مجاهدون
05-19-2006, 06:28 PM
د نجم عبد الكريم - ايلاف
(أشباه المثقفين) صفة تطلق على أدعياء الثقافة ممن يخوضون في أمور لا علم لهم بها، وإنما يتشدقون بالمعرفة، وهم يعلمون علم اليقين أنهم يخوضون كذباً فيما لا علم لهم به. والبعض من هؤلاء قد استمرأ تصديق ذلك الكذب وصار يطرح نفسه كمثقف، معتمداً على كليشيهات وعناوين فاقعة في ظاهرها، جوفاء في باطنها.. والسوق العربية تعج بهذه العيّنات القشرية والمسطحة المعارف، والتي نشاهدها ليل نهار عبر وسائط الإعلام والمؤتمرات والمنتديات التي تعقد هنا وهناك، ويتبوأ الكثير منهم مراكز مرموقة في أجهزةٍ تُقرر فيها ـ بكل أسف ـ مصائر الناس!!..
• أسوق هذه المقدمة بسبب ابتلائي بالالتقاء بمثل هذه العيّنات، فهم كالتخمة حيث تغصّ بهم طبيعة العمل الإعلامي والثقافي.. وليس من قبيل المصادفة أن المئات من هذا النمط من ـ مدّعي الثقافة ـ كانوا في السنوات الثلاث الماضية يتحدثون عن (شِفرة دافينتشي) (THE DAVINCI CODE) وكأنها بحثٌ توثيقي تاريخي قام به مؤرخٌ عظيم لينسف الأسس التي ارتكزت عليها الديانة المسيحية، وهم يرون أن (دان براون) المسيحي الأمريكي قد أكد هذه الحقيقة، وبالتالي فإنهم كثيراً ما يرددون: (من فمك أُدينك)، والبعض من هؤلاء ممن تنتابهم هواجس الهوس الديني، صاروا ينظرون إلى هذه الرواية، وكأنها رمزٌ لانتصار الإسلام..
• وبسبب سعة انتشار رواية شيفرة دافينتشي، فإن بعضاً من أشباه المثقفين يعتقد أنه إذا لم يدلي بدلوه في محتوى أحداثها، فإن ذلك يحول دون وضعه في مصاف المثقفين.. فصار الواحد منهم يعتبرها من أعظم الكتب التي قرأها في حياته.. وآخرون يرون فيها إنجازاً تاريخياً علمياً أدى إلى اكتشاف حقيقة هذا الزيف الذي تقوم عليه الديانة المسيحية، وقد ساعدتهم على ذلك تهيئة الأجواء المنبثقة من احتجاجات الكنائس ورجال الدين المسيحي على مضمون ما جاء في تلك الرواية.
فلو كان هؤلاء من أشباه المثقفين وأدعياء المعرفة لهم قدم راسخة في عالم القراءة، لأدركوا أن دان براون قد اعتمد في كتابة روايته على أسلوب (عنصر التشويق) (SUSPENCE) ، وهو من الأساليب التي درجت عليها الكثير من المدارس الأدبية، كبوليسيات أرسين لوبين، وسيكولوجيات شرلوك هولمز، مروراً بكتابات أجاثا كريستي، وتشويقيات ألفريد هيتشكوك السينمائية، وما شابه ذلك.
لكن الخديعة التي أوقعت أشباه المثقفين في الفخ الذي نصبه لهم دان براون في شِفرة دافينتشي، أنه ذكر في الصفحة الحادية عشرة من النسخة المترجمة إلى اللغة العربية تحت عنوان (حقائق) مجموعةً من المعلومات مثل:
• جمعية سيون الدينية ـ هي جمعية أوروبية سرية تأسست عام 1099 وهي منظمة حقيقية، وأنه تم اكتشاف مخطوطات عُرفت باسم الوثائق السرية، ذُكرت فيها أسماء أعضاء انتموا إلى تلك الجمعية، منهم:
(اسحق نيوتن(، و(ساندرو بوتيشِلي)، و(فيكتور هوجو)، و(ليوناردو دافينتشي)، ثم أورد تاريخ العثور على مخطوطات هذه الجمعية.
