتاحة بلا حدود.
بعد مجموعتين قصصيتين: «الرجل السمين في التاريخ» عام 1974 و «جرائم حرب» عام 1979 صدرت له رواية بعنوان «نعمة» عبارة عن فكاهة سوداء تناولت حياة موظف في شركة اعلانات يصحو من البنج إثر جراحة خطرة ليكتشف أن حياته هي الجحيم بعينه: زوجته على علاقة بشريكه، زبائنه يلوثون البيئة، ابنته مدمنة مخدرات، ابنه شيوعي يسافح شقيقته... والحل أن يموت من جديد كي يتحرر من العالم الذي يكرهه.
ومع أن بيتر كاري ولد وترعرع في ولاية فيكتوريا (1943) فإن معظم أعماله الاسترالية تدور احداثها في شمال ولاية نيو ساوث ويلز الاكثر دفئاً وتنوعاً، خصوصاً منطقة بيللينجن التي اشتهرت في الستينات والسبعينات باجتذاب الفنانين والهامشيين وأصبحت اليوم من أغلى البقع السياحية على شواطئ المحيط الهادئ. وهناك تجري فصول روايته الثانية «ايلليواكر» صدرت عام 1985 واستمد مادتها من تجارب جده أحد أوائل موزعي البريد في استراليا. عنوان الرواية مستعار من تعبير استرالي محلي جداً يمكن ترجمته بـ «الفشار» أو المبالغ النصّاب الذي يستعمل ذكاءه للايقاع بالابرياء: معمّر عاش 139 سنة يعترف منذ بداية القصة بأنه كذّاب، مع ذلك يروي تاريخ استراليا القرن العشرين من خلال مغامراته الطريفة، ويبدو تيار ما بعد الحداثة بتأثيره الملتبس على «الحقيقة» واضحاً في هذه الرواية، ذلك أن المعمّر المذكور، هربرت بادجيري، يسأل نفسه ويغاير حكاياته محاذياً من بعيد الروايات الرسمية، ناقضاً إياها، ثم ناقضاً نقضه، تاركاً للقارئ ان يتبحّر في ما عساها تكون في الواقع تلك «الحقيقة».
ويعود وادي بيللينجن الى الصورة من جديد في رواية «اوسكار ولوسنيدا» عام 1988. عنها نال كاري جائزة بوكر وتحولت الى فيلم سينمائي من بطولة رالف فينز وكيت بلانشيت واخراج جيليان آرمسترونغ. فيها عودة الى القرن التاسع عشر وتصوير كاريكاتوري للارساليات المسيحية والصرامة الانجيلية، فأوسكار مقامر بلا أمل في الشفاء من ادمانه المقامرة، لكنه يخضع لارادة والده ويصبح قساً انكليكانياً ثم يبحر الى استراليا «لتتميم ميشئة الله». على الباخرة يلتقي لوسنيدا، الوارثة الثرية الجميلة والمقامرة، مثله، بامتياز. تملك لوسنيدا معملاً للزجاج وتراهن بكل ثروتها على استحالة بناء الكنيسة التي يتخيلها اوسكار في الوقت والمكان المختارين على ضفاف نهر بيللينجر... كنيسة من زجاج يجلس في ارجائها الخالية قس عاشق ومقامر. ينام جالساً والكنيسة تغرق في هدوء: «وحين تلامس أصابع الماء البيض شفتي اوسكار يرحّب بها كالعادة في صرخة مذعورة مثل صبي معتقل في لفائف كابوس».
في «مفتش الضرائب» عام 1991 وفي «الحياة الغريبة لتريسنان سميث» كما في «جاك ماغس» عام 1997 يستعير كاري شخصيات متداولة أدبياً ويعيد «تجديد شبابها» اذ يقحمها في العالم المعاصر أو عوالم متخيلة يتصدى من خلالها بالنقد اللاذع للمظاهر التقنية المبالغة في الحضارة الغربية، لا سيما آثار التطور العمراني السريع على المدن الاسترالية، خصوصاً سيدني. ويذكر ان «ماغس» حازت جائزة الكومنولث وان كاري اعتذر، لاسباب عائلية، عن لقاء الملكة اليزابيث لتسلم الجائزة.
