المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العقل والميتافيزيقا عند الشيخ الأوحد



النورس 1398
05-26-2006, 07:17 PM
العقل والميتافيزيقا عند الشيخ الأوحد


بقلم : الشيخ سعيد القريشي saeed@alahsai.net





إن من أهم مسائل الحكمة، هي علاقة العقل بالميتافيزيق . لقد شكلت هذه المسألة إشكالية فلسفية على طول تأريخ الفلسفة الحديثة والوسيطة، ومن أهم المآخذ على الفلسفة الوسيطة إيمانها بما وراء الطبيعة في نظر الفلسفة المعاصرة، أي أن الفلسفة المعاصرة التي تدّعي العلمية رمت الفلسفة الوسيطة باللاعلمية، وسحبت هذه التهمة على الفلسفة الإسلامية المعاصرة ومن ضمنها وبلا شك حكمة الشيخ الأحسائي.. لذلك سنناقش مسألة علاقة العقل بالميتافيزيق عند الشيخ الأوحد.

العقل :

العقل في اللغة: العقل مصدر عقلَ هو الحجر، الربط، والملجأ، والحصن.

قال ابن الأنباري: رجل عاقل، أي جامع لأمره ورأيه، مأخوذ من عقلت البعير إذا جمعت قوائمه. وقيل: العاقل هو الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها،

وقيل: العقل هو التثبت في الأمور، هو الذي يعقل صاحبه عن التورط في المهالك. والمعقول هو ما تفعله بقلبك، فالعقل بهذه المثابة هو القلب، والقلب هو العقل. كما قيل أن العقل هو التميز، وبه يفترق الإنسان عن سائر الأحياء، وبه يفهم الإنسان ما لا يفهمه الحيوان.

وقيل: المرأة تعاقل الرجل، أي تساويه في الدّيّة. والعقيلة هي المرأة الكريمة، وعقيلة البحر هي الدّرة. ولذلك قيل عقيلة القوم : سيدهم[1].

وفي تاج العروس: العقل هو العلم، الحجر، النّهية، وهو قوة، وغريزة. والعقل هو القوة المهيأة لقبول العلم، وبه يستنبط العاقل الأمور .[2]

وفي الصحاح للجواهري: العقل: الحجر، والنهي، ورجل عاقل، وعقول، وقد عقِلَ يعقلُ عقلاً ومعقولاً. وهو مصدر، وقال سيبويه صفة لأن المصدر لا يأتي على وزن مفعول البتة، ثم قال: والعقل: الدية.. لأن أبل الدية كانت تعقل بفناء ولي المقتول. [3]



الميتافيزيقا:

يدل الأصل اللغوي ـ التاريخي لمصطلح ميتافيزيقا على معنى ملغز في مستواه العادي البسيط. فهو يشير إلى كلمة مركبة من مقطعين هماmeta ما بعد physica باللاتينية أي الطبيعة. وتشتد كثافة غموض المصطلح عندما تجمع مؤرخات الفلسفة ومصطلحاتها على صدفة ظهوره عندما قام أندرو نيقوس الروديسي بترتيب مباحث أرسطو. وضع أندرو نيقوس ( 70 ق.م) عنوان ميتافيزيقا لمباحث الفلسفة الأولى ـ كما دعاها أرسطو ـ first philosophy التي تخرج من حيث موضوعها ومنهجها عن حدود العلم الطبيعي ولنقل التجريبي. انتقل مصطلح ميتافيزيقا إلى الفلسفة العربية الوسيطة. وقد استعمل الفلاسفة العرب صيغاً متعددة تختلف باختلاف فرضية الفيلسوف وتركيزه الفلسفي على أبعاد تحقق معقوليته. فهي عند إسحق الكندي الفلسفة الأولى, أما عند أبي نصر الفارابي، فهي علم الوجود بما هو وجود، وعند محمد الرازي العلم الإلهي، أو الفلسفة الإلهية وعند الحسين بن سينا وابن ملكا، أما عند إخوان الصفا فهي دين الفلسفة أوالعلم الكلي الإلهي. وقد ترسخت صيغة ما بعد ـ الطبيعة باستعمال فيلسوف قرطبة محمد بن رشد عنواناً لمجلده العظيم (( تفسير ما بعد ـ الطبيعة)) . [4] لكن صيغاً أخرى استعملها الفلاسفة العرب إلى جانب صيغة ما بعد الطبيعة نحو: ما وراء الطبيعة، ما فوق الطبيعة، الإلهيات. أما في الكتابات العربية المعاصرة فقد استعملت ـ وما زالت ـ ثلاث صيغ هي : ميتافيزيقا، ما بعد الطبيعة، الماوراء أو الماورائيات.