• كما أشار أيضاً إلى المجموعة الأسقفية الفاتيكانية التي تعرف باسم أوبوس داى، وهي مذهب متشدد متخصص في غسل الأدمغة، والقيام بممارسة خطيرة تعرف بالتعذيب الجسدي الذاتي، وحدّد مقرها في إحدى جادات نيويورك، كما ذكر مبلغ تكلفة مقرها وهو (47) مليون دولار أمريكي.
• هذه المعلومات وغيرها والتي توحي بأنها حقائق تاريخية، تضمنت أسماء لمشاهير، كانت هي الطُعم الذي ابتلعه المتحمسون من أشباه المثقفين لرواية شِفرة دافينتشي، والتي بنى على ما أورده فيها من حقائق ـ مزعومة ـ أحداث روايته، فانطلق من الأسرار التي احتوت عليها لوحتا الموناليزا والعشاء الأخير، لـ ليوناردو دافينتشي، ليستمر في سرد الأحداث التي جعلت من السيد المسيح متزوجاً من مريم المجدلية، وله منها نسل، تمثل في الشخوص الذين كان لهم أدوار في الرواية. وبحكم الطقوس التي برع دان براون في تصويرها، إذ وُفّق في جعل القارىء يتابعه بشغفٍ حتى النهاية، التي تمت بلقاء حفيدة المسيح بجدّتها وشقيقها بعد أن حالت الظروف دون أن يلتقيا.
والحقيقة أن نهاية الرواية هي أقرب ما تكون إلى نهايات الأفلام الهندية، أو تلك النهايات التي تختتم بها عادةً الأفلام العربية، أيام يوسف وهبي، وحسن الإمام، وما شابه ذلك.
• أما ذوو الهوس الديني من أشباه المثقفين فقد استندوا إلى حوارٍ دار في الرواية بين صوفي وتيبينغ، والذي ورد في الفصل (58) حيث شاهدت صوفي بعض الأعمال الفنية في قصر المؤرخ البريطاني (تيبينغ) وفيها صور ورسومات قد أثارت دهشتها، ومنها صورةٌ لمن كان يجلس على يمين المسيح، والذي فُسّر برموزٍ معينة على أنه امرأة في لوحة دافينتشي (العشاء الأخير) وتبين لهم أنها صبية صغيرة في السن ويبدو عليها الورع، وهي ذات وجهٍ يتسم بالرزانة والحشمة، وشعرٍ أحمر كثيف، ويدين مطوقتين بطمأنينة.. وهنا سألت صوفي:
• من هذه المرأة؟!..
أجابها تيبينغ:
ـ هي مريم المجدلية!!
• المومس؟!!..
أجابها:
ـ لم تكن المجدلية كذلك أبداً، والفكرة الخاطئة هي الإرث الذي خلفته الحملة القذرة التي أطلقتها الكنيسة الأولى.. فقد كانت الكنيسة بحاجة لتشويه سمعة مريم المجدلية، وذلك للتغطية على سرّها الخطير في دورها!!
• دورها؟!.
ـ كما ذكرتُ، الكنيسة كانت بحاجة لإقناع العالم بأن النبي الفاني يسوع المسيح كان كائناً إلهياً، ولهذا فإن أي إنجيل من الأناجيل كان يتضمن في طيّاته وصفاً لمظاهر إنسانية فانية من حياة المسيح، كان يجب حذفه من الإنجيل الذي جُمع في عهد قسطنطين.. لكن من سوء حظ المحررين الأوائل، كان هناك موضوع بشري مزعج يتكرر في كل الأناجيل.. وهو موضوع مريم المجدلية.. وبكلمات أصح، موضوع زواجها من يسوع المسيح!!
• عفواً .. ماذا قلت؟!
ـ إن ذلك مذكورٌ في السجلات التاريخية، لم يكن ذلك كلامي أنا.. وكان دافينتشي على علمٍ تام بهذه الحقيقة.. ولوحة العشاء الأخير هي صرخة للعالم للفت نظرهم إلى أن يسوع والمجدلية كانا زوجين..
• من غير المعقول أن يدّعي أي أحد بذلك الزواج!!