عام 2001 حاز بيتر كاري جائزة بوكر للمرة الثانية، وطوّبه النقاد افضل كاتب استرالي معاصر، وجاءت روايته الفائزة «القصة الحقيقية لعصابة كيلي» تتويجاً أدبياً وتأريخياً لشخصية اسطورية في سيرة ولادة استراليا: المجرم الشاهد والشهيد نيدكيلي، الايرلندي الاصل، النابت على الحفافي الفقيرة للريف الاوسط في قلب القارة الجديدة، يجابه واقعه بالتحدي والبسالة العارية حتى الموت. كتب كيري هذه القصة على هيئة رسالة طويلة يوجهها نيد كيلي من سجنه الى ابنته معترفاً لها باخطائه، راوياً حكايته في لغة جمعت بقايا اللهجة الايرلندية لدى المهاجرين باللكنة الاسترالية الوليدة. والواقع ان الابتكار اللغوي لعب دوراً اساسياً في حصول بيتر كاري على «بوكر»، مرة ثانية.
في العام نفسه نشر كاري كتاباً عن رحلته الى سيدني، ثم بعد سنتين صدرت روايته ما قبل الاخيرة بعنوان «حياتي كمخادع» فضح فيها ملابسات التدليس والانتحال في الوسط الادبي مما ألحق العار بأحد الناشرين وهرّب شاعرين خارج البلاد. أما آخر أعماله «سرقة/ قصة حب» فتعالج من الداخل السيكولوجي والوجداني احباطات الفنان على الصعيدين الشخصي والابداعي من خلال حكاية تشكيلي استرالي حط به الدهر بعد نجاح كبير فخسر صدقيته ومركزه الصداري في لعبة المعارض وبورصة اللوحات العالمية، وأجبر على ترك سيدني وبهرجتها المتماهية مع نيويورك وباريس الى بيت ريفي يسكنه شقيقه الساذج، السمين، المتفوه احياناً بحكم افلاطونية. هناك قرب المستنقعات والغابات والصمت الشاسع تسقط كما في مظلة امرأة اميركية جامعة لوحات، جاءت تبحث عن شخص آخر لديه لوحة لفنان مشهور يريد بيعها... الشهرة الفنية والمال وبريق التداول في مقدمة المعروفين مقابل ضياع الألهام الابداعي وتدهور الاسس الاخلاقية في العلاقات المعاصرة، كلها محاور يلهو بها كاري مثل مهرج وبهلوان في آن واحد، في هذه الرواية.
وتذكر «غارديان» البريطانية في موقعها الالكتروني عن الكتب الجديدة ان بيتر كاري تسلل الى هامش «سرقة/ قصة حب» منتقماً من زوجته السابقة أليسون سامر التي كانت رفيقة دربه طوال عشرين سنة، وكان انفصالهما مريراً وشرساً للغاية (على الطريقة الاميركية كونهما يعيشان في نيويورك منذ سنوات) وأكدت هذا «الانتقام» أليسون التي دعاها كاري في الكتاب بـ «النائحة» و «الجشعة» وقالت: «حولني الى شخصية خيالية، ولكنه ارتكب بذلك ارهاباً عاطفياً ضدي، فلو أراد أن يلجأ الى تجربته القاسية معي ليستعمل عناصرها في أدبه كان في امكانه ان يصبها في قالب شخصية اخرى، لا تشبهني في الشكل والانفعال الى حد ان يكتشفها كل من يحيط بي، حتى جعلني منبوذة في محيطي».
وبالطبع ينكر كاري انه نوى الانتقام من المرأة التي اهداها اثنين من رواياته وقال انه يدين لها بنجاحه اكثر من مرة. في هذه الاثناء تنكب أليسون على كتابة رواية بعنوان «مستر جيكل» وتؤكد هي الاخرى انها لا تنوي الرد انتقاماً... معاذ الله!