ما هو الميتافيزيقا عند الشيخ الأحسائي؟

يرى الشيخ الأحسائي بادئ ذي بدء أن الوجود المخلوق يتألف من عالمين [5]:

الأول:

متساوي الوجود والعدم الإضافيين، أي المضافان إلى الأشياء، كما نقول : وجود زيد وعدمه، وهو الذي يعبر عنه المنطق الأرسطي الإمكان العام، أي سلب الضرورتين، ضرورة العدم وضرورة الوجود ـ مع تحفظ الشيخ على هذا المصطلح ـ.هذا العالم فيه كل الأشياء بهذه الصفة التي ذكرناها، أي غير متمايزة ومتشخصة .

والعالم الآخر:

وهو عالم التكوين وهو الذي ترجح فيه الوجود الإضافي على العدم الإضافي، أي كل الأشياء في هذا العالم متشخصة متمايزة.وهذا العالم مكون من شطرين، غيب وشهود، الشهود هو الكون الذي يدرسه علم الفلك الحديث،المكون من المجرات والمجموعات الشمسية والنجوم والكواكب وما فيها من أشعة وغازات وسحب ومواد سائلة وكائنات حية.والغيب هو غير ذلك من عالم التكوين، والشيخ يقسم الغيب المخلوق (المجازي) إلي أقسام ومراتب [6] :

1) عالم الفؤاد، هو أول مراتب الغيب المجازي وفيه حقائق الأشياء كلها، أي كل شيء له فؤاد جزئي من ذلك الفؤاد الكلي .

2) عالم العقول، ويسمى عالم الجبروت، وهو ثاني مرتبة من مراتب الغيب المجازي، وفيه كل عقول الموجودات، أي كل عقل له صلة بهذا العالم.

3) عالم الأرواح، ويسمى عالم الرقائق، وهو الروح الكلية للعالم، أي كل روح في الوجود متصلة بهذا العالم، وهو ثالث مرتبة من مراتب عالم الغيب.

4) عالم النفوس، ويسمى عالم الملكوت، أي النفس الكلية للعالم، وفيه صور كل الموجودات، وهو رابع مرتبة من مراتب الغيب .

5) عالم المثال، وهو مثال العالم، أي كل شيء في عالم الكون له مثل في هذا العالم، وهو المرتبة الخامسة من مراتب الغيب.

6) عالم الطبيعة، ويسمى عالم المادة، وهو هنا فارزة بين عالم الغيب وعالم الكون، أي لا هو غيب محض ولاحس محض، وهو سادس مرتبة للغيب والأخيرة.

أنواع أخرى من الغيب :

هناك أنواع أخرى تعد من جملة المصنفة في الغيب، كالجنة والنار والحشر والنشور وعذاب القبر والملائكة و غيب الغيوب الله سبحانه وتعالى الذي سنتكلم عن نوعية غيبه مفصلاً. [7]

الغيب نوعان أساسيان [8]:

عند الشيخ الأحسائي غيبان أساسيان في حكمته، هما:

أ‌- غيب حقيقي، لا يطلع عليه أحد وهو الله سبحانه وتعالى.