ـ إن زواج يسوع ومريم المجدلية هو جزء من حقائق وسجلات تاريخية، علاوةً على أن يسوع كرجل متزوج هو أمر منطقي، أكثر من فكرتنا الإنجيلية التقليدية التي تقول بأنه كان عازباً.
• لماذا؟!
ـ لأن يسوع كان يهودياً، وقد كان العرف الاجتماعي في ذلك العصر، يحرّم تماماً على الرجل اليهودي أن يكون أعزباً.. كما أن الامتناع عن الزواج كان ذنباً يعاقب عليه بحسب التقاليد اليهودية، وكان واجب الأب اليهودي أن يجد زوجةً مناسبة لابنه.. فلو كان المسيح أعزباً، لكان ذلك قد ذُكر في أحد الأناجيل، وتم تفسير حالة عدم زواجه غير المألوفة على الإطلاق.
ثمّ قدّم تيبينغ لصوفي صوراً للفائف البردى عُثر عليها في واحة حمادي في البحر الميت، وهي تحتوي على سجلات المسيحية الأولى، وقرأت صوفي التالي:
"رفيقة المخلّص، هي مريم المجدلية، أحبها المسيح أكثر من كل الحواريين واعتاد أن يقبّلها في معظم الأحيان من فمها.. وقد تضايق باقي الحواريين من ذلك، وعبّروا عن استيائهم.. وقالوا له: لماذا تحبها أكثر منا؟!"
قالت صوفي:
• هل كان حواريو المسيح يغيرون من امرأة؟!
ـ نعم، وبطرس تحديداً، كان يُعتَبَر خصمها، لأن يسوع فضّلها عليهم!!.. ليس هذا فحسب، فيسوع كان يقوم بإعطاء مريم المجدلية تعليمات حول كيفية متابعة كنيسته بعد أن يموت، وكان بطرس يُعبّر عن استيائه لأنه يقوم بدورٍ ثانوي!!
• تريد القول أن المسيحية كانت تقوم على يد امرأة!!
ـ كانت تلك هي الخطة، فيسوع كان نصيراً للمرأة، وكان يريد لمستقبل كنيسته أن يكون بين يدي مريم المجدلية، وكان بطرس يعارض هذا الأمر..
• ولكن ماذا عن سمعة مريم المجدلية؟!
ـ كانت من سلالة ملكية، من عائلة بنيامين.. لكن الكنيسة جعلت منها تبدو كمومس، وذلك ليمحو الدليل الذي يثبت أن عائلتها كانت ذات سلطة ونفوذ، وكما تعلمين يا طفلتي العزيزة أن يسوع كان من عائلة داوود ـ وهو سليل الملك سليمان ـ ملك اليهود.. وبزواجه من عائلة بنيامين ذات النفوذ، يكون قد وحّد بين سلالتين ملكيتين.
• ولكن كيف يمكن لسرٍ بهذه الأهمية أن يبقى مخفياً طوال هذه السنوات؟!..
ـ يا إلهي.. إنه أبعد ما يكون عن الكتمان!!.. فسلالة المسيح الملكية هي أساس أهم أسطورة في التاريخ ـ أسطورة الكأس المقدسة ـ لقد رُويت قصة المجدلية مراراً وتكراراً عبر القرون بكل أنواع وأشكال الرموز والاستعارات واللغات.. إن قصتها في كل مكان، إذا أردتِ أن تفتحي عينيك لتريها..
***
ثم تسترسل الرواية على هذا النمط التشويقي في تناول موضوع خطير جداً يمس صميم معتقدات الملايين من الناس حتى نهايتها، حيث تكتشف صوفي أنها حفيدة السيد المسيح.
طبعاً الفيلم المأخوذ عن الرواية قد نزل الآن إلى الأسواق ومن المؤكد أنه سيحقق أرباحاً خيالية، كما حققتها الرواية، التي طُبع منها أكثر من (40) مليون نسخة، وتُرجمت إلى معظم اللغات.. وبالطبع فإن قارىء هذه المقالة سيعتبرني غير موفق في التناول الذي طرحته، بسبب نجاح انتشار الرواية من ناحية، وما سيثيره الفيلم ـ الذي شاهدته في لندن ـ من ضجيج من ناحية أخرى.