ب‌- غيب مجازي، أي ليس حقيقياً، وهو الذي تكلمنا عنه آنفاً .

الأول: وهو الله فهو الغيب الذي لم ولن يدركه أحد، فهو الغيب الحقيقي واقعاً الذي لم يشاهد في حال.. وذلك لاستتاره بالألوهية، فهو الإله الحق والإله لا يدرك من المخلوق .. لقصور المخلوق عن إدراك الأزل.. وإلاّ لانقلبت الحقائق.

الثاني: وهو المخلوق الذي شرحناه أعلاه، وقلنا: مجازيٌ، أي ليس حقيقة غيباً، فهو عندنا غيب فقط، أي هو أمر نسبي، فما عندنا نعتبره غيباً عند غيرنا ليس غيباً كالملائكة مثلاً ، وعند الخالق سبحانه الكل حاضر في ملكه موجود، فكيف يكون غيباً. فالغيب المخلوق مسألة نسبية.

قيمة الغيب عند الشيخ الأحسائي [9]:

الغيب له قيمة مطلقة عند الأحسائي، فإن كان الغيب حقيقياً فذلك الواجب سبحانه والإيمان بغيبيته هو كمال التوحيد، وإذا كان هذا الغيب غيباً مجازياً ( مخلوقاً ) فقيمته من مصدره بمعنى إذا كان هذا الغيب من الله أو رسله عن طريق صحيح فلا إشكال عليه من حيث حقيقته وصحته، فإذن كلما كان الغيب معتَمِداً على مصدر صحيح، كان معتَمَداً عليه، كما إذا أخبرنا الله بوجود الجنة والنار وإن لم نكن رأيناها، وفي هذا لا يختلف الأحسائي عن بقية متكلمي المسلمين عموماً.

ما هو العقل عند الشيخ الأحسائي؟

عرفه الشيخ علي نقي في منهاج السالكين: ((واعلم أن العقل عقلان عقل فعال وعقل مكتسب فالعقل الفعال جوهر بسيط محيط بالأشياء إحاطة قيومية ، خلقه الله من نور فعله فهو جوهر الجواهر وعلة لما دونه من المعلومات أكمله سبحانه في نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي أهل بيته المعصومين عليهم السلام ، وجعل له رؤوساً بعدد الخلائق ، وأعني بالرؤوس أشعة أثرية منه ، فهي وإن كانت عرضية بالنسبة إلى العقل الكل كشعاع الشمس من الشمس ، إلا أنها جواهر فعالة بالنسبة إلى من دونها وإلى من أشرقت عليه دراكة محيطة بمدركها بسيطة مجردة عن المادة والمدة والصورة ، فكلما وجد إنسان تعلق به رأسه المختص به تعلق إشراق لا تعلق اتصال وارتباط ، وقد جاء في الحديث ( إن الله عز وجل خلق ملكا له رؤوس بعدد بني آدم ولكل رأس وجه عليه اسم شخص منهم وعلى ذلك الوجه ستر ، فإذا ولد مولود من بني آدم ارتفع من الستر عن الوجه شيء ثم لا يزال كلما أنشأ ذلك المولود يرتفع من الستر من الوجه فيشرق نوره بكماله في القلب قليلاً قليلاً حتى يرتفع الستر بتمامه عن الوجه فيشرق نوره بكماله في القلب ) فإن كان محله صافيا معتدلا ، اشرق عليه إشراقا تاما ، وإن كان محله كدرا غير مستقيم لغلبة أحد الطبايع المادية غير إشراقه فلم يظهر نوره بتمامه فاعوج فهم من قام فيه ولم يستقم إدراكه والعقل الفعال يدرك المعاني المجردة عن الصور النوعية بحقائقها و يدرك الصور النوعية بتوسط النفس ويدرك الماديات وما قام بها من الأشكال والألوان والأوضاع والهيئات بتوسط النفس مع الآلات الجسمانية والنفس تدرك الصور النوعية بنفسها وتدرك الماديات وما قام بها بتوسط الآلات الجسمانية فحقيقة مدركات العقل المعاني ومدركات النفوس حقيقة هو التميز النوعي وقولي فإن كان محله صافيا معتدلا إلى قولي ولم يستقم إدراكه أريد به أنه إذا كانت نطفة أحد الأبوين الحاملة لطينته الأصلية صالحة معتدلة الطبايع مستقيمة التركيب تعلق العقل بها تعلقا استعداديا قريبا فكان صاحبه فهيما ذكيا حافظا وربما زاد بعض الخلاط أو نقص في الرحم حال نموه بعد انعقاده وقبل تمام خلقه فلحقه من مواد الأغذية الغير الصالحة التي اغتذى بها من دم الطمث إلى تمام مدته ما غير ذلك الصلوح ومنع استعداد النطفة من قبول تمام إشراق العقل عليها فيقل إدراكه وفهمه وإن كانت النطفة الحاملة غير معتدلة صالحة التركيب ولا مستقيمة الطبايع لغلبة الرطوبات عليها قبل انعقادها ونموها منع ذلك من إشراق العقل الاستعدادي القريب فإن شفع ذلك فساد الغذاء الذي ينمو به من دم الطمث وبعده في أغذيته ربما كان الولد مجنونا فإذا كبر المولود ونشأ وتحللت بعض الرطوبات الفضلية العارضة بسبب زيادة نمو الجسم أو غذاء صالح مع حصول الاكتساب أشرق عليه العقل حينئذ فذلك المولود هو الذي يخرج بليدا بعيد الفهم قليل الحفظ و الإدراك .