ولكن ذلك لا يعنيني، بقدر ما يعنيني القول:
أن من يريد الإطلاع على مسيرة السيد المسيح والمسيحية، عليه أن يطلع على كتاب قصة الحضارة لـ وِل ديورانت والذي تضمّن بحوثاً مكثّفة عن المسيح والمسيحية، وذكر بالتواريخ والأدلة مؤيديها ومناوئيها، والمؤمنين بها ومُنكريها، وسلّط الضوء على كافة الظروف المحيطة بها، وأعتقد أن فيلسوفاً بحجم وِل ديورانت لا يقارن بـ الروائي دان براون، الذي من شأنه أن يروّج لروايته الخيالية بعيداً عن الروح الموضوعية والحقائق العلمية.
• ثم إن لوحة ليوناردو دافينتشي (العشاء الأخير) التي رسمها دافينتشي الأوروبي وعكس فيها محيطه في رسم ملامح الشخصيات التي تضمنتها اللوحة، فأظهر السيد المسيح أشقراً، أزرق العينين، وكذلك الحواريون الذين يحيطون به، فهم جميعاً ذوو أشكالٍ أوروبية، بينما الحقائق التاريخية تؤكد أن السيد المسيح وُلد في منطقة الشرق الأوسط ـ فلسطين ـ وهي تتميز بسحنات أبنائها التي تميل إلى اللون الأسمر، أكثر من ذلك اللون الأشقر الذي رأيناه في لوحة دافينتشي!!..
• وأخيراً أقول لقراء الرواية من أشباه المثقفين: إذا كانت مساحة الحرية في العالم المسيحي تسمح لـ دان براون وغيره من الكتّاب والباحثين بالحديث عن السيد المسيح، بالصورة التي قرأتموها، أو كيف أظهرته الأفلام السينمائية التي صوَّرت حياته خلال القرن الماضي، وهذا ما يُفرح البعض منكم.. فإني أسألكم بالله.. كيف ستكون مشاعركم تجاه أي كاتبٍ من العالم الإسلامي يحاول أن يكتب رواية عن رموز الإسلام مما أورثه إياه التاريخ الإسلامي من قضايا وخلافات لا زال المسلمون يتقاتلون بسببها؟!!.. والدليل على ما أقول.. هذا الموقف المتصلب حيال الكتب التي تُمنع من المعارض، ويُحكم على كُتّابها بالتجديف والهرطقة والزندقة؟!!..
وأنا واثق لو أن كتاب (السيرة المحمدية) الذي ألّفه الشاعر معروف الرصافي، وكتب في وصيته ألا ينشر إلا بعد وفاته بنصف قرن.. هذا الكتاب لو سُمح ببيعه وتوزيعه، لقامت الحروب وأُهدرت الدماء، وصدرت الفتاوي لتضيف إلى مآسينا الممتدة منذ أربعة عشر قرناً، مأساةً جديدة..
• لكن دان براون، بالرغم من كل ما كتبه عن السيد المسيح في روايته، لازال يعيش في حريةٍ تامة، ويحضر الندوات، والمحاكم، ويدافع عن وجهة نظره فيما كتبه.. بينما لا يزال سلمان رشدي، يعيش متخفياً.. لأن الذين أهدروا دم فرج فودة، يحملون نفس العقلية التي أصدرت فتواها بإهدار دمه.. وهم أنفسهم صاروا يهدرون دماء بعضهم البعض.. بالتفخيخ.. والأحزمة الناسفة.. حتى أشاعوا الدمار والإرهاب في العالم كله باسم الإسلام!!..
• ما أريد الوصول إليه هو: أن من حق دان براون وسواه أن يكتبوا ما يشاؤوا من الموضوعات بحريةٍ تامة مستخدمين كافة الأساليب الدرامية ليطرحوا وجهات نظرهم في رؤيتهم التاريخية للمسيحية والسيد المسيح.. ولكن ليس هناك من مبررٍ يجعل من قراء رواية شفرة دافينتش لـ دان براون، أن يتعصبوا لمضمونها وكأنها حقائق مسلّم بها، ليس حباً منهم لـ دان براون ولكن لكراهيتهم الموروثة لمعتنقي الديانة المسيحية، اعتقاداً منهم أن روايةً كهذه تنسف المرتكزات التي تقوم عليها تلك الديانة..