فقد روي إسحق بن عمار قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام الرجل آتيه و أكلمه ببعض كلامي فيعرفه كله ومنهم من آتيه فأكلمه فيقول أعد عليَّ فقال : يا إسحق أو لم تدري لم هذا ؟ قلت : لا قال الذي تكلمه ببعض كلامك فيعرفه كله فذاك من عجنت نطفته بعقله وأما الذي تكلمه فيستوفي كلامك ثم يجيبك على كلامك فذاك الذي ركب عقله فيه في بطن أمه وأما الذي تكلمه فيقول أعد علي فذاك الذي ركب فيه بعد ما كبر فهو يقول لك أعد علي .

وأما العقل المكتسب فهو صفة العقل الفعال أعني ظهور أثره بتوسط الاكتساب عند صقل مرآة الدماغ التي هي محل إشراق العقل الفعال لأن العقل مقره القلب ومبدأ فيض أثره منه ومتعلق ظهور الأثر الدماغ ، قال علي عليه السلام ( العقل في القلب والرحمة في الكبد والتنفس في الرئة فإذا استقامت مادته واعتدلت فيه طبايعه ظهر ذلك الأثر وحسن من صاحبه الفكر والنظر وإن غلبت الرطوبة على الدماغ حتى تكدرت مرآته لم يظهر إشراق العقل لعدم صفاء المحل فاستولت البلادة على صاحبه كما أشار عليه السلام إلى ذلك و إذا قلّت الرطوبة أو احترت لغلبة إحدى المرتين تقشفت مرآة الدماغ فاعوجت و لم يستقم الإشراق عليها فربما استولت على صاحبها الجربزة لعدم استقرار إشراق النور في آنين فلم يدرك الأشياء كما هي لسرعة تنقله في مدركاته كالانطباع في الماء الجاري والمرآة الغير المستقرة وسمي العقل المكتسب عقلا لأنه أثر العقل .



وفيما ينسب إلى علي عليه السلام .