(أشباه المثقفين) صفة تطلق على أدعياء الثقافة ممن يخوضون في أمور لا علم لهم بها، وإنما يتشدقون بالمعرفة، وهم يعلمون علم اليقين أنهم يخوضون كذباً فيما لا علم لهم به. والبعض من هؤلاء قد استمرأ تصديق ذلك الكذب وصار يطرح نفسه كمثقف، معتمداً على كليشيهات وعناوين فاقعة في ظاهرها، جوفاء في باطنها.. والسوق العربية تعج بهذه العيّنات القشرية والمسطحة المعارف، والتي نشاهدها ليل نهار عبر وسائط الإعلام والمؤتمرات والمنتديات التي تعقد هنا وهناك، ويتبوأ الكثير منهم مراكز مرموقة في أجهزةٍ تُقرر فيها ـ بكل أسف ـ مصائر الناس!!..
• أسوق هذه المقدمة بسبب ابتلائي بالالتقاء بمثل هذه العيّنات، فهم كالتخمة حيث تغصّ بهم طبيعة العمل الإعلامي والثقافي.. وليس من قبيل المصادفة أن المئات من هذا النمط من ـ مدّعي الثقافة ـ كانوا في السنوات الثلاث الماضية يتحدثون عن (شِفرة دافينتشي) (THE DAVINCI CODE) وكأنها بحثٌ توثيقي تاريخي قام به مؤرخٌ عظيم لينسف الأسس التي ارتكزت عليها الديانة المسيحية، وهم يرون أن (دان براون) المسيحي الأمريكي قد أكد هذه الحقيقة، وبالتالي فإنهم كثيراً ما يرددون: (من فمك أُدينك)، والبعض من هؤلاء ممن تنتابهم هواجس الهوس الديني، صاروا ينظرون إلى هذه الرواية، وكأنها رمزٌ لانتصار الإسلام..
• وبسبب سعة انتشار رواية شيفرة دافينتشي، فإن بعضاً من أشباه المثقفين يعتقد أنه إذا لم يدلي بدلوه في محتوى أحداثها، فإن ذلك يحول دون وضعه في مصاف المثقفين.. فصار الواحد منهم يعتبرها من أعظم الكتب التي قرأها في حياته.. وآخرون يرون فيها إنجازاً تاريخياً علمياً أدى إلى اكتشاف حقيقة هذا الزيف الذي تقوم عليه الديانة المسيحية، وقد ساعدتهم على ذلك تهيئة الأجواء المنبثقة من احتجاجات الكنائس ورجال الدين المسيحي على مضمون ما جاء في تلك الرواية.
فلو كان هؤلاء من أشباه المثقفين وأدعياء المعرفة لهم قدم راسخة في عالم القراءة، لأدركوا أن دان براون قد اعتمد في كتابة روايته على أسلوب (عنصر التشويق) (SUSPENCE) ، وهو من الأساليب التي درجت عليها الكثير من المدارس الأدبية، كبوليسيات أرسين لوبين، وسيكولوجيات شرلوك هولمز، مروراً بكتابات أجاثا كريستي، وتشويقيات ألفريد هيتشكوك السينمائية، وما شابه ذلك.
لكن الخديعة التي أوقعت أشباه المثقفين في الفخ الذي نصبه لهم دان براون في شِفرة دافينتشي، أنه ذكر في الصفحة الحادية عشرة من النسخة المترجمة إلى اللغة العربية تحت عنوان (حقائق) مجموعةً من المعلومات مثل:
• جمعية سيون الدينية ـ هي جمعية أوروبية سرية تأسست عام 1099 وهي منظمة حقيقية، وأنه تم اكتشاف مخطوطات عُرفت باسم الوثائق السرية، ذُكرت فيها أسماء أعضاء انتموا إلى تلك الجمعية، منهم:
(اسحق نيوتن(، و(ساندرو بوتيشِلي)، و(فيكتور هوجو)، و(ليوناردو دافينتشي)، ثم أورد تاريخ العثور على مخطوطات هذه الجمعية.