رأيت العقل عقلين فمطبـوع ومسمـوع
ولا ينفع مسمـوع إذا لم يك مطبوع
كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع
وحقيقة العقل جوهر نوراني لا ظلمة فيه من فعل الله بدء وإليه يعود وسمي عقلا لأنه عقل عن الله ما أمره وفعل ما أراد منه وطلبه وعقل صاحبه عن مخالفة أمر الله فألزمه باب خدمته فعن أبي جعفر عليه السلام قال ( لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له أقبل فأقبل ثم قال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك ولا أكملتك إلا فيمن أحب أما إني إياك آمر وإياك أنهي وإياك أعاقب وإياك أثيب)) . [10]

قيمة العقل عند الشيخ الأحسائي:

العقل له قيمة كبيرة عند الأحسائي وتلامذته، فقد جعلوه يلعب دوراً كبيرا في استكشاف الحقائق ولكن اشترطوا أن يكون ضمن (النص)، أي ما دام في معلوماته الميتافيزيقية معتمداً على الكتاب والسنة ولا يعدو ساحتهما، فهو مقبول عندهم مصدق ، أو لا يخالف استنتاج العقل (النص) فإذا كان ذلك لا إشكال على ما يفيده العقل لنا.

قال الشيخ الأوحد (قد) :

((ولو كان العقل يستقل في إدراك شيء من الاعتقادات بدون أنوارهم صلى الله عليهم لاهتدى هؤلاء )) [11] . من هنا نعلم أن المسبار الوحيد للعقل نحو الميتافيزيق عند الأحسائي هو الكتاب والسنة، فإعمال العقل فيهما بالشكل الصحيح، وهو الذي يؤمن المعلومة العلمية من الغيب، وبدونهما قد يضل الفيلسوف أيما ضلال في بحر من المعلومات الميتافيزيقية المغلوطة. ولكن هل هناك ضوابط لذلك، نعم أخبرنا عنها الأحسائي، فقد اشترط على من أراد فهم الكتاب والسنة ترك ثلاثة أحوال: [12]

1) الأنس بما اعتادت النفس ، بحيث يصعب عليها مفارقته .

2) الرجوع إلى القواعد والاصطلاحات .

3) الاستنكاف عن الجهل في مقابلة ما عرفه العقل من الحق .

وأضاف أيضاً للثلاثة الآنفة .. عدم تأويل الكتاب أو السنة الشريفة ، وصرفهما عن ظاهرهما ، إذ أن الكلام ذو وجوه ، وكل ناظرٍ صحيحة الرواية على حسب ما يؤيد قواعده واستنتاجه . [13]

كيف يدرك العقل البشري ما في الغيب؟

من غير شك نحن لا نتكلم عن الغيب الحقيقي الذي هو غيب الواجب، فهو لا يدرك بحال، كما قلنا، إنما حديثنا عن الغيب المجازي المخلوق الذي حجبه الله عن مخلوقاته إلاّ بإذنه . في هذه المسألة تفترق الفلسفة الغربية عن الإسلامية كون الفلسفة الإسلامية تؤمن أن هناك جانبين للوجود، حسي ومعنوي، على العكس منها الغربية، فهي أحادية الجانب. فعلى أساس النظرية الإسلامية نحو الوجود و الأحسائي له نفس الرؤية، عمل العرفاء للاتصال بالمبدأ المفيض للخير ( العقل الفعّال بتعبير الفلاسفة والحقيقة المحمدية بتعبير الأحسائي ) . وتتم رحلة العارف بالله بطي أربعة أسفار ـ مع اختلاف في المنازل في كل سفر بين الأحسائي والعرفاء الآخرين ـ هم [14]:

1) سفر من الخلق إلى الحق .

2) سفر في الحق بالحق .

3) سفر من الحق إلى الخلق .

4) سفر في الخلق بالحق .

فالمعصوم لا يحتاج لطي هذه المراحل مطلقاً.. لأنه متصل بالمبدأ المفيض من الأصل على العكس من الفيلسوف أو العارف، فهو بحاجة لإزالة الكدورات من أجل الصفاء والاتصال بالمبدأ المفيض. ونحن لن نتكلم عن شروط الاتصال.. لأنها من مباحث العرفان العملي، ونحن في صدد العرفان النظري.