• كما أشار أيضاً إلى المجموعة الأسقفية الفاتيكانية التي تعرف باسم أوبوس داى، وهي مذهب متشدد متخصص في غسل الأدمغة، والقيام بممارسة خطيرة تعرف بالتعذيب الجسدي الذاتي، وحدّد مقرها في إحدى جادات نيويورك، كما ذكر مبلغ تكلفة مقرها وهو (47) مليون دولار أمريكي.
• هذه المعلومات وغيرها والتي توحي بأنها حقائق تاريخية، تضمنت أسماء لمشاهير، كانت هي الطُعم الذي ابتلعه المتحمسون من أشباه المثقفين لرواية شِفرة دافينتشي، والتي بنى على ما أورده فيها من حقائق ـ مزعومة ـ أحداث روايته، فانطلق من الأسرار التي احتوت عليها لوحتا الموناليزا والعشاء الأخير، لـ ليوناردو دافينتشي، ليستمر في سرد الأحداث التي جعلت من السيد المسيح متزوجاً من مريم المجدلية، وله منها نسل، تمثل في الشخوص الذين كان لهم أدوار في الرواية. وبحكم الطقوس التي برع دان براون في تصويرها، إذ وُفّق في جعل القارىء يتابعه بشغفٍ حتى النهاية، التي تمت بلقاء حفيدة المسيح بجدّتها وشقيقها بعد أن حالت الظروف دون أن يلتقيا.
والحقيقة أن نهاية الرواية هي أقرب ما تكون إلى نهايات الأفلام الهندية، أو تلك النهايات التي تختتم بها عادةً الأفلام العربية، أيام يوسف وهبي، وحسن الإمام، وما شابه ذلك.
• أما ذوو الهوس الديني من أشباه المثقفين فقد استندوا إلى حوارٍ دار في الرواية بين صوفي وتيبينغ، والذي ورد في الفصل (58) حيث شاهدت صوفي بعض الأعمال الفنية في قصر المؤرخ البريطاني (تيبينغ) وفيها صور ورسومات قد أثارت دهشتها، ومنها صورةٌ لمن كان يجلس على يمين المسيح، والذي فُسّر برموزٍ معينة على أنه امرأة في لوحة دافينتشي (العشاء الأخير) وتبين لهم أنها صبية صغيرة في السن ويبدو عليها الورع، وهي ذات وجهٍ يتسم بالرزانة والحشمة، وشعرٍ أحمر كثيف، ويدين مطوقتين بطمأنينة.. وهنا سألت صوفي:
• من هذه المرأة؟!..
أجابها تيبينغ:
ـ هي مريم المجدلية!!
• المومس؟!!..
أجابها:
ـ لم تكن المجدلية كذلك أبداً، والفكرة الخاطئة هي الإرث الذي خلفته الحملة القذرة التي أطلقتها الكنيسة الأولى.. فقد كانت الكنيسة بحاجة لتشويه سمعة مريم المجدلية، وذلك للتغطية على سرّها الخطير في دورها!!
• دورها؟!.
ـ كما ذكرتُ، الكنيسة كانت بحاجة لإقناع العالم بأن النبي الفاني يسوع المسيح كان كائناً إلهياً، ولهذا فإن أي إنجيل من الأناجيل كان يتضمن في طيّاته وصفاً لمظاهر إنسانية فانية من حياة المسيح، كان يجب حذفه من الإنجيل الذي جُمع في عهد قسطنطين.. لكن من سوء حظ المحررين الأوائل، كان هناك موضوع بشري مزعج يتكرر في كل الأناجيل.. وهو موضوع مريم المجدلية.. وبكلمات أصح، موضوع زواجها من يسوع المسيح!!
• عفواً .. ماذا قلت؟!
ـ إن ذلك مذكورٌ في السجلات التاريخية، لم يكن ذلك كلامي أنا.. وكان دافينتشي على علمٍ تام بهذه الحقيقة.. ولوحة العشاء الأخير هي صرخة للعالم للفت نظرهم إلى أن يسوع والمجدلية كانا زوجين..
• من غير المعقول أن يدّعي أي أحد بذلك الزواج!!
ـ إن زواج يسوع ومريم المجدلية هو جزء من حقائق وسجلات تاريخية، علاوةً على أن يسوع كرجل متزوج هو أمر منطقي، أكثر من فكرتنا الإنجيلية التقليدية التي تقول بأنه كان عازباً.