الغيب فيه كل الخيرات:

إذا كان الغيب هو كل ما لا أراه ، ففيه كل الخيرات عموماً، فيه الجنة والثواب وهما أصل الخيرات، وفيه الرزق اليومي بكل أنواعه من أكل وشرب وصحة وعافية ومال وزوجة، والإيمان بالرزق من مباحث العقيدة الإسلامية. فالملائكة جزء من الغيب وهي تحمل كل صنوف الرزق، كما أخبر القرآن الكريم .

كيف نتصل بالغيب، وهل بالإمكان تحقق هذا الاتصال؟

الغيب، كما قلنا، هو غيب نسبي، أي بالنسبة لنا، وإلاّ عند الله ليس غيباً.. لأنه وجود مخلوق متحقق في الواقع الخارجي، والوجود المخلوق التكويني، كما شرحنا أعلاه مؤلف من عوالم سبعة رئيسية وأخرى فرعية لا عد لها ولا حصر. هذه العوالم تشكل عالم الغيب، وهي متداخلة بعضها في بعض بشكل دوائر متداخلة، كل عالم متصل بالآخر ومنفصل عنه ، لا يمكن دخول أي فرد من عالم إلى عالم إلاّ بالشفرة المناسبة إذا جاز التعبير، أو بإذن . كما أن هناك بثٌ لآلاف المحطات الفضائية، ولكنك لا تستطيع التقاطها إلاّ بالتردد الخاص لها , فكذلك عالم الملائكة والجن وكل شيء نوراني لا تدركه في الوجود. وكذلك يمكن استنزال الخيرات من الغيب عن طريق الشفرات المخصصة لذلك الواردة في القرآن والسنة . فأسماء الله الحسنى عند الأحسائي هي شفرات الغيب، كل اسم من أسمائه الحسنى له خصائص في فتح أبواب الغيب. يقول الشيخ علي نقي في منهاج السالكين في هذا الصدد:(( لأن المعرفة لم تقترن بالعمل وإنما سميت المعرفة عبودية لأنها عمل قلبي في جهة التعريف خالصة من شوب الكثرة وهذا الذي أريده من قولي ، إذا ركب المؤمن مطية الكافر لم يستجب له دعاؤه وإذا ركب الكافر مطية المؤمن استجيب له دعاؤه بلا مهلة وبيانه أن مطية المؤمن الموصلة له إلى المطلوب هي التوجه لجهة المدعو والانقطاع عما سواه وعدم الالتفات إلى غيره ولا إلى نفسه فهذه الحالة قد تحصل أحيانا لغير المؤمن في الشدائد التي تصيبه فيدعو على غير طهر ولا في مكان شريف فيستجاب دعاؤه . نقل أنه سرق حمار نبي من الأنبياء فدعا الله أن يظهره على السارق ، فأوحى الله إليه أن السارق سألني أن أستر عليه فلا أفضحه ولكن أعوضك عن حمارك غيره فلما التجأ السارق إلى سدة المطلقة وانقطع إلى حجاب الستر الجميل حين خاف الفضيحة استجاب سبحانه دعاءه وجلله بستره وأخفى عليه بلطفه ورحمته ، وأما مطية الكافر فهي التحقيق لنفسه عند نفسه ودعوى الآنية المشتملة على الشواغل الدنية الرذائل الخلقية الموجبة للأعراض عن جهة المدعو فإذا امتطى المؤمن هذه المطية وسار عليها بعد عن الله فلم يستجب له دعاءه وسئل عليه السلام ما لنا ندعو ولا يستجاب لنا فقال ( لأنكم تدعون من لا تعرفون ) ، وقال علي عليه السلام ( الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر ) . ولذا نجد أن أناسا من صلحاء المؤمنين يبقون عند رأس الحسين عليه السلام تحت القبة المشرفة التي هي محل استجابة الدعاء دهرهم الأطول يدعون فلا يرون أثر الإجابة والعلة في ذلك ما ذكرته . واعلم أن المراد بقبة الحسين عليه السلام في الظاهر الحائر الشريف كما تفيده مضامين بعض الأخبار ، وفي الباطن المراد بها الخضوع والانقطاع فإذا أردت من الله حاجة فاركب مطية المؤمن فإنها توصلك إلى مطلوبك في أسرع وقت ولا يتنافى ما قلته تأخير ظهور أثر إجابة دعوات الأنبياء عليهم السلام كما جرى لنوح عليه السلام مع قومه ، ولموسى عليه السلام مع فرعون ، والقبط لأن ذلك التأخير مشروط في أصل إجابة الدعاء لمصالح اقتضتها الحكمة الإلهية منوطة بنظام الوجود كما نبه سبحانه بقوله لموسى وهارون ( فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ) بعد أن قال لهما سبحانه ( قد أجيبت دعوتكما ) بخلاف عدم حصول الإجابة عند الاعتماد على غير الله والنظر إلى ما سواه)). ويقول الشيخ الأحسائي في عبارة أكثر تركيزاً وفلسفة:(( إن الله سبحانه قال [ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ] [15] ... على ذلك بقوله [ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ] [16] )) [17]