• لماذا؟!
ـ لأن يسوع كان يهودياً، وقد كان العرف الاجتماعي في ذلك العصر، يحرّم تماماً على الرجل اليهودي أن يكون أعزباً.. كما أن الامتناع عن الزواج كان ذنباً يعاقب عليه بحسب التقاليد اليهودية، وكان واجب الأب اليهودي أن يجد زوجةً مناسبة لابنه.. فلو كان المسيح أعزباً، لكان ذلك قد ذُكر في أحد الأناجيل، وتم تفسير حالة عدم زواجه غير المألوفة على الإطلاق.
ثمّ قدّم تيبينغ لصوفي صوراً للفائف البردى عُثر عليها في واحة حمادي في البحر الميت، وهي تحتوي على سجلات المسيحية الأولى، وقرأت صوفي التالي:
"رفيقة المخلّص، هي مريم المجدلية، أحبها المسيح أكثر من كل الحواريين واعتاد أن يقبّلها في معظم الأحيان من فمها.. وقد تضايق باقي الحواريين من ذلك، وعبّروا عن استيائهم.. وقالوا له: لماذا تحبها أكثر منا؟!"
قالت صوفي:
• هل كان حواريو المسيح يغيرون من امرأة؟!
ـ نعم، وبطرس تحديداً، كان يُعتَبَر خصمها، لأن يسوع فضّلها عليهم!!.. ليس هذا فحسب، فيسوع كان يقوم بإعطاء مريم المجدلية تعليمات حول كيفية متابعة كنيسته بعد أن يموت، وكان بطرس يُعبّر عن استيائه لأنه يقوم بدورٍ ثانوي!!
• تريد القول أن المسيحية كانت تقوم على يد امرأة!!
ـ كانت تلك هي الخطة، فيسوع كان نصيراً للمرأة، وكان يريد لمستقبل كنيسته أن يكون بين يدي مريم المجدلية، وكان بطرس يعارض هذا الأمر..
• ولكن ماذا عن سمعة مريم المجدلية؟!
ـ كانت من سلالة ملكية، من عائلة بنيامين.. لكن الكنيسة جعلت منها تبدو كمومس، وذلك ليمحو الدليل الذي يثبت أن عائلتها كانت ذات سلطة ونفوذ، وكما تعلمين يا طفلتي العزيزة أن يسوع كان من عائلة داوود ـ وهو سليل الملك سليمان ـ ملك اليهود.. وبزواجه من عائلة بنيامين ذات النفوذ، يكون قد وحّد بين سلالتين ملكيتين.
• ولكن كيف يمكن لسرٍ بهذه الأهمية أن يبقى مخفياً طوال هذه السنوات؟!..
ـ يا إلهي.. إنه أبعد ما يكون عن الكتمان!!.. فسلالة المسيح الملكية هي أساس أهم أسطورة في التاريخ ـ أسطورة الكأس المقدسة ـ لقد رُويت قصة المجدلية مراراً وتكراراً عبر القرون بكل أنواع وأشكال الرموز والاستعارات واللغات.. إن قصتها في كل مكان، إذا أردتِ أن تفتحي عينيك لتريها..
***
ثم تسترسل الرواية على هذا النمط التشويقي في تناول موضوع خطير جداً يمس صميم معتقدات الملايين من الناس حتى نهايتها، حيث تكتشف صوفي أنها حفيدة السيد المسيح.
طبعاً الفيلم المأخوذ عن الرواية قد نزل الآن إلى الأسواق ومن المؤكد أنه سيحقق أرباحاً خيالية، كما حققتها الرواية، التي طُبع منها أكثر من (40) مليون نسخة، وتُرجمت إلى معظم اللغات.. وبالطبع فإن قارىء هذه المقالة سيعتبرني غير موفق في التناول الذي طرحته، بسبب نجاح انتشار الرواية من ناحية، وما سيثيره الفيلم ـ الذي شاهدته في لندن ـ من ضجيج من ناحية أخرى.