من هنا إذا توفرت الشروط الموضوعية للدخول في تلك العوالم ،أو اكتملت شروط العلة التامة، كما تقول الفلسفة الإسلامية من وجود المقتضي وعدم المانع والتماس تحقق الدخول والاتصال، وكذلك في حالة استنزال الخيرات من الغيب .




--------------------------------------------------------------------------------

[1] لسان العرب : ط ـ خياط. م2 ص845 ، لابن منظور.
[2] تاج العروس: ج8 ص25 ، للزبيدي .
[3] الصحاح: ج5 ، ص1769 ، للجواهري .
[4] زيادة، معن، الموسوعة الفلسفية العربية، ط1، 1986 ، معهد الإنماء العربي، (د،م،ن)، ص713ج1 .
[5] الحائري ، ميرزا موسى ، إحقاق الحق ، ط2 ، 1965م ، مطبعة النعمان ، النجف الأشرف ، ص490 .
[6] الأحسائي ، أحمد بن زين الدين ، شرح الفوائد ، ص94-95 .
[7] الأحسائي ، أحمد بن زين الدين ، شرح الزيارة الجامعة ، ط1 ، ( د ، ت ، ن ) ، ( د ، م ، ن ) ، ص362 ج1 .
[8]
[9] راجع دراستنا ( مدرسة الشيخ الأحسائي الفلسفية ) المنشورة على موقع : الأحسائي نِت .
[10] نقي ، الشيخ علي ، منهاج السالكين ، ط ، وراجع كذلك ، الأحسائي ، أحمد بن زين الدين ، شرح العرشية ، ط1 ، 1363هـ ، مطبعة السعادة كرمان ، ص18 ج2 .
[11] الشيخ أحمد بن زين الدين، شرح الزيارة الجامعة، ط1، مطبعة السعادة، كرمان ،(د،ت،ن)،ص219 ج3 .
[12] الشيخ أحمد بن زين الدين ،شرح المشاعر ،ط1 ,مطبعة السعادة ،كرمان،(د،ت،ن)،ص4.
[13] مرجع سبق ذكره ، ص13، بتصرف.
[14] الرشتي، السيد كاظم، شرح القصيدة، طبعة حجرية، ص 4 .
[15] سورة غافر : 60 .
[16] سورة المائدة : 27 .
[17] الأحسائي ، أحمد بن زين الدين ، مجموعة الرسائل الحكمية ، ط2 ، ( د ت ، ن ) ، كرمان ، ص273 .