ولكن ذلك لا يعنيني، بقدر ما يعنيني القول:
أن من يريد الإطلاع على مسيرة السيد المسيح والمسيحية، عليه أن يطلع على كتاب قصة الحضارة لـ وِل ديورانت والذي تضمّن بحوثاً مكثّفة عن المسيح والمسيحية، وذكر بالتواريخ والأدلة مؤيديها ومناوئيها، والمؤمنين بها ومُنكريها، وسلّط الضوء على كافة الظروف المحيطة بها، وأعتقد أن فيلسوفاً بحجم وِل ديورانت لا يقارن بـ الروائي دان براون، الذي من شأنه أن يروّج لروايته الخيالية بعيداً عن الروح الموضوعية والحقائق العلمية.
• ثم إن لوحة ليوناردو دافينتشي (العشاء الأخير) التي رسمها دافينتشي الأوروبي وعكس فيها محيطه في رسم ملامح الشخصيات التي تضمنتها اللوحة، فأظهر السيد المسيح أشقراً، أزرق العينين، وكذلك الحواريون الذين يحيطون به، فهم جميعاً ذوو أشكالٍ أوروبية، بينما الحقائق التاريخية تؤكد أن السيد المسيح وُلد في منطقة الشرق الأوسط ـ فلسطين ـ وهي تتميز بسحنات أبنائها التي تميل إلى اللون الأسمر، أكثر من ذلك اللون الأشقر الذي رأيناه في لوحة دافينتشي!!..
• وأخيراً أقول لقراء الرواية من أشباه المثقفين: إذا كانت مساحة الحرية في العالم المسيحي تسمح لـ دان براون وغيره من الكتّاب والباحثين بالحديث عن السيد المسيح، بالصورة التي قرأتموها، أو كيف أظهرته الأفلام السينمائية التي صوَّرت حياته خلال القرن الماضي، وهذا ما يُفرح البعض منكم.. فإني أسألكم بالله.. كيف ستكون مشاعركم تجاه أي كاتبٍ من العالم الإسلامي يحاول أن يكتب رواية عن رموز الإسلام مما أورثه إياه التاريخ الإسلامي من قضايا وخلافات لا زال المسلمون يتقاتلون بسببها؟!!.. والدليل على ما أقول.. هذا الموقف المتصلب حيال الكتب التي تُمنع من المعارض، ويُحكم على كُتّابها بالتجديف والهرطقة والزندقة؟!!..
وأنا واثق لو أن كتاب (السيرة المحمدية) الذي ألّفه الشاعر معروف الرصافي، وكتب في وصيته ألا ينشر إلا بعد وفاته بنصف قرن.. هذا الكتاب لو سُمح ببيعه وتوزيعه، لقامت الحروب وأُهدرت الدماء، وصدرت الفتاوي لتضيف إلى مآسينا الممتدة منذ أربعة عشر قرناً، مأساةً جديدة..
• لكن دان براون، بالرغم من كل ما كتبه عن السيد المسيح في روايته، لازال يعيش في حريةٍ تامة، ويحضر الندوات، والمحاكم، ويدافع عن وجهة نظره فيما كتبه.. بينما لا يزال سلمان رشدي، يعيش متخفياً.. لأن الذين أهدروا دم فرج فودة، يحملون نفس العقلية التي أصدرت فتواها بإهدار دمه.. وهم أنفسهم صاروا يهدرون دماء بعضهم البعض.. بالتفخيخ.. والأحزمة الناسفة.. حتى أشاعوا الدمار والإرهاب في العالم كله باسم الإسلام!!..
• ما أريد الوصول إليه هو: أن من حق دان براون وسواه أن يكتبوا ما يشاؤوا من الموضوعات بحريةٍ تامة مستخدمين كافة الأساليب الدرامية ليطرحوا وجهات نظرهم في رؤيتهم التاريخية للمسيحية والسيد المسيح.. ولكن ليس هناك من مبررٍ يجعل من قراء رواية شفرة دافينتش لـ دان براون، أن يتعصبوا لمضمونها وكأنها حقائق مسلّم بها، ليس حباً منهم لـ دان براون ولكن لكراهيتهم الموروثة لمعتنقي الديانة المسيحية، اعتقاداً منهم أن روايةً كهذه تنسف المرتكزات التي تقوم عليها تلك الديانة..